ففي الحال الأولى يبقى الإنسان بدويا راحلا ينتقل كل يوم، لا يعرف نظام الحكومة أو بناء المسكن، وفي الحال الثانية يعرف الزراعة، ومتى عرفها استقر في مكان وبنى المسكن ورضي بالخضوع للحكومة، ثم يدرك من الزراعة أشياء عديدة كاستئناس الحيوان والهندسة والفلك وعندئذ تنشأ المدنية.
ولكن لماذا اختص المصريون باستنباط المدنية الأولى حين جهلها سائر الناس؟
الجواب على ذلك أن المصريين لم يكونوا عبقريين، فقد كانوا مثل سائر الشعوب التي تحيط بالبحر المتوسط على ذكاء عظيم حقا، ولكن استنباطهم للمدنية لم يكن ثمرة العبقرية بمقدار ما كان ثمرة للوسط المصري؛ وذلك أن النيل بفيضانه السنوي الذي كان ينساح كل عام في الوادي كان يعلمهم على الرغم منهم أصول الزراعة، وفي العالم أنهار كثيرة ولكنها لا تنتظم في فيضاناتها لا من حيث المقدار ولا من حيث الميعاد، فهي تسيء إلى تعليم الإنساني البدائي الذي يعيش في واديها، وتربك ذهنه باختلاف مواعيدها ومقاديرها، أما النيل فكان ولا يزال منتظما؛ ولذلك كان جدودنا قبل 10000 سنة يلقون الصعاب في جمع الطعام من الصيد واقتلاع الجذور، بل كانوا يجوعون وأحيانا يموتون، وهم في ذلك وإذا بماء الفيضان ينساح ثم ينحسر فتكتسي الأرض خضرة زاهية وتنبت الجذور المختفية فيعم الفرح، ثم تكرر هذا الفيضان سنة بعد أخرى، فتعلم منه جدودنا أن الماء ضروري للنبات وأنه يمكن الاستكثار من الزراعة بالجذور أو البذور، وأنه خير لهم أن يزرعوا ويستنتجوا الطعام بالزراعة من أن يجمعوه من الغابات والنباتات البرية.
ونشأت الزراعة فسكن كل منهم في مكان لا يبرحه، وأصبحوا فلاحين لهم بيوت بعد أن كانوا بدوا يرحلون، وعندئذ ظهرت الحكومة في صورة «شيخ» يرجع إليه في المنازعات، ثم بتوالي الزمن وتوافر التجارب ظهر المهندسون الذين أدركوا كيف يمكن تدبير الماء بالحياض، وكيف ينظم التقويم على نظام فلكي يتفق ومواعيد الزراعة، ولعل هذا المهندس الأول أو الفلكي الأول هو أول الفراعنة.
ولكن هذا الفرعون الأول الذي هدى البلاد إلى خيرات الزراعة وأنشأ لهم الحياض ونظم التقويم، قضي عليه كما يقضى على كل حي بالموت، فاحتفظ جدودنا بجسمه وهم في سذاجتهم يحسبون أن الاحتفاظ بالجسم يؤدي إلى الاحتفاظ بالحياة، فعرفوا الدفن والتحنيط، ثم كانوا يستشيرونه بعد موته كما كانوا يفعلون في حياته، فنشأت الأديان الأولى وعرف المعبد.
زراعة وديانة وملك وعبادة وهندسة وتقويم وبناء للمنزل واستئناس للماشية، فماذا يبقى بعد ذلك لتكوين المدنية الأولى؟
لم يبق شيء سوى التدرج؛ فإن جميع المبادئ قد وضعت، والزيادة بعد ذلك هي توافر التجارب وتنوع الفنون التي تنشأ من هذه المبادئ أي مبادئ الزراعة؛ لأن الزراعة هي الأصل لفكرة المدنية، وقد نرى في أيامنا مدنية صناعية ولكن المدنية الأولى كانت بالطبع مدنية زراعية.
هذه المدنية الأولى هي التي اخترعت القيمة الاجتماعية للذهب وعرفت التحنيط وجمعت المعارف الأولى للكيمياء، وإلى الآن يعرف العالم المتمدن هذه اللفظة «كيمياء» ولكن قل من يدري أصلها.
إن أصلها خيما بمعنى مصر؛ لأن الإغريق سموا هذا «العلم المصري» لاختصاص جدودنا به. •••
والآن كيف نحقق هذه النظرية؟
Bog aan la aqoon