ويدنو منها فتى يكبرها بحوالي سبع سنوات - إذا صدقت فراستي من هذا البعد - وهو في قميص أبيض وسراويل إلى القدمين، ولا شيء في رأسه المتلبد الشعر كأنه مدهون بالصابون، ويبتسم لها فيتهلل محياها ويشيع فيه البشر، وتندفع يمناها وتمتد إليه تنشد المصافحة والملامسة، ولكن يديه في جيبه وعينه في عينها، فهو لا يرى راحتها المبسوطة فتثني الأصابع وتسترخي الكف وتميل وتمضي على مهل إلى الحقيبة التي تحت الإبط الأيسر، فقد صارت فتاتنا تحمل حقيبة أو مثبتة حمراء بلون حذائها، وإنها لحائلة اللون سوداؤه في مواضع من أثر الأصابع، ولكنها شيء جديد على كل حال لم تكن تتخذه فتاتنا. وأين يا ترى ذهب الرغيف الملفوف في صحيفة قديمة؟ لعلها دسته في الحقيبة، فإنها تتسع له مطويا أو مشطورا نصفين، فقد صارت زكية - على ما يبدو لي - تستحي أن ترى بغير حقيبة، وأن يرى معها غذاؤها ملفوفا في جريدة؛ لأنها استيقظت - أيقظها على الأرجح هذا الفتى - وهو أول من أراه يحدثها على رصيف الترام. ترى من يكون؟ إنه ليس طالبا، فقد ذهب الطلبة كبارهم وصغارهم إلى معاهدهم ومدارسهم، فقد جاوزنا الثامنة من ساعات نهارنا، وليست هذه بالثياب التي يرتديها طالب أو موظف ذاهب إلى مدرسته أو ديوانه؛ والأرجح أنه يعمل في متجر أو في مصنع، ولو رأيت كفيه لكان من المحتمل أن أرى فيهما ما أستعين به على الظن والتخمين. وهو واقف كمصباح النور الذي إلى جانبه، فلولا أن شفتيه تتحركان أحيانا لصلح أن يكون تمثالا، ولكنها هي لا تستقر في مكان، ولا تزال تتحرك وتدور وتوليه ظهرها حينا وجانبها حينا آخر، كأنما تعرض عليه قوامها من كل ناحية، ولا تزال يدها ترتفع إلى شعرها مرة، وتلمسه لمسا خفيفا كأن بها حاجة إلى ذلك، وتهوي إلى ثوبها فتسويه، وترتد إلى حاجبيها فتمسحهما، وهو جامد لا يعير شيئا من هذا التفاتا، كأنما كانت تفعله وهي وحدها قبل إقباله.
وطال وقوفها في انتظار الترام الذي لا يجيء، أو يجيء ولا يقف، لأنه غاص ولا متسع فيه لقدم؛ فجعلت عيني تتحول عنهما إلى غيرهما من الخلق ثم تعود إليهما. فرأيت فتيات ونساء أخريات في ثياب متفاوتة النسج والطراز والتفصيل والألوان؛ فقلت لنفسي: إن أكبر الظن أن فتاتنا زكية ما نضت السواد وارتدت هذا الثوب الملون الزاهي - على الرغم من قدمه - إلا من أجل ... ترى ما اسمه؟ فلنسمه عبد المنعم، ولو من باب إطلاق اللفظ على ضده. اكتست هذا الثوب من أجله، وخالفت ما كانت تتوخاه في وقفتها من سكون الطائر، لأنه طلع عليها بما حرك نفسها أو هجم عليها على الأصح، ولا يمكن أن يقول قائل في عصرنا هذا: إن الثياب إنما تتخذ لمنفعتها، فإنها - ولا سيما ثياب النساء - ذات صلة وثيقة بمعاني الجنس. والطبيعة تلهم المرأة الوسيلة إلى اجتذاب الرجل؛ لأن ظهور جيل جديد من الناس رهن بهذا. ولو كفت المرأة عن اجتذاب الرجل، أو عجزت عنه، لخلت الأرض من نسل حواء وآدم، وقد يؤثر بعضهم هذا ويراه أولى، ولكن للطبيعة مذهبا آخر وحكمة قد تخفى علينا، ولكن خفاءها أو غموضها لا يجيز لنا أن ننكرها أو نرفضها، فمن المفهوم - والصواب إذن - أن تتجمل المرأة للرجل، أو تتبرج له على قول ابن الرومي، وأحسب أن لو كان العري أجمل وأوقع في النفس لتجردت المرأة، ولكنها تدرك بغريزتها الذكية الملهمة أن الستر أفتن.
أما مبلغ الستر فراجع فيما أرى إلى شعور المرأة الباطن بنوع إحساس الرجل بها، ومبلغ حاجتها إلى تحريك هذا الإحساس واستثارته، وفطنتها إلى الناحية التي يسهل عليها استثارته منها. ويمكننا أن نقول: إنه بغير الشعور الجنسي لا تبقى هناك حاجة إلى الثياب ولا إلى ما يسمى «المودة»، وأعتقد أن الرجل السليم الذي لم يصبه مسخ أو شذوذ في طبيعته، خليق أن يستملح الثياب الطبيعية، ونعني بها تلك التي لا تظهر كل الظهور ولا تستر كل الستر القد ومحاسنه المختلفة، أما الشذوذ فيغري بإيثار ما ثقلت وطأة الشعور به على النفس.
