المقدمة
النمسا
ألمانيا
الدنمارك
أسوج ونروج
فنلاندا
روسيا
الدولة العلية
سويسرا
هولاندا
البلجيك
فرنسا
البورتوغال
إسبانيا
طريق إنكلترا
إنكلترا
إيطاليا
البابوية
الولايات المتحدة
معرض باريس العام
الجزائر
تونس
مالطة
سورية ولبنان
بلاد اليونان
رومانيا
السرب
بلغاريا
المقدمة
النمسا
ألمانيا
الدنمارك
أسوج ونروج
فنلاندا
روسيا
الدولة العلية
سويسرا
هولاندا
البلجيك
فرنسا
البورتوغال
إسبانيا
طريق إنكلترا
إنكلترا
إيطاليا
البابوية
الولايات المتحدة
معرض باريس العام
الجزائر
تونس
مالطة
سورية ولبنان
بلاد اليونان
رومانيا
السرب
بلغاريا
مشاهد الممالك
مشاهد الممالك
تأليف
إدوار إلياس
عباس الثاني خديوي مصر.
المقدمة
من عادات الغربيين الحميدة أن سياحهم وسائحاتهم لا يقتصرون على اللهو والنزهة في رحلاتهم، بل إنهم يضيفون الفائدة العلمية والتاريخية إلى ذلك. ولهذه الفائدة لذة خاصة بها لا يدركها إلا من نالها؛ فهي لا تقل عن لذة التنزه وتسريح النظر في طلاوة الجديد. وهؤلاء ضيوف مصر من الإفرنج نراهم بين ظهرانينا في شتاء كل سنة، الواحد منهم لا يكاد يخرج من فندقه إلا متأبطا كتاب دليل مصر يستطلع منه شأن ما يزوره من آثار ومعالم هذه الديار كالأهرام وأبي الهول والقلعة وبعض المساجد الأثرية وسواها. وقد يسترسل في البحث والسؤال والتنقيب بحيث يرجع من زيارته مزودا من المعلومات عن نفائسنا ومفاخرنا وهو لم يستغرق من الزمان إلا أياما معدودة. مع أن الشرقيين قد يشبون ويشيبون في بلادهم وهم لا يعرفون عنها شيئا يستحق الذكر، وإن ذهبوا إلى البلاد الأجنبية فلا يقرنون النزهة بطلب الفائدة.
وقد التفت الغربيون ولا سيما الإنكليز والألمان إلى رغبة مواطنيهم الشديدة فيما ذكرنا من فوائد السياحات؛ فوضعوا كتاب دليل لكل قطر على حدته يكشف الحجاب عن معظم محتوياته؛ فراجت هذه الكتب عند القوم أيما رواج وألفوها فهم لا يستغنون عنها في رحلاتهم، وربما افتقدها أحدهم ساعة السفر قبل أن يفتقد كيس دراهمه وحقبة ثيابه.
وقد دفعتني الغيرة الوطنية إلى الضرب على هذا المنوال؛ فألفت منذ سنوات كتاب «مشاهد أوروبا وأميركا» على إثر رحلات لي ودونت فيه الشيء الكثير من الحقائق والخواطر. وبعد أن نفدت الطبعة الأولى من كتابي المذكور عزمت على إعادة طبعه مع زيادات في أصله وإضافة أشياء كثيرة عن الممالك والأقاليم التي لم تذكر فيه، ومعظمها يتعلق بالحوادث الكبيرة التي جرت بعد طبعه أول مرة؛ مثل وفاة الملكة فكتوريا وإفضاء العرش إلى ولدها الملك إدورد السابع، وتتويج ملك إسبانيا، ووفاة البابا لاون الثالث عشر وخلافة البابا بيوس العاشر له، والرسوم والتقاليد التي أجريت عند الوفاة والتنصيب، وانفصال نورويج عن السويد، ووفاة ملك الدنمارك وتتويج ولده، وزواج ملك إسبانيا، ووفاة ملك السويد وتتويج ولده، إلى غير ذلك من الحوادث المهمة التي اشتملت عليها الطبعة الأولى من الكتاب.
ثم عزمت على سياحات أخرى فزرت معرض باريس الأخير ومدينة فيشي المشهورة بمياهها والجبل الأبيض وبلاد المغرب - أي الجزائر ومراكش وتونس - وطرابلس الغرب، ووصفت أهم مدنها وصفا واضحا جليا، وكتبت مقدمة تاريخية لبلاد المغرب أتيت فيها على ذكر الدول التي تعاقبت على البلاد من الفينيقيين فالرومانيين فالفندال فالروم فالعرب فالأتراك، مع إيراد الأسباب لقيام وسقوط كل دولة. ثم بسطت الكلام في دخول الفرنسويين بلاد الجزائر ومحاربتهم للأمير عبد القادر مدة تزيد عن عشرين سنة. ثم عرجت على مالطة فوصفت تاريخها من أيام احتلها فرسان مار يوحنا بعد أن طردهم السلطان محمود الثاني سنة 1522 من رودس، ومحاربتهم فيها للعرب والأتراك والفرنسويين وأسباب احتلال الإنكليز لها.
وبعد انتهاء رحلتي في المغرب سافرت إلى بلاد اليونان فذكرتها وجبل لبنان فوصفت سلسلة جباله وعلوها، وذكرت أنهاره في منابعها ومصابها وطولها وتعداده ومذاهبه ومساحته وحكومته ومصايفه التي يؤمها كثيرون من القطر المصري. وتطرقت من ذلك إلى وصف مدن بيروت ودمشق وبعلبك وحمص وحماة وحلب، وفي العام الماضي قصدت بلاد البلقان فزرت رومانيا وسربيا وبلغاريا وذكرت أهم مشتملاتها، وجعلت لكل منها مقدمة تاريخية ترتقي إلى القرن الرابع للمسيح، وصدرت الكلام عن كل قطر بخلاصة تاريخية؛ حتى يقف القارئ على ما مضى ويدرك كثيرا مما يلي ذكره في وصف المشاهد والمعارض والآثار. وحليته بستين رسما جميلا لأعاظم الرجال والمشاهد؛ لكي تستعين البصيرة بالبصر في استيعاب المبنى وتصور المعنى. ولقد تحاشيت في عبارة الكتاب الإسهاب الممل والإيجاز المخل، فلم أدون في فصوله إلا الذي شهدته بعيني في خمس سياحات طويلة؛ حتى إني ضربت صفحا عن ذكر كثير من المشاهد المهمة لأني لم أرها رأي العين؛ مثال ذلك: أن في بطرسبورج عاصمة روسيا عشرات من القصور المنيفة ولكنني لم أكتب إلا عن ثلاثة منها وهي أشهرها؛ لأني ذهبت إليها وشاهدتها من دون بقية القصور، وكان هذا شأني في جميع السياحات، وقد سميته «مشاهد الممالك».
ولما كان سمو مولانا الخديوي المعظم عباس الثاني ذا منن على العلم والآداب؛ بدليل انتشار المعارف في هذا القطر على عهده، فقد جعلت الكتاب تقدمة لسموه تيمنا باسمه وإقرارا بفضله، وصدرته برسم ذاته الكريمة، فتنازل - حفظه الله - إلى قبول هذه التقدمة الوضيعة. والله أسأل أن يجعل خدمتي مقبولة لدى القارئين.
النمسا
خلاصة تاريخية
معلوم أن هذه المملكة تضم الآن أمما شتى، لكل منها تاريخ خاص بها، فإن بوهيميا وبولونيا وبلاد المجر والنمسا وكرواسيا وغير هذه من أجزاء السلطنة النمسوية كانت مستقلة، ولا ينطبق تاريخها الخاص على تاريخ المملكة العام. وأما النمسا فاسم أطلق في أيام شارلمان على الممالك التي خضعت له حول نهر الدانوب ونهر الأنس في شرق أوروبا عرفت باسم أوستريا أو «أوسترك»؛ أي المملكة الشرقية، وكانت مؤلفة من معظم البلاد الواقعة الآن في حوزة ألمانيا والنمسا معا، وظلت تابعة لشارلمان وخلفائه حتى ضعف هؤلاء الخلفاء، وصار أمراء الممالك الألمانية ينتخبون الإمبراطور انتخابا، وكان الأساقفة في بعض الأحيان يقومون مقام الأمراء في الانتخاب، أو أن البابا يعين إمبراطورا للسلطنة الألمانية. وأشهر من انتخب لهذا المنصب بعد سلالة شارلمان هنري الأول ابن أمير بافاريا، ملك سنة 918 وأصلح أمورا كثيرة في البلاد، واشتهر بعده فريدريك الثاني الذي انتخب إمبراطورا في سنة 1212 وكان رجلا حازما عاقلا، مد سلطنته في الشرق والغرب وملك أكثر جهات إيطاليا، ولكنه كان عدو سلطة رجال الدين فحاربهم وحاربوه وانتهى الأمر بفوزهم عليه؛ لأن الناس كانوا في تلك العصور آلات في يد رجال الكنيسة. فلما مات فريدريك في سنة 1250 وقعت البلاد في اضطراب كبير وطمست أخبار عزها فلم يسمع لها بشيء يذكر إلا عام 1274 حين قام أمير من أشراف سويسرا اسمه رودولف هايسبرج، وعظم شأنه إلى حد أنه صار أميرا لأوستريا أو النمسا وهي يومئذ كما قلنا جزء من السلطنة الألمانية، وكان رودلف هذا عاملا في بلاط ملك بوهيميا فعسر على الملك أن يقر له بالإمارة وحاربه رودلف فانتصر عليه، واستتب له الملك فأورثه من بعده إلى بنيه، ولم يزل آل هايسبرج حاكمين في النمسا، وهم من أكبر البيوت المالكة في أوروبا الآن.
وظلت ألمانيا تحت سيادة آل هايسبرج إلى أن قام نابوليون الأول وجعل همه الأكبر تقسيم السلطنة الألمانية وتجزئتها حتى لا تنضم الأقوام الألمانية على فرنسا، فحارب بروسيا والنمسا حروبا متوالية قوض بها أركان السلطنة الألمانية في سنة 1806 حين أبدلت تلك السلطنة القديمة بسلطنة النمسا الحالية، ولقب الملك الحاكم يومئذ في فيينا من آل هايسبرج بإمبراطور النمسا على مثل ما هو اليوم. ولكن نابوليون حارب بلاد النمسا مرتين وانتصر عليها في موقعة أوسترليتز المشهورة سنة 1805، وفي موقعة واجرام سنة 1809. وبعد هذه الحروب اقترن بالبرنسيس ماري لويز ابنة الإمبراطور مكسميليان فصار حليفا للنمسا، وارتفع شأنها بين الممالك حتى إنها ضمت إليها في سنة 1815 بلاد لومبارديا والبندقية من أجزاء إيطاليا، وبلاد كراكوفيا في سنة 1847، ولكنها كسرت سنة 1859 في حربها مع فرنسا وإيطاليا فتخلت للدولة الإيطالية الحالية عن أملاكها في إيطاليا. وفي سنة 1866 شبت حرب مشهورة بينها وبين بروسيا بتدبير بسمارك الشهير فكسرت في تلك الحرب أيضا وتنحت عن الاتحاد الألماني حتى صارت بروسيا أكبر الممالك الألمانية ورئيستها.
وفي سنة 1867 أبرمت معاهدة بين النمسا والمجر على أن تكون المملكتان دولة واحدة لكل منهما نظام خاص بها واستقلال تام في الشئون الداخلية ويربطهما حكم الإمبراطور على المملكتين، فنتج عن هذا الاتحاد قوة كبرى للسلطنة النمسوية وجعلت السلطنة تنمو وتتقدم في أيامه حتى إن أوروبا اتفقت سنة 1878 في مؤتمر برلين على إضافة ولايتي البوسنة والهرسك إليها مؤقتا، وهما الآن من أجزاء السلطنة النمساوية بعد الذي اشتهر على إثر إعلان الدستور العثماني. وأبرمت معاهدة حربية بين روسيا وألمانيا والنمسا سنة 1879. ثم تنحت روسيا عن هذا التحالف فأبرمت المحالفة الثلاثية المشهورة بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا، وهي باقية إلى اليوم؛ فزادت البلاد تقدما ونموا ونفوذا واتسعت متاجرها وارتقت درجة العلم في أنحائها.
فرانس يوسف إمبراطور النمسا.
كل هذا تم على عهد جلالة الإمبراطور فرانس يوسف الجالس على سرير النمسا الآن، وهو محبوب من الأمم الخاضعة له حبا شديدا، ولولا مكانته في النفوس وما له من المهابة لخشي على بلاده من التجزؤ والانقسام؛ لأن رعاياه كثيرو الأجناس والمذاهب لا يضمهم رأي غير الولاء لشخصه. ولد في 18 أوغسطس سنة 1830، وارتقى العرش بعد تنازل عمه في 2 ديسمبر سنة 1848، واقترن بالأميرة إليصابات ابنة الدوك مكسميليان البافاري سنة 1854. وقد قسم لهذا الملك أن يكون منغص العيش كثير الهموم؛ فإنه قتل أخوه مكسميليان في بلاد المكسيك، وسيجيء الكلام عنه في باب تريستة، وانتحر ابنه وولي عهده رودلف سنة 1888 فكدر صفو عيشه، ثم قتلت قرينته في جنيف في شهر سبتمبر سنة 1898 من يد فوضوي اسمه لوكيني، فتم بذلك كأس حزنه الشديد. وهو من أعظم ملوك أوروبا الحاليين مهابة وأكثرهم خبرة. ولما تم على ملكه ستون سنة في شهر مايو 1908 أقيمت حفلات عظيمة اشترك بها إمبراطور ألمانيا وأكثر ملوكها وأمرائها مع وفود من أمراء الدول الأخرى وسراتها، وعمت الأفراح كل أنحاء السلطنة النمسوية.
