باريس في 16 أبريل سنة 1923
2
لا أذكر ما كان يضطرب في نفسي من خواطر الأسى والإعجاب، ومن عواطف الأسف والأمل أثناء الطريق بين باريس وبروكسل، حين كنا نعبر هذه البلاد التي دمرتها الحرب تدميرا فلم تذر فيها شيئا إلا أتت عليه، والتي كان أهلها مشردين في أقطار فرنسا، يتكلفون ألوان المشقة، ويستجدون ضروب الإحسان، ليستقروا بعد تشريد وليشبعوا بعد جوع، فأصبحت هذه البلاد، ولما تمض على الحرب أعوام، عامرة ومزدهرة مستكملة أو آخذة في استكمال وسائل الحياة العاملة المنتجة الناعمة المترفة. كنت آسف وكنت آمل، كنت آسى لقسوة الإنسان على الإنسان، وكنت أعجب بقدرة الإنسان على إصلاح ما أفسدت يد الإنسان ، ولكني لا أريد أن أذكر ذلك أو أطيل فيه، وإنما أحدثك بما وجدت حين وصلت إلى مدينة بروكسل ظهر الأحد 8 أبريل.
كان البرد شديدا، وكانت تعصف في المدينة ريح قوية مثلجة، ولكن المدينة كانت هائجة مائجة، أو بعبارة أصح: كانت فرحة مرحة، كان الناس يتغنون ويضحكون ويفتنون في اللذات البريئة. فكنت لا تسمع إلا أصواتا صافية مجلوة، تنبعث بألفاظ الهناء والسرور، وكنت لا ترى إلا أعلاما منشورة تعبث بها الريح، كنت لا تسمع ولا ترى إلا شيئا يسر ويرضي ويبعث البهجة في النفوس. كان أهل بلجيكا ذلك اليوم في عيد، كانوا يحتفلون بميلاد الملك ألبير. لم يكن احتفالهم رسميا فحسب، لم يكن مقصورا على قصر الملك ودواوين الحكومة. لم يكن احتفالا تراد به المجاملة، وإنما كان احتفالا حقا. كانت القلوب تحتفل بالملك ألبير، وكانت الألسنة تنطلق بما يملأ القلوب من فرح، وكان الوجوه تصف ما يغمر النفوس من ابتهاج، وكانت هذه الجماعات المختلفة التي تنطلق في الشوارع منها ما ينشد النشيد البلجيكي، ومنها ما يتغنى «بالمرسيلييز»، ومنها ما يتغنى بأحدث الأغاني الباريسية التي تتردد في «مونمارتر». أقول: كانت كل هذه الجماعات آية ساطعة على أن البلجيكيين يحبون ملكهم ويعجبون به، ويحتفلون ببلجيكا الناهضة حين يحتفلون بعيد ألبير؛ لأن ألبير يمثل في نفوسهم هذا الوطن الذي تألم وأهين، ولقي ضروب الذلة ثم انتصر وثأر لنفسه، وهو الآن ينهض ويستأنف الحياة قويا نشيطا كأقوى وأنشط ما كان قبل الحرب.
نعم: كانت هذه الجماعات آية بينة على أن البلجيكيين يحبون ملكهم، ويرونه رمز آلامهم وآمالهم حقا، ومهما أنس فلن أنسى جماعة من الرجال والنساء صادفناها في أحد الشوارع، وقد تبادلت القلانس، فلبس الرجال قلانس النساء ولبس النساء قلانس الرجال، وامتلأ الشارع بهم حتى وقف الترام، وانقطعت الحركة وهم يتغنون:
اصعد فوق! اصعد فوق! فسترى مونمارتر.
وكن واثقا جدا بأنك سترى شيئا جديدا.
من فوق إذا كان الجو صحوا فسترى من باريس إلى شارتر.
إذا كنت لم تر هذا فاصعد فوق، اصعد فوق فسترى مونمارتر.
بذلك كانوا يتغنون، وكانت تقطع هذا الغناء من وقت إلى وقت قهقهة عالية تصعد في السماء، وتحملها الريح وتفرقها في أنحاء المدينة، وإنهم ليمضون كذلك وإننا لنتبعهم وإذا الغناء قد انقطع، وإذا الأصوات قد خفتت، وإذا الرءوس حاسرة، وإذا جلال مهيب قد انبسط على هذه الجماعات الفرحة، وإذا صمت رهيب يشعرك بأن هناك شيئا جديدا. بأن هناك شيئا مقدسا.
Bog aan la aqoon