أما النجارون وأشباه النجارين؛ فكانوا مرهقين جدا وناقمين، وليسوا سعداء بالمرة، ولم يخفف عنهم دوام العمل الطويل الممل العمال المائة الذين ألحقوا بهم، وهم قاطعو الأشجار موضبو الأخشاب، الذين يثبتون المسامير في مواضعها، وطارقو المسامير الحديدية الحادة القاسية، وصانعو الطعام والشراب، الذين يرفضون رفضا قاطعا صناعة المحرمات مثل المريسة، كما أن لا خبرة لهم في صنعها، كانوا لا يعرفون لم يصر القائد الميداني على صناعة الصلبان، أليس من الأسهل والمفيد للوقت ولهم أن يتم إعدام هذا الكافر ومن يتبعه بالرصاص؟! نعم إنه مزعج ومخيف ويصدر ضجيجا مرعبا، ولكنه سيريحهم من صنع هذه الصلبان البغيضة المعقدة، الثقيلة، كانوا شبه أميين، لا يعرفون شيئا عن يوسف النجار، وحدثهم خطيب صلاة الجمعة أن الصليب الذي يلبسه المسيحيون في أعناقهم مصلوب فيه شبيه السيد المسيح، وليس سيدنا عيسى ابن مريم؛ لأن الله رفعه للسماء وأنزل بدلا منه هذا الرجل المسكين الذي صلبه اليهود وهم يظنونه عيسى ذاته، لم يصر هذا العسكري على صلبهم، بينما لم يصلب السيد المسيح عيسى ابن مريم؟ إذن ما ذنبنا نحن النجارين؟
العسكر ال 66 لا يرغبون في الحرب، وليست هي من ضمن هوايات أي منهم. إنهم من أسر كريمة تقدس الحياة وتحترم الجار والصديق، وتقيم الصلاة أيا كانت، في الكنيسة أو في الجامع أو في أي من أمكنة الله الكثيرة، وتعرف أن الرب لا يحب أن تقتل النفس البشرية، وأنه حرم ذلك، ولكن من يطلق الأوامر هو من يتحمل الذنوب والخطايا التي ترتكب في الحرب، إنهم سيطلقون الرصاص إذا أمروا بذلك، ولكن المرتكب الحقيقي لجريمة القتل هو القائد الميداني، وهو الوحيد الذي يمتلك حق إصدار الأوامر. إنهم يعرفون ذلك جيدا، وهذا أخطر ما في الأمر ؛ لأن ضمائرهم ستصاب بالموت، بالخدر البارد مثل الطين المخلوط بماء آسن؛ أي إنهم عندما يذهبون إلى منازلهم بعد كل معركة، سوف لا يحملون في ظهورهم أوزار موتى أبرياء أزهقوا أرواحهم قبل ساعات قلائل، القادة الميدانيون بدورهم يحملون جرم ما يفعلون لقادة أكبر يتسكعون في المركز، يستحسنون شرب القهوة المعطرة بحدائق أوزون، وبيرة بافاريا على شاطئ النيل الحبيب، وهؤلاء يقولون إن القاتل هو من أشعل الحرب؛ أي ذلك السياسي الرقيق الذي ينام في بيته مع أطفاله بعد أن يغني لهم بعض التبتبات، ويرضي زوجته المتبرمة بأوقية من الذهب الخالص، والسياسي الحصيف يقف وراء المايكروفون قائلا: أمريكا وإسرائيل - وأخيرا أخذوا يضيفون حكومة جنوب السودان - وراء هذه الحروب، بذلك يكون قد ولغ من الدم ما يشبع روح غول رحيم.
النجارون وأشباه النجارين يصنعون الصلبان في مقاس واحد فقط، وهو يصلح للجميع، نساء ورجالا، يعملون عليه بصورة نظرية، فليس لديهم تصور على كيفية عملها؛ لأنهم لم يروا ذلك من قبل، بل لم يشاهدوا صورا لأشخاص مصلوبين. لقد أعطوا المقاسات من طول وسماكة الأخشاب وقوتها وعدد المسامير ونوعها، وفوق ذلك كله طلب منهم أن يقوموا بدق المسامير على المصلوبين فيما بعد. لا يوجد أكثر حرفية من نجار في دق المسمار، أليس كذلك؟! ومن الأحسن أن تكون أنت من يدق المسمار وليس من يدق المسمار في جبهته وكفتي يديه، وواحد طويل وسميك في منتصف الصدر.
