Masrahiyyat Shawqi
محاضرات عن مسرحيات شوقي: حياته وشعره
Noocyada
والفكرة التي بنى عليها المؤلف مسرحيته ليست في الواقع ملهاة، وإنما هي مأساة أخلاقية لا تختص بها طبقة اجتماعية بذاتها، ولا هي وقف على عامة الشعب، بل يتردى فيها الكثير من علية القوم الذين كان شوقي يخالطهم، فهي مرض إنساني عام صوره شوقي تصويرا ناجحا يضحكنا ويحزننا في نفس الوقت، ويثير في النفس الكثير من التأملات الأخلاقية والإنسانية.
وليس من شك في أن هذا الموضوع قد كان أكثر مواتاة لاتجاه شوقي الأخلاقي، بحيث يمكن القول: إنه لو امتدت به الحياة، واستمر في تصوير واقعنا الاجتماعي والأخلاقي، ونقده على هذا النحو، لأصاب من النجاح أكثر مما أصاب في مآسيه التاريخية، ولخلف لنا أدبا مسرحيا رفيعا في مجال الكوميديا، وإن يكن من الراجح أن النثر أكثر صلاحية للكوميديا من الشعر، بل وربما كان النثر العامي أكثر ملاءمة من النثر الفصيح، حتى يأتي أقرب إلى الطبيعة وألصق بحياة الشعب التي يصورها.
شوقي والفن المسرحي
ليس من شك في أن عنصر الدراما؛ أي الحركة، يعتبر العمود الفقري في الفن المسرحي، وكلمة «دراما» اليونانية الأصل، معناها الاشتقاقي هو الحركة، ومنذ القدم استعرض أرسطو في كتاب الشعر عند حديثه عن التراجيديا، الوسائل التي يولد بها المؤلفون المسرحيون هذه الحركة، فتحدث عن المفاجآت المسرحية المختلفة، وطرق قيادة الأحداث المسرحية إلى نتائجها النفسية والأخلاقية، ومن المعروف أن المسرح الذي نشأ نشأة دينية عند اليونان القدماء، كان يعتمد أساسيا على الصراع بين البشر «والأنانكية»؛ أي الضرورة الكونية، التي كانت تختلط عندهم أحيانا بالقضاء والقدر، بالرغم من أنهم كانوا يخضعون الآلهة ذاتها لتلك الضرورة، كما كانوا يجرون ذلك الصراع أيضا بين الآلهة والبشر، ولكنه لما كانت آلهتهم تتصف بجميع صفات الإنسان بما فيها من مواضع ضعف وقوة، وكانت تستشعر جميع المشاعر البشرية بما فيها من قبح وجمال، فإن هذا الصراع كان يتخذ طابعا إنسانيا بحتا، فالآلهة ترضى وتغضب، وتحب وتكره، وترتكب الآثام، وتخطف النساء، وتغار من البشر، وتفكر كما يفكرون، حتى ليمكن القول بأن عنصر الدراما عندهم كان يقوم على أنواع الصراع البشري المختلفة أي الداخلية والخارجية؛ ولذلك عندما نشأ الأدب الكلاسيكي بعد عصر النهضة اعتمد هو الآخر على عنصر الصراع في توليد الدراما، والظاهر أن شوقي قد تأثر بهذا المذهب الكلاسيكي، فاعتمد في الكثير من مسرحياته على الصراع الذي يجري داخل النفس البشرية أو خارجها، على نحو ما نلاحظ في «مصرع كليوباترة» أو «مجنون ليلى» أو «عنترة»، ولكنه للأسف لم يستطع أن يتعمق ذلك الصراع على نحو يثير الانفعالات القوية، أو التفكير العميق في نفس القارئ أو المشاهد، وكان ذلك لسببين:
أولهما:
