Methods of Inviting Sinners
أساليب دعوة العصاة
Daabacaha
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
Lambarka Daabacaadda
السنة السادسة والثلاثون
Sanadka Daabacaadda
العدد (١٢٣) ١٤٢٤هـ
Noocyada
المقدمة
الحمد لله العلي الكبير، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن مناهج الدعوة إلى الله تعالى موضوع واسع الأرجاء متعدد الجوانب، وهو موضوع إيماني تربوي عصري لا يستغني عن معرفته المسلم لا سيما الداعي إلى الله ﷿ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فالداعي كي يكون صائبا رشيدا لا بد له من بصيرة تنير له الطريق وتوقفه على مناهج الدعوة ومعالم الرشد كما قال تعالى:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:١٠٨] أي على يقين وحق١.
وأساليب دعوة العصاة محور أساس من محاور مناهج الدعوة، ولقد قيض الله تعالى من عباده العلماء العاملين والدعاة الناصحين على اختلاف الأمصار وتعاقب الأجيال من دعوا إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة وردوا الشاردين من العصاة والغواة إلى حياض الإيمان، سيدهم وإمامهم رسول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون وأصحابه المكْرمون ومن جاء بعدهم من التابعين، وكذلك الأئمة المهديين على تعاقب الأجيال ومنهم ابن تيمية ﵀ ومدرسته السلفية في القرن السابع الهجري بعد أن مست الحاجة في عصره إلى إقامة السنة وقمع البدعة ورد العدوان عن بلاد المسلمين من قبل التتار وغيرهم وما صاحب ذلك الغزو العسكري من غزو فكري واكبه وسبقه وتلاه، ثم ما تلى عصره من عصور أخرى منها عصر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵀ وكانت عامة المعاصي في عصره تنصب في الاعتقادات الشركية وما يتعلق بها كانتشار
_________
١ تفسير القرطبي ٩/٢٧٤.
1 / 139
الخرافات والبدع.
وهذا البحث هو قبسات من منهج السلف في دعوة العصاة من المسلمين، والعصاة في الواقع شريحة كبيرة من سواد المسلمين في جل الأعصار والأمصار، وكما هو معروف فالخطأ والمعصية طبيعة بشرية جبل عليها بنو آدم إلا من رحم الله قال تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَليْهِ وَهَدَى﴾ [طه:١٢٢] فالإنسان يعصي لجهله، والله ﷿ يوفق برحمته من يشاء للتوبة، وكما قال في موضع آخر: ﴿يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلوْلا فَضْلُ اللهِ عَليْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور:٢١]
وكما ورد في حديث أنس ﵁ أن النبي ﷺ قال: “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” ١.
فوقوع المعصية ثم إحداث التوبة أمران ينبغي أن يتلازما، فإذا تخلفت التوبة عن المعصية آذن بالخطر الكبير والشرر المستطير، لأن المعصية إن خفيت لم تضر إلا المتلبس بها أما إذا أعلنت ولم تنكر ولم تغير كانت بلاءً وبيلا.
ولقد تركز الحديث في هذا البحث الوجيز على محورين رئيسين وهما:
- تعريف العصاة وبيان أسباب المعصية وأنواعها ودركاتها.
- أساليب دعوة العصاة وآثارها.
أهمية الموضوع والحاجة إليه:
تنبع أهمية البحث في أساليب دعوة العصاة من أن الاستقامة مطلب
_________
١ت: صفة القيامة (٢٤٩٩)، وقال هذا حديث غريب، ماجة: الزهد (٤٢٥١)، أحمد: المكثرين (١٢٥٧٦)، دارمي: الرقاق (٢٦١١) .
1 / 140
شرعي بدونه لا تتحقق السعادة في الدنيا ولا النعيم المقيم في الآخرة، والتورط في المعاصي داء يستشري فيردي إذا لم تحسم مادته من أول الطريق وبالأسلوب الحكيم!
إن الاستقامة على أمر الله، غاية تهدف إليها الدعوة قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود:١١٢] والاستقامة مدعاة للاستقرار النفسي والاستقرار الاجتماعي، قال تعالى: ﴿إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَليْهِمْ المَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ التِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت:٣٠] ﴿إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف:١٣] .
