Masar Bilowgii Qarniga Sagaalaad
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Noocyada
فتحركت الثورة.
ذلك أن الدلاة التاثوا لوثة مفاجئة (يوم أول مايو) جعلتهم ينطلقون في وحشية شنيعة في أحياء مصر القديمة يقتحمون المنازل، ويطردون السكان ويغتصبون النساء ويقتلونهن، ويخطفون الأطفال ويأخذون ثياب الأهالي ومتاعهم، ولم يستطع النجاة منهم «إلا من تسلق ونط على الحيطان»، وصاروا يهددون بإتيان هذه الفظائع في القاهرة ذاتها، فما إن بلغ الخبر المشايخ حتى أذاعوه وطلبوا من التجار إغلاق مخازنهم وحوانيتهم، فأغلقت الجوامع والأسواق والوكائل، واحتشدت الجماهير الصاخبة في الشوارع «تطلب من المشايخ بصوت عال التصريح لها بالسير إلى مصر القديمة لطرد الدلاة منها»، ثم لم يلبث أن «حضر سكان مصر القديمة نساء ورجالا إلى جهة الجامع الأزهر يشكون ويستغيثون من أفعال الدلاتية».
وطلب المشايخ من خورشيد وقف هذه الفظائع، فأصدر أمرا للدلاة «بالخروج من الدور وتركها لأصحابها» فلم يمتثلوا، وخاطب المشايخ خورشيد مرة ثانية، ولكنه اكتفى بأن قال: إن الجند مقيمون ثلاثة أيام ثم يسافرون، فزاد الضجيج وانقضى اليوم في مظاهرات صاخبة، واجتمع المشايخ بالجامع الأزهر في صبيحة اليوم التالي (2 مايو) لتدبر الموقف، واحتشدت الجماهير في مظاهرات عنيفة مرة أخرى، وخشي خورشيد عندئذ سوء العاقبة، فأوفد كخياه وأغا الإنكشارية المحافظ لمقابلة المشايخ بالجامع الأزهر ومحاولة تهدئة الخواطر، ولكنهما لم يجدا به أحدا، وكان هؤلاء قد انتقلوا إلى بيوتهم لأغراض نفسانية وفشل مستمر فيهم - كما قال الشيخ الجبرتي - فذهب الكخيا - أو الكتخدا - بك إلى بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي «وحضر هناك السيد عمر أفندي «مكرم» وخلافه فكلموه وأوهموه».
واستقر الرأي على عقد هدنة يقف في أثنائها الهياج الشعبي ويتخذ خورشيد من ناحيته الإجراءات الكفيلة بإعادة الأمن والهدوء إلى نصابهما، وكانت مدة هذه الهدنة ثمانية أيام تنتهي في 10 مايو حسبما طلب خورشيد نفسه، وقد وافق المشايخ على شريطة أن يطهر خورشيد في خلال ثلاثة أيام المدينة وما يجاورها من الدلاة كلية، وقابلت الجماهير الكخيا بك عند انصرافه برجمه بالطوب والحجارة «وشتمه وسبه».
ولم يكن من المنتظر أن يفي خورشيد بوعده لعجزه عن دفع مرتبات الدلاة بسبب خلو الخزانة، وكان هؤلاء يطالبون بمرتبات متأخرة عن ثلاثة شهور، ولم يجهل المشايخ هذه الحقيقة، وانتظروا ما يفعله خورشيد، وتركوا الحضور إلى الأزهر، «وبطل طلوع المشايخ والوجاقلية ومبيتهم بالقلعة» حسب الترتيب الذي كان قد وضعه خورشيد في أبريل، واضطر هؤلاء إلى الموافقة عليه مرغمين وقتئذ، ومع أن خورشيد استطاع بعد مشقة إبعاد قسم كبير من الدلاة فقد استمر من بقي منهم يعيثون فسادا في العاصمة، وظل التوتر على شدته ولزم الأهلون بيوتهم.
ودأب محمد علي في أثناء ذلك كله على القيام بنفس الدور الذي قام به منذ بداية هذه الأزمة؛ فظل يقابل المشايخ والرؤساء الشعبيين والسيد عمر مكرم، يضم شكاواهم إلى شكاواه ويعرض عليهم خدماته ووساطته، وفضلا عن ذلك فقد أفلح تماما في منع جنده الأرنئود من إهانة الأهالي أو الاعتداء عليهم، واعتبر القاهريون أن النزاع القائم ينحصر بينهم وبين خورشيد باشا وحده، وأن لا علاقة للأرنئود به، وانفصل الأرنئود عن العثمانلي وعاشوا في ألفة تامة مع الأهالي.