وقد أحصي سكان النمسا سنة 1906 فكانوا خمسين مليون نفس، ومساحتها 675887 كيلومترا مربعا، غير مساحة البوسنة والهرسك اللتين سبق ذكرهما.
تريستة
ركبت متن البحار من الإسكندرية في يوم راقت سماؤه واعتل هواؤه من شهر يونيو عام 1893، وكان بدء السفر على غير ما يوافق ذلك اليوم؛ لأن السفينة جعلت تتقلب وتميل ونحن لا نرى في البحر موجبا لهذه الحركة. فسألنا ربان الباخرة في ذلك، قال إنه بقية اضطراب فيما يلي سطح البحر من الماء من نوء مر، وإن الحال ستبقى على مثل ذلك خمس ساعات. وصح قول الرجل؛ فإنه لما انقضى الموعد الذي نوه به هدأ اضطراب السفينة وتبدت حلاوة السفر فتوارد المسافرون على ظهر الباخرة، واجتمعوا يتحدثون على عادة الناس في مثل هذه الأحوال. ومررنا في الطريق بمناظر شتى تستحق الذكر؛ منها جزيرة كريت المشهورة، رأينا جبالها الباسقة إلى ناحية اليمين في اليوم التالي من سفرنا، وسرنا بعد ذلك بين جزر متعددة من جزائر الأرخبيل الرومي مثل زانت وكلارنس وسفالونيا، فكانت الباخرة في بعض الأحيان تقترب من الأرض اقترابا يمكن المسافر فيها من رؤية مناظرها البهية وما فيها من كرم وزيتون وشجر كثير. ومن هذه الجزر المعروفة: كورفو مررنا بها في أواخر اليوم الثالث من بعد أن غادرنا الإسكندرية، حتى إذا كان صباح اليوم الرابع رست السفينة في مينا برندزي، وهي مدينة صغيرة في جنوب إيطاليا لا أهمية لها إلا أنها مرسى للبواخر ونقطة الاتصال بين الشرق والغرب في البريد؛ فهي ينقل منها وإليها البريد المتبادل بين أوروبا والشرق، وأخصه ما كان بين إنكلترا والهند، فتجولنا في جوانبها حينا ثم عدنا إلى السفر ووصلنا تريستة في اليوم الخامس.
وأما تريستة فهي أشهر مدن النمسا، ولها فوق شهرتها الحالية تاريخ قديم؛ فإنها وصلها الرومان في سنة 600 قبل المسيح، وبنوا بها المعاقل والحصون ثم خربها أتيلا، وطمست أخبارها زمانا حتى قامت السلطنة الغربية الجديدة على عهد شارلمان فتجددت أهميتها وألحقت بعد شارلمان بدولة البندقية؛ فاختلط أهلها بالطليان اختلاطا بقيت آثاره فيهم، وهم أو معظمهم يتكلمون النمسوية والإيطالية معا إلى هذا اليوم. وانسلخت عن إمارة البندقية سنة 1382 فضمت إلى سلطنة النمسا وجعلها الإمبراطور كارل السادس فرضة حرة أعفيت من الرسوم. ثم أصلحت فيها الإمبراطورة ماريا تريزا شيئا كثيرا كان من ورائه أن التجارة ما بين الشرق والغرب تحولت من مدينة البندقية إليها، والمدينتان متقابلتان في بحر الأدرياتيك. وهي الآن مقر تجارة النمسا البحرية مع الشرق، وفيها مركز شركة لويد للسفن البخارية المعروفة هنا. وفي تريستة وضواحيها من السكان نحو 180 ألفا أكثرهم من الطليان، ومنهم السدس مجر وخليط من الأقوام السلافية ونحو 5000 من الجنس الألماني، وألوف من أجناس شتى أوروبية؛ فهي من أكثر المدن إشكالا في نوع السكان. ولا يقل عدد السفن التي تدخلها في السنة عن 14000، منها 800 باخرة معدل محمولها مليون طونلاتة وربع، وصادراتها تبلغ في القيمة نحو 240 مليون فرنك، والواردات حوالي 300 مليون؛ ففي مينائها حركة كبرى بسبب هذه التجارة الواسعة. وقد أنفق على تحسين الميناء نحو ثلثي مليون فرنك، فجعلوا فيها الأرصفة الفسيحة تستقر البواخر والسفن إلى جوانبها، وأشهرها رصيف «سان كارلو» يمتد في البحر مسافة 350 مترا، والناس يقصدونه بعد العصر من كل يوم لمشاهدة تلك الحركة التجارية، والتفرج على أشكال السفن الذاهبة والآيبة، وهو من مناظر تريستة التي تستحق الذكر.
وفي هذا البلد ساحة مشهورة تعرف باسم الميدان الكبير في وسطها بركة من الماء فيها تمثال نبتون إله البحر، والإمبراطور كارل السادس الذي مر ذكره، وعمد ذات شعب تنار بالكهربائية، ومن حولها من الحانات المتقنة والقهاوي البديعة يجتمع فيها كل مساء خلق كثير، يدور بعضهم في جوانبها ويجلس البعض الآخر في هاتيك الحانات، والأنغام المطربة تعزف من وسط الميدان فيسمعها الناس في كل الجوانب، وإلى جانب هذه الساحة الرحيبة بناء المجلس البلدي والبورصة وشركة البواخر ومخازن جميلة وحانات كثيرة، ويمكن الوصول منها إلى شارع الكورسو، وهو كثير المخازن تباع فيها نفائس الأشياء إلى جانبيه، وفي آخره الحديقة العمومية تصدح فيها الموسيقى الأميرية كل مساء. وفيها من أنواع الزهر والشجر ومجاري الماء البهية ما يشرح الصدور، وإذا استمر السائر من تلك الحديقة شرقا وصل جهة في أقصى المدينة تعرف باسم بوسكوتو (معناه الغابة)، وهي عبارة عن حرجات فيها كثير من شجر الصنوبر، يتخلله مطاعم منظمة وحانات متقنة، وفيها تسمع الأنغام الشجية أيضا فتزيد ذلك الموضع المشهور بهجة وقيمة، ولا سيما أنه يتصل بجبل اسمه كاشاتورة ملئت جوانبه بشجر الصنوبر العطر وغيره، فكنا ونحن نرتقي قمته في طرق كثيرة التعرج نستنشق النسيم العليل يخالطه عطر الشجر المذكور، حتى إذا بلغنا القمة رأينا من دوننا القرى والعمائر والمزارع من كل جانب، ولمجموعها بهاء يقر الخواطر ويسر النواظر.
وإلى الجهة الجنوبية من الميدان الكبير الذي ذكرناه متنزه القديس أندراوس في أقصى المدينة، يمكن الوصول إليه من الساحة الكبرى التي ذكرناها في الترامواي، طوله نحو ثلاثة أميال وإلى يمينه البحر من أوله إلى آخره، وفي طرفه الشمالي آكام كسيت بالشجر والزهر على اختلاف الأنواع، ولها طرق جميلة رصعت أرضها بالحصى أو فرشت بالرمل، وهي متنزه العائلات، ترى فيها الأولاد والبنات أفواجا يسرحون في تلك الجوانب الرحبة، وليس هناك من المساكن غير منازل قليلة لبعض أهل اليسار، وعلى مقربة منها معمل السفن النمسوية، دخلناه ووجدنا فيه أشكال العمل والترميم والصنع والتركيب، ثم عدنا إلى المدينة عن طريق ساحة جوزيبة، وفيها تمثال الإمبراطور مكسميليان ثم ساحة القديس جيوفاني، وفيها كثير من الأبنية الفخيمة.
ومن أشهر ما يذكر عن تريستة قصر عظيم يقصده كل مقيم في المدينة أو نازل بها؛ أريد به قصر ميرامار، بناه الأرشيدوك مكسميليان أخو إمبراطور النمسا الحالي، وأنفق مالا طائلا على زخرفه وإعداده حتى إذا تم له ذلك انتخب إمبراطورا لبلاد المكسيك في أميركا، فسار إليها وحكمها زمانا، ولكن قسما من أهلها ثار على حكومته وألف حكومة جمهورية انتصر زعيمها جوارز على الإمبراطور وأسره وأمر بإعدامه في سنة 1867. وكان مكسميليان من أمراء البحر في بلاده، والنمسويون يحبونه كثيرا؛ فأسفوا كثيرا لما أصابه وجعلوا قصر ميرامار تذكارا له يجلون ذكره. والقصر باق على مثل ما تركه صاحبه، وفي قاعاته الفخيمة رسوم الرجال والنساء الذين اشتهروا من آل هايسبرج، وهم البيت الحاكم في بلاد النمسا. وقد بني هذا القصر على مرتفع من الأرض وله حديقة غناء ومنظر من كل الوجوه بديع.
ويقرب من هذا القصر في ارتفاع مركزه كنيسة القديس جوستو قصدتها قبل مبارحة المدينة حتى أطل منها على كل الأنحاء فرأيت تريستة بكل أجزائها وضواحيها. بنيت هذه الكنيسة في القرن الرابع عشر موضع معبد روماني قديم، وفيها مدافن بعض المشهورين، منهم الأميرتان أدلايد وفكتوريا عمتا لويس السادس عشر ملك فرنسا الذي حصلت في أيامه الثورة الفرنسوية. هذا جل الذي يحسن وصفه في مدينة تريستة، وهي أول ما يمكن للشرقي أن يراه من مدن النمسا، فنتقدم منها إلى ذكر فيينا عاصمة السلطنة النمسوية.
فيينا
برحنا تريستة بعد الإقامة فيها حينا بسكة الحديد فطفقنا ندخل مواضع مختلفة المناظر بديعة الجمال، حتى وصلنا مدينة جراتز قاعدة ولاية أوستريا من ولايات النمسا، ولهذه المدينة شهرة بصنع نوع من البيرا يعرف باسمها. وفي الولاية غابات وحراج مشهورة غضيضة الشجر تقطع منها الأخشاب وترسل إلى سائر الأقطار. ويخترق جراتز نهر مور وقد بنيت منازلها على ضفتيه. تقدمنا منها بين هاتيك المناظر فرأينا في الطريق حصونا بناها النمسويون على عهد السلطان سليمان الثاني اتقاء لهجمات جنوده كما سيجيء، وقد هدم أكثرها الفرنسويون سنة 1809. ووراء هذه الحصون جبال ومرتفعات من الأرض يسير فيها القطار صعدا بسير رويد. وقد كان النمسويون أول من مد خطوط الحديد في مثل هذه الجبال سنة 1848، فإن الطرق هنا متعرجة ملتفة تشبه الكاف العربية في شكلها، فضلا عما فيها من اختراق الجبال والسير تحتها، فإن في هذا الخط وحده 15 نفقا تحت الأرض. وهذه الجبال تعد فرعا من جبال الألب المشهورة يبلغ ارتفاعها عند سمرين التي وقف القطار بها قليلا 2200 قدم، وكلها ملأى بالمناظر الفخيمة، زادها بهاء ورونقا اكتساؤها بحلل خضراء من شجر الصنوبر وغيره، وقد رصعت جنباتها بالمنازل المشيدة يقضي فيها كبراء النمسويين أشهر الصيف. ولا حاجة إلى القول إن السفر في قطار كهذا يصعد إلى قمة جبل شاهق من أغرب الأمور وأكثرها لذة؛ فإنك تدخل جوف الأرض والجبال من فوقك ثم تخرج فإذا أنت في سفح جبل وإلى جانبك الحقول والجداول والمنازل، ثم تصعد أعلى الجبل والقطار مسرع بك فكأنما أنت محلق في الجو تطير ومن دونك الأرض بواديها وسهلها وبقية ما فيها، وفي ذلك نزهة غريبة يعرفها الخبيرون. تلك مناظر الأرض ما بين تريستة ومدينة فيينا التي نحن في شأنها، والمسافة بينهما 16 ساعة في سكة الحديد لا يشعر المسافر بملل في خلالها.