كما أن المعاصي انحراف عن النهج السوي والانحراف مدعاة للاضطراب السلوكي والاضطراب النفسي والاجتماعي، ويظل العاصي في دوامة الشقاء إن لم تتداركه رحمة الله قال تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَليْهِ وَهَدَى﴾ [طه:١٢١-١٢٢] ومن ثم فإن الابتعاد عن المعاصي وعن أسبابها من بداية الطريق بالحزم مطلب شرعي وهذا كثيرا ما نراه في آيات التنزيل الحكيم مثل قوله تعالى:
﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا﴾ [الاسراء:٣٢] ولم يقل ولا تزنوا فهو نهي عن مجرد القرب منه بتجنب أسبابه ودواعيه كالنظر والسمع ... الخ وهذا - أيضا - مطلب اجتماعي هام به يتحقق الاستقرار في المجتمع، ولقد كان من بنود البيعة يوم العقبة كما رواها عبادة بن الصامت ﵁ أن لا يرتكب المسلمون متعمدين المعاصي في معروف، إذ قال ﵊ يومئذ وحوله عصابة من أصحابه: “ بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين
1 / 141
أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف “١.
والمعروف كما قال ابن حجر: ما عُرف من الشارع حُسنه نهيا وأمرا٢.
فطاعة الله في كل ما أمر به وتجنب معصيته في كل ما نهى عنه هو التقوى وهو أمر أساس لا ينهض المجتمع الأمثل إلا عليه، وبقدر تحقيق هذه الغاية السنية يكون المجتمع موفقا مسددا.
لمحة في منهج البحث:
وموضوع البحث في طريقة عرضه وأسلوب جمعه غلبت فيه الجانب الإصلاحي الذي هو هدف الدعوة ومقصودها، ثم إن البحث من حيث المحور الموضوعي ليس ببعيد عما كتبه كثير من أهل العلم في موضوعات (الحسبة) مثلما نجده في كتاب الحسبة لابن تيمية، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أيضا، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتب السياسة الشرعية، فإن المادة العلمية التي نجدها في هذه الكتب تحت تصنيف (مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو مراتب تغيير المنكر) ضافية تروي ظمأ الباحثين، وتحل استشكالاتهم وتنير الطريق أمام المحتسبين والدعاة والمربين.
ولقد تتبعت في بحثي هذا الدليل وعدت عليه بعد التأمل والدراسة بالاستنباط على ضوء ما قاله علماء السلف رحمهم الله تعالى. وعلى العموم فلقد أكثرت من إيراد النصوص الشرعية (الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة) تأصيلا للبحث العلمي، وتوفيرا للزاد القريب الذي يرجع إليه الدعاة والمحتسبون وهم يدعون العصاة إلى الله.
وعلاوة على قواعد مناهج البحث المعروفة من التوثيق والتحليل، عنيت
_________
١متفق عليه: خ: الإيمان (١٨) واللفظ له، م: الحدود (١٧٠٩)
٢الفتح ١/ ٦٥.
1 / 142
بالتبويب والعنونة عناية فائقة إذ تبرز هذه الطريقة مكامن الموضوع وتحدد أطره العامة وتجعل المادة العلمية ميسورة سهلة، وفي لغة البحث توخيت كذلك سهولة اللفظ مع إجادة السبك حتى تتسنى الاستفادة من هذا البحث لكل قارئ يريد معالجة مشكلة المعصية في النفس البشرية.
وفي التوثيق رمزت في الحواشي في عزو الأحاديث إلى الصحاح الستة ومعها مسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وسنن الدارمي بالرموز الآتية: (خ) صحيح البخاري طبعة فتح الباري المطبعة السلفية، (م) صحيح مسلم ترقيم محمد عبد الباقي، (د) سنن أبي داود الموسوعة الإلكترونية صخر، (ت) سنن الترمذي ترقيم أحمد شاكر، (س) سنن النسائي، (ما) سنن ابن ماجة ترقيم محمد عبد الباقي، (ط) موطأ الإمام مالك ترقيم الموسوعة الإلكترونية صخر، (أحمد) مسند الإمام أحمد ترقيم الموسوعة الإلكترونية صخر، (دارمي) مسند الإمام الدارمي. وأما غيرها من كتب السنة فإني أذكرها باسمها دون رمز لأن ذكرها قليل في هذا البحث وعامة الأحاديث المستشهد بها تدور على الكتب التسعة الآنفة.
وذكرت إثر كل رمز اسم الكتاب من المرجع الحديثي ورقم الحديث وذلك للاختصار وتحرير الحواشي من ثقل الإطالة والتكرار، وعلى سبيل المثال: [(خ) الصلاة (٣٥٠)] معناه: رواه البخاري في كتاب الصلاة حديث رقم (٣٥٠) وهكذا في بقية الكتب الحديثية الأخرى.. والتزمت بطبعة واحدة في كل المراجع التي أحلت إليها.
