[فى أسرار كلمة لاإله ألا الله]
الفصل الأول
فى أسرار كلمة لا إله إلا الله
قال الله سبحانه وتعالى لرسوله (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم)
اعلم أن الله تعالى قدم الأمر بمعرفة التوحيدعلى الأمر بالاستغفار، والسبب فيه : أن معرفة التوحيد إشاره إلى علم الأصول ، والإشتغال بالاستغفار
إشارة إلى علم الفروع ، والأصل يجب تقديمه على الفرع ، فإنه ما لم يعلم وجود الصانع امتنع القيام بطاعتة وخدمته.
وهذه الدقيقه معتبرة فى آيات كثيره :
أولها :
أن إبراهيم عليه السلام لما اشتغل بالدعاء قدم المعرفه على الطاعة فقال : (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) فقوله : (هب لي حكما )إشارة إلى استكمال القوه النظريه بمعرفة حقائق الأشياء ، وقوله : (وألحقني بالصالحين) إشارة إلى استكمال القوة العلمية بالإجتناب عن طرفى الإفراط والتفريط. فقدم العلم على العمل.
وثانيها : أنه تعالى لما أوحى إلى موسى عليه السلام راعى هذا الترتيب
فقال : (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى(13) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) فقوله : (لاأله إلا أنا) اشارة إلى علم الأصول ، وقوله : (فاعبدنى) إشارة إلى علم الفروع.
Bogga 20
وثالثها : أن عيسى عليه السلام لما أنطقه الله تعالى فى وقت الطفولية
قال : (إني عبد الله آتاني الكتاب). فقوله : ( إني عبد الله ) إشاره إلى علم الأصول ، وقوله : (آتاني الكتاب) إشاره إلى علم الفروع ، فإن احتياجه إلى الكتاب إنما يكون فى معرفة الاحكام والشرائع ، لا فى معرفة ذات الله تعالى وصفاته.
ورابعا : الآية التى نحن فيها
ولا نزاع فى أن أفضل الأنبياء والرسل عليهم السلام هؤلاء الأربعة،
فلما ثبت أن الله تعالى قدم الأمر بمعرفة الأصول على معرفة الفروع
فى حق هؤلآء الأنبياء المكرمين : ثبت أن الحق الصحيح الصريح ليس إلا ذلك ، ومما يؤكد ذلك وجوه أخر :
* * *
الوجه الأول :
أن أكثر المفسرين أجمعوا على أن أول أية أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم هى قوله : (اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم).
وهذه الأية مشتملة على دلائل التوحيد. وذلك أن أظهر الدلائل الدالة على
وجود الصانع الحكيم : توالد الإنسان من النطفة.
ثم إنه تعالى نبه فى هذه الأية على لطيفة عجيبة ، ولا يتأتى شرحها إلا فى معرض السؤال والجواب .
Bogga 21
فإن قال قائل : لابد من رعاية النظم بين أجزاء الكلام ، وهاهنا ذكر أنه تعالى يولد الإنسان من النطفة فقال : (الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق ).
ثم ذكر بعده أنه (علم الإنسان مالم يعلم).
فأى مناسبه بين هذين الامرين ؟
الجواب : أن اخس مراتب الإنسان وأدناها : العلقة ، وذلك لأنه يستقذرها كل أحد.
وأعلى المراتب وأشرفها : كون الإنسان عالما محيطا بحقائق الأشياء ، كأنه قال : عبدى ، تأمل إلى أول حالك حين كنت علقة،
وهى أخس الأشياء : وإلى آخر حالك حين صرت ناطقا عالما بحقائق الأشياء ، وهو أشرف المراتب ، حتى يظهر لك أنه لا يمكن الإنتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الدرجة الرفيعة الشريفة إلا بتدبير أقدر القادرين ، وأحكم الحاكمين ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون.
* * *
الوجه الثانى :
أنه تعالى مدح المؤمنين فى سورة البقرة من أول السورة إلى قوله :
(أولئك هم المفلحون). وذم الكافرين فى آيتين : أولهما قوله : (أن الذين كفروا) إلى قوله : (ولهم عذاب عظيم).
Bogga 22
ثم ذم المنافقين فى ثلاث عشرة آية أولها قوله تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله) إلى قوله :
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم).
ثم لما مدح المؤمنين وذم الكافرين والمنافقين
كأنه قيل : هذا المدح والذم لا يستقيمان إلا بتقديم الدلائل على إثبات التوحيد
والنبوة والمعاد ، فإن أصول الإسلام هى هذه الثلاثة.
