Mawsu'at Mawaqif al-Salaf fi al-'Aqidah wa al-Manhaj wa al-Tarbiyah
موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية
Daabacaha
المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع،القاهرة - مصر،النبلاء للكتاب
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Goobta Daabacaadda
مراكش - المغرب
Noocyada
ـ[موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية]ـ
(أكثر من ٩٠٠٠ موقف لأكثر من ١٠٠٠ عالم على مدى ١٥ قرنًا)
المؤلف: أبو سهل محمد بن عبد الرحمن المغراوي
الناشر: المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، النبلاء للكتاب، مراكش - المغرب
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: ١٠
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التراجم]
Bog aan la aqoon
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ (١).
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ (٢).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ (٣).
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار.
_________
(١) آل عمران الآية (١٠٢).
(٢) النساء الآية (١).
(٣) الأحزاب الآيتان (٧٠ و٧١).
مقدمة / 1
أما بعد: فإني لما تخرجت بالإجازة من كلية الشريعة بالمدينة النبوية سنة (ألف وثلاثمائة وخمسة وتسعين)، ودخلت إلى حقل الدعوة إلى الله، وأسست جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة مع بعض الإخوة الفضلاء، رأيت هجمة شرسة من قبل أعداء الإسلام؛ كما هو الواقع الآن على الدعوة السلفية والتحذير منها، وأنها دعوة خطيرة على المجتمع.
والحق أن السلفية دعوة مباركة تهتم بتصحيح المعتقد، ونبذ الخرافات والشركيات، وتقويم العبادات على وفق السنة النبوية، وتصحيح السلوك وتهذيب الأخلاق وتزكيتها، وتربي الشباب على العناية بحفظ كتاب الله وسنة رسوله ﷺ؛ علمًا وعملًا، وفهمًا وتطبيقًا، ودعوة وتأصيلًا، ولا ترى الحجية في غير كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، أو ما نتج عنهما من إجماع أو قياس صحيح، أو فهم سلفي منضبط، فمهما كان القائل فلا بد أن يُطلب منه الدليل من الكتاب أو السنة.
وقد أسست لذلك مدارس "دور القرآن" في كل أرجاء البلاد لنشر هذا المنهاج المبارك، وكان -ولله الحمد- الإقبال عليها من كل الشرائح الاجتماعية؛ الذكور والإناث، والصغار والكبار، والشباب والشابات، وها هم أهل المغرب الغيورون على الكتاب والسنة؛ يرفعون أكف الضراعة إلى الله أن يردّ عليهم مدارسهم، -أي: دور القرآن- التي خدمت البلاد والعباد بكلّ أنواع
مقدمة / 2
الخدمات، فهذبت الشباب والشابات، وصرفتهم عن اللهو والعبث والفتن، والوقوع في حمأة الشرك والبدع والخرافات والإلحاد والرذائل والتكفير وفي كل ما يضرّ البلاد والعباد، وجعلتهم -ولله الحمد- مصابيح مضيئة بنور القرآن والسنة، في المساجد ودور القرآن وفي المؤسسات التعليمية بكل مراحلها الابتدائية والإعدادية، والثانوية والجامعية، وفي المناسبات من أعراس وعقائق وجنائز، وفي كل التجمعات التي تجتمع على الخير وعلى القرآن والسنة، وفي كل موقف يخدم الأهداف الصالحة لهذه البلاد الغالية من أمن وأمان، ويحاربون كل ما يؤدي إلى القلاقل والاضطراب؛ فإن هذا لا خير فيه للأمة بأجمعها، وكل من يقلق أمن هذه البلاد وغيرها من بلاد الإسلام؛ فلا يريد بالأمة خيرًا. اللهم اهد ضالّ هذه الأمة.
هذا: وفي عام ثلاث وأربعمائة وألف، قدمت أطروحة لنيل الدكتوراه بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبويّة في قسم العقيدة. تحت عنوان: "العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات". وقد منّ الله تعالى بفضله وكرمه بنيلها وحيازتها بدرجة مشرِّفة جدًا، وظلت حبيسة الرفوف مدة، وقد أعدت النظر فيها وزدت عليها أضعاف أضعافها من المباحث المنيفة، والفصول الشيقة، حتى غدا بعض فصولها مباحث مستقلة، وكتبًا مفردة.
