ونترك طائفة الممكنات التي تحققت في وجود فعلي لنسأل: وماذا عن بقية الممكنات التي لم تتحقق؟ إنها هي التي يطلق عليها سانتيانا اسم «عالم الروح»، لأنه هو العالم الذي يلوذ به الإنسان إذا لم يعجبه العالم المتحقق الواقع، فقد يضيق الإنسان صدرا بهذا الذي حوله من أشياء ونظم، فأين يكون مأواه إلا أن يلوذ بعالم يصوره بخياله ليعيش فيه؟ لكن من أين له العناصر التي ينشئ بها عالمه الخيالي هذا، إذا لم تكن لديه ذخيرة الممكنات التي لم تتحقق في هذا الواقع الكريه إلى نفسه؟ إن الإنسان ليبني لنفسه من هذه العناصر مثله الأعلى الذي - في رأيه - لو تحقق لكان أجمل وأفضل من هذا العالم الفعلي الذي نعيش فيه، وما ذلك المثل الأعلى المتخيل إلا «عالم الروح».
وواضح أن قيمة هذا العالم الأمثل - الذي يصوره الخيال - هي في مجرد تخيله، لا في تطبيقه على الواقع، ولو طبق ونفذ لانقلب «حقا» واقعا، ولم يعد «مثلا أعلى»، ولأصبح نثرا بعد أن كان شعرا. وما ذاك العالم المثالي المتخيل إلا العالم الذي يلوذ به الإنسان من وطأة الواقع، وقوامه ما يرسمه الإنسان لنفسه من شعر ودين، فماذا يصنع الشاعر سوى أن يصور لنفسه جمالا أصفى وأنقى من أي جمال تصادفه عيناه على هذه الأرض؟ ولذلك تراه يضفي على الأشياء أثوابا من عنده لتبدو على غير ما هي عليه في حقيقتها الواقعة، فالشفق رقائق من ذهب، وجدول الماء فضة مذابة، والأرض المزروعة بساط من سندس. ثم ماذا يصنع الدين سوى أن يصور عالما خيرا فيه من الخير ما هو أعظم وأسمى من كل خير في هذه الدنيا الواقعة، فبالشعر يلوذ الإنسان بجمال يخلقه خلقا ليعوض له نقص الواقع، وبالدين يلوذ الإنسان بخير يتمناه ليغنيه عن شر الواقع المشهود، لكن لا ينبغي لهذا الإنسان الشاعر المتدين أن ينسى أن شعره ودينه هما من عالم الممكنات لا من عالم الواقع، هما من المثل العليا المنشودة لا من دنيا الحقيقة القائمة، هما من «عالم الروح» لا من «عالم الحق»؛ ولذلك فستظل هذه المثل العليا من جمال ومن خير رموزا نهتدي بهديها، لا أشياء نداولها ونعالجها في حياتنا اليومية. نعم إن في هذه المثل العليا غذاء لنفوسنا، وخصبا لحياتنا، لكننا إذا زعمنا أنها «حقائق»، واقعة فعندئذ نحط من شأنها، وننزل بها من عالم المثل الأعلى إلى عالم الواقع الأرضي، وعندئذ أيضا يصبح أمرها خرافة وتخريفا بعد أن كان هدى ونورا.
الجمال والخير قيمتان منتزعتان من «عالم الروح» - عالم الممكنات. وأما الحق فقيمة ثالثة تتعلق بما هو موجود وجودا حقيقيا، فلماذا نتطلب من الخير والجمال أن يغيرا من طبيعتيهما ليصبحا من أموار الواقع؟ كأنما يراد أن ينقلبا «حقا» بعد أن كانا «خيرا» و«جمالا»! على أن الخير والجمال إن تشابها في أن كليهما من عالم الممكنات لا من عالم الواقع، فإنهما يعودان فيختلفان فيما بينهما اختلافا بعيدا، فمدار الحكم الخلقي هو ما ينجم عن الفضيلة من نتائج مرغوب فيها، على حين أن الحكم الجمالي لا يستهدف غاية سوى النشوة المباشرة.
