إن الذي يثبته التاريخ أن حضارة مصر القديمة دخلت الجزر الأيونية أو اليونان جملة مرات؛ ففي المرة الأولى اكتسحتها الموجة الأولى التي خرجت من مصر في الدولة القديمة فعممت الآرام التي بنيت محاكاة للقبور المصرية الفرعونية وانتشرت معها الزراعة واستنباط الذهب والنحاس.
ثم خرجت موجة أخرى من مصر إلى كريت ثم إلى أوروبا أيام الدولة الوسطى وقد طغت هذه الموجة على الجزر اليونانية كما طغت على أقسام مختلفة من أوروبا، وكان حظ هذه الجزر أكبر من غيرها لقربها من كريت ولبنان حيث كانت جالية أو جاليات مصرية تقيم فيها وتتصل بالإغريق.
ثم جاءت الموجة الثالثة وهي أهم الثلاث أيام الأسرة السادسة والعشرين في عصر إبساماتيك بل قبله وبعده، وهنا زاد الاتصال بين المصريين والإغريق حتى أنشئت مدن إغريقية في الأقاليم الشمالية من مصر واتصلت التجارة بين القطرين حوالي سنة 700 قبل الميلاد، وأساطير الإغريق تقول أن أسرة ملوكية مصرية كانت تحكم الإغريق أنشأها دانوس، وسواء أصحت هذه الأسطورة أم لم تصح فإنها تدل على أن الإغريق كانوا يرون من الصلة بين القطرين ما يبررها. •••
وليس هناك شك في أن رجال الفن والأطباء والفلاسفة الإغريق كانوا يحجون إلى مصر وينقلون عنها، بل لقد دخل فيثاغورس في نظام الكهنة في طيبة وعاش في مصر أكثر مما عاش في وطنه، والمشهور عن أفلاطون أنه زار مصر، ويعد طاليس أول فلاسفة الإغريق «600 ق.م.» وهو الذي يقول إن الماء أصل جميع الأشياء كما كانت عقيدة مصر التي تنص عليها ديانة أوزوريس.
وقد نقلت الأرباب المصرية إلى إغريقيا، مثل الرب الراقص بيس، بل إن هيكات ربة السحر «عكاظ العربية» الإغريقية مشتقة من لفظة هيكا المصرية بمعنى السحر، وقد نحت الجعل «الجعران» في الجزر اليونانية على الطريقة المصرية، والتماثيل الإغريقية الأولى نحتت على النمط المصري: الذراعان ترسلان والقدم اليسرى تتقدم قليلا على اليمنى.
وكثير من الأساطير التي ذكرت في إلياذة هوميروس يمكن الاهتداء إلى أصولها في القصص القديمة. •••
وكان من حظ الإغريق وهم في بداية نهضتهم أن اتصلوا بالمصريين في العهد الصاوي أي الأسرة السادسة والعشرين؛ فإن هذه الأسرة عادت تصبو إلى الدولة القديمة، وتنقل مومياءات فراعنتها من شمال الدلتا إلى مقابر الملوك عند الأهرام، وتنحت التماثيل على طريقة الفراعنة في عصر الأهرام، وهذه الطريقة تشترط التزام الطبيعة دون تكلف القواعد الموروثة، وأخذ الإغريق بهذه الطريقة وارتقوا بها إلى أن بلغوا الذروة في النحت.
والحضارة المصرية في عهد إبساماتيك كانت بعيدة بعدا عظيما عن حضارة الفراعنة أيام الأهرام، فقد كان الملك حوالي سنة 3000 ق.م. زعيما للزراعة قبل كل شيء، أما حوالي سنة 600 أو 700 ق.م. أيام إبساماتيك فقد استحال الملك للتجارة ولذلك فإن الحضارة الصاوية التي تذكر في مصر حوالي سنة 7000 أو 6000 ق.م. هي المهد الطبيعي للحضارة الجديدة الإغريقية. •••
تعددت الطرق التي انتقلت بها حضارات مصر إلى إغريقيا، ولكن ليس شك في أن جزيرة كريت كانت أعظم هذه الطرق، فإنها تقع بين بلادنا وبين شبه الجزيرة، وإذا نحن تعمقنا قليلا في بحث الآثار في كريت ألفينا البراهين القاطعة على أن كريت كانت عيالا على مصر في كل ما عرفته من حضارتها المينوية كما يسميها السر آرثر إيفانز.
وأول ما يستغرب في هذه الجزيرة أنه ليس فيها ما يدل على أن سكانها عاشوا في العصر الحجري؛ فإن أول السكان عرفوا الزراعة، وهذا يدل على أن الجزيرة لم تكن مسكونة مدة العصر الحجري القديم وأن الناس رحلوا إليها على السفن، ولما كان المصريون هم الذين اخترعوا السفن والزراعة فإن المعقول أنهم هم أيضا الذين رحلوا إلى كريت وسكنوها لأول عهدها بالإنسان ونقلوا معهم الحضارة الزراعية. •••
Bog aan la aqoon