وأما فيينا هذه فهي قاعدة سلطنة النمسا والمجر، ومن أشهر العواصم الأوروبية في حالها الحاضرة وتاريخها الماضي وعدد سكانها نحو مليوني نفس، واسمها القديم فندوما، وقد ورد ذكرها على عهد يوليوس قيصر القائد الروماني في القرن الأول للميلاد، ثم كثر تردد الرومانيين عليها بعد هذا، ومات فيها أحد قياصرتهم وهو ماركوس أوريليوس سنة 180، وظلت محطا لرحال الفاتحين من تلك الأيام حتى جعلها شارلمان حدا لمملكته في القرن التاسع للميلاد، فلما مات ألحقت بمملكة ألمانيا وانفصلت عن فرنسا وصار يحكمها دوكات النمسا حتى قامت العائلة المالكة الحالية على مثل ما ترى في الخلاصة التاريخية. وقد توالت النكبات على فيينا، ولكنها لم تؤثر عليها تأثيرا يذكر؛ فإنها حاصرها المجر سنة 1485 أربعة أشهر وفتحوها، ثم أنقذها منهم سنة 1490 مكسميليان الأول من آل هايسبرج وجعلها قاعدة المملكة النمسوية إلى اليوم، وحاصرها ملك بوهيميا مرة سنة 1619 فلم يفده الحصار، وتقدم عليها الأتراك مرتين: أولهما على عهد السلطان سليمان الثاني سنة 1529، والثانية على عهد السلطان محمد الثالث سنة 1582، وكان قائد جنودهم يومئذ الصدر قرا مصطفى باشا المشهور، فضيق على المدينة تضييقا شديدا، ولولا ورود النجدة إليها من بوهيميا تحت قيادة ملكها سوبيسكي لفتحها، وحاصرها نابوليون بعد ذلك على مثل ما تقدم في الخلاصة التاريخية، وكان هذا الحصار الكثير داعيا إلى بناء دائرة كبرى من الحصون داخل المدينة أبدلت الآن بشارع رنغ ستراس (ومعناه درب الحلقة لاستدارته) طوله نحو ميلين وعرضه 62 مترا، بني على نظامه الحالي سنة 1858.
خرجت مع الدليل من فندق متروبول الذي اخترت الإقامة فيه، وبدأت بشارع رنغ ستراس هذا، وهو أعظم شوارع فيينا، ليس في أوروبا كلها شارع بطوله تجتمع فيه محاسن البناء وغرائب الصناعة وأدلة العز والترف متوالية مترادفة مثل هذا الشارع العظيم في عاصمة النمسا؛ فإن فيه غير المخازن الجميلة والفنادق المشيدة والحانات المنظمة بناء البورصة والتلغراف والبوليس والمجلس البلدي والمرسح الإمبراطوري والمتحفين ومجلس نواب الأمة والأوبرا الكبيرة ووزارة الحقانية، وقصورا أخرى تدهش الأبصار بمحاسنها في كل جانب منه، وحديقة ستاد بارك، وغير ذلك من بدائع هذا الشارع العظيم. وقد قسم هذا الشارع أقساما ثمانية، أولها رصيف يمشي عليه الناس من بعد الأبنية المتقنة، ثم طريق للعربات يليه طريق للترامواي فطريق للجياد وراكبيها، وبعده خط من الشجر الجميل يزدان به وسط الشارع، ثم طريق للعربات وطريق للترامواي وطريق للجياد ورصيف للمارة؛ أي إن الشجر في وسط الشارع والطرق المختلفة صفان إلى جانبيه، صف من هنا وصف من هنا، وفي ذلك نظام يمنع الزحام والاصطدام، ومنظر لا تشبع العين منه ولو طالت مدة الإمعان.
ذكرنا في هذا الشارع بناء البورصة وهو عظيم الأركان شاهق الجدران في داخله قاعات شتى، بعضها للجلوس وبعضها للمطالعة، وبعضها للأشغال والمداولات والمضاربات والمبايعات وغير هذا مما يدور في جوانب ذلك البناء، وفيها من الحركة التجارية والجلبة الناشئة عن كثرة المركبات والمترددين ما يوجب الذهول ويشير إلى نشاط أهل المتاجر والمضاربات من المتمدنين.
وأما مجلس النواب فإنه قصر فخيم بني من سنة 1874 إلى 1884، طوله 143 مترا، ومنظره من الخارج يدل إلى الهيبة والوقار، يصعد إليه على درج عريض من الرخام الأبيض يتصل آخره برواق قام على عمد من الرخام أيضا، له شكل الهياكل اليونانية، ومن ورائه رواق آخر طويل قائم على 24 عمودا من الرخام الأحمر مذهبة تيجانها، وفي الجدران والسقف رسوم حوادث فيينا والنمسا التاريخية، والناس يجتمعون في هذا الرواق البهي ريثما تفتح أبواب القاعة الكبرى التي يجتمع فيها النواب للنظر في سياسة المملكة والجدال فيما يلزم لها من النظامات والقوانين، وفي تلك القاعة مقاعد أمام كل منها منضدة صغيرة للنائب الذي يقعد إليها ومنصة للرئيس وكتابه، ومواضع مرتفعة في جوانب القاعة خص بعضها بأعضاء العائلة المالكة والسفراء والبعض بالمتفرجين والزائرين أو بأصحاب الصحف وجماعة الأخبار، وغير هذا مما تراه في أكثر المجالس النيابية. وقد اشتهر نواب النمسا الحاليون بكثرة الأحزاب والانقسام، وما يحدث في وسط هذا المجلس الفخيم من الفتن والشحناء بينهم. وفي هذا البناء أيضا قاعة لمجلس الشيوخ مثل قاعة النواب في نظامها وغرف كثيرة للمداولات وللوزراء واللجنات التي يأمر المجلس بعقدها، ومطعم فاخر مستعد في الليل والنهار لتقديم ما يطلبه الأعضاء الذين يكثر بقاؤهم 24 ساعة متوالية في جلسة واحدة إذا طال الجدل واحتد الأعضاء بسبب أمر تختلف الأحزاب عليه.
وقصر الحقانية بني من 1875 إلى 1881، في وسطه تمثال القسطاس والعدل، وفيه غرف لمحكمة الاستئناف العليا وإدارة النيابة العمومية، وهو من الأبنية التي تستحق الاعتبار، وعلى مقربة منه المجلس البلدي وهو قصر طويل عريض، كمل بناؤه سنة 1883 بعد عمل 11 عاما، وأنفق عليه فوق ثلاثين مليون فرنك، وهو من أجمل المجالس البلدية في أوروبا وأعظمها، تولم فيه الولائم الكبرى، وتعقد الاحتفالات العظيمة في قاعات فسيحة بديعة يصعد إليها على درج من الرخام له عمد من المرمر المذهب، ولا يقل طول قاعة الولائم عن 150 مترا، ينيرها ثلاثة آلاف أنبوبة للنور لم أر لها نظيرا في قصر الإمبراطور ولا في غيره. ويقام فيها كل عام مرقص يشترك فيه أهل الترف والنعمة، ومن أمامها شرفة تطل على الشارع الكبير الذي نحن في شأنه. وأما القاعة التي يجتمع فيها أعضاء المجلس البلدي فعظيمة فسيحة، تشبه قاعة النواب التي ذكرناها في الوضع والنظام، وفي سقفها ثريا من الأنوار قيل إن ثمنها 160 ألف فرنك، وعلى جدرانها صور الرؤساء السابقين لهذا المجلس والمتوفين، وفي الدور الأسفل من هذا البناء الفخيم تحف ثمينة ونفائس تعد من أثمن ما في مدينة فيينا؛ من ذلك مكتبة عظيمة فيها من نوادر الكتب ما يفخر به أهل هذه المدينة، وقد جمعت بنوع أخص ما فيه تاريخ فيينا القديم والحديث، ومن ذلك أيضا آثار وتحف كثيرة وصور تاريخية تمثل الحوادث المشهورة، مثل هجوم الأتراك سنة 1529 وهم بهيئاتهم القديمة وملابسهم المعروفة، واستيلاء بونابارت على فيينا سنة 1805 و1809. وهنالك أيضا أدوات شتى كانوا يستعملونها للتعذيب فيما مر من الزمان، وهي باقية تدل على قسوة الأيام الماضية وحرية هذه الأيام، ورايات وأسلحة قديمة غنمها النمسويون في حروبهم الكثيرة، وغير هذا مما لا يمكن الإسهاب في شرحه.
وأما التياترو الإمبراطوري المشهور فهو مثل أكثر ما في هذا الشارع من الآثار العظيمة جديد البناء، قام مكان مرسح قديم احترق برمته ومات فيه 2000 نفس، وهو أكبر حريق في المراسح العمومية حدث في الأيام الأخيرة. وقد أنفقوا على هذا المرسح الجديد وزخرفه وفرشه مالا طائلا ولا حاجة إلى القول إن فيه من السقوف المزخرفة والعمد المذهبة والجدران الملونة والفسحات المنظمة والذرى الفسيحة ما يستوقف الأنظار، وفيه نصب لمشاهير المؤلفين من أصحاب الروايات، مثل شاكسبير وموليير وشلر وغيرهم، وتضم قاعته الكبرى أكثر من ثلاثة آلاف نفس.
ولعل أشهر ما في هذه المدينة وأكثره نفعا للزائرين المتحفين العظيمين، وهما قصران بديعان بني أحدهما تجاه الآخر، وبينهما حديقة صغيرة وأمامهما الشارع الكبير الذي ذكرناه، فكأنما هما توأمان بنيا من سنة 1874 إلى 1889، وجعلا متشابهين في الوضع والشكل، فإن طول كل منهما 175 مترا وعرضه 77، ولهما أروقة قامت على عمد ضخمة بديعة الصنع، وفي الحديقة الصغرى ما بين القصرين نصب للإمبراطورة ماريا تريزا ملكة النمسا والمجر، وهي من أشهر ملكات هذه البلاد من آل هايسبرج. وقد أقام هذا النصب الإمبراطور الحالي في سنة 1888 على قاعدة من الرخام ارتفاعها 43 قدما، وفوقها تمثال الإمبراطورة وعلوه 19 قدما، وهو يمثلها في السنة الخامسة والثلاثين من عمرها باسطة ذراعها اليمنى، وفي يسارها صولجان الملك والقانون الذي سنه كارل السادس سنة 1772 بحصر الملك في البكر مثل قانون أكثر الممالك، وإلى جانب ماريا تريزا تماثيل المشاهير في الحرب والسياسة والعلم، وهم لا يقلون عن عشرين.
وفي المتحف الأول من هذين القصرين آثار تاريخية وتحف صناعية ورسوم ونقوش شتى لا يحصى عديدها، حتى إن فهرست هذه الأشياء ملأت ثلاثة مجلدات كبيرة فيها 30000 نمرة، ولكل قطعة في المعرض أو جملة قطع نمرة معلومة في هذه المجلدات، فإذا شاء المرء أن يطلع على ما في هذا المعرض العظيم كله لزم له أيام وأسابيع؛ لأن تاريخ الأمم - وبنوع أخص الأمم الخاضعة لسلطنة النمسا الحالية - جمع في تلك الآثار والنفائس. وقد قسم المتحف أقساما كثيرة ليسهل على الناس رؤية ما فيه، منها قاعات جمعت فيها آثار الفينيقيين الأول ومعبوداتهم، وإلى جنبها أروقة وقاعات ملئوها بآثار نينوى وآشور، وتلك الأصنام صنعت على شكل الحيوان، ولها أجنحة الطير ورأس البشر، كان الآشوريون يعدونها رمز القوة العقلية والبدنية ويضعونها في أكثر منازلهم والأماكن العمومية. ثم قاعة اليونان وفيها من رسومهم المتقنة وآثارهم ونقودهم ما نقتصر على الإشارة إليه. ومن ورائها قاعات التاريخ الروماني، وفيها صورة قياصرة رومية وتماثيلهم وشيء كثير عن القيصر ماركوس أوريليوس الذي مات في فيينا، وهنالك أيضا قسم خاص بالتاريخ المصري فيه أجسام محنطة وتمثال رعمسيس الثاني وأوزيرس المعبود القديم، وغير هذا مما يعرفه الذين رأوا بعض ما في متحف مصر، ولكن في ذلك المتحف تمثالا لأبي الهول المصري بأربعة رءوس، وهو بلا نظير في المتحف المصري.
ويلي ذلك قسم السلاح في هذا المعرض، وهو كبير عظيم الأهمية جمعت فيه أسلحة البشر من أول عهدهم بالقتال، أكثر ما فيه أسلحة النمسا وملابس قياصرتها وقوادها، وقد زاد رونق هذا القسم بما فيه من أسلحة الجركس والأرناءوط المحلاة بالذهب والفضة وبعضها مرصع بالحجارة الكريمة، وأشهرها ملابس إسكندر بك، وهو أمير ألباني نشأ في القرن الخامس عشر وأخذ أسيرا على عهد السلطان مراد الثاني، فربي على الدين الإسلامي في قصر السلطان حتى إذا كبر صار من قواد الجيش العثماني، ثم تآمر مع بعض الرجال واستعان بقوته على إرجاع ملك أجداده فتم له ذلك، ولم يمكن للسلطان أن يسترد ألبانيا منه مدة حياته ومات سنة 1467، ومن هذا القبيل سيف من الذهب للإمبراطور كارل الخامس وعصا الملك للإمبراطور فردينند الثاني، وغير هذا كثير كان ملوك النمسا وأمراؤها يهدونه للمتحف أو يتركونه إرثا له حتى اجتمع فيه كل هذه النفائس.
