التيه
قصة تمثيلية بقلم الكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
قد لا يكون هذا العنوان ظريفا، وقد لا يجري به اللسان في سهولة، وقد لا يسيغه السمع، ولكنه مع ذلك صحيح، وهو مع ذلك ترجمة دقيقة لعنوان هذه القصة بالفرنسية، وهو يختصر القصة كلها، فهي تيه بالمعنى الصحيح، مهما تفكر ومهما تمعن في التفكير، فلن تجد منه مخرجا، ولن تجد فيه هدى.
هذه القصة جهاد لا نتيجة له بين العواطف والشعور من جهة، وبين العقل من جهة أخرى، بين العواطف والشعور الفردية من ناحية، وبين القانون والأوضاع الاجتماعية من ناحية أخرى، بين العواطف وبين الواجب، وبين العقل وبين الدين، ثم بين القانون وبين الدين أيضا، هي جهاد عنيف لا نتيجة له، ولا مخلص منه، بين ما يكون الفرد وما يكون الجماعة من ضروب العواطف والشعور، ومن ألوان الأوضاع والقوانين.
وهي ليست جهادا متكلفا ولا منتحلا، ليست شيئا اخترعه الكاتب اختراعا، وعقده عمدا وافتنانا في التعقيد، وإنما هي شيء طبعي يقع كثيرا، ومن الممكن أن يقع في كل يوم، وقد يلتفت الناس إليه وقد لا يلتفتون، ولكنه في نفسه حق إن لم يقع بالفعل في كل زمان وفي كل مكان، فمن الممكن جدا أن يقع في كل زمان وفي كل مكان.
في كل زمان وفي كل مكان! قد لا يكون هذا حقا، وقد لا يخلو من المبالغة؛ لأن هناك أمكنة أو قل إن هناك جماعات فيها من قواعد الدين ونظم التشريع ما يحول بين الناس وبين التورط في هذا الجهاد الأليم العقيم، فالمسلمون مثلا لا يتورطون فيه؛ لأن الله أباح لهم الطلاق، وأباح للمرأة المطلقة أن تعود إلى زوجها الأول بعد استيفاء شروط وقيود معروفة، وأظنك الآن تحس أن هذه القصة تدور حول الزواج وحول الطلاق، فلست أريد أن أطيل عليك، ولا أن أسرف في تشويقك إلى حوادث هذه القصة، وإنما أنا مبتدئ فيها راج أن تكون هذه القصة موضع بحثك وتفكيرك، فأنا أعترف بأني لا أتخير هذه القصص عفوا، وإنما أتخير منها بنوع خاص ما من شأنه أن يهز العاطفة، ويلذ العقل، أو يدعو إلى العناية والتفكير، وفي هذه القصة كل هذه الخلال. «فيلاردوفال» رجل أقرب إلى الشيخوخة منه إلى الشباب، حسن الحال، موسر مرتفع المنزلة، كان قاضيا وقاضيا ممتازا، خدم القانون وحماه من عبث العابثين، فأصبح شديد الإيمان بالقانون، يكاد يتخذه دينا، أو قل إنه يتخذه دينا، ويتخذ إكباره وتقديسه مقياسا لكرامة الرجل، بل لرجولته، وله زوج شديدة الإيمان بدينها المسيحي الكاثوليكي، شديدة الإيمان أو مسرفة في شدة الإيمان، لا تفكر إلا في الدين ولا تصدر إلا عن الدين، ولا تقيس شيئا من الأشياء في الحياة إلا بمقياس الدين، تحب زوجها حبا شديدا، ويحبها زوجها حبا شديدا، ولهما ابنة هي «مريان»، بارعة الجمال، فتانة، شديدة الذكاء، ساحرة اللفظ، معتدلة المزاج، قد ورثت عن أبيها حب القانون وإكباره، وورثت عن أمها حب الدين واحترامه، ولكنها لا تسرف في شيء من ذلك، فهي معتدلة في كل شيء، تزوجت فتى غنيا جميلا هو «مكس دي بوجيس»، وتزوجته بعد أن أحبته، وكلفت به، وبعد أن أحبها، وكلف بها، فعاشا في الحب والصفاء حينا، وكان لهما غلام، ولكن الزوج الشاب خان امرأته في ساعة طيش ونزق، فكانت الصدمة على هذه المرأة شديدة، وساء الظن بين الزوجين، أسرفت في الغضب، وأسرف هو في عدم الاكتراث، حتى ساءت الصلة ثم انقطعت، ثم كان الطلاق رغم الأم المؤمنة التي تكره الطلاق بحكم إيمانها، ثم تزوج الشاب من صاحبته التي كانت مصدر شقائه، وظلت «مريان» بين أبويها مقسمة الوقت والحياة، بين حب ابنها واللوعة بما أصابها في حب زوجها، ولكن لهذه الأسرة صديقا كان بعيدا عن فرنسا، يعيش في الأقطار النائية لأمر من الأمور نتوهمه، ولا نتبينه في وضوح. عاد هذا الصديق إلى فرنسا، واسمه «جيليوم لابروم»، ورأى مريان فأحبها، وفتن بها، وقدسها تقديسا، وطلب إليها أن تكون زوجه، فقبلت، لا لأنها تحبه ولكن لأنها تحترمه، وتثق بصدقه وإخلاصه، وبأنها ستكون سعيدة في بيته، فقبلت أن تكون زوجه، وقبل أبوها هذا الزواج مغتبطا به مطمئنا على مستقبل ابنته، ولكن الأم رفضت هذا الزواج رفضا قاطعا، رفضته لأنها تجحد الطلاق، ولا تعترف به، فهي إذن مقتنعة فيما بينها وبين نفسها بأن الزواج الأول لم تنفصم عروته، وأن ابنتها ما زالت مدينة بحياتها لزوجها الأول، وأن الزوج الأول ما زال مدينا بحياته لزوجه الأولى، وإذا كان هذا قد خالف الدين وتزوج مرة ثانية فتورط في الخطيئة، فليس ينبغي لابنتها أن تخرج على قانون الكنيسة، وأن تقطع صلة أنشأتها كلمة الدين، وإذن فالجهاد قائم منذ الآن بين الدين والقانون، ثم بين الدين وشعور الإنسان بحقه في أن يكون سعيدا، القانون يبيح لهذه المرأة أن تتزوج، وسعادتها تقتضي أن تتزوج، بل حاجاتها الطبيعية تقتضي أن تتزوج، وهناك رجل يحبها حقا، ويريدها على أن تكون زوجه، وهناك أبوها الذي أنفق حياته في خدمة القانون يرغب في هذا الزواج، ويحرص عليه، ولكن هذه المرأة تحب أمها وتجلها، ولا تريد أن تخرج عليها، ولا أن تخالف أمرها، فهي تستعطفها وتتوسل إليها بكل وسيلة، تذكر شبابها وحاجاتها إلى الحياة، وإلى السعادة في الحياة، وأن الله لا يمكن أن يقضي على هذه الزهرة النضرة بهذا الذبول، ولا أن يقضي على هذه المرأة بالشقاء في العزلة، حينما هو يبيح لغيرها من الرجال والنساء الحياة الاجتماعية السعيدة المعقولة. تتوسل بكل هذا، ولكن أمها لا تسمع لها، ولا تأذن بهذا الزواج.