فلهذا السبب بين الله تعالى صحة هذه الأصول بالدلائل القاطعه.
فبدأ أولا بإثبات الصانع وتوحيده ، وبين ذلك بخمسة أنواع من الدلائل :
أولها أنه استدل على التوحيد بأنفسهم ، واليه الإشارة بقوله : (اعبدوا ربكم الذي خلقكم ).
وثانيها بأحوال آبائهم وأجدادهم،وإليه الإشارة بقوله : (والذين من قبلكم ).
وثالثها بأحوال اهل الأرض : وإليه
الإشارة بقوله : (الذي جعل لكم الأرض فراشا).
وربعها بأحوال أهل السماء ، وإليه الإشارة بقوله : (والسماء بناء).
وخامسها بالأحوال الحادثه المتعلقة بالسماء والأرض ، وإليه الإشارة بقوله : ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم).
فإن السماء كالأب ، والأرض كالأم : ينزل المطر من صلب السماء ، إلى رحم الأرض،
فيتولد منها انواع النبات.
ولما ذكرهذه الدلائل الخمسة رتب المطلوب عليها فقال :
(فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون).
وذلك : أن هذه الدلائل الخمسة رتب المطلوب عليها فقال : (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون).
وذلك : أن هذه الدلائل تدل على وجود الصانع من وجه ، وعلى كونه تعالى واحدا من وجه آخر ، فأنها من حيث أنها حدثت مع جواز ألا تحدث ، ومع جواز أن تحدث على خلاف ما حدثت به يدل على وجود الصانع القادر.
Bogga 23
ومن حيث انها حدثت لا على وجه الخلل والفساد دلت على وحدة الصانع القادر كما قال تعالى : (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
فلهذا السبب ذكر بعد تلك الدلائل ذاك المطلوبين.
أحدهما إثبات الصانع ، والثانى كونه واحدا ،لأن قوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادا).
يشمل على إثبات الإله ، وعلى إثبات كونه واحدا.
ثم هنا لطيفة أخرى مرعية فى هذه الآية
وهى : أن الترتيب الحسن المفيد
فى التعليم أن يقع الإبتداء فى التعليم من الأظهر فالأظهر ، مرتقيا إلى الأخفى.
وهذه الدقيقة مرعية فى هذه الآية.
وذلك أنه سبحانه وتعالى قال : (اعبدوا ربكم الذي خلقكم ).
فجعل إستدلال كل عاقل بنفسه مقدما على جميع الاستدلالات ، لأن اطلاع كل أحد على أحوال نفسه أتم من إطلاعه على أحوال غيره : فسيجد أنه بالضروره من نفسه[أنه]
تارة يكون مريضا ، وتارة يكون صحيحا ، وتارة ملتذا ، وتارة متألما ، وتارة شابا ، وتارة شيخا.
والانتقال من بعض هذه الصفات إلى غيرها ليس باختيار أحد من البشر.
وأيضا فقد يجتهد فى طلب كل شئ فلا يجد ، وكثيرا ما يكون غافلا عنه فيحصل ، وعند ذلك يعلم كل أحد عند نقص الغرائم وفسخ الهمم :
أنه لابد من مدبر يكون تدبيره فوق كل البشر.
وربما اجتهد العاقل الذكى فى الطلب فلا يجد ، والغر الغبى يتيسر له ذلك المطلوب.
فعند هذه الاعتبارات يلوح له صدق قول الشافعى رضي الله عنه
ومن الدليل على القضاء كونه * بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق.
Bogga 24
ويظهر له أن هذه المطالب إنما تحصل وتتيسر بناء على قسمة قسام لا يمكن منازعته ولا مغالبته ، كما قال سبحانه وتعالى : (نحن قسمنا بينهم معيشتهم).
ثم إن هذه الاعتبارات غير محصورة ، فتارة كما فى قوله تعالى : (أمن يجيب المضطر إذا دعاه).
وأخرى كما فى قوله : (قل من يكلؤكم بالليل والنهار).
وبالجمله ، فلما كان اطلاع كل أحد على أحوال نفسه أشد من اطلاعه على أحوال غيره ، لا جرم قدم هذا الدليل على سائر الدلائل.
ثم هذه المراتب يتلوها مرتبة أخرى ، وهى علم كل أحد باحوال آبائه وأجداده وأهل بلده.
