Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Noocyada
وكان عدد البكوات أو الصناجق في العهد العثماني الأول أربعا وعشرين، ثم أخذ ينخفض تارة ويرتفع أخرى ليصل إلى هذا الرقم، حتى إذا كان عهد الحملة الفرنسية نقص عدد البكوات، فلم يزيدوا عند خروج الفرنسيين من مصر على الاثني عشر «بك»، ثم نقص عدد مماليكهم، من الثمانية آلاف أو الاثني عشر ألفا على أقصى تقدير إلى حوالي الألف أو الألف والخمسمائة فارس أو مملوك وبخاصة عندما أفقدهم النضال والتطاحن المستمر من أجل الاستحواذ على السلطة في القاهرة بعد الحملة الفرنسية الكثير من أعدادهم، وتعذر على البكوات أن يسدوا هذه الثغرة التي حدثت في صفوف مماليكهم؛ لأن الباب العالي لم يلبث أن بادر - عقب دخول البلاد مرة أخرى في حوزته - بإصدار الأوامر المشددة بوضع العراقيل في أسواق الرقيق التي يجلب منها البكوات مماليكهم وإيصادها دونهم، حتى صار هؤلاء يشكون من هذا الإجراء شكوى مرة، ويحاولون الاستعاضة عن المماليك الرقيق بمن صار ينضم إلى صفوفهم من العرب البدو واليونانيين والأتراك، ولم يكن الدافع لالتحاق هؤلاء بخدمة البكوات سوى استمرائهم لحياة السلب والنهب التي صار يعيشها البكوات أنفسهم في تنقلهم من إقليم إلى آخر منذ أن حرموا نعمة الاستقرار في الحكم التي تمتعوا بها قبل مجيء الفرنسيين من ناحية والتي فقدوها نهائيا منذ أن طردت حكومتهم من القاهرة على يد محمد علي، فلم يفدهم انضمام العرب واليونانيين والأتراك إليهم سوى رفع قوتهم العددية، بل أضعف من ناحية أخرى قوتهم المعنوية، أو بالأحرى زاد من إضعافها ووهنها، وذلك أن الانحلال الذي أخذ يدب في صفوف المماليك كان انحلالا عاما شاملا.
فالمماليك عند بدء النضال بينهم وبين محمد علي - وقد كان نضال بقاء أو فناء بالنسبة لهم - كانوا قد فقدوا تلك الميزات الأولى التي حفظت لهم كيانهم في الماضي، فلم يعودوا أولئك المحاربين الشجعان المتمسكين بولائهم لأسيادهم حتى الموت، بل انصرفوا إلى التمتع بلذائذ الحياة وانغمسوا فيها انغماسا فانهمكوا في الشراب إلى حد السكر والعربدة، ولم يعفوا عن ارتكاب كل إثم وموبقة، وأنهكت هذه المفاسد قواهم الجثمانية والذهنية، وانعدم النظام وسادت الفوضى في صفوفهم، ونبذ الصغير طاعة الكبير، وفرقتهم عوامل الغيرة والحسد والكراهية والمنافسة الشديدة، وصارت الإمارة، أو البكوية مطمح كل فرد منهم في وسعه أن يجمع حوله نفرا من زملائه المماليك، فيتآمر عليهم، وينشط لخدمة مآربه الشخصية دون نظر إلى صالح طائفته، واندثرت مدرسة البيت القديمة، وبدلا من أن يتآمر اثنا عشر من البكوات، بلغ عدد المتآمرين منهم في بداية عام 1806 حوالي الخمسين يعمل كل منهم في دائرته مستقلا عن الآخر، وذلك عدا فصائل كثيرة مبعثرة هنا وهناك تكاد تعيش منعزلة إحداها عن الأخرى وعن سائر جماعات المماليك، فانقسموا شيعا وأحزابا يعادي بعضها بعضا، وعجزوا عن تدبير شئونهم في الأقاليم التي بقيت في حوزتهم، فلم ينشئوا نظاما للحكم والإدارة يكفل لهم حياة مستقرة تستند في تغذيتها على موارد ثابتة تعينهم على النضال في عزم ومثابرة، بل آثروا حياة التجول والإغارة على القرى لسلب الأهلين ونهبهم، ولقد وصف «دروفتي» في إحدى رسائله إلى حكومته في 16 أكتوبر سنة 1805 مبلغ الانحطاط الذي وصلوا إليه فقال: «إن المماليك لم يعودوا أولئك المحاربين الشجعان المعروفين بإخلاصهم وولائهم لأسيادهم حتى الموت، وغاب من بينهم النظام كما انعدمت الطاعة، وأما بيت البك الذي كان في الماضي مدرسة يتعلم فيها المماليك النظام العسكري والعادات والأخلاق القويمة فقد استحال اليوم إلى مباءة للفساد والانحطاط الخلقي ومكانا لنشر الفوضى وتعليم عدم النظام. لقد جعلتهم حياة التنقل وعدم الاستقرار والسلب والنهب التي يعيشونها كقطاع للطرق، متوحشين وأغبياء، بينما استل منهم حيويتهم ونشاطهم انكبابهم على الشراب وانغماسهم في سائر الرذائل والمعاصي، ثم إقبالهم على الحياة الرخوة الناعمة.»
