غير أن روح قايين التي نبذتها السماء ولفظتها جهنم حلت في جسد خنزير غريب لم يكن للبنان عهد بمثله، وبينا آدونيس يؤدي يوما رسالة الحضارة ويوحد بأنغامه القلوب على الحب وعلى الخير، فاجأه الخنزير وانقض عليه وصرعه.
ولم يفد لبنان بعد ذلك أن نبع «أفقا» كان يتحول كل سنة دما صبيا حزنا على آدونيس، وأن عشتروت ماتت جزعا عليه، وأن الصبايا صرن يصعدن باكيات نائحات إلى «أفقا» يمرغن الجباه في تراب الأرض المقدسة، فقد تهدمت الهياكل وسقطت المدن وتسلط الفاتحون على البلاد وعم الدمار، ولم يسلم من ذلك العهد الميمون غير ذكره وغير اللوعة عليه يتوارثها الخلف عن السلف ويتحدث بمعجزاته العلماء.
أما النغم فقد حل بعد ذلك في طائر يعشش في صدر الشمس حينا وفي فم الميزاب أحيانا، فإذا رفرف فيما هو يهيم في فضائه فوق وادي النيل، تدفق النهر وأخصبت الأرض وارتفعت الأهرام وأمرعت الحضارة.
غير أنه لسبب لا يزال مجهولا تخلى النغم عن الطائر وتلبث بالجبل، فغدا الناس يحسون نحوه بعواطف تختلف بين الحب والإجلال، فيجعلون مرة من وجه الحجر إلها، ومن حرمون إلها، ثم يغمرهم هذا الانسجام الشائع في أنحاء لبنان، فإذا هو «من مرمى الثلج إلى فقش الموج» إله في نظر القوم، يحفظهم ويغدق لهم ويروي ما في نفوسهم من شوق إلى الجمال.
وتشهد «أفقا» كل يوم أن النغم لا يزال متحفزا ليحل من جديد في قلب فتى من لبنان يتوفر له ما توفر لآدونيس من فطرة طيبة وشغف بالجمال، وحينئذ يغمر الحب بفيضه الدنيا ويغلب الحديد ويغلب النار، ويعود إلى الجبل سالف عهده من العز.
طليق وسجين
هذا عتيق التقط صغيرا في عشه، ونشأ في هذا القفص الخشبي وتلقن الغناء من أشهر عتيق في الجوار، وكانت الأيام والليالي تنقضي وهو ناعم البال ينظر من خلال قضبان قفصه فيقع بصره على بستان صاحبه، ثم إذا سرح البصر بعيدا لا يرى من الدنيا غير هذا الجبل القائم هناك في الناحية الثانية على ضفة الوادي.
ولشد ما كان يعجب عندما يسمع من بعيد تجاوب غناء الحساسين في الحقل، أو عندما يرى حسونا بريا يقع من السماء على الشبوق المنتصب في طرف البستان.
أين تعيش هذه الحساسين، ومن أين تأتي بالقنب، ومن ترى يقدم لها قدح الماء؟
وذات صباح بكر صاحب العتيق فعلق القفص ومضى لشأنه.
Bog aan la aqoon