وأبناء الشمس هؤلاء لا تخلو أمة من الأمم المختلفة من تقاليدهم، وهذه الأمم تحتفظ بهذه التقاليد لأنها كانت ولا تزال بطيئة التطور لم ينسخ الجديد فيها القديم، فهم يذكرون في تقاليدهم أن «أبناء الشمس» جاءوهم وعلموهم العبادة والزراعة ودفن الموتى وبناء القبور واستخراج الذهب ونحت الحجر.
ومن التحنيط عرف الإنسان الكيمياء حتى إن الإغريق أطلقوا لفظة كيمي وهي تعني مصر على هذا العلم، ومن الزراعة عرف الإنسان الفلك؛ لأنه اضطر إلى معرفة الأوقات الزراعية على النظام الشمسي حتى لا يخطئ أيام الزرع أو الحصاد، ومن البحث الخرافي عن تخليد الموتى ارتقى المصريون إلى البحث عن الوسائل التي تحفظ صحة الجسم، ومن بناء القبر ارتقوا إلى بناء المعبد ثم إلى بناء المساكن بعد فترة طويلة من الإهمال، ومن عبادة الآلهة المتعددة إلى عبادة الإله الواحد أيام أخناتون. •••
وعندما نتكلم عن الحضارة المصرية القديمة يجب ألا يفوتنا أننا نتحدث عن نحو 4500 سنة قبل الميلاد تقلبت فيها البلاد على حضارات مختلفة؛ ولذلك نحن نتجوز حين نقول «الحضارة المصرية» لأنها لم تكن واحدة طول هذه القرون المتعاقبة، وإلى الآن نجد في أنحاء العالم شواهد تدل على انتقال ثقافة مصر في الأسرة الخامسة أو السادسة، وشواهد أخرى تدل على انتقالها في أيام الأسرة الثانية عشرة أو حتى الأسرة الخامسة والعشرين.
وقد زال بناء الهرم من مصر بعد الأسر الأولى، ولكن بناء القبور بقي على ما هو عليه إلى العصور الحديثة، وبقي التحنيط حتى إلى ما بعد دخول الدين المسيحي، ومع ما حاوله أبناء المسيحية في القرون الأولى من إلغائه لم يستطيعوا ذلك لأن العادة كانت قد تأصلت في النفوس؛ ولذلك فإن المسيحيين بقواعده قرون وهم يحنطون موتاهم في مصر، ولم يقض على هذه العادة إلا بعد دخول الإسلام.
مصر والإغريق
الأستاذ برستد هو العالم الأثري الذي توسط بين المثري الأمريكي روكفلر وبين الحكومة المصرية لكي يهب الأول الثانية مليونين من الجنيهات لزيادة البحث عن الآثار المصرية وتنشيط العلماء إلى القدوم إلى مصر، وقد رفضت حكومتنا هذه الهبة مع أن الأمريكيين يقولون إنهم عرضوا على الحكومة أن تكتب أي شروط لقبول الهبة وما على معهد روكفلر سوى القبول .
والأستاذ برستد معروف بسعة ثقافته في الآثار القديمة في مصر وغير مصر، وكتابه «فتح الحضارة» من أبدع ما كتب في نشوء الحضارة الأولى، وهو لسعة ثقافته يدأب في المقابلات والمقارنات يقابل بين مصر ودنمركا أو بين مصر وبريطانيا أو بين مصر والأقطار الشرقية الأخرى، وهو لا يقول بعبارات صريحة إن مصر أصل الحضارة في العالم ولكن هذا هو ما يستنتج من العرض العظيم الذي يعرضه للقارئ من تاريخ الأمم المختلفة.
باليسار خنجر مصري يليه خنجر إيطالي ثم خنجر وجد في جبال جورا ثم خنجر دنمركي وكلها منقولة عن المصري.
ونحن في هذا الفصل نعتمد عليه هو وحده وننقل من كتابه رسوم بعض الآثار القديمة التي تدل على أن المصريين هم الذين اخترعوا الحضارة، عرفوا الزراعة أولا ثم اضطروا بحكم هذه الصناعة إلى اختراع سائر ملابسات الحضارة القديمة من دين وحكومة وآنية ومسكن وملابس وخبز وخمر ... إلخ.
ولنبدأ بالخنجر المصري فنقول: إن المصريين كانوا قبل أن يعرفوا المعادن يشتركون مع سائر الشعوب في بداوتها في استعمال سكاكين الأحجار، يحفرون بها عن الجذور ويقتلون بها الوحوش، وهذه السكاكين توجد الآن مطمورة في جميع أنحاء العالم، ولكن لما تحضر المصريون وعرفوا النحاس والبرونز صنعوا خناجرهم القديمة على مثال السكاكين الحجرية، ثم انتشرت هذه الصناعة وخرجت من مصر إلى أوروبا فصنع الأوروبيون خناجر هم على الطريقة المصرية، ثم اخترع الأوروبيون السيف وهو خنجر طويل.
Bog aan la aqoon