وصعدنا بعد رؤية هذا كله الدور الأعلى من المتحف على سلم كله من الرخام الأبيض، فوصلنا قاعات فسيحة بهية جمعت فيها الرسوم المتقنة من صنع أشهر الرسامين، وهي تزيد عن ألف صورة في عددها، وبعضها كبير يملأ الجدار كله، وقد قسمت هذه الصور الكثيرة حسب أنواعها، فترى في كل قسم منها الصور الفرنسية أو الهولاندية أو الإيطالية أو النمسوية أو غير هذا. وأما مواضيع هذه الصور فيعسر على الكاتب عددها؛ لأنها مختلفة كثيرة الأشكال، ولكن منها قسما كبيرا يمثل حوادث التوراة والإنجيل، وبعضها ثمين كثير الإتقان من صنع رفائيل المشهور وسواه، لا تقل قيمة الصورة الواحدة منه عن عشرة آلاف جنيه، وبعض هذه الصور خيالات وأوهام يختلقها المصورون لتمثيل هيئة الحب أو العفة أو البسالة أو السعادة أو غير هذا مما لا يحتاج المتفرج إلى شرح معه؛ لأن الرسم ناطق بالمعنى المراد. ولهذا النوع قيمة عند العارفين؛ فإن أشهر الصور الحديثة ما كان من هذا القبيل، وبعضها يدل إلى مناظر طبيعية زائدة الجمال، كأن تكون مناظر السحاب والشمس من وراء الغيوم أو مناظر الجبال والبحيرات والأودية، وأكثر ما يرى هنالك رسوم ضفاف الأبحر والبحيرات التي تسحر الناظرين بجمالها ويتمنى الرائي لو يمكن له أن يعيش في بقعة من الأرض جميلة مثل البقعة التي تشير إليها تلك الصورة، وبعض الرسوم تاريخية رأيت منها رسم واقعة بحرية كان أمير البحر النمسوي تجتوف يحارب فيها الطليان على مقربة من جزيرة ليسا سنة 1866، وفاز على أعدائه، وبعض المعارك التي جرت بين الفرنجة والسلطان صلاح الدين، ورسوم كثيرة لرودلف هايسبرج مؤسس العائلة الحاكمة في النمسا إلى الآن، وماريا تريزا التي أشرنا إليها كثيرا، وأشهرها رسم هذه الملكة حين قامت عليها فرنسا وبروسيا تريدان محاربتها بعد موت زوجها وفرت بابنها الطفل إلى بلاد المجر فاستعانت برعاياها المجريين على إرجاع الملك إلى ابنها، وعقد القوم مجلسا حافلا للنظر في أمرها، فلما انتظم المجلس جاءت وعلى ذراعها الطفل الصغير، وخطبت في أعيان المجر خطابا أثار حميتهم وحرك همتهم إلى نصرتها، ثم ختمت خطابها بالقول إن هذا ابن مليككم يا أبطالي فخذوه وافعلوا ما تريدون. حتى إذا انتهت من الكلام صاح الجمع قائلين: «لنمت جميعا من أجل ملكتنا ماريا تريزا.» ونصروها وأعادوا الملك إليها وإلى ابنها، وكانت ماريا تريزا من أعظم ملوك النمسا والمجر.
هذا مجمل ما في المتحف الأول. وأما الثاني تجاهه فإنه خص بالتاريخ الطبيعي؛ أي بالقديم والغريب من أشكال النبات والحيوان والجماد. ولهذا القسم بهاء القسم الأول وفخامته من حيث البناء، وهو ثلاثة أقسام، أولها لنوع الجماد وثانيها للنبات وثالثها للحيوان، وفي كل قسم أجزاء لما ظهر من هذه الموجودات في كل دور من أدوار الأرض الجيولوجية، فترى في قسم الجماد أحافير ومتحجرات شتى جاءوا بها من أقاصي الشرق والغرب، بعضها لا قيمة له إلا من حيث العلم بتاريخه القديم، والبعض كثير الجمال غالي القيمة. وقد جعلوا الدور الأول من البناء لقسم الحيوان، وأكثر ما ترى هنا وحوش مصبرة، وزحافات هائلة مثل الحيات الأميركية والهندية على أنواعها وبقية الأنواع الغريبة. والثاني للنبات وفيه غرائب يعسر وصفها أكثرها مصبر أيضا. والثالث للمتحجرات وبعضها جميل الشكل غريب النوع، والذين ينتابون هذا المعرض ويتعلمون مبادئ العلوم الطبيعية فيه ليسوا بالعدد القليل.
وذكرنا الأوبرا الكبرى، وهي من أحسن ما بني من نوعها، تضم خمسة آلاف نفس، وفي سقوفها وجدرانها ما لا يحصى من الزخارف ورسوم رجال الموسيقى، وقد بنيت ما بين عامي 1861 و1869. رأيت جوانبها الفخيمة وقاعتها الكبرى، حيث يجتمع الناس لسماع التمثيل والأنغام، وفي أعلاها ثريا هائلة المقدار لا يقل فيها عدد الأنابيب التي يخرج منها النور عن أربعة آلاف.
ويزيد هذا الشارع رونقا وبهاء أن فيه حديقتين، إحداهما حديقة فولكس أحاطوها بسور من الحجر والحديد، وفيها المطاعم والحانات والموسيقى، فهي يؤمها أهل فيينا مئاتهم وألوفهم عصاري كل نهار؛ لأنها في وسط المدينة، وأشهر منها حديقة ستاد بارك، هي من أعظم حدائق فيينا وأجملها، تشرف على شارع الحلقة وينتابها أهل الطبقة العالية من سكان فيينا، فهي ذات دروب نظيفة وجوانب بهية ومزروعات كثيرة الجمال ومناظر بالغة حد الإتقان والفخامة، تمر في جوانبها قناة من الماء ينصب في بحيرة صغيرة جمعوا إليها أكثر أشكال الطيور المائية، وغرسوا إلى جوانبها الأزهار من كل نوع وكل لون على شكل بديع النظام، حتى إنهم كتبوا بالزهر المختلف الألوان على أرضها اسم الحديقة وكلمات أخرى ، فكأنما أنت هناك على بساط من العشب، وفي البساط صناعة وكتابة وإتقان عجيب.
هذا أشهر ما يذكر في شارع الحلقة العظيم، وهو أجمل شوارع أوروبا وأحدثها نشأة وأكثرها مشاهد يتفرع منه دروب توصل إلى غيره من الشوارع الكبرى وما فيها من المشاهد المعروفة، مثل الشارع الموصل إلى كنيسة القديس أسطفانوس، وهي أشهر كنائس النمسا وأعظمها، بدئ في بنائها سنة 1300 وما زال الملوك ورجال الدين يزيدون في محاسنها إلى الآن، طولها 355 مترا والعرض 89، رسم شكلها مهندس اسمه جورك حكم عليه بالجنون لفرط ذكائه، ورسمه قائم في دار الكنيسة وهو في حالة السجن وبيده الآلات الهندسية، والكنيسة شائقة المنظر من خارجها بنيت على عمد من الرخام، وفي داخلها ما لا يمكن عده من آيات الإتقان، منها الهياكل الكثيرة بعضها قديم العهد، وفي جملتها هيكل بني سنة 1852 تذكارا لنجاة الإمبراطور الحالي من القتل. وفي ساحة الكنيسة مدفن لبعض القياصرة والكبراء، ولكن العائلة الحالية جعلت مدفن أفرادها في كنيسة الكبوشيين في فيينا، وهنالك دفن رودولف ابن الإمبراطور وإليصابات زوجته، وقد ذكرناهما في غير هذا الموضع، وإلى جانب الكنيسة الكبرى التي نحن في صددها برج عظيم ترى منه معظم فيينا وضواحيها.
وليس يبعد عن كنيسة أسطفانوس شارع جرابن، وله شهرة ذائعة؛ لأنه ثاني الطرق الكبرى في هذه العاصمة، وهو يحف الشجر بجانبيه، وفيه المخازن الملأى بنفائس الحاجات فترى جماعات الناس تقصده من كل جانب لمشترى بعض ما فيه. وهناك نصب للثالوث الأقدس أقيم في وسط الشارع على عهد الإمبراطور ليوبولد الأول سنة 1694 شكرا لله على زوال الطاعون من المدينة، ومن هذا الشارع يمكن لك الوصول إلى قصر الإمبراطور الذي يقيم فيه مدة الشتاء، دخلناه وراء القيم عليه، ورأينا من غرائبه المشهورة قاعة عظيمة للاستقبال، فيها 24 عمودا من الرخام، وقاعة الرقاد وفيها سرير كانت تنام عليه ماريا تريزا، وقاعة المرائي - دعيت كذلك لكثرة مرائيها - وفيها ساعة لا يلزم لها تدوير غير مرة في كل ثلاثة أعوام، وكان الناس ساعة خروجنا من هذا القصر متألبين عند مدخله يريدون التفرج على الكردينال، وهو يومئذ قام لأمر يقضيه في قصر الإمبراطور، فانتظرنا قدومه معهم ورأيناه بملابسه الأرجوانية وقبعته المثلثة الجوانب، ومن ورائه حشم ورجال الدين في عربات أخرى، حتى إذا توارى عن العيان سرنا من القصر إلى المكتبة الإمبراطورية، وهي من أكبر المكاتب العامة في الأرض، فيها نحو أربعمائة ألف مجلد، نصفها كتب خطية وكثير منها عربي مطبوع أو غير مطبوع، ومجلدات من أول عهد الطباعة، أكثرها ديني من أثمنها إنجيل كتب على جلد أحمر بالحروف الذهبية والفضية في أول القرن السادس، وكتب أخرى خطت على ورق مصنوع من شجر التوت وشجر النخل وغير هذا كثير، والناس من طلبة العلم وسواهم يقصدون هذه المكتبة ويدخلون قاعة المطالعة فيها بإذن خاص فيبحثون عن دقيق المسائل في كتبها القديمة، فإذا دخلت تلك القاعة أعجبت بما ترى من أدلة الاجتهاد وسيماء الوقار بين أولئك المطالعين.
ويذكر بين مشاهد فيينا قصر الخزائن وهو مستودع للتحف الإمبراطورية القديمة والحديثة، لأكثرها شأن في التاريخ عظيم، من أهم ما يذكر بينها خوذة عسكرية من الفضة قدمها الشعب المجري للإمبراطور الحالي عند تتويجه ملكا للمجر سنة 1867، وفي داخلها أوراق مالية بنحو 750 ألف فرنك أوقفها الإمبراطور لإعانة أهل الحاجة من المجر. ومن ذلك التاج الإمبراطوري والصولجان وبقية الحلي التابعة للبيت المالك، منها ألماسة وزنها 133 قيراطا تقدر قيمتها بستين ألف جنيه كانت من جواهر شارل الجسور أحد ملوك فرنسا وراحت منه، ثم قيل إن فلاحا وجدها وباعها بفرنكين لأمير توسكانا وانتقلت منه إلى ملوك فيينا، ومن ذلك أيضا الوسامات المشهورة، منها وسام فيليس فيه 150 حجرا كريما في وسطها حجر وزنه 42 قيراطا، وتاج الإمبراطورة ماريا تريزا وفيه 548 حجرا ثمينا، وحلي وجواهر أخرى غالية القيمة أودعتها العائلة المالكة وسواها هذا المتحف، بعضها على سبيل الأمانة وبعضها هدية للمملكة، مثل ملابس شارلمان وتاجه وصولجانه، وغير هذا مما لا يحصى.
علمت أن فيينا يدخلها فرع من نهر الدانوب الشهير؛ فلهذا كانت محاسنها متفرقة ما بين قسميها الشرقي والغربي، وقد ذكرنا معظم ما يهم ذكره في القسم الغربي. وأما القسم الشرقي فأهم ما فيه ليوبولدستاد، وهو حي كبير من أحياء فيينا كله منازل مشيدة وطرق فسيحة ومخازن كبيرة، ومن أشهر مشاهده تمثال أمير البحر تجتوف الذي ذكرناه، والقوم يعتبرونه من أكبر رجالهم؛ لأنه أحيا الأمة النمسوية بانتصاره على الطليان مع تكاثر عديدهم، فهم اعتنوا بتمثاله وجعلوه على مدخل حديقة براتر المشهورة وجعلوا ارتفاعه 36 قدما، وهو على قاعدة تشبه مقدم السفينة صنعت من النحاس والبرونز، ومن تحتها رسوم خيل البحر تجرها وتذكر الناس بالنصر في تلك المعركة البحرية.
ولقد ذكرنا أن هذا التمثال في أول حديقة براتر، والحق يقال إن في فيينا حدائق كثيرة والناس يهتمون لحدائقهم ويجعلون لها شأنا خلافا لما تعودناه من إهمال الناس شأن الأزبكية في مصر مع أنها من أجمل الحدائق العمومية، وقد تضاهي الحدائق المشهورة في أوروبا ولكنها لولا الموسيقى الإنكليزية تصدح مدة وجيزة في بعض ليالي الصيف لما رأيت فيها شيئا من مظاهر الهيئة الاجتماعية، وحدائق براتر هذه مجموع حراج غضيضة غرست في أرض أريضة وغابات بهية تتخللها مروج من العشب شهية فلا تقل مساحة الكل عن أربعة آلاف فدان تقسم أقساما ثلاثة، أولها متنزه هوبت وهو شارع عريض جميل تمر به العربات عشرات ومئات، ويمر الناس مشاة أو على ظهور الجياد، ويحف بهذا الشارع غابات من شجر الكستنا تشرح بمنظرها الصدور، وفي وسطها مطاعم يلذ للآكل فيها الطعام وحانات للبيرا وسواها يقعد الواحد فيها فيسمع شجي الأنغام، وأكثر ما يكون اجتماع الخلق هنا في أيام الأحد أو يوم عيد الإمبراطور أو اليوم التالي لعيد الفصح، وهو هنالك بمثابة شم النسيم في القطر المصري، والقسم الثاني من هذه الحديقة يعرف باسم «فورويك»، وفيه ألعاب كثيرة من خيل خشبية تسير بالبخار وأراجيح ومشاهد شتى يجتمع أهل الطبقة الوسطى لمشاهدتها في كل حين ويقصدها أصحاب العائلات فيركبون أولادهم تلك الخيول الصناعية ويجارونهم على اللعب والضحك، وهنالك بحيرة صغيرة تجري عليها زوارق صغيرة للأولاد أيضا ويسيرها البخار وألعاب أخرى يلذ التفرج عليها ، وأولئك الصغار بملابسهم النظيفة يضحكون ويطربون.
