قالت له بصدق: أنا منتظراه من زمن، وأحس بأنه هو، هو ذاته.
قال لها: الله يكون في عونك.
ولم يتحدث كلاهما عن رؤيتها الغريبة التي تعتبرها سرها الأعظم الذي أباحت به له وحده في يوم ما. تبرعت لها عبد الرحمن بفرسها، وأعد لها النساء بالمعسكر بعض الأطعمة الجافة التي يحملها المسافرون معهم، وخوفا من أن يلتقي بها الجنجويد في الطريق أو القوات الحكومية، وقد رسم لها شارون خارطة طريق جيدة، ودعمها باثنين من خيرة جنوده وأكثرهم كفاءة، وكان من بينهم شيكيري توتو كوه، وطلبت عبد الرحمن أن تذهب في صحبتها إلى تخوم نيالا، فهي لمن تنس الطريق التي سلكتها للمعسكر قبل شهور طوال بمساعدة العم جمعة ساكن، وقبل أيضا شارون اقتراح عبد الرحمن بأن القوة كلها تكون من النساء، وأن يبقى شيكيري بالمعسكر، بذا تحركت مريم في رفقتها عبد الرحمن وآسيا وناديا، وهن مقاتلات شجاعات خبرن حروبا كثيرة ونجون كثيرا، وقعت آسيا في الأسر مرتين وهربت في المرتين، وعادت إلى ميدان المعركة، وكان هروبها داويا جدا في المرة الأخيرة؛ لأنها استطاعت أن تأخذ معها أسيرا وهو الحرس المكلف بحراستها، كان بإمكانها أن تقتله، ولكنها أبقت على حياته لسبب واحد فقط هو أنه: الجندي الوحيد الذي لم يغتصبها ولم يتحرش بها، وهو من قبيلة عربية استخدمتها الحكومة في الحرب كثيرا، ولكنه ظل نقيا ونظيفا، وهي دائما ما تحب أن تتحدث عنه بهذه اللغة، آسيا غير متزوجة، ولها طفلة واحدة، بالمدرسة الابتدائية بالخرطوم بحري تقيم مع جدتها.
ناديا، لم تؤسر، ولم تأسر أحدا، ولكنها شاركت فيما لا يحصى عدده من معارك، وهي أقدم في ميدان المعركة من آسيا وعبد الرحمن، لا تفوقها في ذلك سوى مريم المجدلية، ولناديا زوج مقاتل وطفلان أعادتهما لأسرتها بنيالا، وهما ولد وبنت في الثامنة والعاشرة من عمريهما؛ البنت أكبر سنا، وتقول ناديا: إنها تحارب من أجل طفليها لا أكثر: أن يعيشا في بلد خالية من الجنجويد والعنصرية.
مريم كانت أكثر سعادة من أي وقت مضى، وتبتسم كلما تذكرت سرها الذي تقاسمته مع شارون؛ فهي عندما انضمت لشارون كانت تظن أنه النبي عيسى الذي حلمت به كثيرا جدا، النبي الذي يخلص دارفور من قبضة الحكومة ومرتزقتها الجنجويد، ويعيدها لمجدها وسلامها القديم ولحياة الأمن والمحبة التي كانت بين العرب وبقية الدارفوريين منذ قديم الزمان. لقد حلمت بمسيح دارفوري يفعل ذلك، بل إنها رأته في رؤيا صادقة آمنت بها. مريم من أسرة تنتمي لإحدى القبائل العربية القديمة، التي وفدت دارفور منذ سقوط دويلات الأندلس، وتحالفت وتصاهرت مع الفور والتنجور؛ مما وفر لها سبل الإقامة في أودية جبل مرة وتحولت للنشاط الزراعي بدلا عن الرعي، واستبدلت إبلها بأبقار وماعز وضأن.
سمعت كثيرا بشارون، عن انتصاراته على الجنجويد وقوات الحكومة، ويحكي الناس عنه بطريقة تظهره كأحد أساطير العالم الحديثة، ولكنها عندما أقامت معه واقتربت منه أكثر تبين لها أن شارون لا ينفع أن يكون غير قائد عسكري، أو رجل دين عادي، كان الدين يختلط في رأسه بالسياسة بالبندقية بالتحرر، ولو أنه لم يشترك في حروبات الدولة السودانية ضد سكان الجنوب في القرن الماضي، تلك الحروبات التي تصفها بالقذرة، وقد أزهقت أرواح مليونين من الرجال والنساء والأطفال، كما فعل كثير من قادة جيوش التحرر في دارفور، إلا أنه لم يكن بعيدا عن فكرة الجهاد الإسلامي ولو بصورة باهتة؛ فشارون على جانب حبه للضحك ونصب الكمائن للأعداء، كان يرى أن الإسلام هو الحل الوحيد لمشكلات دارفور، روح الإسلام بعيدة عن نماذج الدولة السودانية أو أي نموذج آخر، فهو يحلم بإسلام قد لا يتعارض مع الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.