الرجل ومحبوه ومؤيدوه كانوا يجلسون في مكان مجهول لدى الجميع، بمن فيهم العسكر الذين جاءوا لقتلهم، والنجارون الذين يصنعون الصلبان، وإبراهيم خضر إبراهيم نفسه، ولكي يتضح هذا اللبس، دعونا نلقي نظرة على المكان، وهو عبارة عن موقع لقرية قديمة تم حرقها وإزالتها من الوجود قبل عامين، تقع في وادي عميق خصيب، حولها سلسلة جبلية مستطيلة، تحيط بنصفها الجنوبي والغربي، يوجد في لصق الجبل الغربي منبع مائي صغير، وكان هو من الأسباب التي قادت الجنجويد إلى المكان وإبادة ساكنيه، وإنهم فيما بعد جلبوا إليه بضعة مئات من الجمال لترعى فيه مع بعض الأسر، ولكننا الآن لا نرى أيا من هؤلاء الجنجويد وأسرهم، لقد قضى عليهم الرجل بكلمة واحدة، قال لهم اذهبوا نحو بلدكم؛ فأخذوا جمالهم وأطفالهم ونساءهم وعادوا للنيجر، تركوا بعض بعر الإبل وقليلا من الوبر متناثرا هنا وهنالك، ورائحة بول ماشيتهم ظلت عالقة بالهواء لأيام معدودات، ثم زالت أو أنها لحقت بهم. هكذا بكل بساطة ويسر، على مبعدة من النبع ببضعة أمتار توجد مغارات كبيرة وصغيرة، وهي بقايا سكنات دولة الداجو القديمة في قرون ما قبل الميلاد، مرسوم بها تفاصيل حياتهم اليومية، إنهم يقضون وقتا طويلا بالداخل، لا يدري أحد ما يفعلون، ولكنهم يخرجون في صبيحة كل جمعة، ويبقون في ظل راكوبة كبيرة منصوبة بين الأشجار التي تحيط بالنبع، وفي هذا المكان والزمان سيجدون جنودنا في انتظارهم والصلبان الغليظة تتشهى أجسادهم النحيلة الكافرة وتتشوق لعناقهم الأبدي.
النجارون وأشباه النجارين تعبوا من معالجة الأخشاب الصلبة الحمراء، استعانوا بالأغنيات التي تزخر بها ذاكرتهم المملوءة بنشارة الخشب، فحيح المناشير وأنين الأشجار. بالنسبة للكثيرين منهم إن هذه المهمة التعيسة قد توفر لهم كثيرا من المال أو بعضه بالقدر الذي يمكنهم من توفير مصروفات منزلية ملحة، ظلت عالقة في حبال المشيئات يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر، وقد تبدو بسيطة تافهة لدى البعض مثل أحذية الأطفال، أو ثوب جديد للزوجة التي لا تملك سوى بعض الأحلام، قل بيتا صغيرا، أو تحسينات في القطيات القديمات، أو سروالا جديدا لطفل كبير: قد يعطوننا مالا كثيرا. أما بالنسبة للقلة فإنهم يتشاءمون كثيرا بصنع الصلبان، وإن المال الذي سوف يجنونه من ذلك هو مال حرمته مؤكدة، يقيسون في لا وعيهم بتحريم الإسلام للخمور، فما حرم شربه تقطيره حرام بالتالي، ما حرم لبسه فحرام صنعه، وها هم يفعلون ما حرم الخالق، ويستر الله إذا لم يدخلوا النار يوم القيامة من جراء هذه الصلبان التي يقومون بصنعها الآن؛ يعملون بجد واجتهاد، بينما تدور كل هذه الهواجس في رءوسهم.
الجنود ال 66 والنجارون وأشباه النجارين، لا دخل لهم بما يدعيه الرجل من نبوة أو ألوهية أو ما يشاء، وما تنوي الحكومة من نوايا تجاهه، هو لا يضر بنا بشيء، كما أن ما تنويه الحكومة لا شأن لنا به، ولكنهم كانوا لا يسألون أنفسهم مثل هذه الأسئلة، أقصد أنها لا تخطر ببالهم. بمعنى آخر، إنهم لا يمضون بها إلى حيث نهاياتها، لم ينالوا فيما قبل المعرفة التي تمكنهم من صياغة مثل هذه الأسئلة. لقد حالت أسئلة اليوم دون أية أسئلة أخرى، أسئلة أكثر جمالا وتعقيدا، أو بالإمكان القول: لقد حيل بينهم وبين الأسئلة الفعلية أو طرائق نهاياتها، الأسئلة التي تخصهم كبشر، التي تخص خياراتهم بالذات، التي تجعلهم أحرارا في نهاية المطاف.
سمعوه يقول فيما بعد: السجان هو سجين باختياره، والصليب لنا، ولمن صنعه لنا.
ويقول أيضا: لا يصبح حرا من لا يستطيع أن يتبين أسئلته.
وكان يقصد الأسئلة التي تطلقهم أحرارا مثل طيور السمبر، ولم يتحدث يوما عن الإجابات؛ لأنها كما علموا: متغيرة.
في الجمعة السابقة خرجوا من أوكارهم وتمشوا قليلا ناحية ما كان في الماضي وسط القرية. وقف الرجل عند كوم تراب عليه بعض الحجارة، قال لأصحابه، بلغة دارفورية قديمة يجيدونها جيمعا عربا ودارفوريين: من منكم يرى ما بداخل هذه الكوم من التراب؟
Bog aan la aqoon