وأما التياترو الإمبراطوري المشهور فهو مثل أكثر ما في هذا الشارع من الآثار العظيمة جديد البناء، قام مكان مرسح قديم احترق برمته ومات فيه 2000 نفس، وهو أكبر حريق في المراسح العمومية حدث في الأيام الأخيرة. وقد أنفقوا على هذا المرسح الجديد وزخرفه وفرشه مالا طائلا ولا حاجة إلى القول إن فيه من السقوف المزخرفة والعمد المذهبة والجدران الملونة والفسحات المنظمة والذرى الفسيحة ما يستوقف الأنظار، وفيه نصب لمشاهير المؤلفين من أصحاب الروايات، مثل شاكسبير وموليير وشلر وغيرهم، وتضم قاعته الكبرى أكثر من ثلاثة آلاف نفس.
ولعل أشهر ما في هذه المدينة وأكثره نفعا للزائرين المتحفين العظيمين، وهما قصران بديعان بني أحدهما تجاه الآخر، وبينهما حديقة صغيرة وأمامهما الشارع الكبير الذي ذكرناه، فكأنما هما توأمان بنيا من سنة 1874 إلى 1889، وجعلا متشابهين في الوضع والشكل، فإن طول كل منهما 175 مترا وعرضه 77، ولهما أروقة قامت على عمد ضخمة بديعة الصنع، وفي الحديقة الصغرى ما بين القصرين نصب للإمبراطورة ماريا تريزا ملكة النمسا والمجر، وهي من أشهر ملكات هذه البلاد من آل هايسبرج. وقد أقام هذا النصب الإمبراطور الحالي في سنة 1888 على قاعدة من الرخام ارتفاعها 43 قدما، وفوقها تمثال الإمبراطورة وعلوه 19 قدما، وهو يمثلها في السنة الخامسة والثلاثين من عمرها باسطة ذراعها اليمنى، وفي يسارها صولجان الملك والقانون الذي سنه كارل السادس سنة 1772 بحصر الملك في البكر مثل قانون أكثر الممالك، وإلى جانب ماريا تريزا تماثيل المشاهير في الحرب والسياسة والعلم، وهم لا يقلون عن عشرين.
وفي المتحف الأول من هذين القصرين آثار تاريخية وتحف صناعية ورسوم ونقوش شتى لا يحصى عديدها، حتى إن فهرست هذه الأشياء ملأت ثلاثة مجلدات كبيرة فيها 30000 نمرة، ولكل قطعة في المعرض أو جملة قطع نمرة معلومة في هذه المجلدات، فإذا شاء المرء أن يطلع على ما في هذا المعرض العظيم كله لزم له أيام وأسابيع؛ لأن تاريخ الأمم - وبنوع أخص الأمم الخاضعة لسلطنة النمسا الحالية - جمع في تلك الآثار والنفائس. وقد قسم المتحف أقساما كثيرة ليسهل على الناس رؤية ما فيه، منها قاعات جمعت فيها آثار الفينيقيين الأول ومعبوداتهم، وإلى جنبها أروقة وقاعات ملئوها بآثار نينوى وآشور، وتلك الأصنام صنعت على شكل الحيوان، ولها أجنحة الطير ورأس البشر، كان الآشوريون يعدونها رمز القوة العقلية والبدنية ويضعونها في أكثر منازلهم والأماكن العمومية. ثم قاعة اليونان وفيها من رسومهم المتقنة وآثارهم ونقودهم ما نقتصر على الإشارة إليه. ومن ورائها قاعات التاريخ الروماني، وفيها صورة قياصرة رومية وتماثيلهم وشيء كثير عن القيصر ماركوس أوريليوس الذي مات في فيينا، وهنالك أيضا قسم خاص بالتاريخ المصري فيه أجسام محنطة وتمثال رعمسيس الثاني وأوزيرس المعبود القديم، وغير هذا مما يعرفه الذين رأوا بعض ما في متحف مصر، ولكن في ذلك المتحف تمثالا لأبي الهول المصري بأربعة رءوس، وهو بلا نظير في المتحف المصري.