التعريف بمفردات البحث:
(أساليب دعوة العصاة) عنوانٌ له دلالاته وخصائصه، وهو في مجموعه يمثل وحدة قيّمة في مناهج الدعوة، إذ تتوجه تلك المناهج إلى المخاطبين على تنوع أجناسهم وتفاوت ثقافاتهم وتعدد مشاربهم، وتتوخى في عمومها الإصلاح والتوجيه نحو الخير والرشد. وأساليب دعوة العصاة أو منهج دعوة العصاة
1 / 143
اصطلاحان متقاربان يتجلى مضمونهما في هذا البحث الموجز، ولنقف باقتضاب على أهم المدلولات التي تتضمنها مفردات البحث:
فـ (الأساليب) جمع أسلوب، وهو كما قال اللغويون: الطريق والوجه والمذهب، قال ابن منظور: “ يقال للسَّطْر من النخيل أُسْلوبٌ وكل طريقٍ ممتدّ فهو أُسلوبٌ قال: والأُسْلوبُ الطريق والوجهُ والمَذْهَبُ يقال أَنتم في أُسْلُوب سُوءٍ ويُجمَعُ أَسالِيبَ، الأُسْلُوبُ: الطريقُ تأُخذ فيه الأُسْلوبُ بالضم الفَنُّ، يقال أَخَذَ فلانٌ في أَساليبَ من القول أَي أَفانِينَ منه “١.
وقد ورد التعبير بـ (الأساليب) عند السلف ويقصد به فنون القول كما عند ابن تيمية؛ قال: “ومن أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس”٢.
فهو هنا عبر بالأساليب في معنى الأنماط البيانية الكلامية. فالأشبه في الأساليب أنها تختص بالبيان والكلام، يقال أساليب الدعوة أي الطرائق البيانية التي يوصل بها الداعية دعوته إلى المدعوين، وأما الوسائل فهي الأعم مدلولا تشمل الطرائق البيانية وغيرها، إذ هي القنوات التي من خلالها يوصل الداعية كلمته إلى الآخرين كالمذياع والراي والكتاب والجريدة والشريط ومنبر الخطابة ودار الأيتام والمستشفى الخيري ... الخ وهذا هو الفرق بين أساليب الدعوة ووسائلها.
وقد يتداخل الاصطلاحان في مدلولهما كما سيأتي في غضون هذا البحث، لكن يبقى المعنى الأصلي والأغلب لـ (الأساليب) منصبا نحو الأدوات البيانية الخطابية.
_________
١ لسان العرب ١ / ٤٧٣ مادة سلب.
٢ مجموع الفتاوى ٣١ / ١١٤.
1 / 144
وأما (مناهج الدعوة) فهو أعم وأشمل ينتظم الأساليب والوسائل والخطط والأهداف والغايات يقال مناهج الدعوة ومناهج التربية ومناهج المؤرخين ومناهج المفسرين ... ويقصد بذلك جملة الخطط والطرائق والأساليب التي سلكوها.
(والدعوة) هي النداء والصيحة والطلب والاستمالة والحث والحض في اللغة: قال ابن منظور: “ دَعَا: يَدْعُو دَعْوَةً ودُعاءً وادَّعَى يَدَّعي ادِّعاءً ودَعَوى. وفي نسبه دَعْوة أَي دَعْوَى. والدِّعْوَة بكسر الدال ادِّعاءُ الوَلدِ الدَّعِيّ غير أَبيه. “١.
ومن مرادفات الدعوة أيضا الحلف قال: “الدَّعْوة: الحِلفُ، وفي التهذيب: الدَّعوةُ الحِلف، يقال: دَعوة بني فلان في بني فلان. وتَدَاعَى البناءُ والحائط للخَراب إِذا تَكَسَّر وآذنَ بانْهِدامٍ. وداعيناها عليهم من جَوانِبِها: هَدَمْنَاها عليهم. وتَدَاعَى الكثيب من الرمل إِذا هِيل فانْهال”٢.
وفي الحديث: “كَمَثَلِ الجَسَدِ إِذا اشْتَكَى بعضُه تَدَاعَى سائرُه بالسَّهَرِ والحُمَّى” ٣.