أن شوقي قد أجرى الصراع بين العوامل النفسية والعوامل الأخلاقية، وقد لا يكون هذا الاختيار في مبدئه سببا لضعف تأثير مسرحياته؛ فقد اعتمد كورني من قبله على نفس الصراع بين المشاعر والأخلاق، وعلى الأخص بين الحب والواجب، ومع ذلك بلغ من التأثير والقوة مبلغا رائعا في «السيد» و«هوراس» و«سينا» وغيرها من مآسيه، ولكن كورني لم يسلك مسلك شوقي، في تخير المبادئ الأخلاقية التي يدخلها في صراع مع العواطف البشرية؛ فالأخلاق التي يستند إليها كورني ترجع في جوهرها إلى ما يسميه علماء الأخلاق «أدب الرياضة والاستصلاح»؛ أي أدب رياضة النفس على الخير والحق والجمال، واستصلاحها على أساس قيادة الضمير والاستماع لصوته الإلهي، وأما شوقي فإن مبادئ الأخلاق عنده تستند إلى ما يسمى ب «أدب المواضعة والاصطلاح»؛ أي ما تواضع عليه المجتمع من عادات وتقاليد، لا تغوص جذورها في الضمير الفردي، ولا تلقى جزاءها من وخزات ذلك الضمير، بل تستند إلى رأي الجماعة في الفرد وحكمهم عليه، وجزاؤها يصدر عن رأي الجماعة أو القبيلة ومدى سيطرته على الفرد، وبذلك لم تصبح مبادئ الأخلاق عنده شيئا مستقرا في أعماق النفس البشرية، حيث تستقر أيضا المشاعر والعواطف والشهوات، بحيث يمكن أن يجري الصراع العنيف الذي يمزق النفس البشرية، ويثير تفكير ومشاعر القارئ أو المشاهد حتى تلهث أنفاسه ويرتفع انفعاله، وهذا واضح في مأساة المجنون مثلا، حيث لا يجري الصراع في نفس ليلى بين الحب والواجب، بل بين الحب وتقاليد العرب، فهي لا ترفض الزواج من قيس؛ لأن ضميرها يأبى هذا الزواج؛ بل لأن العرب تستنكر زواج الفتاة بمن شبب بها وفضح حبه لها، وفي «عنترة» نرى ألوانا من نفس النوع الذي يستند غالبا إلى تقاليد وأوضاع المجتمع لا إلى الضمير الفردي ومبادئ الأخلاق الشخصية.
والسبب الثاني:
هو أن شوقي لم يعمق حتى ذلك الصراع الذي أجراه بين المشاعر الإنسانية والأخلاق الاجتماعية؛ ولذلك لا نجد في مسرحياته صراعا حقا عنيفا، بل انتصارات سهلة يسيرة لمبادئ تلك الأخلاق على المشاعر الإنسانية، فنحن لا نلمح في مجنون ليلى آثارا قوية لذلك الصراع، ولا تمزقا داخليا عنيفا يهز مشاعرنا، وعلى العكس من ذلك يمر هذا الصراع مرورا هينا، فوالد ليلى يفوض لها الأمر ويترك لها الخيار، فتفضل في يسر وسهولة وردا الثقفي على قيس دون أن نحس بأن هذا التفضيل قد كلفها عسيرا، أو أثار في نفسها شجونا، وإذا كان شوقي لم يشأ أن ينطق ليلى أمام أبيها أو أهل قبيلتها، بما يفصح عن هذا الصراع، فقد كانت لديه وسائل مسرحية معروفة يستطيع أن يصور لنا هذا الصراع المؤثر بواسطة ما يسمونه ب «الائتمان»، أو بواسطة «المناجاة»، والائتمان هو أن يحملها على الإفضاء بمكنون سرها إلى صديقة أو أمة أو تابعة تثق فيها، والمناجاة تكون بواسطة المنولوج الفردي الذي تخلو فيه إلى نفسها، تنفض مكنونها وتظهرنا على جراحها الخفية وآلامها أو آمالها الدفينة، ولكنه لم يفعل، بل إننا لنلاحظ أنه يضعف أحيانا جلال وروعة ذلك الانتصار الأخلاقي السهل، بإشارات عابرة