ثم هذه المرتبة الثانية تتلوها مرتبة ثالثة ، وهى
معرفة الإنسان لأحوال الأرض التى هى مسكن الخلآئق ، فإنها مختلفة
الأجزاء ، كما قال تعالى : (وفي الأرض قطع متجاورات).
وقال أيضا : (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود).
ثم هذه المرتبة الثالثة تتلوها مرتبة رابعه
وهى : العلم بأحوال الأفلاك ،
فإن بعضها يخالف البعض فى العلو والسفل ،والصغر والكبر ، والبطء والسرعة ، واختلاف أحوال الكواكب المذكورة فيها ،كما قال : (كل في فلك يسبحون) وقال : (رب المشرق والمغرب ).
Bogga 25
وقال : (فلا أقسم برب المشارق والمغارب).
وقال : (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره).
وقال : (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ).
وقال فى نوح : (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا(15) وجعل القمر فيهن نورا).
وقال فى يس : (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون).
وقال : ( فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس ).
ثم بعد هذه المرتبة الرابعة مرتبة خامسة ، وهى الأحوال المنزلة من السماء إلى الأرض ، وهى نزول المطر من صلب السماء ووقوعه فى رحم الأرض ثم بعد ذلك يحدث فى الأرض الواحدة انواع من النباتات
بحيث يخالف كل واحد منها صاحبه فى الشكل والطعم والخاصيه فمنه ما يكون قوتا ، ومنه ما يكون فاكهة ومنه ما يكون دواء ،
ومنه مايكون إداما ، ومنه ما يكون سما ، ومنه ما يكون علفا ، للسائر الحيوانات.
فذكر فى تفصيل المطعومات قوله : (أنا صببنا الماء صبا (25) ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا (29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة وأبا (31) متاعا لكم ولأنعامكم ).
وقال : (إن الله فالق الحب والنوى).
Bogga 26
بل إذا نظرت إلى ورقة واحده من أوراق الورد وجدت أن أحد وجهيها غايه فى الحمرة ، والوجه الآخر فى غاية الصفرة ، مع أنها تكون فى غاية الرقة ، وقلة الثخانة ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبه
تأثير الكواكب وحركات الأفلاك والطبائع إلى كل واحد من وجهى تلك الورقة الرقيقة جدا من الوردة نسبة واحده.
فاختصاص أحد وجهى تلك الوردة بالحمرة ، والاخر بالصفرة لابد وأن يكون لأجل القادر المختار الذى يفعله بالعلم والقدرة ، لا بالعليه والطبيعة.
وإذا عرفت ذلك ظهر لك أن لله تعالى فى ترتيب هذه الدلائل الخمسة وتقديم بعضها على بعض حكمه بالغة ، وأسرار مرعية ، فسبحان من لا نهاية لعلمه ولا غاية لحكمتة.
ثم أن الله تعالى لما بين دلائل إثبات الصانع ووحدانيته أردف هذه المسألة بمسألة إقامة الدلاله على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم : (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنافأتوا بسورة من مثله).
وذلك لأن المتحدى به وقع بكل القرآن فى قوله : (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا).
فلما عجزوا عن معارضة كل القرآن أتبعه بالتحدى بعشر سورمن القرآن
فقال : (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات). فلما عجزوا عنه أتبعه بالتحدى بسورة واحدة فقال : (فأتوا بسورة من مثله).
Bogga 27
فلما عجزوا أتبعه بالتحدى بآية فقال : ( فليأتوا بحديث مثله).
فلما عجزوا عنه مع توافر الدواعى ظهر كونه معجزا باهرا ، وبرهانا قاهرا
ثم إنه اتبع هذه المسألة بمسألة المعاد ، وهى قوله : (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ).
كأنه قيل : إنما قدمنا مدح المؤمنين وذم الكافرين والمنافقين ، ولو لم يكن معاد يجد المحسن ثمرة إحسانه ، ويجد المسئ عاقبة إساءته ، لم يكن ذلك لائقا بحكمته ، وهذا هو المراد من قوله : (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى). وقال فى طه : ( وأقم الصلاة لذكري (14) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى).
وقال فى ص : (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار).
فظهر بما ذكرنا : أنه تعالى لم يذكر فى أول كتابه إلا دلائل التوحيد
والنبوة والمعاد ، فثبت أنه لا بد من تقديم الأصول على الفروع ، فلهذا السبب قدم الأمر بالتوحيد على الأمر بالاستغفار ، فقال : (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك).