ولهذا الاختلاف بين الخير والجمال، كان من غير الجائز أن نخلط بينهما خلطا يجعلنا نتطلب من الجميل أن يكون كذلك خيرا، أو من الخير أن يكون كذلك جميلا. وما أكثر ما نرى الفنان - وهو الذي يصور الجمال - على خلاف مع الأخلاقي، فترى هذا ينقد ذاك قائلا إن فنه لا يؤدي إلى الفضيلة، فيرد الفنان بحق قائلا إن فنه لا شأن له بمعايير الأخلاق، فللجمال قيمة وللخير قيمة، والقيمتان مختلفتان فيما بينهما، كما أنهما في جانب معا يختلفان عن قيمة الحق في جانب آخر. وكذلك قل في الخلاف الذي ينشأ من الخلط بين قيمتي الحق والخير، فإدراك الحق هو من شأن العلم والعلماء؛ لأنهم يصورون الواقع كما يقع، لكن ما أكثر ما نسمع الأخلاقيين ينقدون العلماء، قائلين إن علمهم مناف للفضيلة أحيانا، وذلك حين يرون نتائج العلم مؤدية إلى دمار، وهنا يجيب العالم - بحق - قائلا إن علمه لا شأن له بالفضيلة. وهكذا ترى كيف ينبغي لنا أن نفرق تفرقة واضحة بين القيم الثلاث، ولعل هذه التفرقة أن تكون من أهم مهام الفيلسوف. (2) ألفرد نورث وايتهد
1
كتب ألفرد نورث وايتهد يصف نشأته فقال ما فحواه:
ولدت في الخامس عشر من فبراير سنة 1861م في رامزجيت من مقاطعة كنت بإنجلترا، من أسرة يشتغل معظم أفرادها بشئون التعليم والدين؛ وتلقيت تعليمي في مراحله الأولى على النمط المألوف عندئذ. فاللاتينية تبدأ دراستها من سن العاشرة، واليونانية من سن الثانية عشرة؛ ولو استثنيت أيام العطلة، لقلت إنني لبثت حتى انتصف من عمري عامه العشرون لا أفوت يوما واحدا دون أن أقرأ بضع صفحات من التراث اللاتيني واليوناني، فأستوعبها مضمونا ونحوا. وقد شملت دراستي لذلك التراث - بالطبع - أعلام المؤرخين القدامى؛ وكانت دراستي للرياضة تتخلل الدراسة الكلاسيكية هنا وهناك.
فلما أوشكت أن أكمل من العمر عشرين عاما، بدأت حياتي الجامعية كيمبردج، ولبثت مقيما بها ثلاثين عاما. ومهما بلغت من القول فلن أسرف فيما أنا مدين به لهذه الجامعة في الناحيتين الاجتماعية والعقلية على السواء.
كانت الدراسة في كيمبردج تقوم على أساس التخصص الضيق، فتخصصت في الرياضة بجانبيها: الرياضة البحتة والرياضة التطبيقية؛ لكن قاعات الدرس لم تكن إلا جانبا واحدا من تربيتنا الجامعية، فكانت جوانب النقص الناشئة عن ضيق التخصص، تسد بأحاديث السمر التي لم تكن تنقطع بين الأصدقاء من الطلاب والأساتذة.
ولم يكن الرباط الذي يجمع الأصدقاء في تلك الأحاديث هو تشابه الدراسة بينهم؛ إذ كانت الجماعة الواحدة تضم أفرادا من كافة الدراسات، وكان حديثها يتشقق ويتفرع ويتسع مداه، فيشمل السياسة والدين والفلسفة والأدب، مما حفزنا على تنوع القراءة. وحسبي في ذلك أن أقول: إنني وأنا المتخصص في الرياضة، أوشكت أن أحفظ عن ظهر قلب أجزاء كاملة من كتاب كانط «نقد العقل الخالص»، ولقد نسيت اليوم ما كنت قد حفظته، لأن سحر كانط قد زال عني وشيكا؛ وأما هيجل فلم أستطع قط في حياتي أن أمضي في قراءته، وأذكر أني قد بدأته بدراسة ملاحظاته التي أبداها عن الرياضة، فأدهشني أن أجدها هراء في هراء، كان ذلك حمقا مني بغير شك، لكنني لا أكتب هذا الذي أكتبه الآن لأبرهن على رجاحة عقلي.
Bog aan la aqoon