ويلي ذلك قسم السلاح في هذا المعرض، وهو كبير عظيم الأهمية جمعت فيه أسلحة البشر من أول عهدهم بالقتال، أكثر ما فيه أسلحة النمسا وملابس قياصرتها وقوادها، وقد زاد رونق هذا القسم بما فيه من أسلحة الجركس والأرناءوط المحلاة بالذهب والفضة وبعضها مرصع بالحجارة الكريمة، وأشهرها ملابس إسكندر بك، وهو أمير ألباني نشأ في القرن الخامس عشر وأخذ أسيرا على عهد السلطان مراد الثاني، فربي على الدين الإسلامي في قصر السلطان حتى إذا كبر صار من قواد الجيش العثماني، ثم تآمر مع بعض الرجال واستعان بقوته على إرجاع ملك أجداده فتم له ذلك، ولم يمكن للسلطان أن يسترد ألبانيا منه مدة حياته ومات سنة 1467، ومن هذا القبيل سيف من الذهب للإمبراطور كارل الخامس وعصا الملك للإمبراطور فردينند الثاني، وغير هذا كثير كان ملوك النمسا وأمراؤها يهدونه للمتحف أو يتركونه إرثا له حتى اجتمع فيه كل هذه النفائس.
وصعدنا بعد رؤية هذا كله الدور الأعلى من المتحف على سلم كله من الرخام الأبيض، فوصلنا قاعات فسيحة بهية جمعت فيها الرسوم المتقنة من صنع أشهر الرسامين، وهي تزيد عن ألف صورة في عددها، وبعضها كبير يملأ الجدار كله، وقد قسمت هذه الصور الكثيرة حسب أنواعها، فترى في كل قسم منها الصور الفرنسية أو الهولاندية أو الإيطالية أو النمسوية أو غير هذا. وأما مواضيع هذه الصور فيعسر على الكاتب عددها؛ لأنها مختلفة كثيرة الأشكال، ولكن منها قسما كبيرا يمثل حوادث التوراة والإنجيل، وبعضها ثمين كثير الإتقان من صنع رفائيل المشهور وسواه، لا تقل قيمة الصورة الواحدة منه عن عشرة آلاف جنيه، وبعض هذه الصور خيالات وأوهام يختلقها المصورون لتمثيل هيئة الحب أو العفة أو البسالة أو السعادة أو غير هذا مما لا يحتاج المتفرج إلى شرح معه؛ لأن الرسم ناطق بالمعنى المراد. ولهذا النوع قيمة عند العارفين؛ فإن أشهر الصور الحديثة ما كان من هذا القبيل، وبعضها يدل إلى مناظر طبيعية زائدة الجمال، كأن تكون مناظر السحاب والشمس من وراء الغيوم أو مناظر الجبال والبحيرات والأودية، وأكثر ما يرى هنالك رسوم ضفاف الأبحر والبحيرات التي تسحر الناظرين بجمالها ويتمنى الرائي لو يمكن له أن يعيش في بقعة من الأرض جميلة مثل البقعة التي تشير إليها تلك الصورة، وبعض الرسوم تاريخية رأيت منها رسم واقعة بحرية كان أمير البحر النمسوي تجتوف يحارب فيها الطليان على مقربة من جزيرة ليسا سنة 1866، وفاز على أعدائه، وبعض المعارك التي جرت بين الفرنجة والسلطان صلاح الدين، ورسوم كثيرة لرودلف هايسبرج مؤسس العائلة الحاكمة في النمسا إلى الآن، وماريا تريزا التي أشرنا إليها كثيرا، وأشهرها رسم هذه الملكة حين قامت عليها فرنسا وبروسيا تريدان محاربتها بعد موت زوجها وفرت بابنها الطفل إلى بلاد المجر فاستعانت برعاياها المجريين على إرجاع الملك إلى ابنها، وعقد القوم مجلسا حافلا للنظر في أمرها، فلما انتظم المجلس جاءت وعلى ذراعها الطفل الصغير، وخطبت في أعيان المجر خطابا أثار حميتهم وحرك همتهم إلى نصرتها، ثم ختمت خطابها بالقول إن هذا ابن مليككم يا أبطالي فخذوه وافعلوا ما تريدون. حتى إذا انتهت من الكلام صاح الجمع قائلين: «لنمت جميعا من أجل ملكتنا ماريا تريزا.» ونصروها وأعادوا الملك إليها وإلى ابنها، وكانت ماريا تريزا من أعظم ملوك النمسا والمجر.