الوجه الثالث فى تقرير هذا الأصل :
Bogga 28
أنه تعالى قال فى أولسورة النحل : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) فقوله (لا إله ألا أنا) إشارة إلى علم الأصول.
وقوله : ( فاتقون) إشارة إلى علم الفروع
الوجه الرابع :
أن موسى عليه السلام لما ادعى الرسالة عند فرعون قال له فرعون : (وما رب العالمين ).
يعنى أن رسالتك متفرعة على إثبات
أن للعالم إلها ، فما الدليل عليه ، ثم إن موسى عليه السلام لم ينكر [عليه]
هذا السؤال ، بل انشغل بذكر الدلائل على وجود الصانع ، فقال :
( قال ربكم ورب آبائكم الأولين ).
فاستدل على وجود الصانع أولا بأحوال نفسه ، وثانيا بأحوال آبائه ، وهو نظير قوله فى سورة البقرة : (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ).
فظهر بما ذكرنا من الوجوه القائدة فى أنه تعالى ذكر أولا قوله : (فاعلم أنه لا إله إلا الله ).
وذكر ثانيا قوله : (واستغفر لذنبك).
والله اعلم بحقائق كتابه.
فهذا ما يتعلق بالدلائل القرآنية الداله على [وجوب] تقديم علم الأصول على علم الفروع.
ويؤكد هذا المعنى بعشرة حجج اخرى :
الحجة الاولى : وهى أن شرف العلم بشرف المعلوم ، فمهما كان المعلوم أشرف كان العلم الحاصل به أشرف ، ولما كان أشرف المعلومات ذات البارى تعالى وصفاته ، وجب أن يكون معرفته وتوحيده أشرف العلوم.
Bogga 29
الحجة الثانية : أن العلم إما أن يكون دينيا. أو يكون غير ديني ولا شك أن العلم الدينى أشرف من غير الدينى.
وأما العلم الدينى فإما أن يكون من علم الأصول أو ما عاداه.
أما ماعادا علم الأصول فإن صحته متوقفه على صحة علم الأصول ، لأن المفسر إنما يبحث عن معانى كلام الله تعالى ، وذلك فرع على معرفة الصانع المختار المتكلم.
وأما المحدث فإنما يبحث عن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك فرع عن إثبات نبوته.
والفقيه يبحث عن أحكام الله تعالى ، وذلك فرع على ثبوت التوحيدوالنبوة.
فثببت أن هذه العلوم مفسرة إلى علم الأصول.
وظاهر أن علم الأصول غنى عنها بأسرها ،فوجب أن يكون علم الأصول أشرف.
الحجة الثالثة : أن شرف الشئ قد يظهر بواسطة حاسة ضده ، فكلما كان ضده شئ أخس كان هو أشرف ، ولاشك أن ضد علم الأصول هو الكفر والبدعة ، وهما من أخس الأشياء ، فوجب أن يكون علم الأصول من أشرف العلوم.
الحجة الرابعة : أن شرف العلم تارة يكون لشرف موضوعه وتارة لشدة الحاجة اليه ، وتارة لقوة براهينه ودلائله ، وذلك : أن علم الهيئة أشرف من علم الطب ، مع أن الحاجة إلى الطب أشد ، وعلم الحساب أشرف منهما ، من حيث أن موضوع علم الهيئة أشرف من موضوع علم الطب ، إن كان علم الطب أشرف من حيث أن براهين هذا العلم أقوى وعلم الأصول مجتمع لهذه الخصال.
Bogga 30
وأما شرف هذا الموضوع فذلك لأن المبحوث عنه ذات الله تعالى وصفاته ، وقدرته وعظمته ، ولا شك فى أنه أشرف ، وأما شدة الحاجة اليه فظاهر
(وذلك) لأن إلية الحاجة فى إما فى الدين وإما فى الدنيا.
أما فى الدين فلأن من عرف هذه المطالب يستحق الثواب العظيم ، ويتخلص من العقاب الأليم ، ويصير من زمرة الملائكة المقربين ، فى جوارب العالمين.
ومن جهلها صار محروما من الثواب العظيم ، مستوجبا للعقاب الأليم ، وصارمن زمرة الأبالسة والشياطين ، وبقى فى دركات الضلالة أبد الآبدين ، ودهر الداهرين.