وما زلنا نسرح الطرف بتلك المناظر حتى وصلنا بناء المعرض الذي أنشئ سنة 1872 وهو عظيم الارتفاع يشرف على تلك الغياض والحراج والمنازل إلى مسافة بعيدة بني من الخشب والحديد ومن ورائه سلم من الحديد ارتقينا ذراه حتى إذا وصلنا القمة رأينا فيينا وضواحيها من دوننا، والنهر ينساب انسياب الأفعى بين منازل مشيدة وغابات غضة نضرة وأودية بهية وهضاب منضدة بالزهر والبنيان الفخيم، ولا بد لكل سائح يريد أن ترسخ في ذهنه صورة المدن التي يزورها أن يطل عليها من موضع مثل هذا مرتفع، وقد كان هذا شأني في أكثر الأماكن فإني جعلت هذه النظرة الإجمالية خاتمة ما أردت رؤيته في فيينا، وقصدت من بعدها الضواحي التي يجيء ذكرها في الفصل التالي.
ضواحي فيينا
لضواحي فيينا شهرة تحاكي شهرة الضواحي التابعة لأكثر الضواحي المشهورة، ولا تزيد عنها في الأهمية غير ضواحي باريز البهية، من ذلك جبل كاهلبرج قصدناه صباح يوم في باخرة تقوم من ترعة الدانوب، وكان الناس يومئذ جماهير تتسابق إلى ذلك الموضع فسرنا في الباخرة هذه حتى بلغنا قرية نسدورف، وكان قطار سكة الحديد ينتظر القادمين إليها لينقلهم إلى أعلى الجبل في سكة كانت تختلف ما بين صعود ونزول وانحناء يمنة أو يسرة ودخول وخروج بين غياض الشجر الباسق ومروج العشب النضر، وأغرب من هذا صعود القطار في أكواع ملتفة إلى قمة ذلك الجبل والمناظر تتبدل من حين إلى حين فتتبدى الطبيعة بكل جمالها الساحر للقاعد في الرتل، وهو يتقدم صعدا إلى تلك القنة ومن دونه الحراج والبقاع والأودية فيحدث جمال ذلك المنظر فتنة في القلوب ويحيي في النفوس بهجة لا يوصف لها مقدار، وعلى مثل هذا بلغنا غاية المتفرجين، ودرنا بين الطرق المفروشة بالرمل نرى هنا مزارع بهية وهنا منازل مشيدة مطلية، وهنا حانات تجتمع الناس فيها والنفوس منهم رضية، وهنا مطاعم يتناولون فيها الألوان الفاخرة على صوت الألحان الشجية، والكل ناظرون إلى عاصمة النمسا وما يليها معجبون بما أوجده التحسين الصناعي فوق تلك البدائع الطبيعية.
ومن هذا القبيل قصر شونبرن، وهو مصيف الإمبراطور بنته الملكة ماريا تريزا وأقام فيه نابوليون مدة وجوده في هذه العاصمة، ومن مؤلمات الأحكام التي لا ترد أن ابن هذا الفاتح العظيم من امرأته الثانية، وهي ابنة إمبراطور النمسا، مات في الغرفة التي كان والده ينام فيها، وهي من غرف هذا القصر الفخيم، قصدتهذا القصر مع جماعة كثيرة من السائحين، فأتانا خادمه وأدخلنا بعض جوانبه، ولا حاجة إلى القوم إنه آية في الحسن والزخارف، وإن رياشه وبناءه وبقية ما فيه يليق بقيصر عظيم وملك بلاد كبرى، وفي جملة قاعاته واحدة تعرف باسم القاعة الصينية، كل رياشها حرير أسود مزركش بالقصب، وخشبها من اللك الأسود المصقول، وقاعة واسعة الجوانب للاستقبال والولائم الكبرى تضم فوق 1500 نفس، وفي القصر مكتبة خاصة بالإمبراطور وكنيسة صغيرة له ولأعضاء عائلته، وملهى صغير لمن ذكرنا أيضا، ومواضيع أخرى فائقة الإتقان كثيرة الجمال، ويلحق بهذا القصر حديقة أو هي مجموع غابات وحدائق كانت فيما مر من الأيام حراجا يصطاد الأمراء فيها الأيل والأرانب، فمشيت في طريق بهذه الحديقة يحف به جداران أو هما بالحقيقة صفان من الشجر تعرشت أغصانه، والتفت عروقه وعولجت بالمقراض حتى صارت مثل السور الأخضر طوله 322 مترا، وفي آخره بركة من الماء بديعة ووراؤها أكمة تغشاها الأعشاب السندسية، وفي أعلاه كشك بديع الصنع من الرخام النقي، وما زلت أسرح في هاتيك الطرقات البهية حتى بلغت معرض الزهر والحيوان، فأما الزهر فإنه جمع من أطراف الأرض وغرس هنا في حقول بديعة الترتيب، وبعضه لا ينمو إلا في الأماكن الحارة، فهم غرسوه داخل بيوت من الزجاج والنار توقد من تحت أرضه حتى يظل على النماء، فترى من أشكال النبات في تلك الحديقة ما يعجز عن وصفه قلم المتغزل بمحاسن الطبيعة، وأما الحيوانات فبينها في هذا الموضع كثير من كل غريب الطبع والشكل جاءوا به من أقصى الأقطار، ولكن معارض باريز ولندن للحيوانات أشهر من هذا المعرض وأكبر، وجملة القول إن هذه الحديقة من أعظم متنزهات فيينا يقصدها الناس لفخامة منظرها وحسن هوائها. وأما الذين يريدون اللهو والطرب فعليهم بحديقة براتر التي ذكرناها.
ومن هذا القبيل فيسلاو، وهي مجموع عمائر لأهل الترف والأكابر واقعة على جبل ارتفاعه 800 قدم، ولها شهرة بالخمرة اللذيذة، سرنا إليها بالقطار انتهى بنا إلى سفح الجبل، ومنه قمنا في عربة سارت صعدا إلى رأس الموضع، وفي تلك الجهات حمامات معدنية تفيد في تقوية الأعصاب والماء فيها بارد جدا يرش على الجسم من كل الجوانب رشا شديدا يكاد الرجل أن يقع من وقعه، وقد رأيت هنالك رجلا رومانيا من بخارست، قال لي إنه جاء تلك الحمامات مقعدا يسير على العكاز فتقوت أعصابه حتى صار يمشي بدونها، وبعد أن أقمت مدة في ذلك الموضع البديع عدت إلى فيينا بطريق بادن وهي بلدة مشهورة بحماماتها المعدنية تفيد في الأمراض العصبية وتشفي من داء الروماتزم، فالناس يأتونها من كل صوب بعيد للاستحمام في حماماتها الكثيرة، وأكثرهم يأتونها عن طريق فيينا.
بلاد المجر
قبل أن نتقدم إلى وصف بلاد المجر وعاصمتها بودابست لا بد من ذكر شيء عن السباحة في نهر الدانوب العظيم لشهرة مناظره وجمال غرائبه، فإني قمت في باخرة صغيرة اجتازت الترعة التي تتفرع من الدانوب إلى فيينا، فلما انتهت إلى النهر الكبير ألقت رحلها فتركناها ودخلنا باخرة أكبر منها سارت في صباح ذلك اليوم وظلت تمخر عباب النهر مدة ثلاث عشرة ساعة، ومرت على تسع عشرة محطة قبل أن تبلغ بنا عاصمة المجر، وفي أوائل الطريق قريتا أسبرن وأيزلن اللتان جرت فيهما المعارك بين النمسويين وجنود نابوليون الأول، وكانت جنود ذلك الفاتح العظيم قد عبر نصفها نهر الدانوب إلى الضفة اليسرى من النهر، فأضرم النمسويون النار في الجسر الذي يوصل بين الضفتين عند جزيرة لوبو وهجموا على النصف من جنود نابوليون فاضطروهم إلى التقهقر وكانوا 150 ألف راجل و30 ألف فارس و700 مدفع، واستحكاماتهم باقية آثارها إلى اليوم، على أن بونابارت عاد وعبر النهر من نقطة أخرى، واستأنف القتال فبطش بجيش النمسا وفل مواكبه وسحق قوته ودخل فيينا على مثل ما جاء في الشذرة التاريخية، وسرنا من ذلك الموضع إلى بلدة هنبورج وهي مشهورة بمعمل للدخان أنشأته حكومة النمسا على نفقتها، وعماله بنات عددهن ألف وخمسمائة، وتليها برسبورج، وهي عاصمة المجر من قدم يبلغ عدد سكانها 50 ألفا، وهذه هي المدينة التي جاءتها ماريا تريزا تستنجد أهلها من أبطال المجر على الأعداء فأنجدوها ونصروها على مثل ما تقدم معنا، ومنظر البلاد في هذه الناحية جميل والناس الذين نزلوا في هذه المحطة أو صعدوا الباخرة منها كثار لأهمية الموقع، فكنا هنا وفي كل مدة أخرى مدة السباحة في الدانوب نتطلع أبدا إلى ما حولنا من المشاهد، ونستعين بالآلة المقربة على ما بعد من الأماكن، ولطالما رأينا في الطريق جزرا بهية تمر الباخرات الذاهبة من أحد جانبيها والغادية من الجانب الآخر، وكلها خضرة تنفي عن القلب الحزن، وعمائر وضياع نظيفة تدل أراضيها على الخصب الوافر واعتناء الناس باستدرار ما فيها من الخير الكثير، وهم يسمون هذه الجزر بجزائر الذهب؛ لأن أرضها أريضة خصيبة وخيرها متدفق كثير.
وبعد هذا مررنا ببلدة أسترجوم التي كانت مقر القديس أسطفانوس أول ملوك المجر في آخر القرن العاشر للميلاد، وكان أسطفانوس هذا أول من نشر الدين المسيحي في بلاده وما يليها، وعظمت أسترجوم من بعده فصارت مقرا للمتاجر الواسعة فلما أغار عليها التتر سنة 1241 امحت آثار عظمتها، وتقلص ظل تجارتها وعادت فانتعشت قليلا في أيام بيلا، أحد ملوك المجر، ثم استولى عليها العثمانيون سنة 1543 وهدموا كنائسها فلما انجلوا عن النمسا برحوا هذه المدينة أيضا فعادت إلى التقدم والنماء، وتقدمنا من هنالك إلى جزيرة جميلة تعرف باسم مرغريت، فما عتمنا أن أبعدنا عنها وتوارت هي عنا حتى أشرفنا على مدينة بودا في الضفة الشرقية من نهر الدانوب، وتجاهها مدينة بست في الضفة الغربية، ومن هاتين المدينتين تتكون بودابست عاصمة المجر، فرست الباخرة قليلا في بودا ريثما نزل منها من نزل، ثم تحولت إلى الضفة الأخرى، ونزلنا في مدينة بودابست في فندق اسمه أوتيل هنغاريا (المجر )، وهو منزل واسع فخيم فيه ثلاثمائة غرفة بني على ضفة الدانوب ومنظر النهر والمدينتين منه في الليل من أجمل ما اكتحلت بمرآه العين؛ لأن الأنوار الكثيرة من السفن في الماء ومن المنازل في الجانبين تنعكس على الماء، ويضاف إلى رونقها خرير الماء والحركة الدائمة في كل جهة، فتجعل لهذه المدينة منظرا من أهم المناظر.