وقد دل على هذا الانحلال الذي ألم بهم سوء تدبيرهم وانقسامهم الذي ضيع عليهم الاستفادة من عفو الباب العالي وصفحه عنهم في عام 1803، ثم جعلهم يفقدون حكومة القاهرة في العام التالي، ثم منعهم من الاستفادة من النضال الذي نشب بين خورشيد ومحمد علي بعد ذلك، وقد تقدم كيف عرف محمد علي أن يستغل خرق البرديسي وحسده للألفي فاستعداه عليه وهو «خشداشه»، وكان يجب أن تردع هذه الصلة البرديسي، ولكنه لم يأبه لها في سبيل إرضاء شهوة الرياسة، ففقد البرديسي بسبب ذلك قدرا كبيرا من احترام زملائه له، ثم جاء انخداعه بصداقة محمد علي الزائفة ضغثا على إبالة، وحمله حقده على الألفي بعد ذلك على تفويت فرصة أخرى ثمينة لاسترجاع حكومة القاهرة عندما صدر الأمر بتعيين محمد علي لولاية سالونيك ونقله من مصر في عام 1806 لو أنه رضي بالاتحاد مع الألفي، حتى إن إبراهيم الكبير (أو العجوز) صار ينعى على البرديسي سوء تدبيره، ويعده مسئولا عن كل الكوارث التي حلت بساحة المماليك. ولم يمنع إبراهيم بك عن التحرر من البرديسي وروحه الشريرة سوى ضعفه وإيثاره الهدوء والاستكانة على النشاط والمعارضة لتأصل المداراة والمسالمة في طبعه منذ أن تقلد مشيخة البلد بعد وفاة أستاذه محمد بك أبي الذهب في سنة 1775، ثم شاركه «خشداشه» مراد بك السلطة أميرا للحج، فاستحالت هذه المداراة والمسالمة استخذاء عندما تقدمت به السن، ولم يجد لديه من متانة الخلق ما يجعله قادرا على حزم أمره مع البرديسي أو تكدير صلته به أو قطعها، وبعد طرد حكومة البكوات من القاهرة اتخذ البرديسي وإبراهيم وعدد من الصناجق حولهما وممن كانوا أقل نفوذا منهما الصعيد مرتعا لهم، بينما اتخذ الألفي وأتباعه مركزهم بالوجه البحري، ولقد كان لدى الألفي وحده أكبر قوة عددية في وسع واحد من البكوات أن يجمعها حوله، فبلغ عدد مماليكه مع من انضم إليهم من بين اليونانيين والأتراك والمغاربة حوالي الألفين عدا بضعة آلاف من العرب البدو ويستخدمهم في تنفيذ مآربه وخططه الخاصة منفردا عن سائر زملائه ومستقلا بنفسه.
على أن هذا الانحلال الذي طرأ على الطائفة المملوكية، لم يذهب بريح المماليك كله، ولم يمنعهم من أن يستمروا خطرا يهدد حكومة محمد علي؛ وذلك لأن البكوات الصغار على الرغم من أنانيتهم وتنازعهم على الرياسة فيما بينهم كانوا يعترفون بتفوق وسيادة بعض كبار البكوات عليهم من بين الذين تقلدوا الإمارة من زمن قديم وارتفع ذكرهم، حتى إذا استعصى أي أمر عليهم أو مرت بهم أزمة طارئة أو ألم خطب يوجب العمل الجماعي، هرعوا يسألونهم الرأي والنصيحة أو التفوا حولهم، وكان هؤلاء البكوات المعترف لهم بالتفوق والسيادة خمسة: إبراهيم بك الكبير (أو العجوز) وعثمان بك البرديسي، ومحمد بك الألفي الكبير - تمييزا له عن الأمير بشتك بك الملقب بالألفي الصغير، مملوك الألفي الكبير، والذي أشركه إشراكا محدودا في حكومة القاهرة إبراهيم والبرديسي على نحو ما سبق ذكره في موضعه - ثم سليمان بك البواب المرادي وهو من الناقمين على البرديسي لسوء تدبيره، ثم عثمان بك حسن، ويبدو أنه كان أحصفهم رأيا، وصفه «مسيت» بأن لديه فهما وإدراكا للأمور، أكثر حكمة من زملائه، ولا يتدخل في خلافاتهم وانقساماتهم، بل يعمل في مثابرة على رعاية صالح المماليك عموما.
