أيشعر علماء الدين عندنا بهذا البون الذي يباعد بينهم وبين علماء الدين في أوروبا؟ أيشعرون بأنهم يحسنون إلى أنفسهم إن أزالوا هذا البعد؟ ويحسنون إلى أمتهم أيضا؛ لأنها تستطيع يومئذ أن تعتز بهم حقا، وأن تأتم بهم حقا في دينها ودنياها؟
سمعنا خطبة القسيس، ثم سمعنا بعدها ضروبا من الموسيقى الدينية القديمة التي أحدثها يرجع إلى القرن الخامس عشر، وأشهد أني أعجبت بهذه الموسيقى، وأشهد أني طربت لهذا الغناء اللاتيني الجميل، ولكني لا أطالب بأن أسمع موسيقى أو غناء في مساجدنا، فأنا أعلم أن مساجدنا إنما أنشئت لذكر الله، ولذكر الله في سذاجة وسهولة. لا أطالب بذلك ولا أفكر فيه، وحسبي أن التذكر في المسجد بترتيل القرآن الكريم، وإنما أطالب بشيء وألح فيه الإلحاح كله، أطالب بأن يكون من بين علمائنا من يستطيع أن يحدثنا عن تاريخ الأزهر الشريف، وجامع قلاوون وجامع برقوق، من الوجهة الفنية، كما استطاع قسيس بروكسل أن يحدثنا عن كنيسة «سانت جودول».
سمعنا الموسيقى وطربنا لها، ثم أردنا أن ننصرف فإذا إكليل من الزهر ضخم بديع قد وضع ناحية في الكنيسة، وإذا قوم من جماعة المؤرخين قد تقدموا فحملوه ومضوا فتبعهم المؤتمرون في وقار وإجلال، وما هي إلا دقائق حتى وصلنا إلى قبر الجندي المجهول، فإذا هذا الإكليل يمثل تحية مؤتمر العلوم التاريخية لأبناء بلجيكا الذين قضوا في الدفاع عن وطنهم.
أما ليلتنا عند وزير المعارف فلا أحدثك عنها إلا بشيء واحد، وهو أن جميع المؤتمرين كانوا في قصر الوزير، وكان معهم سفراؤهم أو وزراؤهم المفوضون إلا مصر، فلم يكن لها سفير ولم يكن لها وزير مفوض، ولم يكن لحكموتها مندوب، وإنما كان هناك طربوش حائر بين هذه الجماعات، ولولا أن وزير المعارف كان قد أنبئ بمكان هذا الطربوش لما شعر به أحد، ولكن الوزير أقبل ومعه رئيس مكتبه فحياني تحية حسنة ودعاني مندوب مصر فلم أصلح خطأه. ثم لقيت أثناء السهرة مؤرخا شابا بولونيا تعرف إلي؛ لأن زوجه تعرفت إلى زوجي، ودعاها إلى هذا التعرف الطربوش، وكان هذا العالم البولوني الشاب مندوب عصبة الأمم في مؤتمر العلوم التاريخية؛ لأن عصبة الأمم قد مثلت نفسها في مؤتمر العلوم التاريخية، وكيف لا تفعل وقد أنشأت لجنة علمية سمتها لجنة التعاون العلمي؟
صافحني هذا الشاب وقال: هناك مسألة تحيرني، ولعلك تجيبني عليها، ما بال مصر لم تمثل في عصبة الأمم ومتى تطلب هذا التمثيل؟ هنا أعترف أيها القارئ بأني كذبت ولم يكن مصدر الكذب إلا الحياء؛ ذلك لأني أجبت سائلي على الفور: «ستطلب مصر الانضمام إلى عصبة الأمم في هذه السنة.» قال صاحبي: إذن فسيرد طلبها قبل انعقاد الجمعية العمومية؟ قلت: أعتقد ذلك.
