إننا إذ نقول عن فلسفة «كانت»: إنها «نقدية» فإنما نعني بذلك أنها تحليلية، فماذا تحلل؟ هي تتناول أحكام الناس الكلية التي يقولونها في العلوم - أو في حياتهم اليومية - محاولة حلها إلى عنصريها: ما هو مستمد من التجربة الحسية فيها، وما هو قبلي لم يعتمد على تجربة حسية بل يستند إلى مبادئ عقلية.
وحين نصف فلسفته بأنها «ترانسندنتالية» فإنما نعني أنها تتناول القضية الكلية من هذه القضايا التي يقولها الناس في علومهم وفي حياتهم اليومية، فتوغل في باطنها لتستخرج ما يكون فيها من مبادئ عقلية، أو قل: إنها تحفر تحت البناء التجريبي المتمثل في القضية لعلها تصل إلى الأساس الخفي من مبادئ العقل، الذي يقوم عليه هذا البناء، فإذا اصطدمت كرة بأخرى فحركتها، ثم قلنا: إن الكرة الأولى سبب في حركة الكرة الثانية، كان قولنا هذا معتمدا على الحس من جهة، لكنه معتمد على مبدأ عقلي من جهة أخرى هو مبدأ السببية، وطريقة «النقد» هي أن أحاول استخراج هذا المبدأ من وراء الخبرة الحسية.
لاحظ أنني حين أقول قضية علمية مثل «كل المعادن تتمدد بالحرارة.» فكأنني أقول: إن أي جزء من المعدن لا بد أن يتمدد بالحرارة، وواضح أنني إن كنت قد شاهدت بحواسي معدنا، وشاهدت نارا، وشاهدت المعدن يتمدد على أثر اقترابه من النار، فإني لم أشاهد «لا بد» لم أشاهد «الضرورة»، شاهدت كذا يحدث مرة ومرة، فمن أين جئت بهذه «الضرورة» حين أقول عن الشيء: إنه «لا بد» أن يحدث على هذه الصورة المعينة في الظروف الفلانية، فإذا بحثت عن المصدر الذي أتاح لي أن أقول «لا بد» أن يحدث كذا وكذا، فأنا أبحث عن «المبدأ العقلي» الذي يجعل من التجربة الحسية المحدودة قانونا علميا واجب النفاذ.
وواضح أنني حين أقول عن شيء: إنه «لا بد» أن يحدث على هذه الصورة أو تلك، فأنا لم أقتصر بهذا على مجرد ذكر ضرورة الحدوث، بل أقول ضمنا: إنه حكم عام شامل لجميع أفراد النوع الذي أحكم عليه، فقولي عن حادثة معينة إنه ولا بد لها من سبب، مساو لقولي: إن لكل حادثة سببا، وإذن فالحكم بضرورة الصدق في حالة معينة هو في الوقت نفسه حكم بشموله. وجدير بنا في هذا الموضع أن نفرق بين نوعين من التعميم: أحدهما التعميم الذي يجيء بعد حصر المفردات كلها التي أريد أن أحكم عليها، كقولي مثلا: إن طلبة قسم الفلسفة بكلية الآداب هذا العام كلهم مصريون، وثانيهما التعميم الذي ينطبق على مفردات غائبة ومجاوزة لحدود المفردات التي وقعت تحت الخبرة، كقولي: «كل المعادن تتمدد بالحرارة.» والتعميم الذي يكون في قضايا العلوم، والذي هو متضمن في كون الحكم ضروريا، هو التعميم الذي يكون من النوع الثاني.
19 «النقد» عند «كانت» هو استخراج المبادئ العقلية المشتركة في تكوين أحكامنا العلمية التي فيها شمول وضرورة، في الأخلاق - مثلا - مهمة الفيلسوف النقدي، ليست هي أن يتناول أحكام الناس الأخلاقية بالتأييد أو بالتفنيد، فإن قال الناس مثلا: إن طاعة الآباء واجبة على الأبناء، فليست مهمة الفيلسوف الأخلاقي النقدي هي أن يقول: نعم، أصاب الناس في حكمهم هذا، أو كلا فقد أخطأ الناس فيه، بل مهمته منحصرة في تعقب هذا «الوجوب» إلى مصادره الأولية، من أين استمد الناس فكرة «الوجوب» هذه؟ إنهم لم يجدوها فيما خبروه بحواسهم من تجارب؛ لأنهم في هذه الخبرة رأوا فلانا وفلانا وفلانا يطيعون آباءهم، ولم يروا «وجوبا»، فمن أين جاءهم حين قالوا حكمهم الأخلاقي: «يجب على الأبناء طاعة الآباء؟» ولو كان التعميم هنا من قبيل الإحصاء لما كان إشكال، لكنه التعميم بمعناه الضروري الذي يشمل أفرادا لم يقعوا في حدود تجاربنا.
20
من هنا ترى «الأخلاق» عند «كانت» مهمتها البحث عن المبادئ الأولية القبلية التي تبرر أحكامنا الأخلاقية، أو بعبارة أخرى هي البحث عن المبدأ العقلي الذي يصدر عنه إلزامنا بأداء الواجب لذاته. كلما قلنا: «يجب فعل كذا وكذا.» فما الذي أوجب الواجب؟ لماذا نلتزم بفعل ما نقول عنه: إنه «واجب»؟ وهذا السؤال هو بعينه السؤال: «ما هي المبادئ القبلية الكامنة في أحكامنا الأخلاقية؟» واستخراج الجانب القبلي من أحكامنا هو مهمة «النقد» في فلسفة «كانت»، ولا يكون هذا طبعا بغير تحليل الموقف كله، الذي يكون عليه الإنسان حين يصدر حكما، فنستخرج الأساس الذي يرتكن إليه في إصدار حكمه.
5 «نقد العقل» عبارة معناها: «إقامة البرهان على صحة الأحكام العامة الضرورية التي يصدرها الإنسان، وإقامة البرهان هنا تكون بالكشف عن الأسس أو المبادئ الأولية التي جعلت تلك الأحكام ممكنة الصدور.»
21
الطريقة النقدية هي أن نختار من أقوال الناس - في ميدان العلم أو في مجال الحياة اليومية - طائفة من الأحكام التي ليس عليها خلاف، ثم نتعقبها راجعين خطوة خطوة، فنقول - مثلا: إن هذا الحكم الفلاني يتضمن اعترافا بكذا، وهذا الاعتراف بدوره يتضمن كيت، وهذا بدوره يتضمن كذا، حتى نصل إلى المبادئ التي تكمن وراء هذه الأحكام كلها التي اخترناها، فقولي مثلا: «إنني وجدت الكرة التي ضاعت بالأمس.» يتضمن اعتقادا عندي بأن الكرة بعينها ظلت محتفظة بذاتيتها، وهذا معناه قبول مني لمبدأ ثبات «العنصر» ودوامه، وقولي: «إن سقوط الحجر على رأس الحوذي سبب موته.» يتضمن اعترافا مني بأن الحوادث ترتبط ارتباطا سببيا، وهذا معناه قبول مني لمبدأ السببية وقيامه وإن لم يكن ملحوظا في خبرة الحواس ... وهكذا، فنحن نحلل العبارة التي نقولها في موقف معين تحليلا يضع أعيننا على مبدأ كامن فيها، ثم نجرد هذا المبدأ من تطبيقاته الجزئية لنجعله ضروريا شاملا، مهما اختلفت المواقف الجزئية التي يلبسها ملتفا بتفصيلاتها وحوادثها.
Bog aan la aqoon