ولذلك فقد صار لزاما على محمد علي أن يحول بكل وسيلة دون اتفاق كلمتهم واتحاد صفوفهم، وكان في وسعه أن يفعل ذلك بسبب اختلافهم على وجه الخصوص بشأن النفوذ الأجنبي الذي صح عزمهم على الاعتماد عليه في وصولهم إلى الحكم والسلطان؛ فقد كفى أن يستند الألفي على مؤازرة الإنجليز حتى يمعن البرديسي في النفرة منه، ويقف اعتماده كله على الاستعانة بالفرنسيين وإمبراطورهم بونابرت العظيم، ولجأ محمد علي إلى توسيط المشايخ لإغراء طوائفهم على قبول الصلح والاتفاق معه اتفاقا ما كان يريده أن يتم إلا على أساس اعترافهم الواقعي بحكومته، وما كان يقصد منه إذا أبوا ذلك إلا شل حركتهم وإخماد نشاطهم حتى يستكمل عدته لمناجزتهم، ولقد كان من الواضح أنه لا ندحة عن قتالهم والقضاء عليهم إذا شاء أن يستقيم له الأمر وتتدعم أركان ولايته، لا لما كان في حوزتهم من أقاليم خارجة عن سلطان باشويته فحسب، بل ولأن الولاية أو الباشوية ذاتها كانت معرضة للضياع والإفلات من يده إذا تسنى للبكوات أن يظفروا بعفو آخر من الباب العالي على غرار ما حدث قبل ذلك بعامين.
فقد خبر محمد علي أساليب الديوان العثماني في أثناء الأزمات السابقة وآخرها أزمة المناداة بولايته هو نفسه، وعرف أن الباب العالي الذي أرغم إرغاما على التسليم بالأمر الواقع وقلده الولاية بعد أن انتزعها انتزاعا لن يرضى ببقائه طويلا في ولايته، ولن يمتنع عن تحين الفرص لإقصائه، ولو أفضى ذلك إلى مهادنته للبكوات، وإرجاعهم إلى سابق عهدهم من السلطة والنفوذ في ظل نظام يقوم على الأسس القديمة، وكما كان الحال قبل مجيء الفرنسيين في حملتهم المعروفة على البلاد. ولا يبعد على الباب العالي - حتى يتخلص من التدخل الإنجليزي الفرنسي في شئون إمبراطوريته في وقت كان البكوات لا يزالون يستنجدون بحلفائهم وحماتهم، ويلحون في توسيطهم لديه أن يسرع إلى المبادرة بالعمل والسعي بنفسه للوصول إلى اتفاق معهم. على أن الخلاص من خطر المماليك والتهيؤ لدرء ما قد يجد من أخطار من ناحية الباب العالي كانا يقتضيان وجود قوة عسكرية كبيرة تشد أزر محمد علي، ويكون في وسعه الاعتماد على ولائها له، ومع ما بذله الباشا من جهود مضنية لاستبقاء ولاء الجند له من جهة، وإلزامهم اتباع جادة النظام والطاعة من جهة أخرى، فقد ظل يشكو طوال هذه الفترة العصيبة من ولايته من افتقاره إلى العنصر العسكري الذي يبعث في النفس الثقة والاطمئنان إلى إدراك الانتصار في المعارك، فكان نجاحا يدعو إلى الإعجاب حقا ذلك الذي أحرزه الباشا عندما عرف كيف يتغلب على هذه المشكلة الشائكة، ولا يدع زمام الجند يفلت من يده ، أو يتيح لهم ولرؤسائهم الفرصة لتدبير انقلاب من طراز تلك الانقلابات التي أطاحت بحكومات أسلافه.
فقد كان هناك «الدلاة» الذين استقدمهم خورشيد لنجدته فلم ينجدوه، ولم يشتركوا في كل ما دار من معارك بين البكوات وخورشيد ومحمد علي، بل قصروا نشاطهم على نهب القرى والاعتداء على الأهلين حتى أرهقوا الفلاحين وأهل القاهرة، ومنذ ثورة القاهرة (مايو سنة 1805) صاروا يعرضون خدماتهم على المشايخ والأرنئود وزعيمهم محمد علي، وقد قبل هذا خدمتهم على أمل إبعادهم بإرسالهم ضد المماليك في الوجه البحري، ولكنهم بدلا من الالتحام مع جند الألفي صاروا ينهبون القرى ويخربونها، واستمرت أعمال لصوصيتهم هذه جملة شهور حتى عزم محمد علي بمجرد أن تسلم شئون الحكم على تطهير البلاد منهم، فأمرهم بالعودة إلى الشام، وبادر بإرسال حسن باشا لتعقبهم عندما استخفوا بأمره، فاضطروا إلى الهروب، وانتهى الأمر بخروجهم من مصر محملين بأسلابهم ومنهوباتهم قاصدين إلى غزة.