كأَنّ بعضه دعا بعضًا من قولهم تَدَاعَت الحيطان أَي تساقطت أَو كادت، وتَدَاعَى عليه العدوّ من كل جانب: أَقْبَل، من ذلك. وتَدَاعَت القبائلُ على بني فلان إِذا تأَلبوا ودَعا بعضهم بعضًا إِلى التَّناصُر عليهم. وفي الحديث: “تَدَاعَتْ عليكم الأُمَمُ “ أَي اجتمعوا ودعا بعضهم بعضًا. وفي حديث ثَوْبانَ: “ يُوشكُ أَن تَداعَى عليكم الأُمَمُ كما تَدَاعَى الأَكَلةُ على قَصْعَتِها “ ٤.
_________
١ لسان العرب ١٤ / ٢٦١ – ٢٦٢.
٢ المرجع السابق.
٣ متفق عليه: خ: الأدب (٦٠١١)، م: البر والصلة (٢٥٨٦) .
٤ د: الملاحم (٣٧٤٥)، أحمد: الأنصار (٢١٣٦٣) .
1 / 145
فالدعوة على ما تقدم من الألفاظ التي تطلق ويراد منها معان كثيرة ومرادفات متعددة.
والدعوة في الاصطلاح هي: “ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “ وفي تعريف آخر: “قيام من له علم ودراية بدعوة الناس إلى الخير ودلالتهم إلى مسالك الرشد في أمور الدين والدنيا”.
وعند ابن تيمية: “ الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله “١
والدعوة في استصلاح المنحرفين عن جادة الاستقامة هي: “ استمالة العصاة إلى جانب الاستقامة والرشد وإخراجهم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة ومن أوحال الطغيان والغي والظلم إلى رحاب التقوى والرشد والعدل، ليكونوا صالحين في ذوات أنفسهم مصلحين - بعد ذلك - لغيرهم” ويراعى في هذا جانب التقويم والتهذيب والإرشاد نحو الخير والفضيلة.
(والعصاة) هم المتساهلون في جانب التقوى المجافون لجناب الطاعة المتجانفون للإثم. وسيأتي التعريف بهم على وجه التفصيل قريبا إن شاء الله.
المشكلة البحثية:
المعاصي تنوعت وتكاثرت في زماننا هذا على نحو لم يسبق له مثيل، وذلك لتنوع وتكاثر الملهيات والصوارف عن طاعة الله ﷿ من جهة، ولضعف الوازع الديني والأخلاقي من جهة أخرى، ثم لتشابك المصالح بالمفاسد في كثير من الأحيان مما لا تنفك عنه الحياة اليومية من جهة ثالثة.
_________
١ مجموع الفتاوى ١٥/ ١٧٥.
1 / 146
لقد تعرضت كثير من المجتمعات الإسلامية للغزو الفكري المنظم والحرب الثقافية المقننة منذ عقود كثيرة، وكان ذلك الغزو بديلا عن الحرب القتالية التي أريقت فيها دماء واستبسل فيها المسلمون دفاعا عن العرض والأرض وقبل ذلك حماية للعقيدة والدين.
خاض أعداء المسلمين حروبا شعواء لمحو الإسلام والقضاء على المسلمين كان من أبرزها الحروب الصليبية التي امتدت زهاء قرنين (٤٨٨-٦٨٤؟/ ١٠٩٥-١٢٩٢م) وأدرك أعداء الإسلام أن القتال لن يزعزع المسلم عن دينه بل يزيده تمسكا ودفاعا واستبسالا ويؤجج فيه روح الجهاد والفداء.. فغيروا الإستراتيجية وأتوا بالغزو الفكري وكان الهدف الأول منه إقصاء الدين من حياة المسلم ليكون مخلوقا لا تحركه غير الشهوات والملذات فلا يهتم بالجهاد ولا بقضايا المسلمين ولا بمعالي الأمور. ونتجت إثر ذلك جملة من المشكلات التي يعاني منها الكثير من المسلمين حين بعد الكثيرون منهم عن هدي ربهم، ومن ثم تنامت في عقول الأكثرين من المسلمين مشكلات عديدة فيما يتعلق بالمعاصي منها:
- الاستهانة بالمعصية، بل الاستخفاف بالدين وأثره في الحياة والتقليل من أهميته.
- ومنها التسويف في التوبة.
- ومنها الجهل بالمعصية ذاتها.
- ومنها الجهل بعواقب المعاصي وتبعاتها.
