86

وهذه القصة بعينها ينبغي قبل نفيها أن نعرف مصلحة المسلم أو الجاهلي في اختراعها وإلصاقها بعبد المطلب وعبد الله، فقد قيل: إنها اخترعت لتصوير عبد الله أبي النبي في صورة الذبيح إسماعيل، وقيل: إنها لم تظهر في الجاهلية قبل البعثة الإسلامية.

فهل من مصلحة مسلم أن يختلق القصة ليقول: إن جد النبي أوشك أن يذبح أباه قربانا للأصنام؟

وهل من مصلحة جاهلي أن يبدع الافتنان في القصة، وفي وسيلة الخلاص من الفداء؛ لينكر على سدنة الكعبة قدرتهم على استخبار أربابها، ويرجع بالفضل في الوسيلة والاستخبار إلى كاهنة خيبرية تفتي لهم في شئون عباداتهم وأبنائهم، حيث يعجزون عن الفتيا وهم مفتقرون إليها؟

ولم هذا التخصيص بعبد المطلب وعبد الله؟ ومن الذي كان عنده من قدرة الافتنان في القصص مثل هذه القدرة، ثم خفي أمره، ولم تأت منه أفنونة مثلها في زمانها؟

وهناك مسوغ آخر للظن يبدر إلى الذهن إذا كانت هذه القصة قد حدثت لأحد قبل عصر عبد المطلب ثم نقلت إليه، كما حدث كثيرا في القصص المتكررة التي تروى عن أناس متفرقين، ولكن هذه القصة بذاتها لم ترد بها الرواية في بلاد العرب أو غيرها عن أحد غير عبد الله، وليست هي مما يوضع في بلاد لم تعهد السهام وضرب القداح، والفداء بالإبل، والتقرب إلى كعبة تجمع الأصنام من هبل إلى نائلة إلى إساف. فلماذا اخترعت في بلاد العرب وخص عبد الله باختراعها عليه؟

إن لم تكن هناك شبهة من هذه الشبهات ومسوغ من هذه المسوغات فقبول القصة أولى من رفضها، وتأليفها على هذا الافتنان لغير قصد معلوم أصعب من وقوعها، وقد تساق في معرض ترجيحها وتداولها إلى منتصف القرن الأول للهجرة رواية للطبري يقول فيها بعد سند متصل: «إن ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة، فأمرها بذبح مائة من الإبل، وذكر لها هذه القصة عن عبد المطلب، وسألت عبد الله بن عمر فلم يفتها بشيء بل توقف، فبلغ ذلك مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال: إنهما لم يصيبا الفتيا. ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير، ونهاها عن ذبح ولدها، ولم يأمرها بذبح الإبل، وأخذ الناس بقول مروان.»

والحق بين رفض القصة وقبولها أنه لا موجب لرفضها، وليس في قبولها ما يخالف مألوفا من مألوفات زمانها، وقد كان نذر عبد المطلب طلبا عزيزا من الإله يبذل له فديته، وكان الوفاء من فضائله المأثورة، وكان مع الوفاء بالنذر إيمان بسوء العقبى، وحذر من أن يصيب الجزاء أبناءه جميعا، فليس في هذا الوفاء خليقة تختلق؛ لأنها فوق طاقة الإنسان.

ومن ارتضى قصة النذر هذه فنصيب عبد الله عنده أعظم من نصيب أبيه؛ لأنه سلم حياته فدية لإخوته، ولم ينكص عن طاعة أب وطاعة رب، ومن يفعل ذلك ينبئ عن إيمان قوي بالواجب، وإقدام على الموت في ريعان الشباب، وقد كان له أن يتمحل المعاذير فلا تعوزه الحيلة، فكأي من رجل لا ينكر الدين ولا يمرق منه إذا سامه الدين ما يعز عليه، لم تتعذر عليه الحجة للتحلل من فرائضه، والاجتراء على أوامره ونواهيه.

على أن الملاحظة التي تستوقف النظر من أمر هذه الأسرة القوية المباركة: أن أخبارها المتناثرة التي ترسل إرسالا في المناسبات المتفرقة أدل عليها من الأخبار التي تنتظم في مناسبة واحدة، وتحتمل مظنة الوضع والتأليف. ومهما تتناثر الأخبار عن أحوالها في الجاهلية تخلص بنا إلى خصلة ملحوظة في جميع هذه الأخبار، وهي «النظام» الذي تتوخاه في معاملاتها وعلاقات أفرادها على البديهة بغير تدبير مقصود.

فمن هنا كلمة ومن هناك خبر ، ومن جوانب شتى أحاديث وروايات، وكلها ينطبع بهذا الطابع بغير شذوذ حتى حين ينتظر الشذوذ ولا يستغرب، فأبو لهب نفسه - وهو الخارج على إجماع الأسرة - يأبى في مجلس قريش أن يسام أخوه الكبير - أبو طالب - ما لم يتعوده من الطاعة والتوقير، ويحضر مجلس الأسرة فلا يزيد على كلمة يقولها حين يسمع من أخيه أنه ينصر محمدا، ولا يستمع فيه لملامة بعيد أو قريب، ثم ينصرف من المجلس وهو كظيم.

Bog aan la aqoon