لا ندري لماذا أقحمها، مع أنه لم يستغلها في سياق المأساة، ولا في تصوير الشخصيات تصويرا كاملا، أو في تزكية الأثر الذي تحدثه مسرحيته، وذلك على نحو ما نلاحظ في شخصية رئيسية كشخصية نتيتاس في مأساة قمبيز، فهذه الفتاة النبيلة يتضح من مجموع المأساة أنها ضحت بنفسها فداء لوطنها، عندما قبلت الزواج من قمبيز، حتى تمنعه من غزو مصر بعد أن علق هذا الغزو على قبول أو رفض فرعون تزويجه من ابنته، ومع ذلك يأبى شوقي إلا أن يشير في مطلع مأساته إلى حب عاثر كان بين نتيتاس وتاسو حارس فرعون، إذ تخلى الأخير عنها وهجر حبها لينقله إلى نفريت بنت فرعون الحالي، الذي قتل والد نتيتاس، وبذلك ألقى في نفس القارئ شكا في نبل نتيتاس، وعظمة تضحيتها، وأصبحنا نتساءل هل كانت تضحية نتيتاس عن يأس من حبها العاثر، أم فداء لوطنها؟ وفضلا عن ذلك فإن ظروف نتيتاس، كانت تسمح بأن يصور الشاعر في نفسها أنواعا عاتية من الصراع؛ وذلك لأن نفسها لم تكن جريحة بسبب غدر تاسو لحبها فحسب، بل كانت جريحة أيضا بسبب قتل فرعون لأبيها واغتصابه الملك منه، وليس بمعقول أن لا يكون لهذه الجراح أثر عميق في نفسها، ولو أن الشاعر عمق هذه الجراح، واستغل المشاعر التي كان من الطبيعي أن تولدها في نفس نتيتاس، ثم غلب في النهاية داعي النبل والوطنية الفدائية في نفسها لازدادت شخصيتها قوة وجاذبية ونبلا وإثارة لمشاعر القراء والمشاهدين.
وهكذا يتضح لماذا لم ينجح شوقي النجاح الكامل في استغلال عنصر الصراع، الذي استغلته التراجيديا الكلاسيكية عند الفرنسيين، فوصلت إلى قمة الدراما والتأثير المسرحي.
ودراسة عنصر الدراما عند شوقي، يتطلب النظر أيضا في طريقة استخدامه للحيل المسرحية الثانوية، مثل «التعرف» الذي استخدمه في تعرف آمال على أخيها مراد بك، في مأساة «علي بك الكبير»، وتعرف «حسون» على «بثينة» في مأساة أميرة الأندلس، وكذلك حيلة «المفاجأة» التي استخدمها في مفاجأة بشر لقيس في مأساة «المجنون»، وأيضا وسيلتي «الائتمان» «والمناجاة» في الكشف عن دخائل النفوس، وكل هذه حيل معروفة مطروقة في الأدب المسرحي منذ أقدم أزمنته، وليس من الممكن المفاضلة على نحو مطلق بين هذه الحيل؛ ففي بعض المواقف قد تفضل المناجاة الائتمان، وفي مواقف أخرى قد يصح العكس، وموضع المؤاخذة ربما كان في إسرافه في المناجاة، حيث نطالع أو نسمع منولوجات غنائية طويلة، في مواقف حرية بأن تعقد اللسان أو لا تنطقه إلا بالنزر اليسير، ولكنه شوقي الشاعر الغنائي الذي ينطلق على سجيته ليطربنا بقصائده الشجية التي تكاد تكون قطعا غنائية قائمة بذاتها لا أجزاء من مسرحية، على نحو ما نلاحظ في منولوجات كليوباترة وأنطونيو، أو وادي العدم، أو أغنية التوباد، وإن يكن من الملاحظ أن مسرح شوقي قد تطور، فقلت قصائد المناجاة، أو أوجزت في المسرحيات التي تلت «مصرع كليوباترة» و«مجنون ليلى»، وازدادت أهمية الحوار وطبعيته.
Bog aan la aqoon