مثلت هذه القصة في باريس منذ ثلاثة أشهر، فأجمع النقاد على الإعجاب بها، ولكنهم على ذلك وقفوا منها مواقف مختلفة: فمنهم من أعجب إعجابا مطلقا، ومنهم من احتاج إلى شيء من التحفظ يختلف قلة وكثرة باختلاف حظه من المحافظة، والميل إلى التجديد في مناهج الفن التمثيلي.
والحق أن القصة تدعو إلى شيء من التردد في وضعها، وتصورها، وانسياق فصولها، ومناظرها، فموضوعها في ظاهر الأمر عادي تافه لا يكاد الناس يلتفتون إليه إلا أن يضطروا إلى ذلك، فإن فعلوا فما أسرع ما ينصرفون عنه؛ لأنه من هذه الموضوعات التي تطرق آذانهم في كل يوم، وتغدو بها الصحف وتروح، والتي أثارث أول الأمر شيئا من السخط، ثم لم تلبث أن ألفها الناس واطمأنوا إليها، فالعناية بموضوع كهذا وعرضه في ملاعب التمثيل خليقة أن تضطر الناقد إلى شيء من التردد، ثم وضع القصة نفسه لا يخلو من بعض الغرابة، فقد تعود الكتاب الممثلون أن يسيروا بالنظارة والقراء سيرا هادئا منطقيا حتى ينتهوا بهم إبان القصة أو آخرها إلى ما يثير في نفوسهم العواطف الحادة إن كانوا يريدون إلى إثارة هذه العواطف. أما كاتبنا فقد خالف هذا المنهج مخالفة تامة؛ فبدأ بما يثير العواطف، ويهز النفس هزا عنيفا في الفصل الأول، ثم مضى بقصته في تؤدة وهدوء ولين حتى انتهى بها إلى آخرها، ثم إن القصة في حقيقة الأمر توشك أن تكون قصتين، أو هي بالفعل قصتان، تبدأ أولاهما في الفصل الأول، وتنتهي إبان الفصل الثاني، ثم تبدأ الأخرى وتنتهي آخر الفصل الثالث. ومن الممكن جدا فصل هاتين القصتين، ولكن هذا الفصل يفسد إحدى القصتين وهي الأولى؛ لأنه يردها إلى شيء تافه لا قيمة له، ولا خطر، ويسيء إلى القصة الثانية؛ لأنه يردها إلى حوار مجرد، وإلى ضرب من الفلسفة لا عمل فيه ولا حركة، ومهما يكن من شيء فاقتران هاتين القصتين وإن كان في حقيقة الأمر مصدر جمال - كما سترى - خليق بأن يفاجأ النقاد والنظارة، ويضطرهم إلى شيء من التردد قبل الحكم للكاتب أو عليه.
تجد هذه الملاحظات كلها وملاحظات أخرى فيما كتب النقاد عن هذه القصة إثر تمثيلها لأول مرة، ولكنك تجد في الوقت نفسه إلى هذه الملاحظات - كما قلت لك - إعجابا شديدا لم يتردد النقاد جميعا في إعلانه، بل لم يتردد بعضهم في أن يغرق فيه، ذلك أن القصة خليقة بالإعجاب، وليس يغض منها أن موضوعها مألوف، بل ليس يغض منها أن يكون هذا الموضوع تافها مبتذلا إذا استطاع الكاتب أن يستغل هذا الموضوع التافه المبتذل، فيرفعه رغم تفاهته وابتذاله إلى حيث يجعله مصدرا للعظة والعبرة، والتأثر والتفكير.
وقد استطاع الكاتب - كما سترى - أن يصل بموضوعه التافه المبتذل إلى هذه المنزلة، وليس يكفي أن يكون الموضوع تافها مبتذلا ليزدريه الفن، ويعرض عنه، وإنما يخيل إلينا أن من مزايا الفن الصحيح أن يمس بعصاه السحرية هذه الشئون التافهة المبتذلة، فيرفعها ويجعلها مصدرا للفائدة العقلية أو الشعورية أو للفائدتين معا، ذلك أن هذه الشئون التافهة إنما هي مظاهر لحياة الناس، وليس في حياة الناس شيء وإن صغر يحسن أن يطرح ويزدرى لأنه صغير.
ثم ليس يغض من هذه القصة أن يكون الكاتب قد بدأ من حيث ينتهي الكتاب الممثلون، فأثار العواصف في أول قصته، وقد تعود الكتاب أن يهيئوا في أول القصة لهذه العواصف وألا يثيروها إلا إبان القصة، فما الذي يمنع هذا الكاتب أن يجدد ويخالف هذا المألوف الذي لم يحتمه على الناس إلا العادة، والذي ليس من التقديس بحيث لا ينبغي الانصراف عنه، وأمر العواصف النفسية كأمر العواصف الطبيعية الخارجية، لها الأسباب المهيئة التي تستتبعها وتثيرها، ثم لها النتائج التي تنشأ عنها بعد هدوئها، وكما أن العالم الطبيعي من الحق عليه أن يدرس العواصف قبل أن تثور ليعرف كيف تثور، وأن يدرسها بعد أن تثور؛ ليتبين ما ينشأ عنها من النتائج والآثار، فمن الحق على من يريد أن يتعرف النفس الإنسانية أن يدرس عواصفها وعواطفها قبل أن تثور كما تعود الكتاب الممثلون أن يفعلوا، وبعد أن تثور كما فعل كاتبنا هذا في هذه القصة.