وذكرت وأنا أدير هذا المعنى في نفسي أن أمهاتنا وجداتنا لم يكن يعرفن «المودة» كما يعرفها بنات هذا العصر. ولم تكن الخياطات يكثرن في زمانهن، وكانت ثيابهن - في الأغلب - تفصل وتخاط في البيوت، وكن هن يتولين ذلك على الأكثر، لا لفقر بهن، فقد كانت الحياة أخف وأرغد على قلة المال نسبيا؛ بل لأن هذا كان المألوف، وكانت الثياب أشبه على العموم - مع اختلاف في الألوان والتفصيل - بثياب الراهبات والممرضات؛ بسيطة فضفاضة، إلا في الندرة القليلة، وغايتها أن تحجب لا أن تبدي وتبرز، إلا ما لا حيلة في ستره. ولما كانت «المودة» مظهرا للرغبة في إظهار أجزاء من الجسم أو إخفائها، ومرجعها إلى الشعور الجنسي، والفطنة إلى ما هو خليق أن يستثيره، لما كان هذا هكذا فهل يجوز لنا أن نقول: إن أمهاتنا وجداتنا لم يكن يرغبن في استثارة هذا الشعور في رجالهن، أو لم تكن بهن حاجة إلى ذلك، أو كن جاهلات لا يعرفن كيف يتوسلن إلى رجالهن، أو كيف يعمقن لهم شعورهم بهن ويوسعن آفاقه ويرحبنه. لا أدري. ولعل غيري أقدر مني على الاهتداء إلى وجه الصواب.
وأقبل الترام غاصا كالعادة، ولكنه وقف هذه المرة، وآن لزكية أن تركب، فألقت إلى عبد المنعم نظرة فيها أسف وأمل وشكر؛ فأما الأسف فلفراقه، وأما الأمل فأحسبه في لقائه مرة أخرى، وأما الشكر فعلى قدومه. فما ركب معها، بل عاد أدراجه ويداه ما زالتا في جيبيه، كأنما جاء ليقف معها هنيهة، فلماذا كان منه إذن هذا المجهود؟ ألا يعرف كيف يبتسم؟ أم هو أدهى مما يبدو، ويتكلف الفتور ليغريها به وبالإقبال عليه وليحرمها فتطلب.
مسكينة. لو وسعني أن آخذ بيدها لفعلت، ولكن مثلها في مثل سنها قلما تصغي إلا لما يهتف به شبابها الجديد، ويصفه ويصوره ويزينه ويؤمن به قلبها الغرير المطمئن إلى الخير في الدنيا.
مسكينة. أو من يدري! فقد توفق وتسعد فإنها حظوظ وأرزاق وقسم، وقد تكون من أولئك النسوة السعيدات اللواتي يتلقين ويتقبلن كل ما تجيء به الحياة بالرضا والشكر ... لعل وعسى! ***
الله يلعنك يا شيخ! أما إنك والله لخبيث داهية على صغر سنك وغضاضتك! تجيء وعلى ذراعك فتاة مليحة منظرية، ثم لا يرضيك إلا أن تمضي بها إلى حيث زكية واقفة على رصيف الترام، وتبسط يدك وتحرك شفتيك كأنك تقول: «صباح الخير»، وفي عينيك - اليوم - وميض البشر والسرور؟ وزكية صغيرة غريرة، وكنت أراها إلى الأمس الدابر مطمئنة إليك، فرحة بك، ولكنك في هذا الصباح تفاجئها بهذه الفتاة على ذراعك، وتفجعها بهذا السرور الذي تشرق به ديباجة وجهك، فتكاد تشهق المسكينة، فما تعلمت أن تتكلف الإغضاء، وتكتم ما يتحرك في نفسها من الغيرة ويشكها ويخزها من الألم في قلبها وجبينها، ويستحيل لونها «إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد » وتختلج شفتاها اختلاجا بينا وهي تجاهد أن تتمتم بما لا أحسبك سمعته من رد التحية.
ويضاعف ألم زكية أني أراها اليوم عنيت بتنسيق شعرها على نسق جديد، وكانت تفرقه عن شمال، فزادت وفرقته عن يمين أيضا، وجمعت قصتها ولمتها، وغرزت فيها هذه الحلية التي هي على صفة الوردة، وضمت خصله الفينانة التي كانت من قبل مسترسلة، وربطتها بشريط أرجواني. وأراها اليوم معنية أيضا بهندامها، ترتدي ثوبا من قطعتين؛ واحدة من خز رقيق أبيض كالقميص لا يتجاوز الخصر، والأخرى تبدأ من حيث تنتهي تلك، وتشتمل بها إلى الساقين، وهي من قطن وفيه خطوط بيض وحمر. وكانت وهي واقفة تتلفت ويترقرق ماء الشباب في محياها النضير، وتخشى - على الأرجح - أن يقبل الترام قبل أن تقبل أنت، فما كانت التفاتاتها تخلو مما يشي بالاضطراب والقلق، وترجو - حين تراك وتبتسم لك، وتلمس ثيابها وشعرها - أن يلهمك الله أن تفتح فمك وتسرها بثناء على هندامها وزينتها وذوقها، وإذا بك تجيء بفتاة على ذراعك! ولو اكتفيت من تخييب أملها بإهمال الثناء على زينتها لك، أو إبداء الإعجاب بحسنها، لتعزت بأن الرجال هكذا أبدا، عمي أو بلداء أو جهلاء، لا يبصرون، ولا يفطنون إلى بواعث المرأة على التزين، ولا يدرون أن هذا الثناء عليها ملحها وخبزها.
ثم من هذه الفتاة المزاحة الملاعبة الضاحكة؟ لا أرى زكية راضية عنها أو مستحسنة لها، فإنها تنظر إليها شزرا وتزلقها ببصرها، وتقيسها من فرعها إلى قدمها، ثم تعرض كأنما تأنف أن تراها.
Bog aan la aqoon