مقدمة / 3
وقد ارتأيت اليوم أن تكون دراسة موضوع "العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات"؛ مقسمة إلى أقسام عديدة، مبرزة لمعالمها، وشاملة لمباحثها على النحو التالي:
* القسم الأول: إتحاف الأخيار بفضائل عقيدة السلف الأبرار.
* القسم الثاني: الاعتصام بالكتاب والسنة وفهم السلف عند ظهور الأهواء والبدع والفتن والاختلاف.
* القسم الثالث: الصحيح في تفصيل الاعتقاد من هدي خير العباد.
* القسم الرابع: أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف.
* القسم الخامس: مغني العقلاء في بيان المواقف العقدية في دعوة الأنبياء.
* القسم السادس: المواقف العقدية والأساليب الدعوية في مواجهة تحديات الجاهلية من خلال صحيح سيرة خير البرية ﷺ.
* القسم السابع: موسوعة مواقف السلف الصالح في العقيدة والمنهج والتربية. وهو القسم الذي نخرجه للقراء في هذه الطبعة بإذن الله وتوفيقه.
* القسم الثامن: المصادر العلمية للعقيدة السلفية.
مقدمة / 4
الأسباب البواعث على التأليف
إن المرء يظل أسير معتقداته وقناعاته الشخصية -إن كان صادقًا-؛ تتفتق بحسبها أفكاره وتنبعث على وِفقها أقواله وأفعاله، وإراداته، لا يحيد عنها ولا يزيغ، كان حبنا لسنة سيد المرسلين ﷺ ولنهج السلف الصالحين الذي غمر قلوبنا، وملأ أفئدتنا، باعثًا قويًا، وحافزًا مؤثرًا في خط الصفحات وكتب هذه المجلدات، فنرجو الله أن نكون كذلك وأن يثبتنا، وأن لا يزيغ قلوبنا.
هذا الحب للنبي ﷺ تمخضت عنه أسباب دفعت لتأليف هذا الكتاب نجمل بعضها فيما يلي:
السبب الأول: النصح لله ورسوله والمسلمين:
فرض الله تعالى على لسان رسوله ﷺ النصح له ﷿، ولكتابه، ورسوله، وللمسلمين عامتهم وخاصتهم، حيث حصر الناصح الأمين ﷺ الدين في التناصح على سبيل التنبيه على عظمة النصيحة، فقال: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، ثلاثًا. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ﷿، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" (١).
_________
(١) أخرجه: أحمد (٤/ ١٠٢) ومسلم (١/ ٧٤/٥٥) وأبو داود (٥/ ٢٣٣/٤٩٤٤) والنسائي (٧/ ١٧٦ - ١٧٧/ ٤٢٠٨ و٤٢٠٩) من حديث أبي رقية تميم الداري.
مقدمة / 5
وقد يسر الله كتابة هذه الأسفار نصرة منا لله سبحانه، ولرسوله، ونصحًا لأنفسنا ولإخواننا ولعموم المسلمين الذين أوجب الله علينا النصح لهم، وإرشادهم لما فيه صلاحهم في الحال والمآل؛ وذلك بربطهم بمعتقد سلفهم الصالح رضوان الله عليهم؛ ولأن الخلف البارّ الذي يحرص على طلب الحق وتصفية المعتقد والمنهاج والمواقف، لا يجوز له بحال أن تنفك صلته عن السلف الصالح، في معرفة سيرهم ومناقبهم ومواقفهم العقدية والمنهجية، وهم قدوته في كل خير، وعلى نهجهم يسير، وبمواقفهم يقتدي، وهم -ولله الحمد- عدد كبير بلغ في هذا السجل المبارك أزيد من ألف إمام على مدى عصور الإسلام، ابتداء بعصر الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان، -لا كما يقوله بعض الجهال: إن السلفية بدأت بابن تيمية ثم ابن عبد الوهاب-، وتكون هذه الدراسة سجلًا مباركًا بيد كل سلفي يحتج به على كل مبطل ينكر هذا المنهاج ويتنكب عنه، ويطعن فيه، والطعن في هذا المنهج طعن في خيرة خلق الله، وهذا أمر عظيم وموبقة من الموبقات.
