قالت: «شكرا ...!»
وسارت في طريقها فما ألح الرجل ولا تعوقت المرأة. ومالت إلى غرفة في الندي تأخذ زينتها في المرآة، فأدركتها صديقة، ونظرت كل منهما في وجه صاحبتها فأطالت النظر، ثم أطرقتا!
منذ بعيد تقارف هاتان المرأتان الإثم في غير حذر ولا تذمم؛ أما إحداهما فضحية شاب أغواها حتى نال منها ثم اختفى وخلف بين أحشائها بضعة منه، ففرت بعارها من قانون الجماعة إلى حيث تشفي داء قلبها بالانتقام من الرجال!
وأما الأخرى فزوج كالأيم، أو هي أيم وإن تك ذات بعل؛ فما شعرت يوما أن لها حقا على رجلها، وإنه لدائم التجوال بين البلاد، لا تستقر به الحياة في داره يوما حتى تعرض له الأماني تغريه أن يضرب في الأرض يطلب المال أو يطلب المجد، وليس لها من ماله أو مجده إلا الحرمان والظمأ ...
لم تحس المرأتان قبل الليلة معنى من معاني الندم على ما تأتيان من المعصية، فما بالهما الليلة مطرقتين قد جثم على صدريهما الهم ...؟!
أرأيت إلى المجرم إذ يفجأ وهو يقارف جريمة منكرة، فليس يملك أن ينكر ولا أن يعتذر ...؟
وعادت المرأتان تنظر إحداهما إلى الأخرى، فإذا هما تتعانقان وقد أجهشتا باكيتين؛ وأطفأت دموع الاستغفار وقد النار ولذع الندم، فكأنما حلت في جسد كل منهما روح جديدة قد خرجت من الجنة لساعتها لم تتعلق إثما ولم تجترح معصية ... ... وتلفت إبليس فإذا الندي مقفر خال ليس فيه إلا الندل يسعون بين الموائد الخالية، يرفعون الأوراق والأقداح ويصففون الكراسي والمناضد! •••
وتنفس الصبح فأبدل إبليس ثيابا بثياب وانطلق في تبانه وبرنسه إلى شاطئ البحر ليستمتع هنالك بما يستمتع به البشر، ويملأ عينيه من مفاتن دنيا الناس. لقد كان له في البحر معهد يرتاده زبانيته يعلمون الناس السحر وينصبون شرك الفتنة؛ وها هو ذا البحر، فأين فتنته وسحره؟ وأين مباهجه التي كانت؟ أين الأجسام البضة، والأذرع الغضة، والسيقان اللفاء؟ وأين العيون التي ترمي فتصمي؟ وأين لآلئ البحر تغوص وتطفو؟ وأين الزبد الأبيض يلاطم الزبد الأبيض؟
لقد خلا البحر من عرائسه، إلا عجوزا مقرورة مستلقية على الشاطئ لا يبدو منها إلا عينان تبصان كصدفتين في كومة رمل! وهذه فتاة تمشي على استحياء مستندة إلى ذراع أخيها فما تعرت من برنسها إلا ليسترها الماء، وهذا رأس رجل يبدو سابحا من بعيد، فما يكاد يرى الفتاة حتى يتنكب عن الطريق لئلا تتأذى منه الحسناء السبوح!
وأحس إبليس أول آلام البشرية في الوحدة والفراغ والضجر، فمضى على وجهه ممتلئ النفس فارغ الفؤاد؛ لقد ودع عالمه الموحش تحت الرغام ليظفر بالأنس في عالم البشرية، فما ظفر إلا بالوحشة وألم الشعور بالحرمان؛ وخلع شيطانيته تائبا ليهب للناس الاستقرار والسلام، فما لقي هو في بشريته إلا الاضطراب والألم! •••
Bog aan la aqoon