وقوله: فلا قضض ولا رمض، يقول: الأرض قد ألبسها النبت فليس فيها قضض، والقضض: الحصى الصغار، والرمض: أن تحمى الأرض من الشمس، يقول: فليس هناك رمض لأن الأرض مجللة بالنبت، فلا يرمض واطئها، وقوله: عازبها لا يفزع: أي من عزب فيها، وبعد من الناس لم يخف، ومن رعاها لم ينكع: أي لم يمنع: لأنه غير محظور عليه لكثرته.
أخبرني عمي عن أبيه عن ابن الكلبي قال: خطب ابنة الخس الإيادية ثلاثة نفر من قومها، فارتضت أنسابهم وجمالهم، وأرادت أن تسبر عقولهم، فقالت لهم: إني أريد أن ترتادوا لي مرعى، فلما أتوها قالت لأحدهم: ما رأيت؟ قال: رأيت بقلًا وبقيلًا، وماءً غدقًا سيلا يحسبه الجاهل ليلًا؛ قالت: أمرعت؛ وقال الآخر: رأيت ديمةً بعد ديمة، على عهاد غير قديمة، فالناب تشبع قبل الفطيمة؛ وقال الثالث: رأيت غيثًا ثعدًا معدًا، متراكبًا جعدًا، كأفخاذ نساء بني سعد تشبع منه الناب، وهي تعدو.
تفسير قول الأول. - قال أبو بكر قوله: بقلًا وبقيلًا، يقول: بقل قد طال وتحته غمير قد نشأ؛ وماء غدقًا سيلا: أي كثيرًا؛ يحسبه الجاهل ليلًا: من كثافته وشدة خضرته.
قول الآخر. - قال أبو بكر: ديمة بعد ديمة: على إثر ديمة، الديمة: المطر يدوم أيامًا في سكون ولين، والعهاد: أول ما يصيب الأرض من المطر؛ تشبع منه الناب قبل الفطيمة: يريد أن العشب قد اكتهل وتم، فالناب، وهي المسنة من الإبل تشبع قبل الصغيرة، لأنها تنال الكلأ، وهي قائمة لا تطلبه، ولا تبرح من موقفها، والفطيمة تتبع ما صغر من النبت.
قول الثالث. - قال أبو بكر: الثعد: الغض، والمعد إتباع؛ والثرى الجعد: الذي قد كثر نداه، فإذا ضممته بيدك اجتمع ودخل بعضه في بعض كالشعر الجعد؛ وقوله: كأفخاذ نساء بني سعد: أراد في غلظ الأفخاذ، وخص نساء بني سعد لأن الأدمة فيهم كثيرة؛ وقوله: تشبع الناب وهي تعدو: هذا نحو كلامهم الأول يقول: النبت قد ارتفع وطال، فالناب: أي المسنة من الإبل تعدو وتأكل لا تطأطئ رأسها.
أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: خرج النعمان في بعض أيامه في عقب مطر، فلقي أعرابيًا على ناقة له، فأمر فأتي به، فقال: كيف تركت الأرض وراءك؟ فقال: فيح رحاب، منها السهول ومنها الصعاب، منثوطة بجبالها، حاملة لأثقالها، قال: إنما أسألك عن السماء، قال: مطلة مستقلة على غير سقاب ولا أطناب، يختلف عصراها، ويتعاقب سراجاها؛ قال: ليس عن هذا أسألك، قال: فسل عما بدا لك، قال: هل صاب الأرض غيث يوصف؟ قال: نعم، أغمطت السماء في أرضنا ثلاثًا رهوًا فثرت، وأرزغت ورسغت، ثم خرجت من أرض قومي أقروها متواصيةً لا خطيطة بينها حتى هبطت تعشار. فتداعى السحاب من الأقطار، فجاء السيل الجرار، فعفى الآثار، وملأ الجفار، وقوب عادي الأشجار، فأجحر الحضار، ومنع السفار، ثم أقلع عن نفع وإضرار، فلما اتلابت لي القيعان، ووضحت السبل في الغيطان، تطلعت رقاب العنان من أقطار الأعنان، فلم أجد وزرًا إلا الغيران، فقاءت جار الضبع فغادرت السهول كالبحار تتلاطم بالتيار، والحزون متلفعة بالغثاء، والوحوش مقذوفةً على الأرجاء، فما زلت أطأ السماء، وأخوض الماء، حتى طلعت أرضكم.
قال أبو بكر: رحاب فيح: واسعة؛ الصعاب: الحزون والغلظ؛ منثوطة: مثبتة لا تزول؛ حاملة لأثقالها: لمن عليها من الناس وغيرهم؛ مطلة: أي مرتفعة، وكذا مستقلة؛ وقوله: بغير سقاب ولا أطناب: فالسقاب: أعمدة الخباء، والأطناب: الحبال المشدودة إلى الأوتاد، هذا مثل؛ وقوله: يختلف عصراها: الليل والنهار، وسراجاها الشمس والقمر؛ وأغمطت السماء: أي دام مطرها؛ وقوله: رهوًا أي ساكنًا؛ وقوله: فثرت: أي تركت الأرض ثريةً؛ وقوله: أرزغت: أي تركت في الأرض رزغةً، والرزغة والردغة واحد، وهو الطين الذي لا يغطي القدم؛ وقوله: ثم رسغت، يقول: بلغ الماء الرسغ؛ قوله: أطأ السماء: أي آثار السماء من المطر؛ متواصيةً: متصلةً بعضها ببعض.
1 / 7