ولا شك أن استرندبرج قد مهد الطريق للحركة التعبيرية، بل لعله قد عبده كذلك للحركة السيريالية. والمهم أن الدراما لديه قد أصبحت هي دراما الأنا أو الذات الباطنة، وأن تفاصيل الحدث الواقعي - من مشاعر الإثم والذنب أو المنازعات العائلية المألوفة أو مشكلة المال الذي يحصل عليه البطل - صارت مسائل تافهة، بل إن فلسفة المؤلف ورأيه في الكون والحياة لم تعد ذات خطر؛ لأن مسرحية مثل «إلى دمشق» قد أصبحت مسرحية «الأنا» التي تعرض المراحل التي تمر بها هذه الأنا عرضا ملحميا هائلا، ولأن هذه الأنا قد أصبحت هي الدراما نفسها، وكل ما نراه أمامنا من شخوص وأحداث وصور ولوحات وحوار ليس في حقيقة أمره غير مناجاة (مونولوج) يتحدث فيها المؤلف مع نفسه ويحاور رؤياه الباطنة أو يحاول استكشاف أغوارها والتعليق على ما يدور فيها، وكأن كل هذه الشخصيات التي تتحرك على خشبة المسرح من شحاذين وأطباء وقسس وأمهات وأبناء ... إلخ لا تخرج عن كونها تعبيرات مادية عن ذات الكاتب القلقة، صورا تجسم ما يضطرب فيها من قوى متناقضة. ولذلك ليس عجيبا أن نرى الحدث الخارجي والحوار يتحولان إلى الشكل الطقوسي المعروف في مسرح العصور الوسطى، وأن نلاحظ اتساع الرقعة التي تشغلها المسرحية فتتخذ بأجزائها الثلاثة شكلا ملحميا تدور أحداثه في دائرة بحيث تخرج المشاهدين من نقطة المركز لترجع إليها في النهاية وتقفل هذه الدائرة مع ختام المسرحية، ولا شك أننا نلتقي هنا بذلك الشكل الساخر المتجانس الذي التقينا به في ملهاة «ليونس ولينا»، كما نلتقي كذلك بالشكل الذي عرفناه في «فويسك» بمشاهدها التي تتتابع لاهثة محمومة، لنتبين في الحالين أننا أمام صورة جديدة من صور الدراما غير الأرسطية سيكون لها شأن كبير فيما بعد.
وعلى العكس من استرندبرج الذي تعبر رؤاه الباطنة عن واقع خارجي ممزق منهار، نجد أنفسنا الآن أمام «بيراندللو 1867-1936م» الذي يتفكر في هذا الواقع ويتأمله. إن أعماله الأدبية كلها تدور حول مشكلة المظهر والحقيقة، والقناع والوجه، والواقع الخارجي والواقع الداخلي، وانقسام شخصية الإنسان في المجتمع الحديث أو بالأحرى تفتتها إلى شخصيات (ذرية) عديدة ... إنه يسأل في كتاباته كلها هذا السؤال البسيط: أين القناع وأين الوجه؟ لذلك يصبح المسرح عنده، كما كان عند بوشنر، رمزا للمجتمع الحديث. كما يصبح وسيلة للكشف عن وجهه الحقيقي أو عن الهاوية الفاصلة بين المظهر والحقيقة، وهي الهاوية التي انشقت بالفعل تحت قدمي بوشنر.
وليس من المستطاع في هذا المجال الضيق أن نستعرض مسرحيات بيراندللو العديدة أو رواياته وأقاصيصه التي لا تقل عنها أهمية. ولكننا سنكتفي بالنظر في بعض هذه المسرحيات التي تخدم الغرض الأصلي من هذه السطور. فمسرحية «كل على طريقته» (1924م) هي في الحقيقة مسرح في مسرح، على النحو الذي رأيناه من قبل عند «لودفيج تيك». فهناك مسرحية اجتماعية تعرض على خشبة المسرح، وفي الفترات التي يتوقف فيها التمثيل يتناقش المتفرجون «من فوق الخشبة» حول المسرحية، وتتكشف فضيحة عامة فيوقف عرض الفصل الثالث. ويعلق بيراندللو على هذا بقوله: «إن إظهار ممرات المسرح والجمهور الذي شاهد الفصل الأول يهدف إلى بيان أن التمثيل الذي ظهر منذ البداية كأنه شأن من شئون الحياة اليومية ليس في حقيقته إلا وهما أو خيالا متقن الصنع ...» فالكوميديا التي تعرض على خشبة المسرح تعكس كوميديا المجتمع، والكاتب يكشف القناع عنها ويوجه الهجوم إليها وهي على الخشبة.
