فالجملة القائلة: «إن على الوجه الآخر من القمر جبالا» جملة مقبولة، على الرغم من أن تحقيقها الفعلي مستحيل (القمر يواجهنا بنصف واحد بذاته لا يتغير، فلا يرى سكان الأرض نصفه الثاني)، هو مستحيل من الوجهة الفنية، إذ ليس لدينا الآن وسيلة نطير بها إلى القمر فنرى وجهه الآخر، وقد يكون مستحيلا تجريبيا كذلك، بمعنى أنه ربما يقال: إن قوانين الطبيعة نفسها تحول دون أن تطير الطائرات في الفراغ الخالي من الهواء بين الأرض والقمر، ومع ذلك فالجملة مقبولة؛ لأنها ممكنة التحقيق من الوجهة المنطقية، ففي وسعي أن أعرف نوع الخبرات الحسية التي يمكن للمشاهد أن يمارسها إذا وقف الوقفة التي تمكنه من المشاهدة، وليس هنالك تناقض منطقي في أن يقف هذه الوقفة من القمر، حتى على فرض وجود الاستحالة الفنية بل والاستحالة التجريبية التي تحول دون ذلك من الوجهة العملية.
لكن قارن ذلك بجملة ميتافيزيقية كالتي أسلفنا ذكرها: «المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه ...» فما نوع الخبرات الحسية التي عساي أن ألاقيها إذا أردت التحقق من صدق هذا الزعم؟ إذا كان مستحيلا تحديد مثل هذه الخبرات المتوقعة، فمستحيل منطقيا أن آخذ في تحقيق الكلام صدقا أو كذبا، إذ شروعي في عملية التحقيق، متضمن تصوري لما عساي أن ألاقيه من خبرة، فإن استحال هذا التصور استحال بالتالي إمكان الشروع في التحقيق، وإذن فمثل هذه الجملة بغير معنى؛ لأنها مستحيلة التحقيق، وليس الأمر قاصرا على قدرة حاضرة أو قدرة مستقبلة؛ لأن الاستحالة ليست فنية، بل ليست تجريبية، وإنما هي - كما قلنا - استحالة منطقية تتضمن الاستحالتين المذكورتين معا، وهي مستحيلة منطقيا لأن فيها اجتماع نقيضين؛ أحدهما أنني قبلت هذه الجملة الخبرية على أساس أنها يمكن أن توصف بالصدق أو بالكذب؛ (لأن ذلك هو تعريف القضية)، والنقيض الآخر هو أن هذه الجملة لا يمكن أن نجد وسيلة لتصديقها أو تكذيبها. نعم، إن المتكلم في مستطاعه أن يحدد ألفاظه بأي معنى يريد، فمثلا يستطيع القائل بأن «المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه» أن يقول: إني أقصد بكلمة «المطلق» هنا «المطر» أو «حرارة الجو» أو ما شاء من معان، لكنه - وهو يحدد لنا معناه - محتوم عليه أن يشرح الكلمة شرحا داخلا في حدود خبراتنا، وإلا فلو استبدل بكلمة كلمة أخرى، وكلاهما لا ندري له مقابلا من خبرة حسية، فستظل المشكلة قائمة كما هي، وسيظل كلامه خاليا من المعنى لاستحالة تحقيقه حتى من الوجهة النظرية.
ويفرق الأستاذ آير
15
بين نوعين من التحقيق، وهو يتحدث عن إمكان التحقيق من الوجهة المنطقية: التحقيق «القوي» والتحقيق «الضعيف».
فالتحقيق القوي يكون حين تأتي الخبرة الحسية مدعمة لصدق القضية تدعيما تاما كاملا، وأما الضعيف فيكون حين تأتي الخبرة مدعمة لصدق القضية على وجه الاحتمال، ولما كانت القوانين العلمية (في العلوم الطبيعية) يستحيل فيها التحقيق الذي يجعلها يقينية، فتحقيقها إذن من النوع «الضعيف»، وكذلك قل في القضايا التي تحدثنا عن حوادث الماضي كقضايا التاريخ؛ لأنه مهما اجتمع لديك من الشواهد على حادث مضى، فهي كلها لا تقطع بيقين، فلو استثنينا تحصيل الحاصل - كالرياضة - وجدنا أن التحقيق دائما هو على سبيل الاحتمال والترجيح، فسؤالنا في التحقيق لا يكون: هل هناك من المشاهدات وسائر الخبرات الحسية ما يجعل العبارة المزعومة ذات يقين قاطع؟ بل يكون: هل هناك من المشاهدات وسائر الخبرات الحسية ما له صلة بتقرير صدق هذه العبارة المزعومة أو كذبها؟ فإن كان الجواب الثاني هو بالنفي، كانت العبارة كلاما فارغا غير ذات معنى على الإطلاق.
