يطلق أرسطو على مادة البحث التي وردت في الفصول التي أطلق عليها فيما بعد كلمة «ميتافيزيقا» أسماء ثلاثة:
فهو يطلق عليها أحيانا اسم «العلم الأول»،
3
وكلمة «الأول» هنا تدل على أسبقية منطقية بالنسبة لسائر العلوم، فالعلم الأول هو ذلك الذي يكون موضوعه سابقا من الوجهة المنطقية على أي علم آخر، أي هو العلم الذي تفترض قيامه سائر العلوم كلها، ولو أنه يأتي بعدها جميعا في ترتيب الدراسة. ثم هو يطلق عليها أحيانا أخرى اسم «الحكمة» قاصدا بذلك إلى أنها الغاية التي تسعى إليها العلوم في بحثها، وهذا معناه أن العلوم المختلفة - بالإضافة إلى قيام كل منها ببحث موضوعه الخاص - تقوم بواجب آخر، تخرج به عن حدود بحثها الخاص، وهو أن تكشف عما تنطوي عليه منطقيا من فروض سابقة، ولما كان وراءها جميعا فرض سابق عليها، لا بد من افتراضه أولا حتى يمكن الكلام فيها، فكشفها عن هذا الفرض السابق هو نهاية سعيها وغاية سيرها، وذلك هو ما يريده أرسطو بكلمة الحكمة، ثم هو يطلق على المباحث الميتافيزيقية أحيانا ثالثة اسما ثالثا، هو «اللاهوت» أو العلم الذي يشرح طبيعة الله.
وهو بإطلاقه هذه الأسماء الثلاثة المختلفة على علم بعينه، قد أبان عما يتصوره موضوعا لهذه الفصول التي كتبها، ولشرح ذلك نقول:
إن العلم - كائنا ما كان - يتصف موضوعه بالتجريد والتعميم، والتجريد والتعميم درجات، فحيثما قسمت جنسا - ولنرمز له بالرمز «أ» - إلى نوعين يقعان تحته - ولنرمز لهما بالرمزين: «ب» و«ج» - كما تقسم مثلا العدد إلى نوعين: العدد الزوجي والعدد الفردي؛ وجدت «أ» أكثر تجريدا وأكثر تعميما من «ب» أو «ج»، وفي مثل هذه الحالة تكون «أ» هي الأساس المنطقي لكل من «ب» و«ج»، بمعنى أنك لا تفهم الزوجية أو الفردية إلا إن كان لديك فهم سابق لطبيعة العدد بصفة عامة، وكذلك إذا فهمت طبيعة العدد فهما كاملا، استتبع هذا الفهم أنه لا بد أن يكون العدد منقسما إلى نوعين: ما هو زوجي منه وما هو فردي، هذا هو المقصود حين نقول إن فكرة «العدد» هي الأساس المنطقي لفكرتي «الفردية» و«الزوجية».
فإذا فرضنا أن النوعين: «ب» و«ج» اللذين يندرجان تحت الجنس الأعم «أ»، علمان، كان بين هذين العلمين مبادئ مشتركة - وإلا لما جاز جمعهما معا تحت جنس واحد - ومن هذه المبادئ المشتركة يتألف العلم الذي يحتويهما معا، وهو «أ».
فافرض أن «أ» رمز للكمية، وللكمية نوعان: كمية متصلة كمساحة السطح مثلا، وكمية منفصلة وهي ما يمكن عده كأربع برتقالات مثلا، والعلم الخاص الذي يبحث في الكميات المتصلة هو الهندسة، والعلم الخاص الذي يبحث في الكميات المنفصلة هو الحساب، وسنرمز لعلم الهندسة بالرمز «ب» ولعلم الحساب بالرمز «ج»، فها هنا «أ» تنقسم إلى فرعين هما «ب» و«ج» ولكل منهما موضوع خاص به، لكنهما يشتملان على مبادئ مشتركة تظهر فيهما معا، فتكون هذه المبادئ المشتركة هي مادة العلم «أ»، وبعبارة أخرى: ما بين الهندسة والحساب من مبادئ مشتركة، هو موضوع علم أعم منهما، هو الرياضة بصفة عامة وبغير تخصيص، ويبحث في الكمية، بغض النظر عن نوعها: هل هي متصلة أو منفصلة.
هذا العلم العام الذي يبحث في الكمية على إطلاقها، يسبق العلمين الفرعيين الهندسة والحساب أسبقية منطقية؛ لأنه يستحيل تصور الكمية المتصلة أو الكمية المنفصلة إلا إذا تصورت الكمية أولا، لكن دارس الرياضة الناشئ، يجعله مرحلة ثانية تتلو هاتين، أي إنه لا بد أن يبدأ بدراسة الهندسة والحساب؛ لكي ينتقل منهما إلى دراسة ما هو أعم منهما، وهكذا الحال دائما في ترتيبك للعلوم إلى ما هو عام وخاص، العام منها يسبق الخاص أسبقية منطقية، لكنه يلحق الخاص في ترتيب الدراسة.
وإذا أنت حاولت ترتيب العلوم كلها في نسق واحد، وجدت الواحد منها إما أن يكون: (1)
Bog aan la aqoon