على أن الوثن المعبود لم يتخذ في عالم الفلسفة صورة واحدة، بل ظهر بادئ الأمر على الصورة الهيجلية، التي جعلت من العقل كائنا مطلقا لا تحده حدود، يسع في جوفه كل شيء، فما الفرد الواحد فيه، إلا لحظة عابرة من لحظاته، كأنما هذا الفرد حرف في قصيدة كبرى، لا يعنى شيئا إذا انعزل وحده، وكل معناه منحصر في موضعه من سياق القصيدة، إنه ليس كيونس ابتلعه الحوت في جوفه، لأن يونس مآله الخروج من المحنة إلى حيث ينفرد بشخصه من جديد، بل هو أقرب إلى الخلية الواحدة في الكيان العضوي الكبير.
ثم اتخذ هذا الوثن المعبود لنفسه صورة أخرى، قلبت سالفتها رأسا على عقبين، فقد كان الصنم في الحالة الأولى مستندا على رأسه، والقدمان إلى أعلي - والرأس هنا رمز للفكر، والقدمان رمز للأرض وما تضطرب به من أوجه النشاط في ميادين الزراعة والصناعة - أقول إن الصورة الجديدة جاءت لتقيم الوثن معتدلا على قدميه، والرأس إلى أعلى، لتجعل أرض الواقع - هذه المرة - هي منبت الفكر، وتلك هي الماركسية التي قرأت حقيقة الوجود بلمسات الأصابع كالمكفوف يقرأ بطريقة بريل، بعد أن كان يقرؤها هيجل على لوح داخل رأسه، والعين مغمضة والأذن صماء، فمن ذا يلوم المتمرد؟ والمتمرد هنا هو المفكر الوجودي، إذا ثار على الوثن، سواء على رأسه وقف، أم وقف على قدميه؟ وإني لأقول ذلك راجيا أن أكون منزها عن الهوى، لأنني في عالم الفلسفة لا إلى أولئك أنتمي ولا إلى هؤلاء.
ونحن، ما شأننا بهذا كله؟ لقد ألقت هذه المشكلة بظلالها فوق أرضنا، فانقسمنا بدورنا إزاءها شعبا، لكن هذه المشكلة في موطنها الأصلي مرتبطة هناك بظروفها التي ولدتها، وأما عندنا فالصلة مبتورة - أو هي كالمبتورة - بينها وبين تيار الواقع الحي. فإذا كانوا هناك قد ضاقوا بالعلم وتقنياته، فتمردوا على العقل، ولاذوا بالوعي الداخلي واستبطانه، فلأنهم شبعوا علما وصناعة، حتى أخذهم الحنين إلى حياة الانطواء المتأمل. أما نحن - فعلى عكس ذلك تماما - طال بنا أمد الانطواء والتأمل، حتى أصابنا منهما الدوار، وتخلفنا في العلم وفي الصناعة، تخلفا لم يكن يبرره ماضينا العلمي المجيد، فلست في الحق أغفر لأي صوت منا يرتفع ليقول مع المتمردين في الغرب: حسبكم علما وكفاكم عقلا؛ إذ نحن - بالنسبة إلى تاريخنا الحديث - ما نزال على عتبة العلم والعقل نحبو. وإنني لعلى يقين - أو ما يقرب من اليقين - أن يوما سيأتي، حين تتلاقى على أيدينا هذه الفلسفات المتضاربة، فكما عرف أسلافنا الأولون كيف يوفقون بين العقل والإيمان، بين الرأس والقلب، سنعرف نحن كيف نوفق بين العلم الحديث من جهة وخصوصية الحياة في الأفراد من جهة أخرى، ففيم اختيارنا إما هذا أو ذاك، ونحن في أمس الحاجة إلى هذا وذاك معا؟
ولنعبر بأنظارنا مسرعين على حياتنا الفكرية خلال خمسين عاما، فماذا نرى؟ نرى في أول الطريق أجنبيا يستعمر أرضنا، وحاكما داخليا دخيلا يستبد بنا، نرى الفواصل حادة بين أفراد الناس وطبقاتهم: بين الشعب والحكومة، بين الفقر والغنى، بين الريف والمدينة، كما نرى الهوة سحيقة بين ثقافتين تتقسمان المجتمع، فقسم يعيش مع القديم ولا جديد، وقسم يعيش مع الجديد ولا قديم، قسم يحيا حياة تسودها القيم العربية الإسلامية الخالصة حتى لكأن الغرب لم يدق أبوابنا بحضارته، وقسم آخر يحيا حياة أوروبية خالصة حتى لكأنه مقيم على أرض غير الأرض العربية، وكأنه لم يرث تراثا ثقافيا ضخما كان ينبغي أن يميزه بطابع خاص.
