ولقد أتعبني التجوال وأغم قلبي ألم الخيبة، فجررت قدمين ثقيلتين، ودخلت إلى أقرب خمارة، وطلبت مشروبا، فجاءوني بزجاجة سكبت منها كأسا لها طعم دم الأبالسة، ولون الزنا، ورائحة الانتخابات النيابية في لبنان ... ورحت أفكر في جميل، وأتذكر. بلى تذكرت ليلة اشتد المرض على زوجته ، وكان بها شغوفا، وكنت إلى جانبه في المستشفى؛ إذ خرج الأطباء الثلاثة من غرفتها فتقدم منه عريفهم، وهز رأسه معزيا قائلا: «إن الزوجة ستموت بعد ساعات.» وتذكرت كيف انتفض جميل وصاح: «إن علمكم كاذب. إن زوجتي ستشفى، فلو أنها في طريقها إلى الموت، لكان ارتعب قلبي، وقلبي ساكن غير خائف.» وذكرت كيف سلمت الزوجة، بسبب أن قلب جميل لم يرتعب. قلت لنفسي: «وأنا كذلك شغوف بجميل وقلبي غير مروع، ترى هل تفوز الصوفية مرة ثانية؟»
وضربت بقبضتي على الطاولة صائحا: «إن جميلا حي.» وكأنما أجفل من صيحتي رجل كان واقفا حذاء الباب، يقلب صفحات دفتر التليفون، فوقع الدفتر من يده، وانحنى يلتقطه، فومضت إذ ذاك في ذاكرتي عبارة سمعتها من جميل: «إن أعسر الأمور على الإنسان أن يراها، هي الأمور الواضحة.» بلى، إن من الأمور الواضحة التي لم أرها، أن أفتش على اسم جميل في دفتر التليفون. فوثبت إلى الرجل الذي أجفلته صيحتي، واختطفت الدفتر منه، ورحت أقلب صفحاته: سين ... سين ... سابنكا ... سادولي ... سغبيني، جميل نمرة 502، بناية دافيس؛ فأقفلت الدفتر وأرجعته للرجل الذي كان يقلبه، منحنيا أمامه معتذرا، ورجعت إلى طاولتي راقصا على اللحن السماوي الذي تصدح به تلك الموسيقى العلوية، وأفرغت بين شفتي الرحيق الكوثري الذي ملأ كأسي، ونقدت عشرة دولارات إلى الحورية الفتانة التي كانت تجالسني، كذلك قبلتها في شفتيها وعنقها، ووضعت تحت إبطي تلك الصرة من سواكير، وصابون، وشفرات حلاقة، التي أتيت بها هدية لجميل، وأحسست أن بين ساقي ألفا من الخيول البعلبكية أهمزها لترمح بي إلى بناية دافيس.
ووقف بنا المصعد الكهربائي في الطابق الخامس، فانطلقت منه، فإذا الطابق كله مكتب واحد انتشرت فيه عشرات الطاولات، جلس خلفها رجال وفتيان وفتيات في كل الأعمار والألوان. وفيما أنا أدير عيني، أفتش عن جميل فلا أراه، اقتربت مني إحدى كاتبات المحل، وسألتني مغازلة: «هل لك من أمر؟» قلت: «إني أفتش عن جميل سغبيني، أخبرت أنه يشتغل هنا.» قالت مداعبة: «إنه لا يشتغل هنا، ولكنه صاحب المحل ، أعط اسمك هناك إلى سكرتيرته، وهي تسهل لك سبيل مقابلته.» ودارت تسير إلى طاولتها، فلم ألاحظ أنها فتانة في إقبالها وإدبارها، بل سرت إلى حيث السكرتيرة التي سألتني عن حاجتي في مقابلة «الرئيس». قلت: «أبغي أن أقدم تقريرا عن أسطول بعلبك.»
وانفتح الباب وبان جميل.
وجمدت مكاني واقفا تهتز الكلمات على شفتي ولا تنطلق، ويغشى الضباب عيني ولا تندى دموعا، بل رحت أتطلع إليه وأضحك. أما هو فبقي كذلك في كرسيه مبهوتا، لم ينهض ولم يقبلني، ولم يهز يدي، بل مكث ينظر إلي باسما، إلى أن نطق أخيرا؛ فقال: «إن كنت بحار بعلبك، لا طيفه، فارم بنفسك على ذلك الكرسي.»
فقعدت، وطفقنا نتحدث. بلى، لقد عانى أهوال السجن والتعذيب، والجوع، والخوف، وخرج من جهنم حكم اليابانيين نحيلا فقيرا. أخبار الوطن؟ كثيرة! القلعة لم تبرح بعلبك، و«رأس العين» لا تزال مياهها تجري.
وسألني بدوره أخباري، فقلت: إنها مختصرة؛ سماء، وماء، وبضعة بوابير يابانية ومدرعتان. فضحك وسرد لي أخبار غمار غواصتنا؛ إذ إنه كان قرأ الكتاب الذي ألفه قبطان الغواصة «نوتيلوس»، وعنوانه «سوريفاو» إلى مياه ظنناها أمينة، ففوجئنا بعشرات من قطع الأسطول الياباني، فغطسنا إلى قعر البحر، ولبثنا هناك ثماني ساعات، واليابانيون يرموننا بالقنابل من طياراتهم ومن بواخرهم المقاتلة.
وهدأ فوران نفسي، بعد انقضاء الوهلة الأولى، وانكشف الضباب عن عيني، فأخذت أنظر إلى جميل من جديد، فلم أجده الفتى الذي عهدت؛ فقد ضخم وجهه وترهل، وعرض جبينه في صلعة، ولقد اغتفرت له أنه لم ينهض للقائي ولم يمد يده لمصافحتي، ولكنني لم أغتفر له ذلك الطنين الخفي في صوته الذي يقصيني عنه. كان فيما مضى في صوته نبرة ثورة، وحدة إيمان استحالت الآن إلى هدوء مائع ساخر، وكنت قبل اليوم تشعر إذ تحادثه أنك في حضرة مقاتل يجاهد في تحقيق أمر نبيل، وها هو يصدر الأوامر ويقضي الحاجات، كأنه عامل في مصنع ينزع المسمار من هنا ليضعه هنا، يفعل هذا في حذق ودقة، ولكن بغير حماس. وكنت من قبل أرى حول رأسه هالة ، كأنما هو قديس أو ولي، فإذا بتلك الهالة أمست ضبابا من كآبة؛ إذ تسرق إلى صوته حزن عميق، ورنة يأس لم أفقه معناها.
وصمت وصمت.
ورحت ألاعب الصرة التي أردتها هدية له، وأضحك من نفسي إذ إن محادثتنا قاطعها ظهور بعض مستخدمي المكتب، واحدا إثر واحد، ولم يسعني الآن أن أفهم من شظايا كلماتهم أنهم يمارسون التجارة بأرقام ضخمة: «أرسل ستين ألف دولار إلى نيويورك ... اطلب عشرة صناديق ذهب من المكسيك ... ادفع حوالة ال 68 ألف دولار ... ثمانية آلاف صندق سواكير ... أربعة آلاف صندوق صابون ... لا نقبل طلبية بأقل من خمسة آلاف دولار ... مليون شفرة ...»
Bog aan la aqoon