- ومنها ذلك الانحراف العقدي الذي ظهر مبكرا في تاريخ المسلمين وهو المبالغة والغلو في مرتكبي المعاصي لا سيما الكبائر، غلوا أخرج به الغلاةُ العصاةَ من مسمى الإيمان وظهرت إثر ذلك نعرة التكفير وهو ما عُرف بنزعة الخوارج، وفي المقابل التهاون بالمعاصي وزعم أنه لا تنفع مع الإيمان طاعة كما لا تضر معه معصية، وهو ما عُرف بنزعة المرجئة وغيرهم. وهو فكر متنامي في كثير من
1 / 147
المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
وهذا البحث ليس مرتبطا كليا بالغزو الفكري الذي تعرض له المسلمون في هذا العصر خاصة وإن كان ذلك الغزو له تأثيره العميق في مختلف مجالات الحياة في المجتمعات الإسلامية، بل البحث جمع وتحليل لمادة الدعوة من حيثياتها المتنوعة: “الموضوع، والأساليب، والوسائل، والمراتب، والمقاصد والغايات” فيما يخص المعصية والعصاة، المشكلة وطرائق العلاج، من أجل أن تزكو نفس المسلم ويجلو قلبه وتبيضّ صفحته ويخرج من حمأة المعصية وظلماتها إلى نور الإيمان والطاعة كان لا بد له من توبة وإنابة إلى الله ولزوم الاستقامة، وفي هذا البحث جمعٌ لأهم الأساليب المحققة لذلك والمعينة عليه والمقربة له.
تساؤلات البحث:
تنبثق من موضوع البحث عدة تساؤلات مهمة، تثري المحاور الأساسية فيه وتوقف القارئ الكريم على المعالم الكبرى لموضوع العصاة وكيف يمكن استصلاحهم، لا سيما وهم يمثلون الفئة الأكبر عددا في جميع المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، على حد قوله تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف:١٠٣] وقوله: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام:١١٦] وهذه الفئة هي الأكثر حاجة إلى التقويم المستمر والتوجيه المتنامي، وتتلخص التساؤلات في الفقرات التالية:
- ما هي المعاصي وما حدودها؟
- لماذا يقدم الإنسان على معصية خالقه وبارئه؟
- وهل للمعاصي آثار في واقع العصاة واستقرار المجتمع؟
- وكيف يمكن إخراج العصاة من ضيق المعصية إلى سعة الطاعة؟
1 / 148
- وكيف يمكن إبقاؤهم على الطاعة، ودرء النكوص إلى المعصية؟
تلكم أبرز التساؤلات التي تجئ الإجابات عنها مستوفاة إن شاء الله تعالى في غضون هذا البحث.
وبعد: فإن يكن في بحثي ما هو مشمول في رياض الخير والصواب فهو من الله جل ذكره، فله سبحانه الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وما جانبت فيه الصواب فإني أستغفر الله منه وأتقدم بالاعتذار وأجنح إلى الحق وأطلبه حيث كان ولا أستنكف عن قبوله إن شاء الله.
وأسأل الله التوفيق والعون والسداد. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
1 / 149
باب: تعريف العصاة وبيان أسباب المعصية وأنواعها ودركاتها
تعريف المعصية والعصاة
...
المحور الأول: تعريف العصاة وبيان أسباب المعصية وأنواعها ودركاتها
تعريف المعصية والعصاة:
المعصية والعصيان كما قال في كتب اللغة: (ضد الطاعة، وقد عَصاه من باب رمى ومَعْصِيَةً أيضا وعِصْيانًا فهو عَاصٍ وعَصِيٌّ وعَاصَاهُ مثل عصاه واسْتَعْصَى عليه) فالمعصية ضد الطاعة وضد التقوى والاستقامة لذا كان الورع: الكف عن المعاصي١
والعصاة هم المفّرطون، والمسيئون، وأهل الذنوب، والفساق، والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، والمرجون لأمر الله، وكل ذلك من الأوصاف التي وردت في القرآن الكريم.
ومعصية الله ورسوله إذا أطلقت دخل فيها الكفر والفسوق كما قال ابن تيمية، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولهُ فَإِنَّ لهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن:٢٣] وقال تعالى: ﴿وَتِلكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُل جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [هود:٥٩] قال: “ فأطلق معصيتهم للرسل بأنهم عصوا هودا معصية تكذيب لجنس الرسل فكانت المعصية لجنس الرسل كمعصية من قال: ﴿قَالُوا بَلى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّل اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ﴾ [الملك [٩] ومعصية من كذّب وتولى قال تعالى: ﴿لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَىالذِي كَذَّبَ وَتَوَلى﴾ [الليل:١٥- ١٦] أي كذب بالخبر وتولى عن طاعة الأمر”٢.