هذا مجمل ما في المتحف الأول. وأما الثاني تجاهه فإنه خص بالتاريخ الطبيعي؛ أي بالقديم والغريب من أشكال النبات والحيوان والجماد. ولهذا القسم بهاء القسم الأول وفخامته من حيث البناء، وهو ثلاثة أقسام، أولها لنوع الجماد وثانيها للنبات وثالثها للحيوان، وفي كل قسم أجزاء لما ظهر من هذه الموجودات في كل دور من أدوار الأرض الجيولوجية، فترى في قسم الجماد أحافير ومتحجرات شتى جاءوا بها من أقاصي الشرق والغرب، بعضها لا قيمة له إلا من حيث العلم بتاريخه القديم، والبعض كثير الجمال غالي القيمة. وقد جعلوا الدور الأول من البناء لقسم الحيوان، وأكثر ما ترى هنا وحوش مصبرة، وزحافات هائلة مثل الحيات الأميركية والهندية على أنواعها وبقية الأنواع الغريبة. والثاني للنبات وفيه غرائب يعسر وصفها أكثرها مصبر أيضا. والثالث للمتحجرات وبعضها جميل الشكل غريب النوع، والذين ينتابون هذا المعرض ويتعلمون مبادئ العلوم الطبيعية فيه ليسوا بالعدد القليل.
وذكرنا الأوبرا الكبرى، وهي من أحسن ما بني من نوعها، تضم خمسة آلاف نفس، وفي سقوفها وجدرانها ما لا يحصى من الزخارف ورسوم رجال الموسيقى، وقد بنيت ما بين عامي 1861 و1869. رأيت جوانبها الفخيمة وقاعتها الكبرى، حيث يجتمع الناس لسماع التمثيل والأنغام، وفي أعلاها ثريا هائلة المقدار لا يقل فيها عدد الأنابيب التي يخرج منها النور عن أربعة آلاف.
ويزيد هذا الشارع رونقا وبهاء أن فيه حديقتين، إحداهما حديقة فولكس أحاطوها بسور من الحجر والحديد، وفيها المطاعم والحانات والموسيقى، فهي يؤمها أهل فيينا مئاتهم وألوفهم عصاري كل نهار؛ لأنها في وسط المدينة، وأشهر منها حديقة ستاد بارك، هي من أعظم حدائق فيينا وأجملها، تشرف على شارع الحلقة وينتابها أهل الطبقة العالية من سكان فيينا، فهي ذات دروب نظيفة وجوانب بهية ومزروعات كثيرة الجمال ومناظر بالغة حد الإتقان والفخامة، تمر في جوانبها قناة من الماء ينصب في بحيرة صغيرة جمعوا إليها أكثر أشكال الطيور المائية، وغرسوا إلى جوانبها الأزهار من كل نوع وكل لون على شكل بديع النظام، حتى إنهم كتبوا بالزهر المختلف الألوان على أرضها اسم الحديقة وكلمات أخرى ، فكأنما أنت هناك على بساط من العشب، وفي البساط صناعة وكتابة وإتقان عجيب.
