وقال في موقع آخر: أهبكم جميعا فرصة الاستمتاع بالألم، وسأهب نفسي أيضا.
لذا، إذا كانوا قد فهموا ما يرمي إليه، فإنهم يتوقعون أحداثا جساما، ينتظرونها بشجاعة ولذة. كانت كلماته تسمع بكل مسام الجسم وليس بالأذن وحدها، ويسمعها البشر والحيوان، وتسمعها الجمادات، وكل من وما يسمعها ليس لديه خيار إلا أن يطيعها ويؤمن بما تحويه من معان؛ لأن كل ما يقوله هو ذات الحقيقة، وهي لم توجد حرة ومطلقة على الطبيعة كما وجدت الآن؛ لذا كان دائما ما يكرر قائلا: وا شوقاه لمن يكفر بي.
الرجل، أو السيد المسيح، أو النبي عيسى، أو مسيح دارفور، أو النبي الكاذب كما يسميه السياسيون ورجال الدين، كان رجلا بسيطا، من أسرة صغيرة، وهو أكبر الأبناء فيها، أمه مريم بنت عمر، وأبوه يوسف أحد النجارين المشاهير بزالنجي، وهو لا يستطيع أن يؤكد متى أحس بنبوته، أو أنه مختلف، ما لم ينبهه أخوه ابن خالته يحيى، الذي لاحظ أن أخاه عيسى يستطيع القيام بأفعال وأمور لا يستطيعونها، بل يقول أشياء لا يفهمونها وهم الذين في عمره، وهنا سنعرج على ما يسميه يحيى حادثة وادي برلي: وادي برلي بنيالا عبارة عن نهر موسمي صغير، ينبع من المرتفعات التي تقع جنوب نيالا وشرقها، وهو الرافد الحقيقي والأساسي للمياه الجوفية بالمدينة، ويمثل الوادي أيضا المتعة الإنسانية والسياحية لسكان نيالا جميعا، حيث تقام فيه احتفالية السباحة العفوية السنوية، رجالا ونساء، يسبحون وهم في كامل ملابسهم وزينتهم، حيث إن العري عيب شنيع، بل يعد من الفضائح الكبيرة، التي لا يمكنها أن تمحى من ذاكرة المكان، ما عدا للأطفال الذكور؛ فإن الأمر عادي ومتسامح.
كنت وأخي عيسى كما الجميع نحاول أن نستمتع بماء النهر، حيث إن الماء بهذه الكثرة نادر واستثنائي وموسمي، ولا يدوم طويلا مجرد ساعات قلائل من اليوم، قبل أن تشربه الرمال، تقريبا كنا في الثانية والرابعة عشرة من عمرينا. أنا أكبر منه بعامين، ولو أن أمي أصغر من أمه بعامين، إلا أنها تزوجت قبل أمه؛ فأمي مريم كويا وأمه مريم، وكويا تعني الصغيرة بلغة الفور الذين نشأت أسرتنا وسطهم، على الرغم من أن أمينا ليستا من قبيلة الفور، بل من قبيلة ذات أصول عربية تسمى كوكا بني حسن، وأبي من الفور وأبوه يوسف النجار من قبيلة المساليت.
بينما كنا نسبح باستمتاع ونلتقط بعض الأشياء التي يأتي بها الوادي من قرى اجتاحتها السيول، أو غابات قضت عليها وانتزعت شجيراتها من جذورها، إذا بالماء العكر المحمل بالطمي ومخلوقات الغابات وأشجارها، يصفى ويصبح نقيا جدا وهادئا جدا، ولامعا مثل الفضة كلما اقترب من عيسى أو حوله، وقد لاحظت أنه شكل هالة غريبة تفوق دائرتها المترين، كان هو مندهشا مثلي، بل خائفا جدا، وكلما انتقل إلى مكان آخر انتقلت الهالة الغريبة معه، وصفا الماء وهدأ وأصبح نقيا مثل الفضة، وفجأة وجدنا نفسينا نجري نحو المنزل، ولم يكن بعيدا عن الوادي، فهو خلف حديقة المانجو وليس بعيدا عن بيت الخالة خريفية، وهي امرأة مشهورة في تلك الأنحاء، وجدنا أمه مريم، ونحن بأنفاس تهبط وتعلو وأيد مرتجفة وشفاه ولسانين جافين خائفين مرتجفين، حكينا لها القصة، قالت بجدية بالغة وقد برقت عيناها: لا تقولا ذلك لأي إنسان كان، انسيا الأمر.