فالمعصية في مفهومها العام تتناول الكفر الأصلي وكذلك الردة إذا تحققت
_________
١ مختار الصحاح ١/١٨٤ مادة (ع ص و) .
٢ مجموع الفتاوى ٧ / ٥٩.
1 / 150
موجباتها، وليس هو موضوع هذا البحث، والمفهوم الخاص هو محور هذا البحث وهو ارتكاب الذنوب الصغائر والكبائر تهاونا من غير استحلال.
ومن أصول العقيدة عند أهل السنة والجماعة - كما هو معلوم - أن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبائر ما لم يستحلها، وعلى هذا الاعتقاد مضى سلف الأمة وهو متضافر في كتب السلف متواتر بين الأجيال، قال الإمام مسلم في كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد ﷺ رسولا فهو مؤمن، ثم أورد فيه جملة من الأحاديث النبوية الشريفة منها حديث العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: “ ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا”١.
فالعصاة مهما فرطوا في جنب الله لا يزالون مسلمين ما لم تصل معصيتهم إلى كبيرة الشرك بالله تعالى أو يرتكبوا كفرا بواحا. ومع ذلك فليس العصاة كالأتقياء قال تعالى ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ وَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا المُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [غافر:٥٨]
وكل من هذه الأنواع وعد الله الجنة والمغفرة إذا تخلص من الشرك كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [فاطر:٣٢ -٣٣]
قال الامام الطبري: “ قوله تعالى ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ لأن يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك عندي أشبه بمعنى الآية من أن يكون المنافق أو الكافر، وذلك أن الله تعالى ذكره اتبع هذه الآية قوله ﴿جَنَّاتُ
_________
١ م: الإيمان (٣٤)، ت: الإيمان (٢٦٢٣)، أحمد: (١٦٨٢)
1 / 151
عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ [فاطر: ٣٣] فعم بدخول الجنة جميع الأصناف الثلاثة) ١.
ومما تقدم يتبين أن: المسلمين ثلاثة أنواع:
السابقون وهم المقربون وهم أعلى الأصناف الثلاثة.
والمقتصدون وهم من لم يجتهدوا في العبادة فكانت أعمالهم قصدا.
والظالمون وهم المسرفون على أنفسهم بإغراقها في الذنوب والآثام.
سمات العصاة:
يُعرف العصاة بسمات يتميزون بها منها ما تلازمهم على الدوام ومنها ما يتلبسون بها تارة ويتخلصون منها تارة بحسب قربهم أو بعدهم من مقام الإيمان والتقوى، ومن أهم تلك السمات:
١- الغفلة عن الله وعن يوم الحساب:
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنْ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الغَافِلِينَ﴾ [الأعراف:٢٠٥] والغفلة هي الداء الذي يردي الكثيرين عن العمل ليوم الحساب، والغفلة مذمومة في كل الأحوال لأنها تعمي القلب عن العمل وتلهيه بسفاسف الأمور والشهوات، وتخدع النفس بالأماني إذ تلهيه بها حتى يدنو الأجل وتتبدى الحقيقة وتنكشف الغمة، فيبدأ الغافل في الندم على ما فرط في جنب الله ولا ينفع ساعتئذ الندم. والغفلة عن الله وعن الموت والحساب سببها ضعف الإيمان كما سيأتي.
قال ابن تيمية ﵀: “ فصل: فالغفلة والشهوة أصل الشر قال تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلنَا قَلبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:٢٨] والهوى وحده لا يستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل وإلا فصاحب الهوى إذا علم قطعا أن ذلك يضره ضررا راجحا انصرفت نفسه عنه بالطبع فإنّ الله تعالى
_________
١ تفسير الطبري ٢٢ / ٩٠.
1 / 152
جعل فى النفس حبا لما ينفعها وبغضا لما يضرها فلا تفعل ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا بل متى فعلته كان لضعف العقل. ولهذا يوصف هذا بأنه عاقل وذو نهى وذو حجى، ولهذا كان البلاء العظيم من الشيطان لامن مجرد النفس فإن الشيطان يزين لها السيئات ويأمرها بها ويذكر لها ما فيها من المحاسن التى هي منافع لامضار كما فعل ابليس بآدم وحواء فقال: ﴿يَا آدَمُ هَل أَدُلكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلدِ وَمُلك لا يَبْلى﴾ [طه:١٢٠] وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين١.