إننا إذن لا نتعسف فنشترط إمكان تحويل العبارة المقولة إلى خبرات حسية تحويلا كاملا شاملا؛ لأننا لو طالبنا بذلك فقد لا ننتهي أبدا من تحقيق عبارة واحدة، وحسبك في ذلك أن تنظر في جملة مثل «الكتاب على المنضدة»، وتسأل نفسك ما نوع الخبرات الضوئية التي أتوقعها لأثبت بها صدق هذه العبارة، وستجد أن هذه الخبرات الضوئية لا نهاية لعددها ولا حصر لدرجاتها؛ لأنها خبرات تختلف باختلاف وقفاتك ومساقط الضوء وما إلى ذلك، إنما نكتفي لقبول الجملة بأن نجد في حدود إمكاننا استدلال بعض الخبرات الحسية التي لها صلة بصدقها، دون المطالبة بهذه الخبرات على سبيل الحصر والشمول.
طبق هذا المقياس على هذه العبارة: «العالم الخارجي وهم.» فستبدأ بسؤال نفسك: هل يمكن أن ألتمس أية خبرة حسية يكون لها صلة بتصديق هذا الزعم؟ ذلك مستحيل بحكم ما تقتضيه العبارة نفسها؛ لأنها تسد عليك الطريق فلا تأذن لك بالالتجاء إلى الخبرة الحسية؛ لأن هذه كلها وهم في زعمها، لو قلت هذه ألوان أراها وتلك أصوات أسمعها، وإذن فالعالم الخارجي حقيقة لا وهم، فيقال لك بل الألوان والأصوات التي توهمتها ليست بحقائق، إذن فماذا عساي أن أقع عليه من خبرتي لأصدق هذه الدعوى؟ قد يجاب أحيانا على هذا السؤال بأن تصديق الدعوى هنا معتمد على خداع الحواس، فقد ترى العين عصا مكسورة في الماء حتى إذا ما لمستها بيديك وجدتها مستقيمة ... وهكذا، وفي هذا دليل على أن مدركات الحواس أوهام ، لكنها لا تكون كذلك ما دمت أصحح أخطاء الحواس بالحواس نفسها، وعلى ذلك فليس في وسعنا أن نجد من خبراتنا خبرة نلجأ إليها لتحقيق إن كان العالم الخارجي وهما حقا، وبالتالي تكون هذه الجملة فارغة من المعنى.
لكن هنالك إشكالا في إمكان التحقيق - كما شرحناه - يثيره الناقدون، وهو أنه بناء على هذا المقياس الذي أسلفناه، لا يمكن تحقيق القضايا العلمية الكلية ولا قضايا التاريخ التي تحدثنا عن شيء مضى، فأما القضايا العلمية الكلية فمتعذرة على هذا المقياس؛ لأننا - مثلا - حين نقول إن الخشب يطفو على الماء، لا نسمي قطعة بذاتها من الخشب ولا منطقة بعينها من الماء، وبالتالي لا يكون في مستطاعنا أن نستنبط من مثل هذه العبارة الكلية نوع الخبرة الحسية التي ستصادفنا إبان التحقيق، وكذلك قل في قضايا التاريخ، فقولنا - مثلا - إن نابليون جاء في حملة على مصر سنة 1798م، لا يمكن أن تكون له وسيلة مباشرة لتحقيقه، فليس بين الناس اليوم رجل اسمه نابليون جاء في حملة على مصر، وليست السفن والجنود التي تكون حملة نابليون على مصر بموجودة في جزء من أجزاء الأرض حتى نستطيع الرجوع إليها، فكيف - إذن - يراد بنا أن نتوقع نوع الخبرة الحسية التي سنصادفها، وكيف يتاح لنا أن نحقق مثل هذه العبارة؟
من أجل هذا تحوط الأستاذ «آير» في وصفه لطريقة التحقيق الممكنة التي نتخذها مقياسا لما يجوز قبوله من الجمل وما لا يجوز، فقال: إن القضية التي نقبلها على أنها ذات مضمون واقعي، ليست هي التي يمكننا أن نترجمها بذاتها إلى عبارات تصف الخبرة التي سنلاقيها مباشرة، بل هي القضية التي نستطيع أن نستدل بعض الخبرات منها ومن قضايا أخرى تضاف إليها، على شرط ألا يكون في مستطاعنا أن نستدل تلك الخبرات من هذه القضايا الأخرى وحدها.
Bog aan la aqoon