غادرت البنسيون أنا وسرحان فحملنا المصعد معا. جعل ينظر إلي بعينين باسمتين داعيتين إلى مزيد من التعارف، فخف سخطي عليه درجات. وقال وكأنه يصحح خطأه دون شعور منه: الوظيفة اليوم أضمن مما عداها، ولكن العمل الحر إذا اختير بحكمة ...
تركنا المصعد قبل أن يتم جملته ولكن لهجته المؤيدة أغنت عن الكلام. وافترقنا فمضى نحو محطة الترام، ومضيت نحو الجراج. مررت أمام مقهى الميرامار القائم أسفل العمارة فتذكرت جلوسي به مع عمي في الأيام الخالية، وقبل وقوع الكارثة. كان يذهب إليه في الأصائل ليدخن النارجيلة، فيجلس متلفعا بعباءته الخفيفة كملك متنكر في ثياب العامة ، يتوسط مجموعة من الشيوخ والنواب والأعيان! أجل تلك أيام خلت، ولكنه يستحق أكثر مما حاق به.
استقللت سيارتي الفورد بلا هدف معين سوى رغبتي الأبدية في التجوال والسرعة. وقلت لنفسي إنه من المستحسن ألا أنبذ سرحان البحيري؛ فقد أجد نفعا في خبرته ومعارفه بالمدينة. وانطلقت بالسيارة إلى الأزاريطة فالشاطبي فالإبراهيمية إلخ، في سرعة خاطفة استجابت لها أعصابي المتوثبة. اخترقت هواء نشيطا لطيفا منعشا تحت سماء ظللها الغمام. وبدا الكورنيش المحفوف بزرقة البحر نظيفا نقيا، قد تطهر من عرق المصيفين وصخبهم، وقلت بتصميم لن أعود إليك يا طنطا إلا لأقبض نقودا أو لأبيع أرضا، فلتذهبي بذكرياتك إلى الجحيم.
ملت إلى مستعمرة السيوف ثم مرقت إلى شارع أبي قير، سيد الشوارع، فازددت سرعة وطربا وتحديا. وتساءلت بأسى: أين الأوروبيات .. أين الجمال .. أين سبائك الذهب؟ وحضرت الحفلة الصباحية بسينما مترو. غازلت فتاة في الاستراحة أمام البوفية. تناولنا الغداء في عمر الخيام. نمنا القيلولة معا في مسكنها بالإبراهيمية. عدت إلى البنسيون عصرا وقد نسيت اسمها تماما. كان المدخل والصالة خاليين فأخذت دشا، وتحت الماء تذكرت الفلاحة المليحة. ولما عدت إلى حجرتي طلبت قدح شاي لأراها من جديد. وقدمت لها قطعة شيكولاتة فترددت، ولكني ألححت عليها قائلا: كيف لا ونحن أسرة واحدة!
وجعلت أنظر إليها بسرور وهي تنظر إلي بلا ارتباك أو تنظر إلى الأرض. خائفة؟ .. ماكرة؟ - زهرة، هل يوجد مثلك كثيرات في الريف؟
قالت متجاهلة مقصدي: لا عد لهن ولا حصر. - ولكن كم منهن جميلة مثلك؟
فشكرت لي هدية الشيكولاتة وذهبت خائفة؟ ماكرة؟ على أي حال، لست بحاجة إليها الآن. ومن حقها شيء من التمنع والدلال. ومن حقها كذلك أن أعترف بأنها فائقة الجمال.
فريكيكو .. لا تلمني. •••
نظرت طويلا إلى صورة المدام القديمة حتى ضحكت متسائلة: تعجبك؟
وقصت علي قصة زواجها الأول، ثم الثاني. - كيف تراني الآن؟
Bog aan la aqoon