مقدمة / 6
السبب الثاني: طعن الملاحدة وأعداء الإسلام في السلفية:
منذ قرابة ربع قرن تقريبًا، حوالي سنة ١٣٩٥ هـ الموافق لسنة ١٩٧٥ م. -على ما يغلب على ظني-. عقد الملاحدة أعداء الإسلام ندوة كبيرة في بعض البلاد الإسلامية بخصوص الطعن في السلفية، وشارك فيها كبار القوم، وحضرها جمهور غفير من الناس، وشوهوا وافتروا كيف ما حلا لهم، ولم يقفوا عند عقد الندوة فقط، بل نشروها في جرائد لهم، يتكلمون بكلام لا يصدر إلا من عدو خبيث، يبينون للحضور والقراء خطورة العقيدة السلفية إن حصل انتشارها في مجتمعاتهم. وحينها انهالت علي الأسئلة للتعرف على السلفية، فمن الأسئلة: هل هناك كتاب يمكن أن نتعرف فيه على السلفيين ومواقفهم، فذكرت بأنني لا أعرف إلا كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵏ جميعًا. وبقيت تلك الأسئلة تراودني طيلة تلك المدة حتى كتب الله الرجوع إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، والالتحاق بالدراسات العليا بها، ثم مرحلة الدكتوراه التي اغتنمتها فرصة لإخراجها من حيز التفكير إلى ساحة التطبيق العملي.
فكان هذا من أكبر الدوافع وأعظم المحفزات في تسجيل بحث نيل الدكتوراه في هذا الموضوع.
مقدمة / 7
السبب الثالث: تقريب مواقف السلف للأمة:
لقد ظلت آثار السلف ومواقفهم العقدية في طيات كثير من المصنفات مطمورة، وبين أسطر أخرى مغمورة، لا يعرف الطلاب لها من سبيل، ولا يدلهم عليها دليل، إلا ما تيسر من كتاب "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي ﵀، الذي ضم في تراجم أعلامه بعضها، وهو أحد المراجع التي استخلصنا فوائدها وفرائدها، وزدنا عليه عشرات من أمثاله التي استقرئت بكاملها، من مؤلفات العقائد، وأضعاف أضعافها مما انتقي من غيرها، كما سيأتي جرد أسماء بعض منها في محله إن شاء الله تعالى.
فتيسير الوقوف على مواقف السلف النيرة، وأقوالهم الزاهرة، وتراجمهم العطرة في كتاب مفرد، غاية في حد ذاتها.
هذا الكنز الثمين من الآثار السلفية الذي نقدمه اليوم للأمة لا يعلم قيمته ونفاسته إلا من أجهد نفسه للظفر بدرة من درره؛ وقطف ثمرة من ثمراته، وسل الغائص في بحر الكتب لاستخلاصها، والمسير طرفه بين الأسطر لالتقاط دررها، تعلم مدى الجهد والعناء الذي اختزل في ما بين يديك! ولا أدل على ذلك من أنا أمضينا زمنًا طويلًا في استخراجها ونظم عقدها. والله الموفق، لا رب سواه.
مقدمة / 8
السبب الرابع: التعريف بالسلف وإبراز مواقفهم:
هذه الموسوعة العظيمة الممهَّدة بين يدي الناظر فيها تيسر له التعرف على أئمة السلف والوقوف على تراجمهم، ومواقفهم العقدية في اتساق مرتب، واختصار مهذب؛ إذ معرفتها أنفع للمسلم في دينه ودنياه من معرفة أقوال غيرهم. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀:
"ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرًا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله؛ كالتفسير وأصول الدين وفروعه والزهد والعبادة والأخلاق والجهاد وغير ذلك؛ فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة.
فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم؛ وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصومًا، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه، قال تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
مقدمة / 9
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩)﴾. (١)
السبب الخامس: شد أزر السلفين وتثبيت قلوبهم:
قد يشعر المؤمن عمومًا والسلفي خصوصًا بغربته في هذا الزمان وهو بين أهله، وبوحدته وهو بين أترابه، ليست غربة اتخذها اختيارًا، ولا وحدة اصطفاها لنفسه استئثارًا، وإنما سيق لها اضطرارًا، سنة اقتضتها حكمة رب عليم حكيم؛ قال النبي ﷺ: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" (٢).
قال الشاطبي: "وهذه سنة الله في الخلق، أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل، لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)﴾ (٣)، وقوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (١٣)﴾ (٤)، ولينجز الله ما وعد به نبيه ﷺ من عود وصف الغربة إليه؛ فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وتصير
_________
(١) مجموع الفتاوى (١٣/ ٢٣ - ٣٠).
(٢) مسلم (١/ ١٣٠/١٤٥) وابن ماجه (٢/ ١٣١٩ - ١٣٢٠/ ٣٩٨٦)، من حديث أبي هريرة ﵁.
(٣) يوسف الآية (١٠٣).
(٤) سبأ الآية (١٣).
مقدمة / 10
السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف كما كان أولًا يقام على أهل البدعة، طمعًا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال، ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة، فلا تجتمع الفرق كلها -على كثرتها- على مخالفة السنة عادة وسمعًا؛ بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله، غير أنهم -لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء، استدعاء إلى موافقتهم- لا يزالون في جهاد ونزاع، ومدافعة وقراع، آناء الليل والنهار، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل، ويثيبهم الثواب العظيم". (١)
فطوبى لهم في غربتهم، وطوبى لهم في استئناسهم بكلام ربهم، ومصاحبة أنفاس نبيهم ﷺ القولية والفعلية، وطوبى لمن جال بقلبه وفكره في كسر طوق هذه الغربة في رياض السنة النضرة، ومواقف السلف العطرة، ونأى بنفسه عن ورود حياض البدع الكدرة، ومستنقعاتها القذرة، وسقى نفسه من معين الكتاب والسنة ماء عذبًا زلالًا، صافيًا نقيًا، لم تكدره الدلاء، ولم تخالطه الآراء.
وارتوى مما ارتوى منه أبو بكر وعمر ومن بعدهم من الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة المبشرين، وسائر الصحابة المرضيين، ومن اقتفى أثرهم من الأئمة والمُحَدِّثِين، والعلماء المعتبرين، خلفًا عن سلف.
هذا المشرب الموحد الذي ورده سائر الأعلام على امتداد تاريخ هذه
_________
(١) الاعتصام (١/ ٣٠ - ٣١).
مقدمة / 11
الأمة المجيدة، طيلة أربعة عشر قرنًا خلت، ولم يتخلف عنه أحد منهم، ولم يحد بصرهم عنه، رغم عواصف البدع الرعناء، وتيارات الإلحاد الهوجاء، ومحن من أشربها من القادة والسلاطين والغوغاء، فقاموا في وجهها محتسبين، وثبتوا في نزالها صابرين صامدين، جماعات ووحدانًا؛ منهم الوحيد في زمانه، ومنهم المتقوي بإخوانه، فأضحو للأمة أعلامًا بها يهتدى، ونماذج تحتذى، ومصابيح تنير الطريق لسالك دربهم، فيحذو حذوهم. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (١).
السبب السادس: إبراز معالم المنهج السلفي:
لقد أُثر عن السلف كثير من الأقوال الموضحة للمنهج السلفي، والمجلية لمعالمه، وهي منثورة في كتب عديدة كأصول السنة لللالكائي والاعتصام للشاطبي، وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وغيرها من الكتب، وقد أودعنا ما وقفنا عليه منها في موسوعتنا هذه، إبرازًا لهذا المنهج العظيم، وتقريرًا له بين عموم المسلمين، وأنه الحق الذي كان عليه السلف، وآب إليه من تاب من الخلف. وأكبر معالم هذا النهج القويم التي نازعنا فيها الخلفيون:
_________
(١) الأنعام الآية (٩٠).
