فكم قيل عن كهف المساكين باطل
وكم قيل عن شيخ المعرة زور
وما رد عن فعل الأذى قول مرسل
وما راع مفتون الحياة نذير
وهكذا كانت نظرة شاعرين وفيلسوف لتولستوي عند موته، في ختام العقد الأول من القرن العشرين - وماذا نحن عنه قائلون بعد حروب عالمية طاحنة، وثورات اجتماعية شاملة، ومغامرات في عالم الفضاء مذهلة - نقول: إن قادة الفكر إذ ذاك والآن اهتموا بجانب الأعمال من حياة تولستوي أكثر من اهتمامهم بجانب أدبه؛ بل ومنهم من ظن أنه يمكن الفصل بين التعبير الأدبي عن شخصيته، واشتغاله بالدين أو الفلسفة، ومحاولته أن يحيا الحياة التي رآها وحدها جديرة بإنسانيته، وهذا الأديب الروسي الكبير الذي كان معاصرا له تورجينيف، هو نفسه يظن أن ذلك العمل مستطاع وواجب، ووجه له من فراش المرض مرض الموت نداء: أن اترك ما أنت فيه من اشتغال بالتصوف الأخلاقي، يا أكبر من أنجبت الروسيا - وعد للأدب - كان ذلك النداء بعد انقضاء خمس سنوات على الأزمة النفسية الكبرى التي انتابت تولستوي، عندما بلغ الخمسين من عمره، والتي صرفته إلى الفلسفة وإلى الكتب المقدسة، يلتمس فيها شفاء من علته، ومن حيرته، ومن عجزه، على أن الأسئلة والمشكلات التي أثارتها الأزمة النفسية عند بلوغه الخمسين بصورة محيرة معجزة لم تكن جديدة تماما، فقد سبق له أن عرض في قصصه الكبرى وعلى أفواه أشخاصها للأسئلة الكبرى، لم نحيا؟ ما سر حياتي، وما سر حياة الغير؟ كيف يجب أن أحيا؟ ما الموت؟ ماذا يجب أن أفعل لكي أنجو بنفسي ... وما إلى ذلك - لقد أثيرت هذه المسائل في أكبر قصصه الحرب والسلام، وقد ألفها ولما يبلغ الأربعين - وذهب فيها إلى ما أن يتوهمه الناس وما يتوهمه الذين يعرضون لتعليل أفعال الأفراد والجماعات من المؤرخين وغيرهم، لا يستقيم عند ذوي النظر السليم - واختار أن يصف مذهبه هذا بما يحدث في وقائع الحروب الكبرى - إذ الحرب أكثر إظهارا للعلاقات بين الأفراد والجماعات، وأوضح بيانا للعلل وللقوى من شئون حياة السلم.
وإذا وجب علينا أن ننظر إلى حياة تولستوي وحده، فإنه يتعين علينا أن نتعرض ونعترف بما كان للأزمة التي انتابته عند بلوغه الخمسين من أثر حاسم في تلك الحياة.
ينتمي إلى أسرة أرستقراطية غنية، والأرستقراطية لا تملك الأرض فحسب، ولكن تملك أيضا ما على ظهرها من بني الإنسان.
ونشأ يتيما ودرس بجامعة فازان، ثم لحق بالجيش ضابطا، واشترك في حروب القرم بين بلاده والدولة العثمانية وحليفتيها إذ ذاك بريطانيا وفرنسا ، وترك الجيش وعرف لهو المدينة، وعرف سعادة الأسرة، وساح خارج بلاده، ودرس وأحب حياة الأرستقراطية الريفية، وأقبل عنها وعن حياة الكتابة، قوي البدن قوي العقل لا يفوته شيء، قوة خارقة تنفذ من خلال وصف العمل العادي للإنسان أو الحيوان إلى ما وراء العمل من خصال، قوة تذهل وتخيف.
فماذا حدث عندما بلغ الخمسين، قال: إنه لا يدري لهذا سببا، فقد كان سعيدا، وفجأة أحس بأن ما كان يدفعه للحياة أصبح يدفعه للموت، وعندما أحب أن يشرح لنا ما كان، رجع للأمثولة البديعة التي نقرأها في كليلة ودمنة: فالتمست للإنسان مثلا، فإذا مثله مثل رجل نجا من خوف فيل هائج إلى بئر، فتدلى وتعلق بغصنين كانا على سمائها، فوقعت رجلاه على شيء في طي البئر، فإذا حيات أربع قد أخرجن رءوسهن من أجحارهن، ثم نظر فإذا في قاع البئر تنين فاتح فاه، فنظر له ليقع فيأخذه، فرفع بصره إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود وأبيض، وهما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران، فبينما هو في النظر لأمره والاهتمام لنفسه، إذ أبصر قريبا منه كوارة فيها عسل نحل فذاق العسل فشغلته حلاوته وألهته لذاته عن الفكرة في شيء من أمره، وأن يلتمس الخلاص لنفسه، ولم يزل لاهيا حتى سقط في فم التنين فهلك، وعند تولستوي أن من الناس من هو أعمى بنهل العسل ولا يرى التنين ولا الحيات ولا الجرذين، ومنهم من يرى ولكنه لا يبالي فله لذة الساعة الحاضرة، ومنهم من يرى ويدعو الله أن يوجد مخرجا، والتمس الشفاء عند الفلاسفة وعند رجال الأديان.
وعرف بعد سنتين من أزمته أن الإيمان يستمد من منابعه الصافية، وأن الحضارة هي سر الشقاء، وأن الطبقات العليا حياتها مشوبة بالنفاق والغرور، وأن فقر الفقراء يرجع إلى غنى الأغنياء، ولكنه لم يدع إلى عنف، بل دعا إلى مقابلة السيئة بالحسنة، وحاول أن يحيا الحياة التي تتفق ومبادئه، وهنا كانت مأساته الكبرى، حاول أن يتجرد مما يملك، وأن يعيش من عمل يده، وليس من ملبس الفلاحين - وخشي أصحاب السلطان السياسي والديني أمر دعوته، فقاوموها بأساليبهم، وكره أهله منه ما حاول، ولم يرض عن عمله إلا بنته الصغرى، فأرادوا أن ينزلوه عما اعتاد وعلى ما اعتادوا، فكان عذابه، علائق الدنيا - كما يقولون - كانت أقوى وأشد، هرب من منزله، وأدركه الموت يائسا شقيا، كان له من حب ذويه ومن إعجاب العالم بأسره ما يهيئ له الحياة الهنية، لو قبلها، ولكنه رفضها وضحى بها في سبيل التوفيق بين الواقع والواجب، فكان أعظم من حاولوا ذلك التوفيق، وكان أيضا أعظم أولئك الذين رفضوا أن يسلموا بعجزهم عن ذلك.
Bog aan la aqoon