نادت ماريتا: «ماما!» سارت عبر المنزل إلى الفناء الخلفي. كان الوقت في نهاية الربيع، وكانت السماء ملبدة بالغيوم، والجو معتدلا. في بساتين الخضراوات اليانعة، كانت الأرض رطبة، وبدت الأوراق على الأشجار مكتملة فجأة، وأخذت تسقط قطرات من المياه التي تخلفت من أمطار الليلة السابقة. «ماما!» هكذا نادت ماريتا تحت الأشجار، تحت حبل الغسيل.
يوجد في نهاية الفناء مخزن صغير، حيث يحتفظون بخشب التدفئة، وبعض الأدوات والأثاث القديم. يمكن رؤية مقعد، ومقعد خشبي مستقيم الظهر، عبر الباب المفتوح. على المقعد، رأت ماريتا قدمي أمها، وحذاءها ذا الأربطة السوداء، ثم زي الأعمال المنزلية الصيفي القطني المطبوع الطويل، والمريلة، والأكمام المطوية، ثم ذراعي أمها البيضاوين اللامعتين، ورقبتها، ووجهها.
وقفت أمها على المقعد ولم تجب. لم تنظر إلى ماريتا، وإنما ابتسمت وقرعت بقدمها المقعد، كما لو كانت تقول: «ها أنا ذا. ماذا ستفعلين حيال ذلك؟» كانت على غير ما يرام، بخلاف وقوفها على مقعد وابتسامها على هذا النحو الغريب المتحفظ. كانت تقف على مقعد قديم تختفي منه روافده الخلفية، مقعد كانت قد جذبته إلى منتصف أرضية المخزن، حيث كان يتأرجح على الأرض غير المستوية. وكان ثمة ظل على رقبتها.
كان الظل عبارة عن حبل، أنشوطة في نهاية حبل تتدلى من أحد العوارض في الأعلى.
تقول ماريتا في صوت أكثر خفوتا: «ماما! ماما، انزلي، من فضلك.» كان صوتها واهنا؛ لأنها تخشى أن يفضي أي نداء أو صراخ إلى تحرك أمها فجأة، فتنزلق عن المقعد وتقع بكامل وزنها على الحبل. لكن حتى لو أرادت ماريتا أن تصرخ، لما استطاعت. لم يتبق لها سوى هذا الخيط الواهن المثير للشفقة من الصوت، مثلما في أحد الأحلام عندما يقترب منك بشدة حيوان ضخم أو آلة مخيفة. «هيا اذهبي وأحضري والدك.»
كان ذلك هو ما أخبرتها به أمها أن تفعله، وأطاعتها ماريتا. كانت تعدو، والرعب باد في رجليها. كانت تعدو، في رداء نومها، في منتصف صبيحة يوم سبت. جرت مارة ببيرل والأطفال الآخرين، الذين كانوا لا يزالون يتدحرجون على الأرض المنحدرة. جرت على الممشى الجانبي، الذي كان في ذلك الوقت ممشى خشبيا، ثم على الشارع غير المرصوف، الذي كان ممتلئا ببرك مياه صغيرة موحلة جراء أمطار الليلة السابقة. كان الطريق يتقاطع مع قضبان سكك حديدية. عند سفح التل، كان الشارع يتقاطع مع الشارع الرئيسي للبلدة. كان يوجد بين الشارع الرئيسي والنهر بعض المخازن ومبان خاصة بشركات تصنيع صغيرة. كان ذلك حيث توجد ورش صناعة العربات التي يعمل بها أبوها. كانت عربات النقل والعربات الصغيرة والزلاجات تصنع هناك. في حقيقة الأمر، كان والد ماريتا قد ابتكر نوعا جديدا من الزلاجات لحمل الأخشاب من الغابة، وحصل على براءة اختراعه. كان لا يزال في بداية حياته العملية في رامزي. (لاحقا، في الولايات المتحدة، صنع ثروة كبيرة. كان رجلا مغرما بالذهاب إلى حانات الفنادق، ومحلات تصفيف الشعر، وبسباقات عربات الخيول، وبالنساء، لكنه كان يقدس العمل، وهو ما جعله يستحق الثناء.)
لم تجده ماريتا في العمل ذلك اليوم. كان المكتب خاليا. عدت مسرعة إلى الفناء حيث كان الرجال يعملون. تعثرت في نشارة الخشب. فضحك الرجال وهزوا رءوسهم قبالتها. لا. ليس هنا. ليس هنا الآن. لا. لماذا لا تحاولين الذهاب إلى نهاية الشارع؟ انتظري. انتظري دقيقة. ألم يكن يجدر بك أن ترتدي بعض الملابس أولا؟
لم يقصدوا مضايقتها. لم يشعر أي منهم بأنه لا بد أن هناك مشكلة ما. لكن ماريتا لم تتحمل رؤية الرجال وهم يضحكون. كانت توجد أماكن تكره دوما المرور عليها، ناهيك عن الدخول إليها، وكان ذلك هو السبب. مجموعة من الرجال يضحكون. لهذا السبب، كانت تكره محلات تصفيف الشعر الخاصة بالرجال، كانت تكره رائحتها. (عندما بدأت في الذهاب إلى حفلات رقص لاحقا مع أبي، كانت تطلب منه ألا يضع أي شيء على رأسه؛ لأن الرائحة كانت تذكرها بهذا.) كانت مجموعة من الرجال تقف في الشارع، خارج فندق، تبدو لها مثل كتلة من السم. يحاول المرء ألا يسمع ما يقولون، لكنه يكون متأكدا من أنهم يقولون أشياء خسيسة. إذا لم يقولوا أي شيء، فإنهم يضحكون والخسة تفوح منهم - السم - بنفس الطريقة. لم تستطع ماريتا أن تمر عليهم إلا بعد تخلصها من خطاياها. مسلحة بحماية الرب، كانت تسير وسطهم ولم يكن شيء يؤذيها، أو يزعجها؛ كانت آمنة مثل النبي دانيال.
استدارت وعدت، في نفس المسار الذي جاءت منه؛ أعلى التل، وصولا إلى المنزل. كانت تعتقد أنها ارتكبت خطأ لأنها تركت أمها. لماذا طلبت منها أمها أن تذهب؟ لماذا كانت تريد أباها؟ من الجائز جدا حتى تستقبله بمشهد جسدها الدافئ المتأرجح في طرف الحبل. كان ينبغي على ماريتا البقاء. كان ينبغي عليها البقاء وإقناع أمها بالعدول عن ذلك. كان ينبغي عليها أن تعدو إلى السيدة ساتكليف، أو إلى أي جار، وألا تهدر الوقت على هذا النحو. لم تكن قد فكرت فيمن يستطيع أن يقدم المساعدة، من يستطيع حتى تصديق ما كانت تتحدث عنه. كانت تعتقد أن جميع العائلات باستثناء عائلتها كانت تعيش في سلام، وأن هذه المخاطر والمصائب لم تكن موجودة في منازل الآخرين، ولم يكن من الممكن شرحها لهم.
كان يوجد قطار قادم إلى البلدة. اضطرت ماريتا إلى الانتظار. كان الركاب ينظرون إليها من نوافذ القطار. انفجرت صارخة في وجه هؤلاء الغرباء. عندما مر القطار، واصلت طريقها أعلى التل، يا له من مشهد! بنت بشعرها غير الممشط، وقدميها العاريتين، المتسختين، مرتدية لباس النوم، ووجهها مهوش ومبتل. عند بلوغها فناء منزلها، على مرمى البصر من المخزن، كانت تصرخ قائلة: «ماما! ماما!»
Bog aan la aqoon