ثم ليس يغض من القصة أيضا أن تتألف من قصتين ما دامت هناك سبيل إلى تحقيق الوحدة بين هاتين القصتين، بل إلى استخلاص إحداهما من الأخرى بحيث تستطيعان أن تكونا قصة واحدة.
وسبيل هذه الوحدة من قصتنا هذه واضحة بينة، فهذه المرأة التي تقترف الإثم، ثم تتأثر بنتائجه بعد اقترافه شخص واحد لا شخصان، ولو أنك درست حياة أي شخص من الأشخاص لاستطعت أن تجمعها، فتؤلف منها قصة واحدة؛ لأن حياة الأفراد والجماعات متصل بعضها ببعض، ناشئ بعضها عن بعض، فالوحدة هنا هي الأصل، والتفريق يصطنع اصطناعا، ويتكلف تكلفا على أنه وسيلة من الوسائل لتسهيل الدرس، وجعله سائغا ميسورا.
إذن فيخيل إلي أن هذه الملاحظات التي أخذ بها الكاتب لا تثبت أمام التفكير والتحقيق، وإنما ينبغي أن ينظر إلى القصة من حيث هي لنعرف هل وفق الكاتب في تصورها، وفي عرضها، وفي استخلاص ما استخلص منها من النتائج والآثار؟ ويخيل إلي أنه قد وفق إلى ذلك توفيقا حسنا لا بأس به.
ولعل تلخيص القصة أوضح سبيل إلى إثبات ما لكاتبنا من الحظ في هذا التوفيق: «موضوع القصة يسير سهل، ولكن يسره وسهولته لا يمنعانه أن يكون مثارا لكثير من الشكوك والخواطر يحسن أن يقف عندها المفكر الباحث: امرأة خانها خليلها، وأسرف في خيانتها، فتجد ما استطاعت في أن تترضاه، وتستأنف الحظوة عنده، ولكنها لا تفلح فتفسد عليها الغيرة أمرها، وتملك عليها عقلها وشعورها، فتقترف إثم القتل، ويعرف لها المحلفون هذا الضعف الذي اضطرها إليه الغيرة الحادة، فيعفونها من التبعة، ويبرئونها. وهي سعيدة بهذه التبرئة أول الأمر؛ لأنها أفلتت من الموت، وأفلتت من السجن، واستأنفت حظها من الاستمتاع بالحياة، وما فيها من هواء وضوء، وحرية وحركة وعمل، ولكنها إن أفلتت من المحلفين ومن القانون الاجتماعي فلن تفلت من قانون آخر داخلي نفسي هو قانون الذكرى، وما يسمونه تأنيب الضمير، فهي معذبة ترى نفسها آثمة، ولا تستطيع أن تطمئن إلى هذا الإثم، وهي تحاول أن تحيا، وأن تلذ، ولكن هذا الإثم ينغص عليها الحياة، ويكدر عليها صفو اللذة، فأنت ترى أن هذه المرأة كما تصورها الكاتب، وكما عرضها خليقة بالبحث والدرس، وأن هذه الأطوار المختلفة التي تتعاقب على نفسها قبل العاصفة وبعدها خليقة أن يقف عندها علماء النفس. ومن حول هذه المرأة أشخاص آخرون يختلفون فيما بينهم، ولكن كثرتهم تثير العناية، وهي خليقة بهذه العناية، من هؤلاء الأشخاص هذا الخليل الخائن الذي ذهب ضحية الخيانة والغيرة، وهذا الزوج الطائش الذي يعترف أنه مصدر ما تورطت فيه امرأته من إثم، وهذا المحامي الذي يحب متهمته، ويجتهد في أن يظفر بالمكانة في قلبها، ولكنه لا يستطيع إلا أن يلاحظ بأن بين ما يطلب وبين ما تستطيع هذه المرأة أن تعطيه أمرا بعيدا، ذلك إلى أشخاص آخرين ليس لهم من الشأن ما لهؤلاء الأشخاص الذي ذكرت لك.»
الحق أن القصة قيمة ممتعة للقارئ، ولكني أشك في أنها تستطيع أن تعجب الجمهور، وتستهويه في غير تحفظ ولا تردد، فجمهور النظارة كثير الطمع، قليل الرضا، وهو شديدة الميل إلى كثرة الحركة والعمل، سريع السأم والملل أمام هذا النحو من الحوار الفلسفي الدقيق الطويل، وأكبر ظني أن الفصل الأول من هذه القصة - وهو الفصل الذي لا أحبه كثيرا - قد أعجب الجمهور وراقه؛ لأنه سريع حاد، كثير الحركة، كثير الأشخاص فيه ذهاب وإياب، وفيه بنوع خاص إطلاق الرصاص وسفك الدم، وحضور الشرطة، والقبض على الجانية، وكل هذه أشياء تحب الجماهير أن تراها في الملاعب، فأما الفصلان الآخران فما أحسب أن الجمهور احتملهما إلا على مشقة وجهد. •••
Bog aan la aqoon