أما مسرحيته المعروفة «هنري الرابع» (1922م) فبطلها نبيل شاب يعتقد المحيطون به أنه مصاب بالجنون. وهو يقوم بتمثيل دور الملك البائس العظيم هنري الرابع (1553-1610م) ويتقمص شخصيته إلى الحد الذي يدفع من حوله لمحاولة شفائه من هذا الجنون. ولكن الأحداث تكشف عن أنه ليس مجنونا كما يظن الناس، وأنه لعب دوره عن وعي كامل ليفصح حقيقة بيئته وأصدقائه. إن الثوب الذي لبسه هو - على حد قوله - صورة مشوهة من تلك اللعبة الضخمة الساخرة التي نقوم فيها مختارين بدور الحمقى عندما نتنكر عن غير علم منا في زي ما يبدو لنا أنه الواقع. وهكذا يصر على إبقاء القناع على وجهه متحديا العالم المحيط به ...
المسرح عند بيراندللو يؤدي نفس الدور الذي أداه هاملت عندما وضع قناع الجنون على وجهه ليتمكن من اكتشاف الحقيقة. وبيراندللو يفعل ما فعله هاملت كذلك عندما يجعل من المسرح مرآة ينعكس عليها الواقع، لكي يكشف عن حقيقة هذا الواقع الخارجي أو بالأحرى عن كذبه. ويبدو أن بيراندللو قد يئس في أواخر حياته من جدوى هذه اللعبة الخطرة. فهو في مسرحيته الأخيرة التي لم تتم «عمالقة الجبل، 1936م» ينتهي إلى أن هذا الكشف عبث لا طائل وراءه. فالعمالقة - وهم يرمزون للعالم الخارجي - يحطمون عالم التمثيل الذي يعلن لهم الحقيقة. لقد أساءوا فهم ثورة الدمى. وهي علامة سيئة لأنها تدل على أن بيراندللو قد يئس من مهمته؛ إذ لم يعتقد - كما اعتقد برشت فيما بعد - أن باستطاعته تغيير العالم عن طريق المسرح.
إذا كانت هذه المسرحيات تبين لنا نوعا من التأمل المفارق للحدث - وهو من أهم عناصر المسرح الملحمي كما سبق القول - فإن مسرحيته الشهيرة «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» (1921م) تدفع به دفعة قوية داخل إطار المسرح الملحمي الحديث. إنه هنا يناقش الموضوعات التي يطرحها على المسرح مستخدما شكل مسرحية المجتمع. بل إنه يقترب من المدرسة الطبيعية عندما يضع الشكل موضع الشك والسؤال عن طريق الموضوع الذي يعالجه. وهو في مسرحيته «الليلة نرتجل التمثيل» (1930م) كما في مسرحيتيه السابقتين ينفذ من هذا الشكل أو يفجره عن طريق الموقف المسرحي نفسه. فليس هذا الموقف إلا نموذجا يقدمه للمناقشة أو مناسبة تمكنه من قطع خيوط الحدث أو إيقافه تماما عن طريق التأمل فيه والتعليق عليه. وليست مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» سوى نموذج مسرحي خالص، ولا تخرج عن كونها وسطا يجسم أفكاره وخواطره بشكل درامي في مشاهد متخيلة. فثمة مسرحية تدور تجاربها، وإذا بالشخصيات الست تندفع إلى خشبة المسرح بحثا عن المؤلف الذي تركها ناقصة على الورق وتعرض على مدير المسرح والمخرج «مسرحيتها» على أمل أن يحققها على الخشبة. هذه الشخصيات الست التي خلقها خيال مؤلف إنما تمثل الواقع الداخلي أو الحقيقة الباطنة. إنها تقتحم العالم الخارجي الذي يحيا فيه الممثلون كما تفوقه صدقا وواقعية. وفي اللحظة التي يتحول فيها هذا الواقع الداخلي إلى واقع خارجي ملموس، في اللحظة التي تنطلق فيها رصاصة المسدس فتقتل أحد الأشخاص، يهرب الممثلون ملتمسين النجاة؛ لأنهم ليسوا إلا قوالب جوفاء للواقع الخارجي.
