Laga Soo Guurista Ila Abuurista
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
Noocyada
32
ويستعمل ابن رشد لغة الفارابي وعباراته لشرح أرسطو. فهو الموروث الفلسفي المتراكم قبله. لا يخطئه ابن رشد على طول الخط عنادا أو عصبية أو تعالما بل يقدره، ويعطيه مكانته وإن كان يختلف معه في الموقف؛ الفارابي المؤول القارئ المبدع، وابن رشد الفقيه السلفي وأحيانا الظاهري الباحث عن الأصول الأولى، ومع ذلك يرى ابن رشد أن الفارابي قد أخطأ في قوله إن الجزئية لم تذكر لأنها تدخل تحت الكلية لأن ذلك يصبح في المقدمات الجدلية كما قال أرسطو في الجدل. فالتبس الأمر على الفارابي وخلط بين البرهان والجدل. يرفض ابن رشد تحليل الفارابي، ويعطي العلة الصحيحة. ويميز بين البرهان والجدل طبقا للمنهج الأصولي الذي يقوم على التعليل وعلى السبر والتقسيم لاقتناص العلة. كما أخطأ الفارابي في فهمه لفظ «انتقل» بمعنى انتقال المقدمة الكبرى لأنه يسلم أن المطلوب واحد في الصناعتين، ولا يسلم بأن يكون الحد الأوسط واحدا فيهما. وقول أرسطو بين بنفسه، وشرح الفارابي يثير الشك ظانا أن من الذاتية ما هو أعم من الصناعة، ويبدأ الفارابي مع أرسطو بجعل براهين الوجود صنفين ثم غلط في وصف الثاني لخروجه عن معنى أرسطو. الفارابي يبدأ من أرسطو ولا ينتهي إليه في حين أن ابن رشد يبدأ من أرسطو وينتهي إليه. فهو سلفي المنهج، النص في البداية والنهاية، ظاهري المنحى في فهم ظاهر قول أرسطو وظاهر قول الشراح، حنبلي الاتجاه يريد تخليص النص الخام مما علق به من سوء تأويل الشراح، يونان ومسلمين. ويبدو أن ابن رشد راح ضحية نظرية المطابقة، إن الشرح مطابق للنص، وهو ما حاول ابن رشد القيام به في حين أن الشرح قراءة للنص، وليس تكرارا له. ومن ثم يكون ابن رشد في نفس الوقت الذي حاول فيه إحياء العقلانية أصبح ضحية الحرفية. وبها يكون ابن رشد الذي كان أحد أسباب النهضة الأوربية الحديثة بداية جديدة لنهاية الفترة الأولى للحضارة الإسلامية التي بدأت بالغزالي، واستمرت عند ابن رشد، وأرخ لها ابن خلدون.
33
وقد ذكر ابن رشد ابن سينا ناقدا له في تقديمه الجدل على صناعة البرهان. ولم يصب ابن سينا مرة واحدة بل أخطأ على طول الخط، وليس له أجر الاجتهاد حتى ولو أخطأ. في حين أن الفارابي يصيب مرة ويخطئ مرات. لقد أخطأ ابن سينا في تقديم الجدل على صناعة البرهان بينما أصاب الفارابي. والحقيقة أنه لا مجال للخطأ والصواب في القراءات المتعددة. وليس أرسطو هو معيار الصواب والخطأ بل إعادة بنائه طبقا لعصر مختلف وأغراض متباينة. يجعل الفارابي البرهان قمة المنطق، والمقولات والعبارة والقياس مقدمة له واقتراب منه، والجدل والسفسطة والخطابة والشعر ابتعاد عنه. في حين يرى ابن سينا أن الجدل هو غياب البرهان أو استعماله في غير البرهان؛ ومن ثم يكون سابقا عليه وهما قراءتان مختلفتان. فإذ تبنى ابن رشد قراءة الفارابي وهي مقبولة فإن ذلك لا يعني أن قراءة ابن سينا خاطئة. والحد ليس علة، وجود الأعظم في الأصغر كما يقول ابن سينا، ولا علة لوجود الأصغر كما يقول الفارابي الذي يجوزه في البراهين المطلقة التي تفيد السبب والوجود معا. خطأ ابن سينا في أنه جعل العلل بالأعراض عللا. فقد يتفق أن يكون الحد الأوسط معلولا عن الطرف الأكبر ولكن لا يمكن للحد الأوسط في البرهان أن يكون سببا لوجود الأكبر في الأصغر إلا بسبب يلزم أن يكون وجود أحدهما سببا في وجود الآخر.