وأدرك خورشيد مدى الأخطار التي يتعرض لها إذا ظل في نزاعه مع محمد علي الذي اعتبره مسئولا عن هذه المشاكل التي أحاطت به من كل جانب، فبذل قصارى جهده لحسم مسألة المرتبات التي يطالبه بها محمد علي، فكتب «دروفتي» من الإسكندرية إلى حكومته في 5 مايو أن جانم أفندي الدفتردار ورؤساء المشايخ قد توسطوا بين الباشا وبين محمد علي، وأن هذين الأخيرين تقابلا في منزل جانم أفندي أخيرا واتفقا على شروط تعهد خورشيد بمقتضاها أن يدفع نصف المرتبات المطلوبة للأرنئود عن السبعة شهور المتأخرة، وتعهد محمد علي من جهته بإرسال جنده إلى الصعيد لقتال المماليك، على أن يبقى هو مع قسم من رجاله بالقاهرة حتى يتسنى له الخروج لقتال العربان الذين يخربون في الوجه البحري.
ومع ذلك، فقد كان ظاهرا أن هذا الصلح لن يستمر طويلا، حتى إن «دروفتي» لم يلبث أن كتب في اليوم التالي (6 مايو) يطلب تعليمات جديدة من حكومته، «لأنه بالرغم من الأخبار التي بلغته عن إتمام الصلح نهائيا بين محمد علي وخورشيد، يعتقد - كما قال - أن الحال التي عليها الموقف تقتضيه أن يرجو من الوزير إصدار تعليماته إليه فيما يجب أن يكون عليه مسلكه إذا قبض محمد علي على زمام الحكومة، أو إذا نجم عن حدوث أية ثورة داخلية أن سلب من ضباط الباب العالي سلطة السيادة العليا»، كما أن دروفتي طلب كذلك هذه التعليمات من القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية للاسترشاد بها مؤقتا حتى تأتيه أوامر حكومته.
ودلت الحوادث على أن «دروفتي» كان محقا فيما ذهب إليه؛ لأن خورشيد الذي ظل يواصل مسعاه لدى الباب العالي لاستصدار فرمان بتعيين محمد علي لإحدى ولايات الإمبراطورية وإبعاده بفضل ذلك عن مصر؛ قد نجح أخيرا في مقصده، وأصدر الباب العالي فرمانا بتسمية محمد علي لولاية جدة، ويبدو مما قاله محمد علي لوكيل «القومسييرية» الفرنسية العام في القاهرة «فيليكس مانجان»، أن «خورشيد قد احتفظ بنبأ هذا التعيين مدة شهرين سرا لنفسه، ثم أطلع عليه بعد ذلك بعض الأفراد الذين علم محمد علي منهم ذلك»، ومهما يكن من أمر فقد اختار خورشيد اليوم التالي لبداية الهدنة لإبلاغ محمد علي أن فرمانا قد وصل من الباب العالي بتعيينه لولاية جدة، ثم دعاه للطلوع إلى القلعة ليبلغ ذلك رسميا وحتى تتم مراسم التقليد، ولكن «محمد علي» الذي خشي من غدر خورشيد رفض الطلوع إلى القلعة، وأظهر استعداده لمقابلة خورشيد في أي مكان - خلاف القلعة - يقع عليه اختيار الباشا، فرفض خورشيد بدوره.
ولما كان المشايخ يرون في نوال محمد علي هذا التقليد رفعا لشأنه وتعزيزا لنفوذه، وأرادوا الانتصار على خورشيد ونواياه السيئة؛ لأنهم اعتقدوا - على ما يبدو - مثلما اعتقد محمد علي، أنه يريد الغدر بهذا الأخير فقد توسطوا بين الاثنين وتم الاتفاق - حسب رغبتهم - على اختيار منزل سعيد أغا وكيل دار السعادة - وهو رجل محب للسلام وموضع احترام الجميع، ومن أصدقاء محمد علي - مكانا للمقابلة وحفلة التقليد، فنزل خورشيد من القلعة في 10 مايو وكان قد سبقه إلى نفس المكان محمد علي وبصحبته المشايخ ورؤساء الأهالي وحسن باشا وأخوه عابدي بك، وقرئ الفرمان، ولبس محمد علي الفروة والقاووق علامة التقليد وانفض الجمع.
Bog aan la aqoon