وكان نسطور بطرقا للقسطنطينية ينشر مذهبه ببأس الدولة، ثم عزل وتعقبه خصومه بالنفي إلى أرض النوبة، ومحور مذهبه أنه يفصل بين الناسوت واللاهوت في السيد المسيح، ويرفض القول بتأليه العذراء عليها صلوات الله. وكان الأنطاكي يناقض تفسير الكتب الدينية بأسلوب المجازات والرموز، ويلتزم اللفظ والنص في فهم معانيها ومسائلها الغيبية. وكان آريوس يقول: إن الكلمة هي واسطة الخلق، ويقول أوريجين: إنها مخلوق محدث له الشرف على سائر المخلوقات، وإن هذه الكلمة تجسمت في السيد المسيح، فظهرت على مثال الإنسان، وآخرون يقولون: إن جسد السيد المسيح تشبيه بالجسد، وليس بالجسد المادي الذي يحكي جسد الإنسان، وإنه في لاهوته أجل وأرفع من أن يتعذب أو يتضرع، وصيحته عند الصلب لم تكن «ربي! ربي!» بل كانت: قوتي! قوتي! كما ورد في بعض النصوص. •••
ويعترف جورج سيل، مترجم القرآن، بما كانت عليه حال المسيحيين في الحجاز من السوء والضلالة، فيقول في مقدمته للترجمة: «من المحقق أن ما ألم بالكنيسة الشرقية من الاضطهاد واختلال الأحوال في صدر المائة الثالثة للميلاد، قد اضطر كثيرين من نصاراها أن يلجئوا إلى بلاد العرب طلبا للحرية، وكان معظمهم يعاقبة؛ فلذا كان معظم نصارى العرب من هذه الفرقة. وأهم القبائل التي تنصرت حمير وغسان وربيعة وتغلب وبهراء وتنوخ وبعض طيئ وقضاعة وأهل نجران والحيرة ...
ولما كانت النصرانية بهذه المثابة من الامتداد في بلاد العرب، لزم عن ذلك ولا بد أنه كان للنصارى أساقفة في مواضع جمة منها لتنتظم بهم سياسة الكنائس، وقد تقدم ذكر أسقف ظفار، وقال بعضهم: كانت نجران مقام أسقف، وكان لليعاقبة أسقفان يدعى أحدهما أسقف العرب بإطلاق اللفظ، وكان مقامه باكولة، وهي الكوفة عند ابن العبري، أو بلدة أخرى بالقرب من بغداد عند أبي الفداء، وثانيهما يدعى أسقف العرب التغلبيين، ومقامه بالحيرة. أما النساطرة فلم يكن لهم على هذين الكرسيين سوى أسقف واحد تحت رئاسة بطريركهم.»
إلى أن يقول: «أما الكنيسة الشرقية فإنها أصبحت بعد انفضاض المجمع النيقاوي مرتبكة بمناقشات لا تكاد تنقضي، وانتقض حبلها بمماحكات الآريوسيين والنساطرة واليعقوبية وغيرهم من أهل البدع. على أن الذي ثبت بعد البحث أن كلا من بدعتي النساطرة واليعقوبية كانت بأن تدعى اختلافا في التعبير عن المعتقد أولى من أن تدعى اختلافا في المعتقد نفسه، وبأن تدعى حجة يتعنت بها كل من المتناظرين على الآخر أولى من أن تدعى سببا موجبا لالتئام مجامع عديدة يتردد إليها جماعة القسان والأساقفة، ويتماحكون ليعلي كل واحد منهم كلمته، ويحيل القضايا إلى هواه.
ثم إن نافذي الكلمة منهم وأصحاب المكانة في قصر الملك كان كل واحد منهم يختص نفرا من قواد الجيش، أو من أصحاب الخطط يكون له عليهم الولاء ويتقوى بهم، وبذلك صارت المناصب تنال بالرشى، والنصفة تباع وتشترى جهارا. أما الكنيسة الغربية فقد كان فيها من تهالك دماسوس وأرسكينوس في المشاحة على منصب الأسقفية - أي أسقفية روته - ما أفضى إلى احتدام نار الفتنة وسفك الدماء بين حزبيهما ...
وكان أكثر ما تنشأ هذه المناقشات عن القياصرة أنفسهم ، ولا سيما القيصر قسطنطينوس، فإنه إذ لم يقدر أن يميز بين صحيح الدين المسيحي وخرافات العجائز ربك الدين بكثير من المسائل الخلافية ... هذا ما كان عليه حال النصرانية في غير بلاد العرب. أما في بلاد هذه الأمة، التي هي موضوع بحثنا، فلم تكن خيرا من ذلك؛ فكان في نصارى العرب قوم يعتقدون أن النفس تموت مع الجسد وتنشر معه في اليوم الآخر، وقيل: إن أوريجانوس هو الذي دس فيهم هذا المذهب.
وكم وكم من بدعة انتشرت في جزيرة العرب حتى لا نقول نشأت فيها! فمن ذلك بدعة كان أصحابها يقولون بألوهية العذراء مريم، ويعبدونها كأنما هي الله، ويقربون لها أقراصا مضفورة من الرقاق يقال لها: كليرس، وبها سمي أصحاب هذه البدعة كليريين، وفضلا عن ذلك فقد اجتمع أيضا في جزيرة العرب عدد وافر من الفرق المختلفة الأسماء لجئوا إليها هربا من اضطهاد القياصرة ...» •••
فالحالة التي تمثلت بها النصرانية في جزيرة العرب لم تكن حالة هداية يحيط بها مذهب واحد صالح لتعليم من يتعلمه، بل كانت شيعا سياسية ومذاهب متنازعة، يتوقف العلم بالصالح منها على هدى الناظرين فيها، وعلى ما عندهم من البصر الثاقب والبداهة المنزهة، التي يعود إليها الفضل فيما تقبله وتأباه، ولا فضل عليها لمن يعلمها نحلة من تلك النحل تقدح في سائرها، وترمي الذين لا يتبعونها بالكفر والضلال.
والقرآن الكريم يصف هذه الحالة بين أهل الكتاب جميعا كما جاء في سورة المائدة عن طوائف اليهود والنصارى.
قال عز من قائل:
Bog aan la aqoon