34
كما أشكل الأمر على ابن سينا في ربطه بين العلمين الطبيعي والإلهي واعتماد الطبيعي على الإلهي في حين يرى ابن رشد اعتماد الإلهي على الطبيعي كما هو معروف في الأدلة على وجود المحرك الأول. وقد أثبت ابن رشد في دراسة منفصلة خطأ اعتماد العلم الإلهي على نفسه، وهوة الطريق الكلي لإثبات المبدأ الأول. هنا يبدو ابن سينا أكثر مبدئية من ابن رشد لأن العلم الإلهي قائم بذاته والطبيعي مستمد منه وقائم عليه في حين تبدو «طبيعية» ابن رشد عندما يجعل العلم الإلهي قائما على الطبيعي ومستمدا منه. والحقيقة أن كليهما صحيح. فالطبيعيات بلغة العصر إلهيات مقلوبة إلى أسفل كما يريد ابن رشد والإلهيات طبيعيات مدفوعة إلى أعلى كما يريد ابن سينا. فابن سينا في رأي ابن رشد شأنه دائما قلة تثبته في حكمه على الأشياء.
35
كما أخطأ ابن سينا في إنكاره برهان الوجود وزعمه أنه غير صحيح. فالبراهين ثلاثة أقسام. معروفة بنفسها مثل برهان الوجود الذي ينكره ابن سينا، وبرهان السبب، والبرهان المطلق. ينكر ابن سينا البرهان المعروف بنفسه ظنا أنه يقوم على العرض الذاتي للموضوع من قبل سببه ومن ثم لا يفيد يقينا، فلا فرق بينه وبين المقدمات الاستقرائية التي تستوفي جميع أنواع الموضوع دون أن يشعر الذهن بالنسبة الذاتية بينها، وهنا يبدو ابن سينا أكثر ميتافيزيقية من ابن رشد، وابن رشد أكثر واقعية من ابن سينا. فبرهان الوجود عند ابن سينا ليس برهانا لأنه لا يستند إلى الفكر في حين أنه عند ابن رشد برهان لأنه يستند إلى الواقع، فنقد ابن سينا لبرهان الوجود مثل نقد ابن تيمية للحد أنه لا يفيد البرهان. ويرجع خطأ ابن سينا إلى خلطه بين اليقين كفعل من أفعال الشعور والذاتيات العرضية أي علاقة الشعور بالوجود، مثل يقين التواتر الذي لا يعتمد على العدد المحدد بل على العدد الذي به يحصل اليقين. وإذا شك ابن سينا في سلب شيء من شيء دون وسط يقوم ابن رشد بحل هذا الشك بضرورة وجود وسط غير معروف، وهو إشكال التوسط في المنطق وفي الميتافيزيقا على حد سواء.
36
وقد ذكر ابن رشد ابن باجه وهو حلقة الوصل بينه وبين الفارابي، فقد كان ابن باجه هو القاضي قبل ابن رشد. قارن بين قصدي أرسطو والفارابي. وحاول الجمع بينهما من جهة أن قصد أرسطو الحدود بالقوة وقصد الفارابي البرهان بإطلاق. وهذا هو السبب في الخلاف بينهما في الشرط. ويعود ابن رشد إلى ما قاله ابن باجه مع مفهومي الضرورة والأفضل. فأرسطو عرف الأفضل وسكت عن الضرورة. والفارابي عرف الضرورة وسكت عن الأفضل. وكل منهما يكمل الآخر مثل الفارابي في جمعه بين رأيي الحكيمين. ومع ذلك تطور ابن رشد، وانتقل من الجمع بين رأيي الحكيمين إلى تبني رأي أرسطو ضد الفارابي، كان ابن رشد حكيما فأصبح عالما، كان مبدعا فأصبح ناقلا. كان مؤولا فأصبح ظاهريا. كان فيلسوفا فأصبح فقيها، كان معتزليا فأصبح أشعريا. وكان حنفيا فأصبح حنبليا.
Bog aan la aqoon