أيكون ذلك هو السبب الحق لما بينهما اليوم من الجفاء والمباعدة؟ ذلك ما خيل إليه هو حين افترقا لآخر مرة منذ قريب، فهجرها وإن في قلبه من الشوق إليها لهيبا يتسعر!
لقد كان أحمد أديبا موهوبا. إنه ليعرف ذلك من نفسه، وإنه ليؤمن به إيمانا لا سبيل إلى الشك فيه، وكان حقيقا بهذا الإيمان أن يبلغ به المنزلة التي يهدف إليها منذ بدأ؛ ليتخذ مكانه بين أدباء الجيل؛ وكان على إرث من الأدب هيأ له الجو الذي يعينه على استكمال وسائل الأديب وتحصيل مادته، واتخذ طريقه إلى الغاية التي يؤمل ...
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، ولم يأل دأبا من يومئذ، وعرفته سعدية مما قرأت له، وكانت رسالتها إليه أول الصدى الراجع، وكانت هي أول من عرف من قرائه، وتوثقت بينهما الصلة، وكانت في أولها تجاوبا فكريا بين نفسين، فلم تلبث أن عادت أملا يأمله وحلما يتراءى لها ... ومضى الفتى إلى غايته والحياة تجد له في كل يوم أملا وتوقظ عاطفة.
وكتب وخطب، ونظم وألف ، وراح يناضل في جهد الجبابرة ليشق طريقه إلى المنزلة التي يتنورها من بعيد، وقالت له فتاته: «متى أراك يا حبيبي هناك؟» ولم يجبها فتاها؛ لأن عينيه كانتا تنظران إلى هناك ...
ومشيا ذراعا إلى ذراع بين الحدائق الضاحكة صامتين، أما هي فكانت تبحث بعينيها بين الفروع الراقصة عن زهرة تقطفها عن أملودها لتجعلها في صدرها زينة تتيه بها على لداتها وصواحبها. وأما هو فكان في إطراقه وصمته يتسمع نجوى الغصون وهمس الزهر؛ لينظم منها قصيدة ترف رفيف الغصن وتنفح نفح الزهر!
وطال عليها الطريق وما بلغت، فقالت: «متى يا حبيبي ...؟» وقال: «متى يا حبيبتي ...؟» ولم تع مما قال شيئا ولم يع مما قالت، وتدابرا ومضى كل منهما لغايته، وراحت تبحث عن الزهر للزينة، وراح يبحث عن معناه ... وكان فراق بينهما!
وعاد إلى داره ذات مساء، ولم يكن في الدار غير خادمته العجوز. وجلس إلى المائدة ينتظر عشاءه، وأبطأت الخادم لأن الدار لم يكن فيها عشاء فتأتي به ... وضحك حين عرف، وعيث في جيبه قليلا ثم أمسك، وآثر أن يطوي ليلته بلا عشاء، فإن ذلك أخلق بأن يجمع له نفسه ويوقظ حسه ...
وجلس إلى مكتبه لحظات يقرأ بريد المساء، وكان بينه رسالة تنفح عطرا وقرأ:
سيدي ... وإني أرسل إليك تحياتي على البعد ...
إنها لحظات سعيدة حين أقرأ لك فأشعر أني منك على مقربة وأنك مني ...
Bog aan la aqoon