بودابست:
وأما مدينة بودابست وعدد سكانها ثمانمائة ألف نفس فهي مجموع مدينتين كما علمت، يوصل بينهما جسر عظيم سنذكره وزوارق من كل نوع تروح وتجيء ما بين الضفتين في كل آن، وقد أسست هذه المدينة على عهد الرومانيين، فلما أخلوها سنة 275 للميلاد توطنتها قبائل الغوطة، ثم جاءها أقوام الفندال سنة 337، ثم وافاها الهون سنة 407 وكلهم من أهل أوروبا الأول، وتلاهم غيرهم حتى استولى عليها شارلمان في القرن الثامن وملكها المجر بعد وفاته، ثم غزاها التتر على عهد باتوخان حفيد جنكيزخان المشهور في القرن الثالث عشر، فلما خرجوا منها أصلح بيلا ملك المجر ما تهدم من معالمها، وعمل على إعادة عزها المتردم فدعا إليها الناس من كل جانب ورغبهم في السكن والإقامة فجاءوها من بافاريا وإيطاليا وجزائر الروم وبولونيا، ومن ذلك الحين نمت وتقدمت ثم عادت وتأخرت من بعد هجمات الأتراك؛ لأنهم أعملوا السيف في أهلها وأضرموا النار في جوانبها سنة 1526 وسنة 1541، وأقاموا فيها من بعد هذه السنة ستين عاما ثم برحوها بعد متاعب كثيرة، ولكنهم عادوا إليها سنة 1604، فانتقموا من أهلها وظلوا فيها إلى سنة 1686 فلما خرجوا اهتم ملوكها بإعادة رونقها حتى بلغت شأوها الحالي، وهي الآن ثانية مدائن السلطنة النمسوية، وسكان هذه البلاد 15 مليونا هم خليط من أجناس كثيرة كالألمان والمجر والسرب والرومان والسلاف والأرمن والبلغار وبقايا الأتراك والأرناءوط والفرنجة، ولكن المجر - وهم 6 ملايين عدا - يسودون سواهم سيادة تامة في هذه البلاد، وأكثر الأحكام والأعمال الكبرى في يدهم، وقد تفرد هؤلاء القوم بحسن الخلق وكرم النفس وسعة العقل وجمال المنظر، ولعلهم كسبوا جمال الوجوه من كثرة الاختلاط، فإن نساءهم جمعن المحاسن الشرقية إلى المحاسن الغربية ، فهن في طبقة ممتازة بين أهل الجمال ولا سيما في العيون النجلاء والوجوه البيضاء.
وأهم ما يذكر عن بودابست: شارع أندراسي، وهو أعظم شوارعها سمي باسم الكونت أندراسي السياسي المجري المشهور الذي تولى الوزارات ورأسها مرارا، وكان من أقران بسمارك ودزرائيلي في السياسة، والشارع طوله ميلان وعرضه 40 مترا، وأرضه مرصوصة بالخشب وأرصفته واسعة، وفي جانبيه أشجار جميلة من ورائها القصور والمنازل والمخازن البهية؛ حيث تباع الأبضعة الثمينة، وفي هذا الشارع بناء الأوبرا وهو من الأبنية الجميلة تم بناؤه سنة 1884، ويعمل الآن فيه نخبة من أرباب الموسيقى المجرية، وهي ذات شهرة في أوروبا ذائعة فقل أن يجتمع جوق للغناء، ولا يغني أحد الأنغام المجرية، وأكثر أنغامهم حماسية، وهي أقرب إلى الشرقية من سواها، كما أن المجر أقرب من سواهم في الطباع والعوائد والهيئة والأخلاق إلى الشرقيين من معظم الأوروبيين حتى إنهم ليعدون أمة شرقية في أوروبا، ولبعضهم أسماء لا تختلف كثيرا عن الأسماء العربية والتركية، ولهم ملابس قديمة العهد يفخرون بها إلى الآن في بعض الأحيان هي شرقية في زيها، وفي الشارع بناء عظيم لإدارة سكك الحديد المجرية والمتحف، ومعظم ما فيه من آثار ملوك المجر وقوادهم وأسلحة قديمة ونقود ورايات وملابس، وغير هذا مما يؤخذ منه تقدم هذه الأمة من عهد بعيد، وفيه أيضا مجلس النواب المجري، وهو حديث البناء بالغ الزخرف والرواء يزيد إتقانا عن مجلس النواب في فيينا عاصمة السلطنة، وقد أنفقوا عليه نحو مليوني جنيه، وينتهي هذا الشارع بحدائق غناء فيها القصور الباذخة، ومن هنا ركبنا الترامواي الكهربائي إلى الحديقة العمومية، وفيها الحانات والمطاعم والمتنزهات والبحيرات وكل ما راق منظره من الزهر والشجر، حتى إنهم وجدوا فيها مياها كبريتية تفيد في الروماتزم وأمثاله، فبنوا فوقها حمامات يقصدها المستشفون، ولها منظر جميل ونظام بديع، وأما الترامواي الكهربائي الذي أوصلنا إلى هذه الحديقة فيختلف عن الترامواي المعروف في مصر في أن العربات تستمد قوتها من أسلاك تحت الأرض متصلة بالخط الحديدي الذي تسير عليه العربات ، فلا حاجة إلى مثل ما نرى هنا من العمد والأسلاك الكثيرة فوق رءوس المارة. وأغلب الشركات في فرنسا وإيطاليا جرت على الطريقة المعروفة في مصر، وأما إسبانيا وهولاندا وإنكلترا فإنهم يضعون البطارية التي تتولد منها الكهربائية الدافعة للعربات في العربة الأولى من القطار، ويقال بوجه الإجمال إن الترامواي الكهربائي لم يشع استعماله في أوروبا إلى الآن وربما كان إقبال الناس في مصر عليه أكثر من إقبالهم في مدائن أوروبا، وأكثر ما يكون الترامواي عندهم في الشوارع المتباعدة عن مراكز المدن حيث يقل الزحام، وأما في الشوارع الكبرى حيث تكثر الحركة فيندر أن تسير قطارات الترامواي، وهذا يخالف الذي تراه في مصر حيث مدت خطوط الترامواي في شوارع ضيقة تكثر الحركة فيها، مثل شارع كلوت بك ومحمد علي والفجالة، وقد نشأ عن ذلك صعوبة في مرور الناس والعربات على ما يعلم الجمهور.
قلنا إن المجريين اشتهروا بالموسيقى المعروفة عنهم، والحق يقال إنهم اشتهروا أيضا بالرسم والنقش والتصوير والشعر فهم أهل ذوق لطيف؛ لأنهم أتقنوا الفنون الجميلة ومن أكبر آيات الفخر عندهم أن يشير المرء منهم إلى جد له اشتهر بالشعر أو بالتصوير، وقد قام بينهم مشاهير بهذه الفنون وقادة وساسة كثار حتى إنك كيفما سرت في هذه المدينة العظيمة ترى رسم كبير أو نصب شهير من رجالهم، وأهل بودابست أكثر العواصم الكبرى نصبا وتماثيل من هذا النوع، وهم يتفاخرون بجميع الصور والآثار الفنية القديمة، فإني عرفت عائلة من عائلات السراة عندهم اسمها أسترهازي كان أحد أفرادها يتردد على مصر كل شتاء وينفق فيها الأموال الطائلة حتى آل به الأمر إلى الحاجة، فباع ما عنده من نفيس الرسوم وفاخر الصور بالمزاد العلني، واشترت حكومة المجر ما عنده بنحو مليونين وستمائة ألف فرنك سنة 1865، ونقلتها إلى متحف فرانس جوزف للفنون الجميلة، وإني قصدت هذا المتحف ورأيت غرائب الصناعة فيه، وأعظم صوره دينية تمثل حوادث ذكرت في الإنجيل والتوراة، مثل هرب المسيح إلى مصر، وصورة إبراهيم وامرأته هاجر وغير هذا، وأكثر الصور المتقنة من صنع موريلو المصور الإسباني المشهور وبعض المصورين المجريين، وقد أطلقوا اسم فرانس جوزف على أشياء كثيرة غير هذا المتحف، منها شارع كبير يمتد على طول ضفة الدانوب إلى البورصة الجديدة وإدارة الجمارك، والناس يقصدون هذا الشارع البهي من كل جانب للنزهة والفرجة بعضهم على بعض، وللجلوس في الأماكن العمومية الكثيرة فيه، وهي تشرف على الدانوب، وينتهي هذا الشارع أو الرصيف عند الجسر العظيم المعروف بالجسر المعلق، سمي بهذا؛ لأنه بني بدون عمد أو دعائم ركزت في وسط النهر، رسمه أحد مهندسي الإنكليز، وأنفقت مدينة بودابست على بنائه ثمانية ملايين وربع المليون من الفرنكات، وهو من أجمل الجسور المعروفة في الدنيا وأكبرها وأشهرها، طوله 418 مترا وعرضه 30 قدما، وارتفاعه عن سطح الماء 42، وفي طرفيه من هنا ومن هنا عمال يتقاضون رسما طفيفا من كل مار عليه، ومنظر المدينة إلى الجانبين من ذلك الجسر كثير الجمال.
ومما يذكر بين مناظر بودابست جزيرة صغيرة على مقربة من المدينة اسمها مرغريت أنفقوا ألوف الألوف على رسمها وتنظيمها وتحسينها وجعلوها متنزها لأهل العاصمة فصارت من أجمل المواضع التي تنشرح الصدور لمرآها؛ لأنها واقعة في وسط النهر وكلها محاسن طبيعية وصناعية، فترى الناس ينتابونها في كل يوم ولاسيما في أيام الأحد والأعياد، وهم يأتونها في زوارق وسفن بخارية صغيرة تقوم إليها كل نصف ساعة، وفيها غير ما تعلم من البرك والحدائق والمطاعم والحانات الكثيرة خط للترامواي تجر عرباته الخيل يسير في طول الجزيرة بين صفوف الشجر وغرائب المنظر، ويسمع في جانبها الأنغام المجرية تصدح بها الموسيقى الوطنية، ورجالها متردون بالملابس المجرية القديمة فيلذ للناس كثيرا سماع أنغامهم، ويظهر الجمع لهم الاستحسان بالتصفيق في نهاية كل دور، وللملابس البحرية القديمة شأن عند هؤلاء القوم، وهي تعرف باللون الأخضر الغالب فيها؛ لأنه شعار الأمة المجرية، فبعضهم يلبسون القبعات الخضراء في الاحتفالات الوطنية دليل تحمسهم وتذكرهم شعار الوطن؛ ولهذا أضيف إلى راية النمسا خط أخضر بعد انضمام المجر إليها، وأكثر ما يكون لبسهم للقبعات الخضراء خارج بلادهم ليظهروا للملأ جنسيتهم .
وجملة القول إن جزيرة مرغريت هذه من أحلى ضواحي بودابست وأبهاها، قضيت فيها النهار بطوله حتى إذا خيم الغسق عدت إلى المدينة وشهدت تمثيل رواية مجرية قديمة في الملعب الكبير رأيت فيها صفوفا من البنات المجريات بالملابس العسكرية المجرية، وهي قبعات خضراء مذهبة وسراويل بيضاء وستر قصيرة حمراء مزركشة بالقصب، وقد حمل أفراد هذا الجيش الجميل الرماح وتقلدن السيوف وسارت واحدة منهن بارعة الجمال في الطليعة فكان لمنظرهن بهجة تفوق الوصف.
هذا كله في مدينة بست أو هي القسم الشرقي من عاصمة المجر، وقد مر بك أن الجسر العظيم موصل بينهما، وأن النهر تملأه الزوارق والبواخر التي تروح وتجيء بالناس في كل ساعة بين الجانبين. وأما بودا فإننا رأينا حال وصولنا أنها بنيت على مرتفع من الأرض سفحه عند النهر وقمته عالية تشرف على ما بعد من المناظر، فهم يصعدون من السفح إلى القمة في آلة رافعة مثل التي يستعملونها في البنايات، وهي عبارة عن غرفة برياشها ومقاعدها ترتفع بالقوة الميكانيكية أو تنزل فتستقر حيث يريد الناس، فلما قعدنا فيها مع القاعدين وبدأت بالصعود تأملنا مدينة بست وهي أمامنا من وراء النهر، فإذا بها تهبط وتدور، والحقيقة أننا كنا نصعد فيخيل لنا ذلك حتى إذا وصلنا آخر المسافة كانت المدينة تحت نظرنا من أولها إلى آخرها، وكان لذلك المنظر غرابة لا يزول ذكرها من الذهن، وفي بودا هذه قلعة قديمة كانت في يد الأتراك فلما خرجوا من بلاد النمسا والمجر بقي رجال هذه القلعة فيها ودافعوا عنها دفاع الأبطال مدة أربعة أشهر، فأظهروا ما اشتهر عن أمتهم من البسالة الغريبة، ثم سلموا لتكاثر العدد عليهم، ولم يجد الفاتحون في القلعة حين دخولها غير عدد قليل من هؤلاء الرجال، ولم تزل آثار الترك باقية في هذه المدينة حتى إن فيها جامعا صغيرا وفيه مقام للشيخ جول بابا، بني على تل جميل المنظر، وقد بقي الجامع والمقام على حالهما الأول باتفاق تم بين الدولة العلية ودولة النمسا حين خروج الأتراك من بودابست ، وللجامع خادم تركي يلبس لبدة بيضاء وعمامة بيضاء صغيرة، وبقية ملابسه تحكي ملابس المشايخ الأتراك. والمسلمون في بودابست يحيون مولد صاحب المقام في كل عام باحتفال يذكر، وبعضهم يأتون من الآستانة لحضور هذا الاحتفال، وللمجر علاقة بالدولة العلية تزيد عن غيرها؛ نظرا لما بين المملكتين من القرب والاتصال ولا سيما بعد أن وصلت فيينا بالآستانة عن طريق بودابست هذه بسكة الحديد، وهي متصلة أيضا ببقية أوروبا حتى إنه ليمكن السفر في عربة واحدة من باريز إلى الآستانة على هذا الطريق، ولم يتم هذا الاتصال إلا في سنة 1888، فكان الذين يزورون الآستانة قبل ذلك عن طريق بودابست، يسافر إلى بخارست عاصمة رومانيا ومنها إلى بلغاريا، حيث تقوم باخرة من فارنا في الحدود البلغارية إلى الآستانة.
