فرجع الطرف خاسئا حسيرا، والعقل مبهوتا مبهورا، والفكر متحيرا مذعورا، والوهم مذموما مدحورا؛ فسبحان الملك الحق المتعالي عن الجهات والأمكنة، الذي لا تأخذه نوم ولا سنة، ولا تصف جلال كمال عظمته الألسنة اللسنة، لا يحويه مكان، ولا يخلو منه مكان، ولا يصفه لسان، به كان الخلق لا بالخلق كان.
إن قلت: متى فقد سبق الكون كونه؛ أو قلت قبله فالقبل بعده؛ أو قلت أين؟ فقد تقدم المكان وجوده؛ أو قلت كيف؟ فقد أصحت (1) عن الوصف صفته؛ أو قلت مم؟ فقد باين الأشياء كلها؛ أو قلت هو، فالهاء والواو كلامه.
بالكلمة تجلى الصانع للعقول، وبها احتجب عن العيون، فسبحان من جوده آية وجوده، وأنوار عظمته مانعة من سهوده، لم يزل، ولا يزال، أزليا أبديا في الغيوب، ليس فيها أحد غيره ولا معبود سواه، لا يجوز عليه التشبيه الذي يرقبه فهمك، ولا التشكيك الذي ينتجه وهمك، الجبار الذي فتق ورتق ظلام العدم بقوته وقهره، فأهل الوجود بلا إله إلا الله، وأتقن نظام الموجودات بقدرته وأمره، فليس خالق إلا الله خالق السماوات، وبالعدل فطرها، وأجرى فيها شمسها وقمرها، فهي دائرة بقهره، طالعة لأمره، ملأها بالأنوار، وقدسها بالأبرار، وحرسها بالشهب الثواقب من الأغيار، وحفظها من الأود والانفطار، فهي عالم الملكوت، وقبة الجبروت، وسرادق العظمة والجلال والجبروت، سقفا مرفوعا، وسمكا محفوظا، بغير عمد يدعمها، ولا دسار يقبضها، لم يشيدها سبحانه خوفا من سطوة سلطان، ولا خشية من نزول حدثان، بل جعلها دليلا للناظر، وعلما للسائر، تدل آياتها على عظمته، ورفعتها على قدرته، وكمال لطفه وحكمته، فمن نظر في خلق السماوات، وتعاقب حركات السيارات، واختلاف الليل والنهار، وما تضمن ذلك من الحكمة العجيبة، والقدرة الغريبة، بل في نفسه، وتركيب جسده، شاهد في كل لحظة، وعاين في كل لمحة، شاهد حق، وناطق صدق، ينطق بأن صانعه حي قيوم قدير، ويشهد بأن موجده رب حكيم خبير.
سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، وقمر ذو إشراق، وسراج وهاج، وسحاب صاعد، وماء فجاج، وأجسام ذات أعضاء، وأحياء وأمشاج، والكل يدلون
Bogga 17