وعلى الرغم من مخاطبة والدته بأنتم، وهذا أثر من آثار التحفظ في التحدث إلى الأمهات والآباء وعنهم، فالحنو العذب ظاهر في هذه الرسالة الجميلة، تطلعنا على الشيخ شديد الشكيمة ابنا بارا رضيا.
تولستوي بين الواقع والواجب
عندما مات رجل روسيا الكبير - تولستوي - منذ ما يقرب من خمسين سنة، حزن لموته قادة الفكر في بلادنا حزنا صادقا، رثاه شوقي، ورثاه حافظ، ورثاه نثرا في الجريدة الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكان عنوان مقال الأستاذ: «مات الرجل».
لم حزن القادة لموت تولستوي حزنا صادقا؟ ما المناقب وما المآثر التي ذكروها له؟ ما العبر، ما العظات، ما المعاني التي استخرجوها من حياته ومن موته؟
تحدث شوقي عن بكاء العالم تولستوي، عن فقد الشعب نصيره، عن طوافه كعيسى بالحنان وبالرضى، عن أن لب الدين كان لديه، بينما لم يكن للمتصدين لخدمة الدين سوى القشور، ثم تخيل التقاء تولستوي بأبي العلاء في دار البقاء، وما كان من حديث القادم الجديد إلى المقيم القديم، يذكر تولستوي أنه سلك سبيل المترفين، وأنه نعم بمال وبنين، تمتع في الشتاء بالدفء في ظل شاهق، وفي الصيف بالجنة والغدير، ويذكر كضوء الشمس في كل بلدة ... ثم أجاب عما تساءل عنه أبو العلاء: هل غير الناس ما بهم؟ قال له: إن الناس هم كما عرفهم، وأضاف إلى ذلك وصفه لنفوذ المال في كل الأمور، ولحرص الناس على السلاح مع كثرة كلامهم على السلم، وفي ظل هذا الكلام كانوا إذا صادفوا شعبا آمنا أغاروا عليه، وختم الرثاء بالإشارة إلى ابتداء عصر الطيران إذ ذاك، فقال: إن العصر لما استقل البر والبحر مذهبا تعلق بأسباب السماء يطير ...
وكتب الأستاذ أحمد لطفي السيد كلمته عن تولستوي، حيث كان في قريته تحيط به أشباه المناظر التي كان يحبها تولستوي، ويعاشر أشباه الناس الذين كان يحبهم تولستوي، فلا شك أنه كتب في أليق ظرف من الزمان والمكان بالكتابة عنه، فرثاه كما يرثي المرء هذه الأرض الواسعة، ورثاه شاعرا بأن المصيبة بفقد هذا الحكيم لا تدمع عينا، كأنما هي تقع على العقول لا على القلوب، فأولى بوفاته أن تشبه بكسوف الشمس أو بخسوف القمر، أو بأية ظاهرة من تلك الظواهر الطبيعية التي أكثر ما تهتم لها عقولنا لتدبرها، وتعرف آثارها في الوجود، ومع ذلك فقد أكد الأستاذ إنسانية تولستوي، وحبه للسلام، وسماحة مسيحيته، ومواقفه الفلسفية والسياسية والاجتماعية، وختم مقاله، حسب تولستوي في أنه خالد الأثر في حكمته وتعاليمه.
وأما حافظ فقد بدأ قصيدته بالإشارة إلى رثاء أمير الشعر في الشرق لتولستوي، ومن مدح كثير من كتاب مصر له، وحافظ لا يبالي أن يقال عنه بعد أن أتى بعدهما «قد رثاه صغير» لا يبالي بذلك، فقد كان تولستوي عونا للضعيف، وحافظ ضعيف، وما له في الحياة نصير.
ولا يبالي أيضا باختلاف الناس في دعوته لعيسى: أهي قول ملحد أم قول بشير، على أن حافظ وهو صفر اليدين يقرر أن ثراء تولستوي رد عنه كيد أعدائه، وحافظ أيضا يصف التقاء تولستوي بشيخ المعرة ولكنه - على عكس شوقي - يجعل أبا العلاء هو المتكلم العارف بكل ما جرى من زائره، وبكل ما جرى عليه: تكلم عن بره وتقواه، وعن إحسانه وإجارته، وعن زهده، وعن كون إرادته السلام، وحياة الورى حرب، وعن محاولته دفع الشر والشر واقع، وعن طلبه محض الخير - ولا مناص من امتزاج الخير بالشر في هذه الدنيا - وختم كلامه:
أفاض كلانا في النصيحة جاهدا
ومات كلانا والقلوب صخور
Bog aan la aqoon