وأما فى الدنيا فلأن معظم مصالح العالم إنما تنتظم بسبب الرغبة فى الثواب ، والرهبة من العقاب ، والإ لوقع الهرج والمرج فى العالم.
أماقوة براهين هذا العلم فلأن براهينه مركبة من المقدمات البديهية الضرورية ، وهى أقوى العلوم والمعارف.. فثبت أن علم الأصول مستجمع خصال الشرف ، فوجب أن يكون أشرف العلوم.
الحجه الخامسة :
أن هذاالعلم لا يتطرق إليه النسخ والتغير ، ولا يختلف بأختلاف النواحى والأمم ، بخلاف سائر العلوم ، فوجب أن يكون أشرف العلوم.
الحجة السادسة :
أن الإنسان لا يكون من أهل النجاة والدرجات إلا مع هذا العلم ، وقد يكون من أهل النجاة وإن لم يعلم شيئا من الفقه اصلا البتة.
Bogga 31
أما أنه لا بد فى النجاة من علم الأصول فلأن الجاهل بالله البتة لايكون من أهل النجاة باالإجماع.
وأما أنه قد تحصل النجاة بدون الفقه ، فلأن الإنسان قبل البلوغ لا يكون مكلفا بشئ من الأعمال ، فإذا بلغ وقت الضحوة الكبرى ففى هذه الساعة لم يجب عليه شئ من الصلوات والزكوات والصيامات وسائر العبادات.
فلو مات فى هذه الساعة مع المعرفة والتوحيد لقى الله مؤمناحقا.
ولو قدرنا أن هذا الذى بلغ كان أمرأة ، ثم لما بلغت حاضت ، وبقيت مدة أخرى فى البلوغ ، وهى غير مكلفة لا بالصلاة ولا بالقراءة ، فإذا انقضى زمان حيضها وماتت فهى قد لقيت حضرة الله مؤمنة حقا.
فلعلمنا أن النجاة ، واستيجاب الدرجات ، لا يتوقف على الفقه ، وهو موقوف على علم الأصول.
الحجةالسابعة :
أن الآيات المشتملة على دلائل علم الأصول أشرف من الآيات المشتملة على دلائل علم الفروع ، بدليل أنه قد جاء فى فضيلة (قل هو الله أحد) و(آمن الرسول) وآية الكرسى ، و(شهد الله ) مالم يجئ فى فضيلة قوله تعالى : (وسألونك عن المحيض) و(أحل الله البيع ) و(ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ) الآية.
ولذلك فإن الزهاد والعباد يواظبون فى شرائف الأوقات على قراءة هذه الآيات المشتملة على الإلهيات ، دون الآيات المشتملة على الأحكام.
الحجة الثامنة :
أن الآيات الواردة فى الأحكام الشرعية اقل من ست مائة آيه ، وأما اللواتى فى بيان التوحيد والرد على عدة الأوثان وأصناف المشركين وفى إثبات النبوات والمعاد ، ومسألة القضاء والقدر فكثيرة .
Bogga 32
وأما الآيات الواردة فى القصص فالمقصود منها إماالتوحيد ، وإماالنبوة أما التوحيد فهو.
الإستدلال على قدرة الله وعظمته وحكمته ، كما قال : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى).
وأما على النبوة فمن وجهين :
الأول : بألفظ مختلفة كما قال فى سورة الشعراء بعد ذكر القصص (وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين(193) على قلبك لتكون من المنذرين).
ووجهة الاستدلال : أنه عليه السلام لما لم يتعلم علما ، ولم يقرأ كتابا ، ولم يتتلمذ لأستاذ ، استحال منه رواية القصص إلا عن وحى الله وتنزيه.
والثانى : أنه يذكر القصة الواحدة مرارا مختلفة بألفاظ مختلفة ، وكل ذلك متشابهة فى الفصاحة ، مع أن الفصيح إذا ذكر القصة الواحد ة مره واحدة بالألفاظ الفصيحة ، عجز عن ذكرها بعينها مرة أخرى بالألفاظ الفصيحة ، فيستدل بفصاحة الكل على كونها من عند الله لا من عند البشر فدل [ذلك] على أن معظم القرآن فى علم الأصول ، فلنشر إلى معانى الدلائل :
أما دلائل التوحيد فتارة بخلق الإنسان من النطفة ، والله تعالى ذكر هذا الدليل أكثر من ثمانين مرة فى القرآن.