ومن أهم ما يذكر في بودا قصر فخيم للإمبراطور يقيم به حين يجيء المدينة، ويستقبل كبراء المملكة ووزراءها ونوابها، وأما النواب فلهم مجلس خاص بهم على مقربة من الشارع الكبير في بست، وقد اشتهر نواب المجر ببلاغتهم وفصاحتهم وغزارة معارفهم، وقام من بينهم فطاحل السياسة مثل أندراسي وتاف وتتسا وغيرهم، وهم أحرار في مبادئهم السياسية يميلون إلى التقدم مع الزمان، وقد سنوا لبلادهم نظامات حرة كثيرة الفائدة يحسدهم على مثلها النمسويون.
وفي بودا أيضا المجلس البلدي للمدينة، وهو لا يختلف عن المجالس البلدية الأخرى في ترتيبه ونوعه، وفيها كنيسة مار متى المشهورة بنيت في القرن الرابع عشر تجاه المجلس البلدي، كان ملوك المجر يعدونها خاصة بهم، وقد توج الإمبراطور فرانس جوزف الحالي ملكا للمجر في هذه الكنيسة سنة 1867. والذي يمكن وصفه في بودابست كثير وهي - كما تقدم القول - مدينة زاهرة عامرة، أهلها ذوو يسار ونعمة، وليس فيها ما في غيرها من قلاقل أهل الفوضى وكثرة الأحزاب، وأهلها راقون متعلمون لهم ولع بالأمور المجرية وميل إلى وطنهم شديد، فلما انقضت مدة زيارتي لهذه المدينة البهية عدت إلى فيينا ولكنني اخترت هذه المرة سكة الحديد بدل النهر حتى أرى الطريقين ما بين المدينتين، والخط يجري بإزاء النهر في أكثر الأحيان، ويتباعد عنه في مواضع فيدخل آونة بعد أخرى بلادا كثير جمالها يضيق المقام عن وصف أحوالها.
الحمامات المعدنية
معلوم أن بلاد النمسا اشتهرت بحماماتها المعدنية التي تقوي الأجسام وتشفي من بعض الأمراض، حتى إنها صارت ملاذ الأكابر ومصيف الأمراء يأتونها مستشفين أو متفرجين، وأشهر هذه الحمامات في مدينة كارلسباد سرنا إليها بقطار سكة الحديد من فيينا فوصلناها بعد 12 ساعة، وهي مدينة مشهورة لا يقل عدد الوافدين عليها كل سنة عن أربعين ألفا، يأتونها من كل حدب وصوب، وقد كثر ذهاب الناس من مصر إليها في الأعوام الأخيرة، واشتهر أمرها بين الكثيرين. وفي كارلسباد 14 نبعا للماء المعدني على أشكاله تختلف حرارته ما بين 26 و72 درجة بمقياس سنتغراد، قيل إن اكتشاف هذه الينابيع المعدنية كان بطريقة غريبة، هي أن الملك كارل الرابع خرج للصيد في أحد الأيام، وبينا هو يتأثر الأيل في هذه البقعة رأى كلابه تتوجع من حرارة الماء، فأمر بإرسال كمية منه إلى الكيماويين ليحللوه ويعلموا أمره؛ فعرفوا أنه يخالطه قلويات وأملاح تفيد الأبدان، واشتهر أمر هذه الحمامات بعد ذلك حتى كبرت المدينة ونمت من كثرة القادمين إليها، وفرضت المدينة ضريبة مقدارها عشرة فرنكات تتقاضاها من كل قادم للبلد، وتنفق مجموع هذه الضرائب على تحسين المدينة وتسهيل الإقامة وتوفير الراحة للقادمين، وقد بلغ دخل هذه المدينة في العام أربعمائة ألف فرنك مع أنها صغيرة لا يزيد سكانها عن خمسة عشر ألفا، ولكن فيها نحو 50 طبيبا مدة فصل الاستحمام يدلون المريض إلى النبع الذي يجب الاعتماد على مائه، وما يلزم له من الأكل والشرب وغير هذا من النصائح اللازمة. والناس يخرجون كل صباح إلى أماكن الاستقاء من الماء المعدني وفي أيديهم أقداح يتناولون الماء بها كل في دوره، وقد أوقفت البلدية رجالا من البوليس لخدمة الناس والمحافظة على النظام بينهم، وبنت أروقة وأبنية بديعة إلى جانبها يلجأ إليها الناس ويستريحون أو يقضون ساعات الفراغ وهم يسمعون الأنغام الشجية، وليس ينحصر دخل هذه الينابيع في الضريبة التي تتقاضاها الحكومة من القادمين، ولا في أجرة الحمامات ولكنهم يصدرون من مائها مقادير عظيمة في زجاجات معروفة إلى كل ناحية، فقد بلغ عدد الزجاجات التي تصدر من كارلسباد كل عام ثلاثة ملايين زجاجة، وتسعين ألف رطل من الملح يخرج من ماء الينابيع، وبعض تلك الينابيع يندفع الماء منه بقوة كبرى مثل نبع سبرودل يرتفع ماؤه 13 قدما عند خروجه ويصب في بركة نحو 33 مترا مكعبا كل دقيقة، ودرجة حرارته 72 سنتغراد، فيتناول الشاربون الماء مصا كمن يشرب القهوة أو الشاي، وأكثر الينابيع تجد فيها البنات يخدمن القادمين خدمة تنشرح لها الصدور، وهؤلاء الخادمات كثيرات أيضا في المطاعم والمتنزهات المحدقة بالمياه المعدنية في كل جانب، ولكل خادمة منهن نمرة تعرف بها، والمرء إذا فرغ من الاستقاء عند الصباح ذهب إلى المطاعم المذكورة، وبعدها دار في تلك المتنزهات الكثيرة، وأهمها جبال تحيط بالبلدة وكلها غياض غضة من شجر الصنوبر الباسق تفوح روائحه العطرة في كل جانب، وقد نظمت طرقات بديعة متعرجة للصعود إلى رأس تلك الجبال ووضعت المقاعد في الطريق يستريح عليها الناس، وعلقت في بعض الأشجار أيقونات لمن يريد الصلاة في الطريق، وأهم هذه الجبال جبل فرانس جوزف ارتفاعه 1637 قدما، وجبل أبير ارتفاعه 2000 قدم وغيرهما.
وأما المطاعم والفنادق في كارلسباد فكثيرة جدا، تكفي لكل الزائرين والنازلين وكلها تحت مراقبة الحكومة متبعة النظام الصحي، فلا أطعمة غليظة فيها ولا أفاوية حارة ولا فاكهة مضرة، وكل الأماكن العمومية في كارلسباد تقفل عند الساعة التاسعة من الليل، حتى إن المراسح تقوم بالتمثيل في النهار اتباعا لرأي الأطباء وعملا بما يفيد المستشفين، وهم الفريق الأكبر من زوار المدينة يأتونها من كل جنس وملة، وإني أذكر أني اجتمعت على مائدة واحدة للطعام برومي وفرنسوي وإنكليزي وبلغاري، ورأيت جماعة كثيرة من الوجهاء المعروفين في مصر.
ومن المواضع المشهورة بحماماتها المعدنية قرية جيسهبلر، يصدر من مائها المعدني مقادير وافرة إلى كل جهة، فيشربه الناس صرفا أو ممزوجا بالخمر، وهي تبعد نحو ساعتين عن كارلسباد، سرنا إليها من المدينة المذكورة في طريق كله غياض كثيفة لا يرى شعاع الشمس فيها من كثرة الشجر إلا في مواضع قليلة. وقد كانت أرض جيسهبلر هذه ملكا لواحد من أمراء النمسا، فلم يستفد منها شيئا وباعها لرجل ذي همة وذكاء اسمه الخواجة ماتوني، ما عتم أن ملك تلك الأرض حتى عني باستخراج مائها الشافي وجعل يصدر منه المقادير العظيمة، ويعلن في الجرائد عن فائدته ويسعى في تعميم استعماله حتى نال شهرة عظيمة، وأثرى الرجل وصار عنده مال طائل، فنقل بيته إلى هذه الجهة وقطع أشجارا كثيرة بنى محلها قصرا جميلا له ولعائلته، ومساكن للعمال الكثيرين الذين يشتغلون في تعبئة الزجاجات ماء وإصدارها إلى بقية الجهات، وهم مئات يعملون في الليل والنهار بعضهم يتلقى الماء من النبع، وبعضهم يملأ الزجاجات ماء وبعضهم يسد الزجاجة، وبعضهم يلصق عليها أوراقا باسم المحل وصاحبه، وبعضهم يضعها في الصناديق المعدة لنقلها حتى إذا ملئت الصناديق نقلت إلى الجهات الكثيرة، ومعظمها يرسل إلى البلاد الحارة، وهي تجارة رابحة دائمة لا وقوف لحركتها مدة العام بطوله، وقد بنى الخواجة ماتوني أيضا حدائق وفنادق للزائرين، وجعل هذه البقعة ذات أهمية كبرى، وسمي هذا الموضع بالميزاب؛ لأنه يدر الذهب على صاحبه كما يدر الميزاب ماء العين. والمكان بوجه الإجمال من أنسب الأماكن للاستشفاء؛ لأن هواءه نقي، والمناظر المحيطة به في الدرجة الأولى من البهاء والرواء.
ومن هذا القبيل أيضا مدينة ماريمباد تقرب من كارلسباد في شهرة ينابيعها المعدنية، وهي تفيد في تقليل السمن، وعلى مقربة منها بلدة اسمها فرانسس باد تزيد المستحمين بمائها سمنا، وأكثر الذين ينتابون هذه الحمامات المعدنية سيدات من اللواتي يعتنين بأجسامهن، فترى في ماريمباد جماعات منهن سمينات يشربن ماءها ويغتسلن ليذهب قليل من سمنهن، وقد جعل جلالة ملك إنكلترا يقصد هذه الحمامات كل سنة في العهد الأخير؛ فزاد إقبال الناس عليها زيادة كبرى، وأما السيدات اللواتي يجتمعن في فرانسس باد فيردن من ذلك اكتساب السمن، وقد كانت ماريمباد مجموع غابات وحراج من شجر الصنوبر وغيره فليس يخلو منه موضع إلا حيث قطع وأقيم في محله بناء. وأكثر أبنية المدينة جديدة وهي وافرة التنظيم والجمال، ولها شوارع فسيحة نظيفة وفسحات عدة يحيط بها كلها شجر الصنوبر تتضوع منه الرائحة المعروفة فتزيد المكان فائدة وجمالا، ويبلغ عدد الوافدين على ماريمباد 15 ألفا كل عام، ويصدر منها مليون زجاجة من الماء المعدني كل سنة إلى الخارج، ولهذه المياه شهرة واسعة، ولما استقر بنا النوى في هذه المدينة درنا نتفرج على مشاهدها الطبيعية وآيات جمالها، فجلست في قهوة اسمها قهوة جرلانديا بنيت فوق جبل يشرف على بحيرة طبيعية في سهل واسع الجوانب، وله منظر مفرط الجمال، وفيه الفتيات البوهيميات المشهورات بالرشاقة واللباقة يخدمن القاعدين في القهوة وهن لابسات الزي البوهيمي، وهو قبعة صغيرة على رأس الفتاة وصدر مكشوف وسواعد ظاهرة وجلباب قصير إلى ما تحت الركبتين بقليل، وقد علقت في أعناقهن سلاسل من الفضة، وهن يخدمن بنشاط وهمة تزيد في رونق ذلك الموضع وتتمم آيات حسنه وجماله، وقد زرت الينابيع المعدنية، وسرت تحت رواق عظيم الطول قائم على عمد كثيرة، وهو محل الاجتماع العمومي تصدح به الموسيقى، وعلى مقربة منه أناس من أهل البلاد يبيعون قطعا خشبية عليها نقوش وكتابات يجعلونها تذكارا لزيارة هذا المكان، أو أواني الخزف البوهيمي المعروف، وهي كثيرة في كل بلاد.
وبرحت هذه المدينة الجميلة قاصدا بلاد ألمانيا فعرجت على درسدن عاصمة مملكة سكسونيا، يقيم فيها ملك البلاد ووزراء دولته، وسكسونيا مملكة من ممالك ألمانيا المهمة عرفت بالتقدم في العلم والصناعة إلى الدرجة القصوى، ولعاصمتها المذكورة شهرة فائقة في معاملها ومدارسها العالية ومعارض الفنون الجميلة فيها، ويبلغ عدد سكانها نصف مليون نفس، وهي مبنية على ضفة نهر الألب الذي يشطرها شطرين متساويين ويزيد منظرها رونقا وحسنا، لا سيما وقد بنوا فوقه الجسور البديعة، أشهرها جسر أوغسطس طوله 400 متر وعرضه 13. وفي هذه المدينة 4 محطات لسكة الحديد تنقل منها المصنوعات السكسونية - ومن أهمها الخزف - إلى بعيد الأقطار، ويظهر منها ومن كل جهة أخرى في هذا البلد العظيم أثر الجد والنشاط على وجوه الأهالي، ويكثر مرور السفن والبواخر في نهر الألب مارة بين أحياء المدينة، وهي قاصدة أنحاء سكسونيا التي يرويها هذا النهر. ولقد شهدت فيها من القصور والمتاحف شيئا كثيرا لم أر حاجة إلى ذكره، فأتقدم إلى وصف بقية مدائن السلطنة الألمانية بعد شيء من خلاصة تاريخها.