عندما وصلن تخوم مدينة نيالا، ودعنها. كان عليها أن تعبر مدينة نيالا إلى جبل أم كردوس، وألا تمر بالمدينة أو يراها أحد الجواسيس أو المتربصين بالثوار والمقاتلين، فبإمكان أي إنسان أن يتعرف على هويتها بمجرد أن يراها أو يشم رائحتها، نسبة لقلة الحمام والعمل الشاق في ميادين القتال، وإعطاء الأولوية كلها للدفاع أو الهجوم؛ فإن المقاتلين والمقاتلات لا يلتفتون إلى مسألة النظافة والغذاء، إلا بالقدر الذي يجعلهم يبقون على قيد الحياة؛ مما يجعل رائحة أجسادهم كشميم النسور.
على مريم أن تعبر ما يزيد على المائتي ميل غربا إلى جبل أم كردوس، وتحتاج هي ويحتاج فرسها للراحة والطعام والماء معا، وعليها أيضا ألا تعبر المدينة أو تقترب منها، وأن تتجنب المرور بالقرى الكبيرة أو أشباه المدن، وهي ربيبة هذه الأمكنة. كان الأمر ليس بالعسير عليها، والمياه التي تحملها في القربة الجلدية الكبيرة تكفيها وفرسها معا ليومين آخرين، ولكن عليها أن تقضي النهار قرب أقرب مكان تطمئن له، وقررت أن يكون ذلك المكان هو وادي الدومات؛ منخفض شاسع جنوب جبل أم كردوس، ولكنه يبعد عنه قرابة المائة وخمسين ميلا، تعرفه جيدا، وهو شبه غابة من الدوم، ويقال إنه كان المسكن الأساسي لملك الداجو الأسطوري كسفورو، الذي لولا مكيدة امرأة عجوز لقتل كل رجال قبيلته في سبيل إشباع رغباته الغريبة، وجدت بالسير نحو الموقع.
من المتوقع ألا تجد أحدا هنالك؛ لأن الناس في زمن الحرب أصبحوا لا يبتعدون كثيرا عن مساكنهم التي هي المدن أو شبه المدن، حفاظا على حياتهم، وتجنبا لملاقاة الجنجويد الذين لا يترددون إطلاقا في قتل من يلتقون به، مدنيا كان أم عسكريا. أما النساء فإنهم يغتصبونهن ربما إلى الموت أو الإغماء، هي تتوقع أن تلتقي بهم، ولكنها لن تكون لقمة سائغة، ستقاتل بكل شجاعة وبكل ما لديها من خبرات قتالية، وتعرف أنها ستنتصر عليهم، حتى إذا كانوا بالمئات؛ فهي تؤمن بذلك إيمانا قاطعا، لا أحد يستطيع أن يحول بينها وأن تلتقي بالسيد المسيح ابن الإنسان، إنها على موعد لا يؤجل ولا يفسد معه. كانت الدومات مخضرة كعادتها، ويعم المكان الصمت ما عدا أصوات الطيور وبعض السناجب، ونوس الغصون التي تداعبها الريح الخفيفة، واتخذت لها مكانا يحمي ظهرها جيدا، وتصبح فيه هي مواجهة للمخافات المحتملة، وعليها ألا تنام، أن ترتاح فقط لا أكثر، قامت بتكسير قشرة بعض ثمار الدوم للفرس الذي يلتهمها بشهية، وأكلت هي أيضا منها، ثم نامت، نامت نوما عميقا، لا تدري كم من الزمن ظلت نائمة، إلا أنها عندما استيقظت وجدت بالقرب منها نارا مشتعلة، والمكان مظلم إظلاما تاما لولا تلك النار لما استطاعت أن تتبين الفرس الذي ما زال يأكل بالقرب منها، ولكن هذه المرة في كومة من العشب الطري، تتسرب رائحته إلى أنفها، جاست وهي تفرك عينها، كما لو أنها كانت في حلم، عندما سمعت صوتا يقول لها، بلكنة حلوة: هل استيقظت يا مريم؟
كان هذا الصوت ليس غريبا بالنسبة لأذنيها، وعندما اقترب منها، عبر ضوء النار الشحيح استطاعت أن تتبين رجلا شابا له لحية كبيرة ووجه مبتسم مستدير، شهقت وهي تهتف: المسيح ابن مريم.
Bog aan la aqoon