وتارة بدلائل الآفات ، وهى أحوال الأرض والسماء والهواء والنبات ، وهى أظهر من أن تحتاج إلى الشرح.
وأماالدلائل الداله على الصفات فنقول : أما الذى يدل على العلم فقوله تعالى (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ).
Bogga 33
ثم أردفه بقوله : ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء).
وهذا هو دليل المتكلمين ، فإنهم يستدلون بأحكام الأفعال وإتقانها على علم الفاعل ، وهاهنا استدل سبحانه بتصوير الصور فى ظلمات الأرحام على كونه الفاعل عالما.
وقال أيضا : (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
وهو غنى عن تلك الدلائل. وقال : (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو). وهذا التنبيه للدلائل على كونه تعالى عالما بكل المعلومات ، لأنه تعالى يخبر عن الغيبات فتقع تلك الأشياء على وفق ذلك الخبر : وذلك يدل على كونه عالما بكل المغيبات :
وأما صفة القدرة فكل ما ذكرالله تعالى فى القرآن من الثمرات المختلفة ، والحيونات المختلفة ، مع استواء تأثر الطبائع والافلاك ، فإنه يدل على صفة القدرة : وسيجئ الاستقصاء فى هذه الدلائل القرآنية.
الحجة التاسعة :
أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء عليهم السلام أنهم كانوا طوال عمرهم مشتغلين بهذه الدلائل ، ولنذكر ما ينبه على المقصود :
أما الملآئكة عليهم السلام فإنهم لما قالوا : (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). فكأن المراد من خلق هؤلاء [ليكونوا] سبب الشر والفتنة ، وذلك قبيح ، والحكيم لا يفعل القبيح. فأجابهم الله تعالى بقوله : (إني أعلم ما لا تعلمون).
والمعنى والله أعلم : إنى لما كنت عالما بكل المعلومات ، كنت قد علمت فى خلقهم وإيجادهم حكمة لاتعلمونها أنتم.
Bogga 34
فلما سمعوا ذلك سكتوا وأما مناظرة الله مع إبليس فالقرآن ناطق بها.
وأما الأنبياء عليهم السلام فأولهم آدم عليه السلام ، وقد أظهرالله تعالى الحجة على فضله بأن أظهر علمه على الملآئكة ، وذلك محض الاستدلال.
وأما نوح عليه السلام فقد حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا : (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ). ومعلوم أن مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الكفار لا تكون فى تفاصيل الأحكام الشرعيه ، فلم يبقى الا أنها فى التوحيد والنبوه.
وأيضا فإنه عليه السلام لما أمرهم بالاستغفار فى قوله : ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا).
ففى الحال ذكر ما يدل على التوحيد فقال : (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ).
وأما إبراهيم عليه السالم فالاستقصاء فى شرح الحواله يطول فى هذا الباب ، وله مقامات :
أولها : مع نفسه ، وهو قوله : (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي). الى آخر الآية فهذه طريقه المتكلمين.
فإنه استدل بأفولها على حدوثها ، ثم استدل بحدوثها على وجود محدثها : كما أخبر الله تعالى بقوله : ( يا قوم إني بريء مما تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا).
ثم إن الله تعالى عظم شأنه بسبب ذلك فقال : (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ).
Bogga 35
وأيضا ذكر فى وقت دعائه ما هو محض الاستدلال : وهو قوله تعالى : (الذي خلقني فهو يهدين(78) والذي هو يطعمني ويسقين). إلى آخر الآيات.
وثانيها : مناظرة إبراهيم مع أبيه ، وهو قوله : (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ). إلى آخر الآيات.
وثالثها : حاله مع قومه تارة ، بالقول : وأخرى بالفعل.
أما القول فقوله : (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون). وأما بالفعل فقوله تعالى : (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ).
وربعها : حاله مع ملك زمانه ، حيث قال : ( ربي الذي يحيي ويميت ). إلى آخر الآية. فهذا كل مباحثه ابراهيم عيه السلام فى معرفة المبداء.
وأما بحثه فى معرفة المعاد فهو قوله : (رب أرني كيف تحيي الموتى ). إلى آخر الآيات.
