فالخصومة بينهما أمر لا بد منه. ولكن المسألة في حقيقة الأمر ليست في أن الخصومة واقعة أو غير واقعة، وإنما هي في أن الخصومة ضارة أو نافعة، أو بعبارة أدق: المسألة هي أن نعرف هل كتب على الإنسانية أن تشقى بالعلم والدين، أم هل كتب على الإنسانية أن تسعد بالعلم والدين؟ أما نحن فنعتقد أن الإنسانية تستطيع أن تسعد بالعلم والدين جميعا، وأنها ملزمة إذا لم تستطع أن تسعد بهما أن تجتهد في ألا تشقى بهما. وسبيل ذلك عندنا واضحة، وهي أن ينزع السلاح - كما يقولون - من يد العلم والدين، أو قل سبيل ذلك أن ترغم السياسة على أن تقف موقف الحيدة من هذين الخصمين. فالعلم في نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، والدين في نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، ولكن السياسة تريد وتستطيع الأذى غالبا. وهي كما قلت تتخذ العلم حينا وسيلة إلى هذا الأذى وتتخذ الدين حينا آخر وسيلة إليه. وهب السياسة لم تطع رجال الدين ولم تشتر نفوسهم وضمائرهم، ولم تهيئ لهم من أسباب الرغد والنعيم ما يصرفهم عن الله، ويجعل الدين في أيديهم سلعا تباع وتشترى، أو هب السياسة لم تفسد نفوس العلماء وضمائرهم وأخلاقهم، ولم تشترهم بالمناصب وأسباب السلطان، ولم تمنحهم من أسباب الرغد والنعيم ما يحولهم عن البحث العلمي الهادئ، إلى هذه الخصومة العنيفة العقيمة. هب السياسة لم تشغل أولئك ولا هؤلاء، ولم تمكن السواد من أن ينتصر لأولئك أو هؤلاء، فماذا تكون النتيجة؟ تكون أن يمضي رجال الدين في حياتهم الدينية، ورجال العلم في حياتهم العلمية، وأن ينصرف السواد إلى حياته العملية المنتجة منتفعا بالدين فيما بينه وبين الله، منتفعا بالعلم في تدبير شئونه اليومية، وأن تزول هذه الخصومات المنكرة التي تقسم الناس شيعا وأحزابا، وتغري بعضهم ببعض وتجعل بعضهم لبعض عدوا، وتبث فيهم ألوان الرذيلة وحب الكيد والوقيعة، وما إليها من الرذائل الفاحشة. وهل تظن أن وقف السياسة هذا الموقف شيء عسير حقا؟ كلا! قد كان عسيرا قبل هذا العصر الحديث حين لم يكن بد للحكومة من أن تستغل الدين أو من أن تستغل العلم. فأما هذا العصر الذي نحن فيه فقد استطاعت السياسة أن تستقل وأن تمشي على قدميها دون أن تعتمد على عصا دينية أو علمية؛ ذلك لأن فكرة الوطنية وما يتصل بها من المنافع الاقتصادية والسياسية الخالصة قامت الآن في تكوين الدول وتدبير سياستها مقام فكرة الدين، أو مقام هذه النظريات الفلسفية الميتافيزيقية التي كانت تقوم عليها الحكومة من قبل. وأين هي الحكومة التي تستطيع الآن أن تزعم أنها تقوم على الدين أو أنها تقوم لحماية الدين، أو أنها تقوم على أساس ما من هذه الأسس الفلسفية المختلفة: حماية الواجب أو حماية الحق أو حماية العدل؟ أين هي الحكومة التي تستطيع أن تجهر بشيء من ذلك دون أن يضحك منها الناس جميعا ، وأن يكون رعاياها أول الضاحكين؟ أتستطيع الحكومة المصرية مثلا أن تزعم أنها إنما تقوم على الإسلام وبالإسلام وللإسلام؟ كلا. كما أن الحكومة الفرنسية لا تستطيع أن تزعم أنها إنما تقوم على المسيحية وبالمسيحية وللمسيحية. ومع ذلك فقد كانت مصر موئل الإسلام في جميع عصورها الإسلامية! ومع ذلك فقد كان ملوك فرنسا يلقبون أنفسهم أصحاب الجلالة المسيحية! ومع ذلك فقد كان ملوك مصر وسلاطينها يعاهدون ملوك أوروبا باسم المسلمين ويزعمون لأنفسهم حماية بيت المقدس والحرمين الشريفين! ومع ذلك كان ملوك فرنسا يعاهدون دول الشرق الإسلامي باسم المسيحية، ويزعمون لأنفسهم حماية المسيحية في بلاد الإسلام!