ثم كان هناك الأرنئود، وهم عدة محمد علي وبنو جلدته، ولا يسعه الاستغناء عنهم، فقد كانوا مصدر خطر على حكومته بسبب جنوحهم إلى التمرد والعصيان، فاتخذوا من تأخر مرتباتهم ذريعة للامتناع عن الخروج لقتال المماليك تارة، ولمغادرة الصفوف والذهاب إلى المماليك والانضواء تحت لوائهم تارة أخرى، ولإعاثة الفساد في القاهرة وفي سائر المدن والقرى التي يمرون بها أو يقصدون إليها والاعتداء على أهلها دائما، زد على ذلك تآمر بعض رؤسائهم على الباشا نفسه، لم يمتنع عن الاشتراك في ذلك حسن باشا الأرنئودي من أقرب المقربين إلى محمد علي، وزاد خطر هذه المؤامرات حتى إن «مسيت» لم يلبث أن وجد لزاما عليه تحذير الباشا منها، فكلف «عزيزا» ترجمان القنصلية الإنجليزية بالقاهرة في نوفمبر 1805 أن يبادر فور وصول رسالته إليه ودون أن يضيع لحظة واحدة بإبلاغ الباشا أن هناك مؤامرة تحاك خيوطها في القاهرة ضد سلطته، وقد قام متزعم هذه المؤامرة بخطوات معينة مع الجند، ومع المماليك، ومع الباب العالي. وفي أول يناير 1806 كتب «مسيت» وهو يعرض الموقف في مصر لحكومته أن حسن باشا الزعيم الألباني مصدر خطر يهدد محمد علي، وأنه يبذل قصارى جهده لدعم مركزه واستمالة الأهالي إليه، وأنه أدرك نجاحا أكبر من منافسه (أي محمد علي)؛ لأن وجود هذا الأخير على رأس الإدارة، وعدم استطاعته إجابة كل مطالب جماعته يعرضانه لغضب القوم عليه. ولكن هذا النجاح الذي ذكره «مسيت» كان من غير طائل؛ لأن حسن باشا وإن ظل منافسا قويا لمحمد علي في هذا الوقت، فقد عرف الباشا كيف يحد من أطماعه ويستبقيه إلى جانبه، فلم يعرف عنه التمرد عليه أو عصيان أوامره، ومع ذلك فقد اضطر الباشا عندما تأزمت الأمور وقت أن جاءه أمر النقل إلى سالونيك أن يعمل للتأكد من إخلاص وولاء هؤلاء الرؤساء العسكريين له، فجعلهم يحلفون الأيمان الصادقة على مؤازرته وتأييده، وذلك قبل أن يقدم على إعلان عزمه على مقاومة أوامر الباب العالي.
ولقد كانت حاجة محمد علي الملحة إلى المال مبعث الصعوبات التي صادفها في علاقاته مع جنده ورؤسائهم، حيث كان من الواضح أنه لو تيسر له دفع مرتباتهم لهم بانتظام لاستطاع ردعهم وإرغامهم على الطاعة والامتثال لأوامره ووقف اعتداءاتهم على الأهلين، والخروج للقتال ضد المماليك، كما كان من الواضح أن توفر المال لديه سوف يتيح له الفرصة لإبطال نشاط خصومه في القسطنطينية وإقناع رجال الديوان العثماني، وعملاء الباب العالي وضباطه في مصر بالرضا والتسليم بالأمر الواقع وإلغاء ما قد يتخذونه من قرارات تؤذي مصالحه.
ولذلك فقد توقف لدرجة كبيرة نجاحه في التغلب على الصعاب التي صادفته عقب توليه الحكم مباشرة، ثم طوال فترة الاختبار القاسية على قدرته على استنباط الوسائل التي تأتيه بما يسد حاجته من المال، حتى إنه لمن المتيسر عند تتبع الحوادث في هذه الفترة ملاحظة مدى ما هنالك من ارتباط وثيق بين مسعى محمد علي لتذليل هذه الصعوبات وبين نشاطه لتوفير المال الذي يعينه على التغلب عليها. (1) حكومة محمد علي
Bog aan la aqoon