Bogga 36
واعلم أن موسى عليه السلام كان يقول فى الاستدلال على [ طريقة] دلائل ابراهيم. وذلك أنه حكى فى سورة طه قال له ولهارون (قال فمن ربكما يا موسى ). فرد بقوله : ( قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى). وهذا هو الدليل الذى ذكره إبراهيم عليه السلام حيث قال : (الذي خلقني فهو يهدين). ثم حكى الله تعالى عن موسى فى سورة الشعراء أنه قال لفرعون : (ربكم ورب آبائكم الأولين ).
وهذا هو الذى عول عليه ابراهيم عليه السلام فى قوله : (ربي الذي يحيي ويميت ). فلما لم يكتف فرعون بذلك ، وطالبه بدليل آخر ، قال موسى : ( رب الشرق والمغرب). وهذا هو الذى عول عليه ابراهيم عليه السلام فى قوله : (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ).
وهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل حرفة هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ، ثم إن موسى عليه السلام لما فرغ من تقرير دلائل التوحيد قال : (أولو جئتك بشيء مبين). وهذا يدل على أنه عليه السلام إنما فرع بيان النبوة على بيان التوحيد والمعرفة.
وأما سليمان عليه السلام فله مقامان : أحدهما فى بيان إثبات التوحيد ، الآخر فى إثبات النبوة .
Bogga 37
أما المقام الأول فى إثبات التوحيد فهو قوله تعالى : ( ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون). وهذه الآيات دالة على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم.
أما القدرة فقوله : (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ). وسمى الخبء بالمصدر ، وهو يتناول جميع انواع الأرزاق ، وإخراجه من السماء بالغيث ، ومن الأرض بالنبات ، وتقريره ما قدمناه وأما للعلم فيدل على ثبوته قوله : (ويعلم ما تخفون وما تعلنون ).
واعلم أن المقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس ، وتخليص الدلالة على قانون الجدل على وجهين :
الأول : الإله. ويجب أن يكون قادرا على إخراخ الخبء ، ويكون عالما بالخفيات ، والشمس ليست كذلك ، فهى لا تكون الها. أما أنه سبحانه يجب أن يكون قادرا عالما على الوجه المذكورو ، فكما أنه واجب الوجود لزاته ، فلا تختص قدرتة وعلمه ببعض المقدورات وبعض المعلومات دون البعض.
وأما أن الشمس ليست كذلك فلأنها جسم متناه ، وكل ما كان متناهيا فى الذات كان منتناهيا فى الصفات. وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن تكون الشمس قادرة على إخراج الخبء وعلمه بالخفيات. وإذا لم يعلم من حالها كونها قادرة على جلب المنافع ودفع المضار فهى ليست الها.
فرجع حاصل هذا الدليل الى ما ذكره إبراهيم عليه السلام فى قوله : ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا).
Bogga 38
الوجه الثانى : أنهذا إشارة إلى دليل إبراهيم فى قوله : (ربي الذي يحيي ويميت ). إلى آخر الآيات. وبيانه أنه سبحانه وتعالى هو الذى يخرج الشمس من المشرق إلى المغرب بعد أفولها ، فهذا هو المراد بإخراج الخبء فى السماوات والأرض ، وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام :
(لا أحب الآفلين ). ومن قوله : ( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ). ومن قول موسى : (رب المشرق والمغرب ).
وحاصل الكلام راجع إلى أن أفول الشمس وطلوعها يدلان على كونها تحت تدبير مدبر قاهر ، فكانت العبادة لقاهرها ومدبرها ، والمتصرف فيها أحق.
وأما إخراج الخبء من الأرض فالمراد منه : إخراج النطفة من بين الصلب والترائب ، وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام : (ربى الذى يحيى ويميت ). ومن قول موسى عليه السلام : (ربكم ورب أبائكم الأولين ).
فإن قيل : إن إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلائل النفس على دلائل الأفلاك. فإن إبراهيم عليه السلام قال : (ربي الذي يحيي ويميت ).
ثم قال : (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق).وموسى عليه السلام قال : ( ربكم ورب أبائكم الأولين ). ثم قال : (رب المشرق والمغرب ). ثم عكس سليمان هذا الترتيب ، فقدم دلائل السماوات على دلائل النفس فقال : ( الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ).
فاعلم أن موسى وإبراهيم عليهما السلام كانت مناظرتهما مع من يدعى إلهيه البشر. فإن نمروذ وفرعون كل واحد منهما كان يدعى الإلهية ، فلا جرم ابتدأ إبراهيم وموسى بإبطال الإلهية للبشر ، ثم انتنقلا إلى ابطال الإلهية للأ فلاك .
Bogga 39