ثم همست لي بأذني وقد انفردت بي: لا تترك أخاك وحده، كن دائما معه.
عاش عيسى بعد ذلك طفولة مستقرة، وذلك ظاهريا، لكنه كان يسمع أصواتا ويرى أشياء، ويلمس ويحس بما لو قصه لأي إنسان غير أمه لاتهم بالجنون. عيسى كان يجد كل ما يحتاج إليه، يفكر في النقود فيجدها في كفه، يحلم بالطعام الجميل فتوفره له أمه الفقيرة، يلعب مع الأطفال فيفوز عليهم في كل المنافسات، يسقط الفصل الدراسي المنهار على الطلاب، فيكون عيسى هو الناجي الوحيد، ولم يمسسه حتى الغبار، وإذا غاب عن الدرس، نظر إلى وسائل التعليم المعلقة على الحائط، فعرف كل ما قيل وما لم يقل. الحق يقال، لقد كانت هنالك رعاية تخصه هو بالذات، رعاية من قوة كبرى؛ أي إن عينا سرية حنينة وطازجة تسهر عليه.
قالت ذات مرة عنه خالته مريم كويا أم يحيى: عيسى ولد عارفا، ما كان في حاجة إلى مدرسة.
أمه مريم كانت تخاف عليه خوفا شديدا، من كل الناس والأشياء، حتى من والده، وكانت تطلب منه ألا يخبره بكل شيء يحدث له، ما عدا هي ويحيى، كانت تخاف من خوف أبيه عليه إذا عرف بما يحدث لطفله من أشياء غريبة ومدهشة، ويغمرها إحساس غريب بأن هذا الطفل يخصها وحدها، ولا حق لأحد أن يتدخل فيما يخصه، حتى والده يوسف نفسه، الذي يحبه حبا جما. وكانت تصر على اصطحابه معها أينما تذهب، لأماكن الأفراح والأتراح، وتذهب معه للاحتطاب والعمل في المزارع القريبة بالأجر، لدرجة أن الأطفال أصدقاءه كانوا ينادونه: عيسى ود مريم.
لم يكن يحيى ابن خالته مندهشا للتحولات التي حدثت لعيسى بعد حادثة الوادي، بل كان يرقبها بروية ويسجلها في ذاكرته بدقة، فقد ينسى عيسى كثيرا مما يجري له من أحداث غريبة وذلك لكثرتها، كان يحيى ينقلها لخالته مريم أم عيسى، ثم أخذا يشركان مريم كويا أمه هو ثم مريومة بنت إسحاق جارة مريم أم عيسى وصديقتها المقربة جدا. لكن أهل المدينة لم يكونوا بعيدين عما يقوم به عيسى ويجري له؛ لقد لاحظوا أشياء كثيرة غريبة، إلا أنهم كانوا يلتزمون الصمت، وما ذلك إلا لأنهم كانوا يظنونه طفلا مجنونا أو في طريقه للجنون. لقد خبروا كثيرا من المجانين في حياتهم، وبعضهم أقرباؤهم والبعض جاء من أنحاء دارفور الكثيرة، وأفرزت الحرب المئات منهم يعيثون جنونا في شوارع نيالا، يتحدثون عن أشياء غريبة، ويظن البعض نفسه نبيا أو ربا، وهذا ليس بالغريب ولا الجديد، وقصة المجنون الذي دخل للوالي، بطريقة غريبة، حيث إنه تخطى الحراس الكثيرين بسهولة ويسر ووقف أمام الوالي وقال له:
Bog aan la aqoon