هذا أشهر ما يذكر في شارع الحلقة العظيم، وهو أجمل شوارع أوروبا وأحدثها نشأة وأكثرها مشاهد يتفرع منه دروب توصل إلى غيره من الشوارع الكبرى وما فيها من المشاهد المعروفة، مثل الشارع الموصل إلى كنيسة القديس أسطفانوس، وهي أشهر كنائس النمسا وأعظمها، بدئ في بنائها سنة 1300 وما زال الملوك ورجال الدين يزيدون في محاسنها إلى الآن، طولها 355 مترا والعرض 89، رسم شكلها مهندس اسمه جورك حكم عليه بالجنون لفرط ذكائه، ورسمه قائم في دار الكنيسة وهو في حالة السجن وبيده الآلات الهندسية، والكنيسة شائقة المنظر من خارجها بنيت على عمد من الرخام، وفي داخلها ما لا يمكن عده من آيات الإتقان، منها الهياكل الكثيرة بعضها قديم العهد، وفي جملتها هيكل بني سنة 1852 تذكارا لنجاة الإمبراطور الحالي من القتل. وفي ساحة الكنيسة مدفن لبعض القياصرة والكبراء، ولكن العائلة الحالية جعلت مدفن أفرادها في كنيسة الكبوشيين في فيينا، وهنالك دفن رودولف ابن الإمبراطور وإليصابات زوجته، وقد ذكرناهما في غير هذا الموضع، وإلى جانب الكنيسة الكبرى التي نحن في صددها برج عظيم ترى منه معظم فيينا وضواحيها.
وليس يبعد عن كنيسة أسطفانوس شارع جرابن، وله شهرة ذائعة؛ لأنه ثاني الطرق الكبرى في هذه العاصمة، وهو يحف الشجر بجانبيه، وفيه المخازن الملأى بنفائس الحاجات فترى جماعات الناس تقصده من كل جانب لمشترى بعض ما فيه. وهناك نصب للثالوث الأقدس أقيم في وسط الشارع على عهد الإمبراطور ليوبولد الأول سنة 1694 شكرا لله على زوال الطاعون من المدينة، ومن هذا الشارع يمكن لك الوصول إلى قصر الإمبراطور الذي يقيم فيه مدة الشتاء، دخلناه وراء القيم عليه، ورأينا من غرائبه المشهورة قاعة عظيمة للاستقبال، فيها 24 عمودا من الرخام، وقاعة الرقاد وفيها سرير كانت تنام عليه ماريا تريزا، وقاعة المرائي - دعيت كذلك لكثرة مرائيها - وفيها ساعة لا يلزم لها تدوير غير مرة في كل ثلاثة أعوام، وكان الناس ساعة خروجنا من هذا القصر متألبين عند مدخله يريدون التفرج على الكردينال، وهو يومئذ قام لأمر يقضيه في قصر الإمبراطور، فانتظرنا قدومه معهم ورأيناه بملابسه الأرجوانية وقبعته المثلثة الجوانب، ومن ورائه حشم ورجال الدين في عربات أخرى، حتى إذا توارى عن العيان سرنا من القصر إلى المكتبة الإمبراطورية، وهي من أكبر المكاتب العامة في الأرض، فيها نحو أربعمائة ألف مجلد، نصفها كتب خطية وكثير منها عربي مطبوع أو غير مطبوع، ومجلدات من أول عهد الطباعة، أكثرها ديني من أثمنها إنجيل كتب على جلد أحمر بالحروف الذهبية والفضية في أول القرن السادس، وكتب أخرى خطت على ورق مصنوع من شجر التوت وشجر النخل وغير هذا كثير، والناس من طلبة العلم وسواهم يقصدون هذه المكتبة ويدخلون قاعة المطالعة فيها بإذن خاص فيبحثون عن دقيق المسائل في كتبها القديمة، فإذا دخلت تلك القاعة أعجبت بما ترى من أدلة الاجتهاد وسيماء الوقار بين أولئك المطالعين.
Bog aan la aqoon