مقدمة / 12
أ- وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة وفهم السلف:
إن أساس الدعوة السلفية الذي بنيت عليه، ومحورها الذي تدور في فلكه، والذي لا يجوز الخروج عنه أو القول بخلافه، والخارج عنه لا يعد سلفيًا، هو: وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة والتحاكم إليهما في كل المناحي العلمية والعملية، بفهم السلف رضوان الله عليهم أجمعين، امتثالًا لأمر ربنا جل وعلا في وجوب لزوم كتابه وسنة نبيه ﷺ، واتباع سبيل خِيرة هذه الأمة الذين أنزل على النبي ﷺ وهو بين أظهرهم قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥)﴾ (١).
ولا يتم عقد الإيمان إلا بتمام التسليم لله ولرسوله ﷺ؛ والرضا بحكمه، وعدم الخروج عنه، كما قال تعالى في كتابه: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ (٢).
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد أفردناها في قسم خاص
_________
(١) النساء الآية: (١١٥).
(٢) النساء الآية (٦٥).
مقدمة / 13
من هذه السلسة المباركة، سميته بـ: "الاعتصام بالكتاب والسنن وفهم السلف عند حدوث الأهواء والفتن والاختلاف" في ثلاث مجلدات لطيفة؛ أحدها في الآيات الدالة على الاعتصام بالكتاب والسنة مع توجيهها، والثاني في الأحاديث الواردة في الباب، والثالث في فهم السلف، وهو جرد وسرد لأقوالهم في الباب نفسه.
وفي موسوعتنا هذه قد أوردنا من أقوال السلف في تقرير هذا الأمر ضمن مواقفهم من المبتدعة ما يسر الناظر فيه، ويثلج صدر أحباب سنة رسول الله ﷺ والمتسننين بها.
ب- الرد على المخالف:
قد يستهجن بعض العوام وأشباه العلماء، وكثير من المثقفين والأدباء، والحزبيين، رد السلفيين على المخالفين من المبتدعة والمضلين والمميعين لأحكام الدين، حيث جندوا أنفسهم لكشف باطلهم وإبطال دعوتهم، فثارت ثائرة القوم بالإنكار والتنديد، والتبديع والتقريع، وأن هذا المسلك خلاف ما عليه السلف الذين يدعي السلفيون الانتساب إليهم!!
وما علم القوم أن الرد على المخالف لسنة المصطفى ﷺ هو محض النصح لله ولرسوله ﷺ كما سبق، وهو منهج السلف الأخيار لم يفارقوه برهة، ولم يتخلف أحد منهم عن القول به طوال تاريخ الإسلام.
مقدمة / 14
وما أوردناه في هذا السفر من أقوال هذا الجم الغفير من الأعلام الذين يقارب عددهم المئتين والألف علَم، برهان ساطع في وجوب النصح للمسلمين، وتحذيرهم من المتقولين على الله بغير علم، الذين هم أعظم جرمًا وأقبح جرأة في قيلهم وفعلهم، فالرد عليهم واجب، والتحذير منهم لازم.
قال ابن القيم ﵀: "وأما القول على الله بلا علم: فهو أشد هذه المحرمات تحريمًا، وأعظمها إثمًا؛ ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان، ولا تباح بحال؛ بل لا تكون إلا محرمة، وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير الذي يباح في حال دون حال.
فإن المحرمات نوعان: محرم لذاته لا يباح بحال. ومحرم تحريمًا عارضًا في وقت دون وقت. قال الله تعالى في المحرم لذاته: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ (١)، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: ﴿وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)﴾.
فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثمًا؛ فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته، وإثبات ما نفاه،
_________
(١) الأعراف الآية (٣٣).
مقدمة / 15
وتحقيق ما أبطله، وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه، وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه، وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله.
فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثمًا. وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات؛ فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم.
ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها، وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذروا فتنتهم أشد التحذير، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان؛ إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد". (١)
ج- تحقيق الولاء والبراء:
إن كثيرًا مما ألف في القديم والحديث من الكتب باسم: الفرق الإسلامية، أو الفكر الإسلامي، متضمن لكثير من الأخطاء العقدية والمنهجية التي ينسبها أصحابها لمعتقد أهل السنة وهم برآء منها، وكثير من القراء لا يعلم أن معظم ما كُتب فيها ما هو إلا أخطاء وانحرافات وبدع، حذر منها علماء السنة بحق وهم السلف، ودفعوها بقولهم وفعلهم ومواقفهم، طيلة العصور التاريخية.