٢- ضعف الإيمان:
والإيمان يتقوى بالعمل الصالح وتزكية النفس ومجاهدتها على التزام الحق كما سبق، والإيمان بالمعاصي يضعف كما أنه بالطاعات يتقوى، وإذا كثرت المعاصي ران على القلب حجاب كثيف حتى لا يكاد يرى الحق، وفي بيان ذلك وتوضيحه حديث أبي هريرة ﷺ مرفوعا إلى النبي ﷺ: “ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن” ٢
وإذا كان ضعف الإيمان سمة من سمات العصاة فإن هذا لا يعني أن أصل الإيمان ينتفي، وهذا هو المذهب الصحيح الذي عليه السلف، ولعل من أبين من فصل الكلام في هذه المسألة ابن تيمية ﵀ قال: “ ومما ينبغى أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة [أي دخول العمل في مسمى الإيمان] هو نزاع لفظي وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء كحماد بن أبى سليمان وهو أول من قال ذلك ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم متفقون مع
_________
١ مجموع الفتاوى ١٤ / ٢٨٩.
٢ متفق عليه: خ: المظالم (٢٤٧٥) واللفظ له، م: الإيمان (٥٧) .
1 / 153
جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وان قالوا أن إيمانهم كامل كإيمان جبريل فهم يقولون أن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب كما تقوله الجماعة ويقولون أيضا بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة والذين ينفون عن الفاسق اسم الإيمان من أهل السنة متفقون على أنه لا يخلد في النار فليس بين فقهاء الملة نزاع فى أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول وما تواتر عنه أنهم من أهل الوعيد وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها ولا يخلد منهم فيها أحد ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء.
ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار كالخوارج والمعتزلة وقول غلاة المرجئة الذين يقولون ما نعلم أن أحدا منهم يدخل النار بل نقف في هذا كله وحكى عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام، ويقال للخوارج الذي نفى عن السارق والزاني والشارب وغيرهم الإيمان هو لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام بل عاقب هذا بالجلد وهذا بالقطع ولم يقتل أحدا إلا الزاني المحصن ولم يقتله قتل المرتد فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابة فدل ذلك على أنه وإن نفى عنهم الإيمان فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر. [واستطرد ﵀ في بيان هذه المسألة العقدية الهامة فقال]:
وبسبب الكلام فى مسألة الإيمان تنازع الناس هل فى اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع عن مسماها فى اللغة أو أنها باقية فى الشرع على ما كانت عليه فى اللغة لكن الشارع زاد في أحكامها لا في معنى الأسماء وهكذا قالوا في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج إنها باقية في كلام الشارع على معناها اللغوي
1 / 154
لكن زاد في أحكامها ومقصودهم أن الإيمان هو مجرد التصديق وذلك يحصل بالقلب واللسان وذهبت طائفة ثالثة إلى أن الشارع تصرف فيها تصرف أهل العرف فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة.
والتحقيق أن الشارع لم ينقلها ولم يغيرها ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة كما يستعمل نظائرها كقوله تعالى: ﴿وَلِلهِ عَلى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِليْهِ سَبِيلا﴾ [آل عمران: ٥٧] فذكر حجا خاصا وهو حج البيت وكذلك قوله: ﴿فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ﴾ [البقرة: ١٥٨] ... الخ١.
ولمباحث الإيمان تفصيل ذكره أهل العلم يطلب في مظانه، والخلاصة المعنية هنا أنه اعتقاد بالقلب، وتصديق باللسان، وعمل بالجوارح، ولا بد من تضافر هذه العمد الثلاثة.
٣- غلبة الشبهات والشهوات:
وهي ثالثة الأثافي، ولولا غلبة الشهوات لكان الناس في خير، والله تعالى ركب في الإنسان تلك الشهوات كشهوة الزواج وشهوة حب المال والتملك وشهوة التسلط على ما سيأتي تفصيله بعد إن شاء الله تعالى، فمن تغلب على شهواته وسيطر عليها وحاكمها وضبطها سلك سبيل الرشد، ومن غلبته شهوته سلكت به سبيل الغي والعياذ بالله.
وهذه السمات الثلاث بينها تداخل وتشابك وبعضها يتولد من البعض الآخر ثم هي من مرض القلب مما ينعت به المنافقون، قال ابن تيمية ﵀: “ذكر الله مرض القلب في مواضع فقال تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٩]
والمرض في القلب كالمرض في الجسد فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة
_________
١ مجموع الفتاوى ٧ / ٢٩٧.
1 / 155
والاعتدال من غير موت فكذلك قد يكون في القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال من غير أن يموت القلب سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه أو أفسد عمله وحركته.