بهذا تنتهي المسرحية. ولكنها لا تنتهي إلى حل. فلا يزال البحث مستمرا عن جسر يصل الواقع الداخلي بالواقع الخارجي. ولو نظرنا للمسرحية من ناحية الشكل لوجدناها تتحرك على مستويين مثل مسرحية «لكل حقيقته». فالشخصيات الست تعرض مسرحيتها على الممثلين، ومدير المسرح والممثلون يقطعون هذه المسرحية بأحاديثهم أو اعتراضاتهم. والشخصيات نفسها تخرج عن دورها من حين إلى حين لتشرح موقفها أو تبرره، كما ينعكس انقسامها بين المستويين - بين الواقع الداخلي والخارجي، بين الشخصيات والممثلين - مرة أخرى على الواقع الداخلي الذي تقوم بتمثيله والخارجي الذي يتجلى في تأملاتها وتعليقاتها؛ أي أنها تبرر موقفها أو عالمها الداخلي للمثلين الذين يصورون العالم الخارجي أو «الحقيقي». وهكذا يتم نوع من التبادل بين طبقتين من طبقات الواقع يعمل على إلغائهما معا، وبهذا يتذبذب الشكل الدرامي بين المستويين، أو قل إنه يذوب، كما يصبح التأمل أهم من الحكاية والحدث. فالحكاية تنسحب إذا أمام التأمل، وهذا أمر سيكون له دور كبير في المسرح الملحمي الحديث.
إن الشخصيات الست المشهورة تتعذب لأنها لا تستطيع أن تتحقق في الواقع، وإن كان المؤلف قد أعطاها من الحيوية والحياة ما لا يحلم به الأحياء! تصرخ إحدى هذه الشخصيات قائلة: «الحقيقة يا سيدي، الحقيقة!» فيرد عليها مدير المسرح: «نعم نعم. ستكون الحقيقة. ولكن يجب أن تفهموا أن مثل هذه الحقيقة لا وجود لها على خشبة المسرح .» هنا تنفتح هاوية بين الواقع والحقيقة نستطيع اليوم أن نقول إنها من أهم خصائص الوجود الحديث. ولقد كان لبيراندللو الفضل في الإشارة إليها. ولعله قد أراد شيئا من ذلك حين قال عبارته المشهورة: «قال نيتشه إن اليونان قد نصبوا تماثيل بيضاء أمام الهاوية لكي يحجبوها عن الأنظار. أما أنا فأحطم التماثيل لأكشف عن هذه الهاوية ...» •••
كان بيراندللو آخر الكتاب المسرحيين الكبار الذين مهدوا للدراما غير الأرسطية في العصر الحديث. رأينا عنده وعند غيره من الكتاب من أمثال بوشنر واسترندبرج وفيديكند وتشيكوف وغيرهم كيف تخلل إطار الدراما الأرسطية من وجوه عديدة، ووضعنا أيدينا على بعض العناصر التي تطور بها المتأخرون حتى تكون ما نسميه اليوم بالمسرح الملحمي. ونحب أن نسأل الآن عن العوامل التي أدت إلى هذا التطور: هل كانت هناك ضرورة لتجاوز البناء الأرسطي للدراما؟ وهل تكمن هذه الضرورة في تطور المجتمع والحضارة الحديثة أو أنها كانت مجرد نزوة فنية أمعن فيها الكتاب كيفما شاء لهم الهوى؟
الحق أن تاريخ الدراما يسجل أشكالا عدة من الدراما غير الأرسطية ولا يدع مجالا للشك في وجود عوامل كثيرة أدت إلى هذه الأشكال أو الأساليب المختلفة من البناء المسرحي. ونستطيع أن نقرر - بادئ ذي بدء - أن المادة أو المضامين التي عالجها الكتاب في معظم أشكال المسرح الملحمي كانت مضامين لها طابع الامتداد والاتساع المكاني والزمني والفكري. ولعل عبارة شيلر التي أشرنا إليها فيما تقدم أن تكون مصداقا لهذا الكلام. فقد قال إن التراجيديا - وهو يقصدها بالمعنى الأرسطي - لا تتناول إلا اللحظات الحاسمة أو الاستثنائية في تاريخ البشرية. أما الملحمة فتتناول تاريخ البشرية كله بما فيه من ثبات واستقرار ونظام.
Bog aan la aqoon