ذلك ما كان في أول الطريق، فلم تكد الحرب العالمية الأولى تبلغ ختامها، حتى انطلقت جهودنا الفكرية في كل ميدان، تريد شيئين في آن معا: تريد التحرر من القيود أولا، ثم إقامة بناء جديد على دعامتين: ثقافة عربية أصيلة تبتعث، وثقافة حديثة تستعار، بحيث يتلاقى العنصران في وحدة عضوية واحدة؛ وبعبارة أخرى. أردنا أن نضفر خيطين في نسيج حياتنا: حرية وعلما. ولقد ركز بعضنا جهوده في الحرية ينشدها في ميادين السياسة والأدب والحياة الاجتماعية، وركز بعضنا الآخر جهوده في إثراء الحياة العلمية العقلية؛ لكن الطرفين قد التقيا في قلة من القادة، أخذت تزداد وتتسع، حتى لنراها اليوم وقد كادت تصبح روحا سائدة، فلا نطلب مزيدا من الحرية إلا مصحوبا بمزيد من علم وصناعة، ولا نزيد من العلم والصناعة إلا وفي أذهاننا أن ذلك هو طريقنا إلى الحرية الصحيحة.
فلئن كان الموقف الفكري في أوربا وأمريكا يبرر أن يستقل فريق بفلسفة للعلم، وأن يستقل فريق آخر بفلسفة للحياة الحرة، فموقفنا نحن يقتضي أن تندمج الشعبتان في تيار واحد، وبذلك ينمحي الازدواج من حياتنا، فالفرد تجاه المجتمع، يصبح فردا في المجتمع؛ والمحكوم تجاه الحاكم، يصبح محكوما هو نفسه الحاكم؛ والعامل تجاه صاحب المال، يصبح عاملا هو نفسه صاحب المال؛ والريف تجاه المدينة يصبح ريفا فيه وسائل المدينة، والقديم تجاه الجديد، يصبح جديدا قائما على أساس القديم.
3
ومن القضايا الفكرية التي تتصل بما كنا نتحدث فيه، هذه القضية ذات الأثر البعيد في مجال الأدب والفن، وهي: أنطوي الطبيعة في الإنسان، لنجعلها جزءا من إدراكه، أم نسلك الإنسان في الطبيعة لنجعله ظاهرة من ظواهرها؟ إننا نعيش في عصر يسوده العلم، ما في ذلك أدنى ريب، ولا تقوم للعلم قائمة ما لم يصغ الإنسان لما تقوله الطبيعة، والأخيرة في العلم، إنما هي للوقائع الصلبة العنيدة، التي تقع في مجال البحث، ولا قيام لنظرية مهما ارتفع قدرها إذا ظهرت واقعة واحدة تفندها، فلسنا نحن الذين نضع للضوء والصوت والكهرباء قوانينها، بل لسنا نحن الذين نضع للإنسان قوانين إدراكه وشعوره وسلوكه؛ ومعنى ذلك أنه كلما نما العلم ودقت تقنياته، صغر الإنسان وتضاءل دوره، برغم أنه هو مشيد العلم وصانع التقنيات، ولست أدري إلى أي حد أصاب من قال إن إله القدماء قد نزل عن مكانه لإنسان العصر الحديث، فلم يلبث إنسان العصر الحديث أن نزل عن مكانه للآلة، تمسك بزمامه وتسيره.
لكن الذات الإنسانية المتذوقة الحساسة، قد هالها ما صنعه العقل حين صنع العلم والآلة، فأرادت أن تعوض فقدها بكسب تحرزه في ميدان الفن والأدب؛ فلئن كانت الطبيعة الخارجية قد فرضت نفسها علينا في مجال العلم، فلم يبق إلا أن نفرض أنفسنا عليها في مجال الفن والأدب، بمعنى أن ينتج الفنان فنا لا يحاكي به الطبيعة في شيء، فنا يسقط فيه ذاته على موضوعه إسقاطا كاملا، فنا يخلقه من عنده خلقا، حتى لينظر إليه الناظر فلا يجد بينه وبين الطبيعة الخارجية شبها، بل يجيء إضافة جديدة تضاف إلى كائنات الطبيعة، وليس هو بالتكرار لها في أية صورة من الصور، وبذلك استطاع الإنسان أن يقول لنفسه، وللدنيا الطاغية من حوله: ها أنا ذا، لم يستطع أن يمحوه من الوجود الذاتي الفردي علم ولا آلة، كلا ولم تغرقه موجة من موجات الشمول الذي أراده هيجل في عالم الفكر، أو الذي أراده ماركس في عالم المادة.
لم يكن في هذه الحركة، التي أراد بها الفن أن يستقل بذاته عن الطبيعة الخارجية، جديد بالنسبة إلى الموسيقى، فالموسيقى بحكم طبيعتها لا تلتزم أن تجيء تشكيلاتها الصوتية محاكية لأي بناء صوتي في الطبيعة، وإنما كان الجديد في هذه الحركة متصلا بفن التصوير وفن النحت وفن الشعر، فقد ألف الناس أن تكون اللوحة الفنية صورة لشيء ما، وأن يكون التمثال المنحوت ممثلا كذلك لكائن من الكائنات، يغلب أن يكون كائنا حيا، وأما فن الشعر فقد أصابته ذبذبة في تاريخه، إذ جعله النقاد آنا تابعا لفن التصوير، وآنا آخر تابعا لفن الموسيقى، ففي الحالة الأولى، كانوا يطالبون الشاعر بأن يجيء شعره «تصويرا»، وفي الحالة الثانية، كانوا يطالبونه بأن يجيء شعره «نغما»، أو هم كانوا يطالبونه - إذا أرادوا الحيطة - بأن يجيء شعره تصويرا منغما في آن معا. كأنما الشعر مقسوم له أن يكون أي شيء إلا أن يكون شعرا.
Bog aan la aqoon