يجدر بنا بعد الإتيان على تاريخ مصر السياسي في الدول من سيادة الدولة العثمانية، أن نأتي بفذلكة عن حالة مصر العلمية والأدبية في ذلك الدور.
يعد هذا الدور في تاريخ آداب اللغة العربية من عصر الانحطاط أو التقهقر، لذهاب دولة العرب واستبداد سواهم في السيادة، وانغماس القوم في الجهل. ولولا القرآن لذهبت اللغة العربية برمتها.
وكانت الدول الإسلامية غير العربية قبل الدولة العثمانية كالبويهيين، والسلاجقة، والطولونيين، والأتابكة، والأيوبيين يجعلون اللغة العربية لغتهم الرسمية للمخاطبات والمكاتبات، فتبقى ببقاء السياسة. أما العثمانيون فأهملوا هذه اللغة، وجعلوا اللغة التركية لغتهم الرسمية.
وزد على ذلك ما رافق الفتح العثماني أو حواليه من الأسباب التي بعثت على تقهقر هذا القطر على الخصوص، وذلك أن أهل أوربا اكتشفوا في أثناء ذلك طرقا تجارية بحرية مثل رأس الرجاء الصالح وغيره أغنت التجار عن إرسال تجارتهم مع الشرق الأقصى ذهابا وإيابا عن طريق مصر وانصرفت همم العالم المتمدن في الجهة الأخرى إلى العالم الجديد وغيره بعد اكتشافها، والمصريون يومئذ لا يعلمون شيئا عن تلك الاكتشافات، فكان هذا كله باعثا على إهمال مصر وانحطاطها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ويتبع ذلك طبعا انحطاطها العلمي والأدبي.
وناهيك بفساد الأحكام، ومطامع الولاة وتسابقهم في ظلم الرعية، وسلب أموالهم؛ مما يشغل الإنسان بنفسه عن طلب العلم أو التبحر فيه.
وعليه فكان ينتظر أن تموت اللغة العربية، ونعني بموتها ضعف شأنها بالآداب والعلوم، وإنما استبقاها الإسلام لاضطرار أصحابه إلى تعلم هذه اللغة واختلاط الأمراء المماليك بالوطنيين وتعلم لسانهم.
وقد ساعد على إحياء آداب اللغة العربية في تلك الفترة المظلمة أن بعض ولاة ذلك الدور كان فيهم ميل العلم والعلماء. أشهرهم «إسكندر باشا الشركسي» - تولى مصر سنة 976ه - فقد تقدم أنه كان شديد الميل كثير التعلق بالعلم وذويه، و«حسين باشا» - تولاها سنة 980ه - وشيد «محمد باشا» - سنة 1004ه - فإنه كان ينشط العلم والأدب. وكذلك «محمد باشا الصوفي» وأهمهم وأقدمهم «داود باشا» - تولى مصر سنة 945، وما زال عليها أكثر من 11 سنة - وكان محبا للعلماء شديد الرغبة في المطالعة واقتناء الكتب، ينفق في سبيل استنساخها أو ابتياعها الأموال الطائلة، فجمع مكتبة نفيسة. ومنهم «جعفر باشا»، و«بيرام باشا» وقد ذكرناهم في أماكنهم في هذا الكتاب.
فبالنظر إلى ذلك، ظلت آداب اللغة العربية حية لكنها انحصرت بالأكثر في كتب الفقه، والدين، أو جمع الأدب والشعر. حتى أشعارهم أكثرها في مدح النبي وأكثر المؤلفات الفقهية شروح وحواش. وراج من ضروب الفقه على الخصوص الفقه الحنفي؛ لأنه مذهب الدولة العثمانية، والفقه الشافعي لأنه مذهب المصريين.
وكان الأزهر في تلك المدة مبعث نور العلم، والمدرسة العامة للعلم الإسلامي، وأكثر مشاهير العلماء كانوا من طلبته. وكان الطلاب يقصدونه من أقاصي العالم، وله فضل كبير في استيفاء أصول العلوم التي كانت رائجة في ذلك العصر، وأكثر نوابغ مصر في الدور الذي نحن في صدده من تلاميذه، وسنأتي بشذرات من تراجم مشاهير ذلك الدور، ونرتبهم حسب المواضيع مع مراعاة سني الوفاة - ما بين سنة 933 و1115ه - ولذلك كان بعض هؤلاء عاصر السلاطين المماليك، وإنما توفي في عهد الدولة العثمانية.
قبل التقدم إلى الكلام عن هؤلاء نذكر عالما هو إمام العلماء في القرن التاسع للهجرة، نعني «جلال الدين السيوطي»، توفي قبل الفتح العثماني باثنتي عشرة سنة 911ه. وكان علما كثير التأليف والتعليم، ألف في كل موضوع حتى زادت كتبه على بضع مئات، وتخرج عليه كثيرون ومنهم جماعة سيأتي ذكرهم في جملة نوابغ العصر العباسي الذي نحن فيه.
Bog aan la aqoon