كان هذا كله، ولكن هذا كله قد تغير، فمصر لا تستطيع أن تزعم أنها حامية بيت المقدس أو الحرمين الشريفين، أو أنها الناطقة بلسان المسلمين الذائدة عن حوض الإسلام. بل لست أدري أتستطيع مصر الآن أن تزعم أنها تحمي الإسلام في أقطارها الخاصة ولا تتجاوز حدوده عمدا أو كرها؟ ولا تستطيع فرنسا أن تزعم لنفسها حماية المسيحية في الأقطار الإسلامية، بل لا تستطيع أن تزعم لنفسها حماية المسيحية في أقطارها الخاصة. لا تقوم الحكومة المصرية الحديثة ولا الحكومة الفرنسية الحديثة على أساس من دين ولا من علم ولا من فلسفة، وإنما تقوم الحكومة الحديثة في أقطار الأرض المتحضرة الآن على أساس سياسي خالص من المنفعة الاقتصادية والمدنية لا أكثر ولا أقل. وقد فرغ الناس من هذا وأصبحوا لا يفكرون في أن الحكومة تقوم على الدين أو لا تقوم عليه، فإن فكروا في صلة بين الدين والحكومة - وهذا قليل نادر - فإنما يفكرون في طبيعة الموقف الذي يجب أن تقفه الحكومة الحرة الصالحة من دين الكثرة والقلة. أتعترف بهذه الديانات أم تنكرها أم تجهلها في غير اعتراف ولا إنكار؟
8
نعم إن دستورنا المصري قد نص في صراحة أن الإسلام دين الدولة، وكان هذا النص مصدر فرقة، لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين من أهل مصر، فقد رضيت القلة المسيحية وغير المسيحية هذا النص ولم تحاور فيه، ولم تر فيه على نفسها مضاضة أو خطرا، وإنما نقول إنه كان مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم، فهم لم يفهموه على وجه واحد ولم يتفقوا في تحقيق النتائج التي يجب أن تترتب عليه. فأما عامة الناس فلم تلتفت إلى هذا النص ولم تحفل به، وأكبر ظننا أنها ما كانت لتشعر بشيء لو لم يوجد هذا النص في الدستور؛ فعامة الناس في مصر منصرفون بطبعهم إلى حياتهم العملية، مستعدون أحسن الاستعداد وأقواه للاتصال بأزمنتهم وأمكنتهم وللملاءمة بين حياتهم وبين ضرورات التطور، وهم يعلمون أن الإسلام بخير، وأن الصلوات ستقام، وأن رمضان سيصام، وأن الحج سيؤدى، وهم يذهبون في القيام بواجباتهم الدينية مذهب غيرهم من الناس المعتدلين، لا هم بالمسرفين في التدين، ولا هم بالمسرفين في العصيان والفسوق. فسواء عليهم أنص الدستور أم لم ينص أن الإسلام دين الدولة، وسواء عليهم أسيطرت الحكومة أم لم تسيطر على شعائر الدين، ما دامت هذه الشعائر قائمة محترمة.
إنما وقعت الفرقة حول هذا النص بين فريقين من المسلمين المصريين: أحدهما المستنيرون المدنيون، والآخر شيوخ الأزهر ورجال الدين. فأما المستنيرون فقد فهموا أن الدستور حين ينص أن الإسلام دين الدولة، لا يريد أن يعلن احترامه لدين الكثرة وما توارثت من تقاليد، ويكلف الحكومة مقدارا قليلا من الواجبات التي تتصل بهذه التقاليد، فلما أرادوا تحليل هذا كله فهموا أن هذا النص لا يزيد على تقرير الواقع من أن رئيس الدولة في مصر يجب أن يكون مسلما، ومن أن شعائر الإسلام يجب أن تقام بعد صدور الدستور، كما كانت تقام قبل صدوره، فلا تغلق المساجد، ولا يعطل الحج، ولا تعمل الحكومة في أيام الأعياد الإسلامية، ولا ينقطع إطلاق المدافع في رمضان، ولا يلغى الحفل بالمحمل، ولا الحفل بالمولد النبوي، ولا تنفق أموال الأوقاف الإسلامية في غير ما رصدها له الواقفون، ولم يخطر لهؤلاء المستنيرين في يوم من الأيام أن هذا النص سيكلف الحكومة واجبات جديدة دينية، أو أنه سيحدث في الدولة نظما لم يكن لها بها عهد من قبل ؛ ذلك لأنهم كانوا وما يزالون يقدرون أن مصر تمضي إلى الأمام وتسرع في الاتصال بالمدنية الغربية، وتريد أن تحقق ما قال إسماعيل من أنها جزء من أوروبا. ولأنهم كانوا وما يزالون يقدرون أن في الإسلام من اللين والمرونة ما يمكنه من التطور مع الزمن وملاءمة الظروف المختلفة، ويعصمه من الجمود والسكون، ويحول بينه وبين أن يكون عقبة في سبيل الرقي الاجتماعي والاقتصادي، ولأنهم كانوا وما يزالون يقدرون أن حكومة مصر قد اضطرت بحكم هذه الحياة الحديثة إلى أن تأتي من الأمر ما لم يكن يبيحه الإسلام من قبل، فهي تعامل المصارف، وتنظم الربا، وتبيح ألوانا من المعصية، بل تستغلها أحيانا. فإذا كان نص الدستور أن الإسلام دين الدولة يدل على معناه حقا، فلا أقل من تغيير كل هذه المحادثات، ولا أقل من أن يغير نصوصا تكفل حرية الرأي وتبيح للناس أن يلحدوا، وتسوي بين المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات، وما كان الإسلام ليبيح الإلحاد ولا ليسمح للملحد أن يعلن إلحاده وخروجه على الدين، وأحكام المرتد معروفة في الإسلام، وما كان الإسلام ليسوي بين المسلم وغير المسلم في بلد يكون هو فيها الدين الرسمي.