وذلك كما فسروه هو من ضعف الإيمان إما بضعف علم القلب واعتقاده وإما بضعف عمله وحركته فيدخل فيه من ضعف تصديقه ومن غلب عليه الجبن والفزع فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك كلها أمراض وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التي فيه”١.
٤- الجهل:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلى اللهِ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَليْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء:١٧]
قال القرطبي: “ في هذه الآية والأنعام أنه من عمل منكم سوءا بجهالة يعم الكفر والمعاصي فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته قال قتادة أجمع أصحاب النبي ﷺ على أن كل معصية فهي بجهالة عمدا كانت أو جهلا وقاله ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي وروى عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا الجهالة هنا العمد وقال عكرمة أمور الدنيا كلها جهالة يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله وهذا القول جار مع قوله تعالى إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وقال الزجاج يعني قوله بجهالة إختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية وقيل بجهالة أي لا يعلمون كنه العقوبة ذكره إبن فورك قال إبن عطية وضعف قوله هذا ورد عليه”٢.
وقال تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِل مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالةٍ ثُمَّ
_________
١ العقود الدرية ص ١٦٧.
٢ تفسير القرطبي ٥/ ٩٢.
1 / 156
تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام:٥٤] .
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل:١١٩] .
ونجلي هذا أكثر من خلال الحديث عن أسباب المعصية ودوافعها فنقول وبالله التوفيق:
أسباب المعصية وأنواعها:
ما هي أسباب المعصية؟ ولماذا يعصي المسلم ربه؟! تلكم هي القضية التي يعالجها الدعاة بالحكمة والموعظة الحسنة، وهي قضية العصر وكل عصر، المعاصي داء له بإذن الله دواء، ودواؤه في كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ.
في علاج مشكلة المعصية يعمل الدعاة جاهدين بشتى الأساليب والوسائل المشروعة، ومعرفة أسباب المعصية جزء من العلاج، وتلكم الأسباب تنحصر في أمرين فهي إما (شبهات أوشهوات) ولنلق بعض الضوء على هذين السببين الرئيسين الَّذين يتفرع عنهما الأسباب الأخرى:
ففي الشهوات قول الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾ [آل عمران:١٤] .
في هذه الآية الشريفة المنيفة تعداد للشهوات والغرائز المركبة في الانسان وفي أعماقه كغريزة النكاح وغريزة حب الولد والنسل، وحب المال، والجاه وزخارف الدنيا والسلطان، وابتدأ تعالى ذكر هذه الشهوات بشهوة النكاح وهي أخطرها وأنكاها إن لم تعالج مبكرا وفي الإطار المشروع، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: “ ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء” ١.
_________
١ متفق عليه: خ: النكاح (٥٠٩٦)، م: الذكر والدعاء (٢٧٤٠) .
1 / 157
وفي الحديث كما قال الحافظ ابن حجر: أن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن١ ثم ذكر تعالى الشهوات الأخرى مجملة، وقد ورد تفصيلها في مواضع أخر كشهوة حب المال في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَليْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعَامِ المِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لمًّا وَتُحِبُّونَ المَال حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر:١٦-١٩] .
وجاء في السنة توضيح أبعاد هذه الشهوة الجامحة المتأصلة في الإنسان ففي حديث سهل بن سعد ﵁ قال سمعت عبد الله بن الزبير ﵄ على المنبر بمكة في خطبته يقول: يا أيها الناس إن النبي ﷺ كان يقول: “ لو أن ابن آدم أعطي واديا ملئا من ذهب أحب إليه ثانيا ولو أعطي ثانيا أحب إليه ثالثا ولا يسد جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب” ٢.
ومثله حديث ابن عباس ﵄ مرفوعا: “لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب” ٣.
وما من ريب أن الشهوات اذا استحوذت على المرء أوردته المهالك وفي حديث أنس بن مالك ﵁ عن النبي ﷺ: “ حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره” ولفظ مسلم: ”حفت النار بالمكاره وحفت النار بالشهوات” ٤
قال الحافظ ابن حجر: “وهو من جوامع كلمه ﷺ وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفوس، والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس
_________
١ الفتح ٩/١٣٨.
٢ خ: الرقاق (٦٤٣٨) انفرد به البخاري.
٣ متفق عليه: خ: الرقاق (٦٤٣٦)، م: الزكاة (١٠٤٩) .
٤ متفق عليه: خ: الرقاق (٦٤٨٧)، م: الجنة وصفة نعيمها (٢٨٢٣) .
1 / 158