طلب الإمام الشافعي للعلم ونبوغه فيه
ابتداء طلبه للعلم ونبوغه فيه: روى أبو نعيم بسنده عن أبي بكر بن إدريس وراق الحميدي -أي: الذي كان يحمل أوراقه التي يكتب فيها الحديث- عن الشافعي قال: كنت يتيمًا في حجر أمي ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، فكنت أنظر إلى العظم يلوح فأكتب فيه الحديث والمسألة، وكانت لنا جرة قديمة فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة.
وروى البيهقي بسنده عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام الناس والأدب، ثم أخذ في الفقه بعد.
قال: وكان سبب أخذه في الفقه أنه كان يومًا يسير على دابة له، خلفه كاتب أبي، فتمثل الشافعي ببيت من الشعر فقرعه كاتب أبي بسوط ثم قال له: مثلك تذهب مروءته في مثل هذا، أين أنت عن الفقه؟ قال: فهزه ذلك فقصد مجالسة مسلم بن خالد الزنجي وكان مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس.
وروى البيهقي كذلك عن أبي بكر الحميدي قال: قال الشافعي: خرجت أطلب النحو والأدب فلقيني مسلم بن خالد فقال: يا فتى من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة؟ قال: وأين منزلك بها؟ قلت: بشعب الخيف، قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من ولد عبد مناف قال: بخ بخ! لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك هذا في الفقه كان أحسن بك؟! قال الذهبي: وعن الشافعي قال: أتيت مالكًا وأنا ابن ثلاث عشرة سنة -كذا قال، والظاهر أنه كان ابن ثلاث وعشرين سنة- فأتيت ابن عم لي والي المدينة فكلم مالكًا فقال: اطلب من يقرأ لك.
قلت: أنا أقرأ، فقرأت عليه، فكان ربما قال لي لشيء قد مر: أعده فأعيده حفظًا، فكأنه أعجبه، ثم سألته عن مسألة فأجابني، ثم أخرى فقال: أنت تحب أن تكون قاضيًا، وفي بعض النسخ: يجب أن تكون قاضيًا.
وقال النووي ﵀: أخذ الشافعي ﵀ في الفقه، وحصل منه على مسلم بن خالد الزنجي وغيره من أئمة مكة ما حصل، ورحل إلى المدينة قاصدًا الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس، وأكرمه مالك ﵀ وعامله لنسبه وعلمه وفهمه وعقله وأدبه بما هو اللائق بها، وقرأ الموطأ على مالك حفظًا فأعجبته قراءته، فكان مالك يستزيده من القراءة لإعجابه بقراءته، ولازم مالكًا فقال له: اتق الله! فإنه سيكون لك شأن.
وفي رواية أنه قال له: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية.
ثم ولى اليمن -صار واليًا أو حاكمًا عليها- واشتهر من حسن سيرته وحمله الناس على السنة والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة، ثم رحل إلى العراق للاشتغال بالعلم، وناظر محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة - وغيره، ونشر علم الحديث، وأقام مذهب أهله، ونصر السنة، وشاع ذكره وفضله، وتزايد تزايدًا ملأ البقاع، وأذعن بفضله الموافقون والمخالفون، واعترف به العلماء أجمعون، وعظمت عند الخلائق وولاة الأمور مرتبته، وظهر من فضله في مناظرات أهل العراق وغيرهم ما لم يظهر لسواه.
عكف على الاستفادة منه الصغار والكبار والأئمة الأخيار من أهل الحديث والفقه وغيرهم، ورجع كثير منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه، وتمسكوا بطريقته، وصنف في العراق كتابه القديم المسمى (كتاب الحجة)، ثم خرج إلى مصر سنة (١٩٩هـ)، وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر، وسار ذكره في البلدان، وقصده الناس في الشام واليمن والعراق.
لذلك فإن أكثر أهل مصر شافعية.
2 / 3