فهم المستنيرون هذا كله، ولم يعارضوا في هذا النص حين أعلنت لجنة الدستور أنها ستضعه في الدستور، بل هم فريق منهم أن يعارض لأنه خشي أن يفهم هذا النص على غير وجهه، فما زالوا به حتى كفوه عن المعارضة، واضطروه إلى السكوت، وقالوا: نص فيه إرضاء لعاطفة السواد وطمأنة للشيوخ فهو لا يضر، وأكبر الظن أن قد يفيد.
ولكن الشيوخ فهموا هذا النص فهما آخر، أو قل إنهم فهموه كما فهمه غيرهم، ولكنهم تكلفوا أن يظهروا أنهم يفهمونه فهما آخر، واتخذوه تكأة وتعلة يعتمدون عليها في تحقيق ضروب من المطامع والأغراض السياسية وغير السياسية. فهموا أن الإسلام دين الدولة؛ أي إن الدولة يجب أن تكون دولة إسلامية بالمعنى القديم حقا؛ أي إن الدولة يجب أن تتكلف واجبات ما كانت تتكلفها من قبل. وعلى ذلك أخذوا يطالبون بأمور ما كانوا يطالبون بها قبل الدستور، وذهب فريق منهم على رأسه نفر من هيئة كبار العلماء إلى أبعد حد ممكن، فكتبوا يطلبون ألا يصدر الدستور لأن المسلمين ليسوا في حاجة إلى دستور وضعي ومعهم كتاب الله وسنة رسول الله، وذهب بعضهم إلى أن طلب إلى لجنة الدستور أن تنص أن المسلم لا يكلف القيام بالواجبات الوطنية إذا كانت هذه الواجبات معارضة للإسلام، وفسروا ذلك بأن المسلم يجب أن يكون في حل من رفض الخدمة العسكرية حين يكلف الوقوف في وجه أمة مسلمة كالأمة التركية مثلا. ولكن هذه المطالب كلها أهملت إهمالا ومضت لجنة الدستور في عملها حتى أتمته والشيوخ فيها ممثلون. وليس هنا موضع التعريض أو التصريح بما كان للشيوخ من سعي أثناء إعداد الدستور وقبل صدوره، ولكنا نكتفي بأن نلاحظ أنهم أو بأن كثرتهم لم تكن تبتسم للدستور حقا. وصدر الدستور وابتهج به الناس جميعا، واطمأن إليه الناس جميعا، إلا الشيوخ، فإنهم لم يكتفوا بقبول الدستور والرضا بما فيه من المساواة والحريات المكفولة، بل استغلوه استغلالا منكرا في حوادث مختلفة، أهمها حادثة «الإسلام وأصول الحكم»، وحادثة كتاب «في الشعر الجاهلي»، وإليك نظرية الشيوخ في استغلال هذا النص الذي ما كان يفكر واحد من أعضاء لجنة الدستور في أنه سيستغل وسيخلق في مصر حزبا خطرا على الحرية، بل خطرا على الحياة السياسية المصرية كلها. يقول الشيوخ إن الدستور قد نص أن الإسلام دين الدولة، ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة بحكم الدستور حماية الإسلام من كل ما يمسه أو يعرضه للخطر، ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة أن تضرب على أيدي الملحدين وتحول بينهم وبين الإلحاد أو تحول بينهم وبين إعلان الإلحاد على أقل تقدير. ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة أن تمحو حرية الرأي محوا في كل ما من شأنه أن يمس الإسلام من قريب أو بعيد، سواء أصدر ذلك عن مسلم أو عن غير مسلم.
ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة بحكم الدستور أن تسمع ما يقوله الشيوخ في هذا الباب ، فإذا أعلن أحد رأيا أو ألف كتابا، أو نشر فصلا، أو اتخذ زيا، ورأى الشيوخ في هذا كله مخالفة للدين ونبهوا الحكومة إلى ذلك، فعلى الحكومة بحكم الدستور أن تسمع لهم وتعاقب من يخالف الدين أو يمسه: بالطرد أولا إن كان موظفا، ثم بتقديمه إلى القضاء بعد ذلك، ثم «بإعدام جسم الجريمة» كما يقول رجال القانون على كل حال. ومما زاد الأمر تعقيدا والموقف حرجا بين المستنيرين ورجال الدين بإزاء هذا الوجه من وجوه الحرية الدستورية أمران: أحدهما أن النظام السياسي القديم كان قد أنشأ في مصر شيئا يسمى هيئة كبار العلماء، وجعل لهذا الشيء حقوقا وألوانا من السلطان على طائفة من الناس، وجعل لهذا الشيء ضربا من السيطرة المعنوية على أمور الدين في مصر.
وكان المعقول أن صدور الدستور يجب أن يمحو من هذا النظام القديم كل ما لا يتفق مع نصوص الدستور نفسه، ولكن هيئة كبار العلماء ظلت قائمة مستمتعة بحقوقها محتفظة بسلطانها وسيطرتها، لا تعتز بهما ولا تستغلهما لأنها لم تكن تلتفت من هذا كله إلا إلى ما يمنحها من المرتبات ومنازل الشرف، حتى صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، فأحست هيئة كبار العلماء، أو أريد منها أن تحس، أن لها حقوقا وسلطانا، واستغلت هيئة كبار العلماء، أو أريد منها أن تستغل، تلك الحقوق وهذا السلطان. الثاني أن الدستور لم يكد يصدر حتى عطل، أو كاد يعطل، فقد صدر الدستور في أوائل سنة 1923 ولكن البرلمان لم يأتلف إلا في أوائل 1924، وكانت الحكومة القائمة بين صدور الدستور وانعقاد البرلمان لأول مرة حكومة ضعف وتفريط في كل شيء، كانت حكومة لا تعتمد على نفسها، ولا تستطيع أن تثبت على قدميها إلا أن يسندها مسند من اليمين إن مالت إلى اليمين، أو مسند من الشمال إن مالت إلى الشمال، ولم يكن يسندها مسند اليمين أو مسند الشمال عفوا ولا ابتغاء مرضاة الله، وإنما كان يسندها هذا المسند أو ذاك لمنافع ومطامع. فقوي في ظل هذه الحكومة الضعيفة أمر الرجعية، وكثر الريش في أجنحة الشيوخ، وطلب الأزهر أمورا فما أسرع ما أجيب إليها، وكان أظهر هذه الأمور إلغاء مدرسة القضاء - أو مسخها - وإنشاء أقسام التخصص في الأزهر.
ثم انعقد البرلمان فانصرف بطبيعة الحال إلى ما كان ينبغي أن ينصرف إليه من المسألة السياسية الخارجية. وبينما هو منصرف إلى هذه المسألة السياسية الخارجية تحرك الشيوخ، أو قل تحرك الأزهر كله، أو قل حرك الأزهر تحريكا فظهرت له مطالب غريبة ضخمة فيها إعنات وإحراج وتعمل، ورفعت هذه المطالب إلى الحكومة البرلمانية الشعبية يومئذ مع شيء من الإلحاح ومع شيء من الضجيج والعجيج والمظاهرات الغريبة داخل الأزهر وفي شوارع المدينة وميادينها وعند القصر، وهمت الحكومة البرلمانية أن تأخذ بالحزم أمام هذه الحركة الغريبة التي لم يكن يعرف أيهما أعظم فيها أثرا؛ أحظ الدين أم حظ السياسة والمنفعة! ولكن الحوادث المنكرة التي حدثت آخر تلك السنة ذهبت بالبرلمان وبالحكومة البرلمانية، وقامت في مصر يومئذ حكومة أخرى أشبه شيء بتلك الحكومة التي كانت قائمة بين صدور الدستور وائتلاف البرلمان، حكومة ضعف وتردد واضطراب، حكومة تميل إلى اليمين حينا فتكاد تهوي لولا أن يسندها مسند ويتقاضى على هذا ثمنا، وتميل إلى الشمال حينا فتكاد تهوي لولا أن يسندها مسند ويتقاضى على هذا ثمنا أيضا.
Bog aan la aqoon