وبينما هذا الجهاد في أشد أطواره من العنف يقع شيء يزيده عنفا، ويحمل هذه المرأة الشابة على أن تثور فتخرج على أمها، وتخرج على الدين وتتزوج؛ ذلك أن امرأة أخرى تقبل لزيارة «ماريان» وبينهما صلة قرابة، فتطلب إلى «ماريان» أن تعينها على أمر منكر، فهي قد غابت أمس عن زوجها، ولا تستطيع أن تنبئه أين كانت فكذبت عليه، وزعمت أنها كانت عند «ماريان» والزوج مقبل الآن، وقد يسأل «ماريان» عن أمس، فإن لم تكذب عليه كما كذبت زوجه فيسوء الأمر بين الزوجين، وقد يكون ذلك مصدر الطلاق. تتمنع «ماريان» وتأبى الكذب، ويدور بينها وبين صاحبتها «بوليت» حوار لا بأس به: أي المرأتين أشد إثما؛ التي تخون زوجها، وتخفي عليه الخيانة، أم التي لا تخون أحدا، ولكنها قد طلقت، وتريد أن تتزوج زوجا آخر؟ فأما «بوليت» فترى أن الخيانة أيسر من الزواج بعد الطلاق؛ ذلك لأن الخيانة مجهولة أو يجب أن تكون مجهولة، وقد تعمد الناس أن يجهلوها، ويتكلفوا جهلها، ومضوا على ذلك في آدابهم وأوضاعهم، حتى أصبحت المرأة في بعض الطبقات تستطيع أن تعيش بين زوجها وخليلها دون حرج ولا جناح، بينما المرأة التي تطلق ثم تتزوج من جديد تثبت بصفة رسمية أمام القانون وفي دفاتر الحكومة أنها قد قسمت نفسها بين رجلين، فلا يكاد يراها أحد إلا ويشعر بهذه الشركة، أو بهذه القسمة، أو بهذا التبادل، وفي هذا ما فيه من الخزي، وفي هذا ما فيه من انتهاك حرمة الحياء ...
فأنت ترى إلى هذا النفاق الاجتماعي الذي يبيح الخيانة ويقرها، وإن أنكرها القانون والدين وحظراها، والذي يحظر الزواج بعد الطلاق وإن أباحه القانون، وأقرته المنفعة، واستلزمته العواطف والسعادة في كثير من الأحيان.
تثور «ماريان» على هذا النفاق الاجتماعي، ولكن شيئا آخر يزيد ثورتها عنفا، وهو أن أمها المؤمنة التقية قد اشتركت في هذا الكذب، فأخفت الأمر عن الزوج مخافة أن تنهدم حياته الزوجية، وإذن فقد أقرت شيئا يحظره الدين، فما لها لا تقر ابنتها على الزواج إذ كانت المصلحة تبيح مخالفة الدين؟ فتجيبها الأم بأن خطيئة صاحبتها قد وقعت بالفعل، فهي لا تستطيع لها استدراكا، وقد أصبح أمرها إلى الله وحده، فالرحمة بالإنسان تقتضي أن تظل هذه الخطيئة مكتومة، أما أنت فلم تخطئي بعد وأنت تريدين أن تخطئي، وحرام علي أن أعينك على الخطيئة. ثم تنصرف الأم بعد أن تعلن إلى ابنتها أنها لا تسمح بهذا الزواج، ولكنها لن تستطيع أن تجحد ابنتها مهما تفعل، هنا يستقر رأي «ماريان» على أن تخالف أمها فتتزوج. •••
فإذا كان الفصل الثاني رأيت «ماريان» وزوجها الجديد، وقد مضى على زواجهما عامان، وهما في زيارة يتغديان عند «بوليت» التي مر بك ذكرها، فيتحدثون في كثير من الشئون ثم ينفصلون قليلا، فأما ماريان فتتحدث إلى زوج صاحبتها واسمه «هوبير»، أما «بوليت» فتتحدث إلى «جيليوم» زوج ماريان.
Bog aan la aqoon