فهل لرئيس الوزراء أن يعفيني من خزي هذه الكذبة التي لم يضطرني إليها إلا تقصير حكومتنا وتفريطها في الاستمتاع بما لنا من حق؟
باريس في 7 مايو سنة 1923
8
كان يوم الجمعة 12 أبريل يوم الشرق في المؤتمر، وبعبارة أخرى يوم مصر، ولم يكن يوم الشرق أو يوم مصر في المؤتمر وحده، بل كان في بروكسل كلها ... فقد اشترك كثير جدا من أهل هذه المدينة رجالا ونساء في جلسة المؤتمر العامة التي عقدت بعد الظهر لسماع خطيبين، تكلم أحدهما على استكشافات فرنسية على شاطئ الفرات، وتكلم الآخر عن مقبرة توت عنخ آمون، وكان كلا الخطيبين يصطنع الفانوس السحري لعرض صور مما استكشف على شاطئ الفرات أو في مصر، وكانت الصحف قد أعلنت هاتين الخطبتين وتحدثت بهما، فأسرع المؤتمرون وغير المؤتمرين إلى استماعهما، وما أشك أننا كنا آلافا من الساعة الثانية إلى الساعة الخامسة بعد الظهر. على أن صباح هذا اليوم قد أنفق في أعمال هادئة، فاجتمعت اللجان، وسمعت ما ألقي فيها من الخطب، وما قدم إليها من المذكرات، وسمعت أنا في صباح هذا اليوم مذكرات ثلاثا ممتعات؛ إحداها في نقد بعض الطبعات لمحفوظات رسمية فرنسية تتصل بما قبل الثورة، والأخرى في إظهار تزوير كتب رسمية نشرها أحد السفراء الرسميين للويس الرابع عشر عن أعمال قام بها في إنجلترا وهولندا باسم لويس الرابع عشر، والثالثة فيما كان من تبادل المحفوظات الرسمية بين النمسا وبولونيا بعد الحرب الكبرى، ولكني لا أطيل في ذكر هذه المحاضرات وقيمتها، فقد لا تصلح الصحف السيارة لمثل هذه المباحث العلمية الجافة التي ليس بينها وبين مصر صلة ما.
عدنا إلى الاجتماع إذن بعد الظهر، وكأن رئيس المؤتمر كان يشعر بشوق الناس إلى استماع هاتين الخطبتين، وكان يجد لذة شيطانية في ممانعة هذا الشوق، فقدم إلى الخطابة عالما روسيا تحدث عن التاريخ الروماني، وعما كان من الأزمة الاجتماعية في الإمبراطورية الرومانية أثناء القرن الثالث بعد المسيح، وكانت خطبته لذيذة مفيدة، وكان الناس يستمعون لها في شيء من الضجر والسأم؛ لأنهم لم يحضروا لاستماعها وإنما حضروا لشيء آخر، ومع أنه أطال فلم يكتف رئيس المؤتمر بخطبته بل قدم أمريكيا تكلم عن أخلاق «كاترين دي ميديسيس»، وكان يتكلم بالإنجليزية فلم يفهمه إلا قليلون، ثم قدم الرئيس خطيبا إيطاليا تكلم عن نقوش مسيحية استكشفت في إيطاليا، وعن جمعية إيطالية أسست للبحث عن النقوش المسيحية التي نقشت بعد انتهاء عصر التاريخ القديم، وقدم إلى المؤتمر مجلدات نشرتها هذه الجمعية مشتملة على بعض هذه النقوش. ثم قدم الأستاذ «كيمون» فتحدث عن الاستكشافات الفرنسية على شاطئ الفرات، هنا ابتهج الناس وأظهروا سرورا ما أظن إلا أنه ساء الخطباء الأولين، وكانت خطبة الأستاذ «كيمون» ألذ ما سمعت في المؤتمر، بل أعترف بأنها لذتني أكثر من الخطبة التي تلتها عن مقبرة فرعون.
Bog aan la aqoon