فالإسلام هو الكتاب والسنة وفهم سلفي انبثق منهما، وما سوى ذلك
_________
(١) مدارج السالكين (١/ ٣٧٢).
مقدمة / 16
فلا يجوز أن ينسب إلى الإسلام لا من قريب ولا من بعيد، وإنما هي أخطاء وانحرافات عقدية ومنهجية يتحمل أصحابها تبعاتها في الدنيا وفي الآخرة؛ ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)﴾ (١). فنرجو الله تعالى أن يثيب محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
لذلك كان ولاء السلف للسنة وعلى السنة، والبراء من البدعة ودعاتها والقائمين عليها، لمناهضتهم السنة ومفارقتها وقيامهم بخلافها، ومخالفتهم نهجها، واختلافهم عليها.
"فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلًا يتعاطى شيئًا من الأهواء والبدع معتقدًا، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حيًا وميتًا، فلا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق. والنهي عن الهجران فوق الثلاث فيما يقع بين الرجلين من التقصير في حقوق الصحبة والعشرة دون ما كان ذلك في حق الدين؛ فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة إلى أن يتوبوا". قاله البغوي ﵀. (٢)
وقال أيضًا: "إن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله ﷺ
_________
(١) النحل الآية (٢٥).
(٢) شرح السنة (١/ ٢٢٤).
مقدمة / 17
خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه، فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله ﷺ براءتهم، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة، ومهاجرتهم.
قال ابن عمر ﵄ لمن سأله عن القوم الخائضين في القدر: "أخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني برآء". (١)
وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.
وقال رجل من أهل البدع لأيوب السختياني: يا أبا بكر! أسألك عن كلمة. فولى وهو يقول بيده: ولا نصف كلمة.
وقال سفيان الثوري: من سمع بدعة، فلا يحكها لجلسائه، لا يلقيها في قلوبهم (٢).
قال الشيخ: "ثم هم مع هجرانهم كفوا عن إطلاق اسم الكفر على أحد من أهل القبلة؛ لأن النبي ﷺ جعلهم كلهم من أمته. وروي عن جماعة من السلف تكفير من قال بخلق القرآن، روي ذلك عن مالك، وابن عيينة، وابن
_________
(١) رواه مسلم (١/ ٨/٣٦).
(٢) علق الإمام الذهبي ﵀ على قول الإمام سفيان الثوري - كما في السير (٧/ ٢٦١): قلت: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير؛ يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة.
مقدمة / 18
المبارك، والليث بن سعد، ووكيع بن الجراح، وغيرهم". (١)
السبب السابع: كشف عوار أهل البدع وبيان بطلان مذاهبهم:
هذا الجمع الذي نمهد له بهذه المقدمة قد ضم بين طياته مئات الأعلام الذين زاد عددهم عن الألف، وقرابة عشرة آلاف قول أو فعل مأثور عنهم في ذم الفرق المخالفة للسنة كلها.
بهذه المواقف الحميدة يتجلى بالدليل والبرهان الذي لا يبقى معه لمرتاب سبيل ارتياب، ولا لشاك متعلق تردد وحيرة، حيث اتفقت كلمة هذا الجمع الغفير من الأعلام، في شتى الأعصار، ومختلف الأمصار، وفيهم من الصحابة والتابعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ مَنْ يعدل الواحد منهم أمة من الأمم، لا يعدل بعلمه وورعه تشكك شاك، وحيرة مرتاب غارق في وحل الجهل، مطمور في غيابات النسيان.
وما هذه الموسوعة إلا جرد وإبراز لهذا الإجماع السلفي في كشف عوار أهل البدع، وبيان بطلان مذاهبهم، فالحمد لله.
_________
(١) شرح السنة (١/ ٢٢٦ - ٢٢٨).
مقدمة / 19