ألمانيا
خلاصة تاريخية
إن دولة ألمانيا الحالية حديثة العهد، لم تبدأ على شكلها الحالي إلا في عام 1871، ولكن الممالك التي تتكون منها هذه السلطنة قديمة لكل منها تاريخ خاص بها، وقد كان أكثرها يعد في جملة الممالك الألمانية القديمة التي رأستها بلاد النمسا إلى أواسط القرن الأخير.
وأشهر ما يذكر عن ألمانيا أن أقوامها عرفوا بالبطش والبسالة في أيام الرومانيين، ولم يأتوا أمرا يذكر حتى قام شارلمان ونظم مملكته وخلفه ابنه لويس دبوناير، وهو الذي قسم مملكته الواسعة على أولاده في حياته، فأصاب أحدهم واسمه لويس الجرماني، أكثر الولايات الألمانية، ومن ذلك الحين - أي من سنة 843 - صارت ألمانيا دولة مستقلة، ينتخب ملوكها الأمراء والأعيان وأساقفة الكنيسة، وأكثر الذين وقع عليهم الانتخاب من العائلات المالكة، مثل عائلة شارلمان، وقام منهم ملوك اشتهر ذكرهم في التاريخ، منهم أوتو الكبير ملك من سنة 936 إلى 973، وهو رجل أكثر من الغزوات وحارب البابوات مرارا؛ فانتصر عليهم وجعل يعين من شاء منهم، ولكن الأمر انقلب بعد موته إلى ضد ذلك، فعلا شأن البابوات وصاروا يأمرون ملوك ألمانيا وينهونهم ويعزلون بعضهم ويولونهم، ويفرضون عليهم الغرامات وأنواع العقاب. وكان في جملة الذين اشتهروا من هؤلاء الملوك فريدريك بارباروسا ملك من سنة 1152 إلى 1190، واشترك في الحروب الصليبية، وكان له فيها المواقع المشهورة، أهمها واقعة قونية التي فتحها عنوة بعد قتال شديد.
وظل أمراء ألمانيا ورؤساء الدين فيها ينتخبون الملوك واحدا بعد واحد حتى قام رودولف هابسبرج المشهور في سنة 1373، وهو الذي أسس الدولة الحاكمة إلى الآن في النمسا - وقد مر ذكره - فعظم نفوذه، وحصر الملك في عائلته فصار قياصرة ألمانيا كلهم من آل هابسبرج إلى أيام نابوليون، وزاد نفوذ آل هابسبرج زيادة كبرى في القرن الخامس عشر بسبب اقتران الأمير مكسميليان ابن الملك فريدريك الثالث بالأميرة ماري من آل بورغونيا، وتلا ذلك أن مكسميليان هذا صار إمبراطورا واقترن ابنه فيليب بالأميرة حنة ابنة ملك إسبانيا، فرزق الاثنان ولدا هو كارل الخامس ملك إسبانيا وإمبراطور النمسا المشهور الذي حدث الانقلاب الديني وقامت طائفة البروتستانت في أيامه، وهو الذي قيل إن الشمس لم تغرب عن أملاكه؛ لأنه فوق ما ملك في أوروبا كان معظم القارة الأميركية له، وقام بحروب عديدة مع فرانسوا الأول ملك فرنسا - ترى ذكرها في تاريخ الدولة الفرنسية - وتنازل كارل الخامس هذا عن الملك لابنه فيليب سنة 1556، فعاد أمراء ألمانيا إلى انتخاب الإمبراطور، واختاروا فردناند الأول من آل هابسبرج ثم تعاقب من بعده الملوك، ولا أهمية لأكثرهم.
وبينا هذه الحوادث تجري قامت قوة جديدة في ألمانيا هي أصل المملكة الألمانية الحالية، ذلك أن بروسيا كانت إلى ذلك الحين بلادا غير مشهورة تابعة لمملكة النمسا أو لمملكة بولونيا، ففي سنة 1415 اشتهر أمير من أمرائها اسمه فريدريك صاحب مقاطعة هوهنزولرن، وضم إلى أملاكه القليلة ولاية براندنبرج بإذن من ملك بوهيميا؛ فأسس بذلك دولة هوهنزولرن براندنبرج، وهي الحاكمة إلى الآن في بروسيا وألمانيا. وفي سنة 1535 صار صاحب براندنبرج أميرا لبروسيا تحت سيادة ملك بولونيا، وفي سنة 1608 صار صاحب بروسيا هذه أميرا من أمراء المملكة الألمانية الذين لهم حق انتخاب الإمبراطور، وهم يومئذ سبعة دوكات يلقبون بلقب «المنتخب»؛ تمييزا لهم عن الأمراء الآخرين الذين لم يحق لهم ذلك، فعظم من بعد هذا شأن بروسيا حتى إن فريدريك وليم - أحد أمرائها ويعرف باسم المنتخب الكبير - استقل بالأحكام في بلاده استقلالا تاما في سنة 1657، وحفيده انتحل لقب ملك سنة 1701، واشتهر باسم فريدريك الأول ملك بروسيا، ولما قام فريدريك الكبير في سنة 1740 وتولى مهام الملك كان لبروسيا شأن عظيم بين دول أوروبا، وعند ملكها خزانة عامرة بالمال والتحف، وجيش قوي منظم عدده ستون ألفا، فزادت قوة بروسيا وأملاكها في أيامه زيادة تذكر، وحدثت حروب مشهورة بسبب انقطاع الذكور من آل هابسبرج ووصول الملك إلى يد ماريا تريزا ملكة النمسا المشهورة، وكان فريدريك الكبير ملك بروسيا طامعا بزيادة الملك، فلما رأت ماريا تريزا ذلك منه أرضته بقسم كبير من بلاد سيليسيا في جنوب بروسيا، فامتنع عن محاربتها ورضي ببقاء الملك الألماني في يد آل هابسبرج وعقد معها ومع غيرها معاهدة أيكس لاشايل المشهورة في سنة 1748، فاشتهر من بعد هذه المعاهدة أن بروسيا من أقوى دول أوروبا، وصارت حليفة للنمسا بدل أن تكون تابعة لها في الاتحاد الألماني.
وفي سنة 1756 أحس ملك بروسيا بمؤامرة وتواطؤ ما بين ملوك روسيا والنمسا وساكسونيا على محاربته واغتصاب شيء من أملاكه؛ فجند الجيوش وبدأ يحارب الأعداء في كل جهة، واستعان بمحالفيه فاشتبكت أوروبا كلها بحرب طويلة دامت 30 سنة، وهي تعرف في التاريخ باسم «حرب الثلاثين سنة» عقد من بعدها صلح، أهم شروطه أن تبقى الأمور على مثل ما كانت قبل الحرب. ومات فريدريك الكبير هذا في سنة 1786 فورثه ابن أخيه فريدريك ولهلم الثاني، وكانت مملكة بروسيا في أيامه عظيمة الشأن تقدمت في العلم والصناعة وقام منها الفطاحل، مثل: لينتز وولف وكانت وجوبث وشلر، وهم من الفلاسفة الذين شادوا لبلادهم في ساحة العلم والقلم صروح الفخر العظيم، وحدثت في تلك الأثناء الثورة الفرنسوية فاهتزت لها عروش أوروبا، ومن ثم تحالفت النمسا وبروسيا وإنكلترا على محاربة فرنسا، فبدأت تلك المعارك الهائلة التي انتهت بموقعة واترلو سنة 1815 بين نابوليون من جهة وجنود أوروبا من جهة، وترى بيانها في تاريخ فرنسا. وقد كانت بروسيا خاسرة في أكثر المعارك التي حضرها نابوليون بنفسه واضطرت إلى قبول ما أراد من الشروط، وهو - على ما يظهر للأكثرين - كان يحسب حسابا كبيرا لاتحاد الأقوام الألمانية على بلاده، فلما انتصر على إمبراطور النمسا في معركة أوسترلتز وبدد جنود بروسيا في المعارك السابقة، ألغى الإمبراطورية الألمانية التي كان مركزها إلى ذلك الحين في فيينا، وصار إمبراطور ألمانيا يعرف باسم ملك النمسا فقط، واستقلت بروسيا من تلك السيادة الوهمية استقلالا تاما، وأنشئت ممالك أخرى ألمانية رأس بعضها إخوة نابوليون بونابارت وبعضها صنائعه، فتم بذلك المراد للفاتح الفرنسوي العظيم من تجزئة السلطنة الألمانية، وظل الحال على مثل هذا إلى يوم خذلانه على يد الإنكليز والبروسيين في معركة واترلو سنة 1815.
ولما رأت الأقوام الألمانية عند سقوط نابوليون أن مصلحتها تقوم بالانضمام عادت إليه في الحال فعقد في فيينا مؤتمر عظيم الشهرة في شهر نوفمبر من سنة 1815 حضره النواب من 37 مملكة وإمارة ألمانية، وقرروا فيه أن تتحد هذه الممالك والإمارات اتحادها الأول، وأن تكون النمسا مركز هذا الاتحاد الألماني في الجنوب وبروسيا مركزه في الشمال، وتظل كل مملكة أو إمارة حرة في شئونها الداخلية، وزادوا على هذا في سنة 1837 أنهم قرروا إبطال الرسوم الجمركية أو تخفيفها فيما بين هذه الممالك الألمانية؛ فتم بذلك الاتحاد الذي كانت فرنسا تخشى شره، ولكنه لم ينتج عنه شر لأوروبا، ولا سيما بعد أن تحاربت النمسا وفرنسا في سنة 1859، ولم تنتصر الممالك الألمانية للنمسا واضطرت هذه المملكة أن تسلم بعض أملاكها لإيطاليا عملا بشروط الطليان والفرنسيس الذين نصروهم في حروب الاستقلال الطلياني. وفي سنة 1860 اتحدت النمسا وبروسيا على محاربة الدنمارك فانتصرتا عليها وأخذتا منها ولايات شليسوج وهولشتين ولاونبرج، وكانت النمسا تحكم أولاهما وبروسيا تحكم الثانية والثالثة من بعد ذلك النصر حتى اختلفتا على بعض المسائل، وشهرت تلك الحرب المشهورة بينهما في سنة 1866، وكان البرنس بسمارك المعروف يدير سياسة بروسيا وقتئذ، والكونت مولتكي يقود جنودها فأحرز البروسيون نصرا عظيما على النمساويين، وملكوا منهم الأراضي، أخصها التي اغتصبوها من الدنمارك، وعلى إثر ذلك عقدت معاهدة في فرانكفورت بألمانيا، من مقتضاها إخراج النمسا من التحالف الألماني الشمالي، والاتفاق على أن تكون بروسيا رئيسة ذلك التحالف بدلها، ثم استولت بروسيا على مملكة هانوفر وغيرها فصارت مملكتها قوية واسعة، واشتهرت بقوة جيشها ومهارة قوادها، حتى إذا كانت سنة 1870 وانتصرت في حربها المشهورة على فرنسا لم يبق في أوروبا أعظم منها، فأعيدت الإمبراطورية الألمانية القديمة برئاسة بروسيا، وتوج ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي إمبراطورا لألمانيا في فرسايل في قصر ملوك فرنسا سنة 1871، بعد أن تم النصر لبروسيا، وعقدت شروط الصلح مع فرنسا، وبذلك بلغت بروسيا أوج العز وصارت مملكة ألمانيا التي ترأسها من أعظم ممالك الأرض وأقواها فنمت وتقدمت في الصناعة والتجارة تقدما يذكره الناس في كل حين مع الدهش والاستغراب.
وكان ولهلم الأول مؤسس هذه الإمبراطورية من الملوك العظام، تعلق الألمانيون على حبه وإكرامه حتى إذا مات سنة 1888 احتفلوا بدفنه احتفالا عظيما، وهم إلى الآن يذكرون أيامه وتقدم السلطنة على عهده، وخلفه ابنه فريدريك الثاني وكان يوم وفاة والده في سان ريمو من مدن إيطاليا مريضا بداء السرطان فجاء برلين وتولى مهام الملك بمساعدة البرنس بسمارك ونجله الإمبراطور الحالي، فما طالت أيامه؛ لأنه توفاه الله في شهر يونيو من تلك السنة، وحزنت ألمانيا لوفاته كثيرا؛ لأنه اشتهر بالفضائل وندبه الإنكليز أيضا؛ لأن قرينته كانت أكبر بنات الملكة فكتوريا، وقد ولد له ابنان هما، ولهلم الإمبراطور الحالي، وأخوه البرنس هنري أحد قواد الأسطول الألماني وعدة بنات.
غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا.
واشتهر جلالة الإمبراطور الحالي بالحزم وسرعة الخاطر وحب التوسع في الملك، وهو من أمهر ملوك أوروبا الحاليين وأقدرهم، تقدمت ألمانيا في أيامه تقدما عظيما وملكت في الصين وأفريقيا الأراضي الواسعة وامتدت متاجرها وكبر نفوذها إلى حد لم تعرفه من قبل هذا الحين، وعدد سكان هذه السلطنة الآن 62 مليونا، وهي أشهر الدول في قوة جيشها البري، وثانية دول أوروبا في القوات البحرية وتجارتها نامية نماء لا نظير له في التاريخ الحديث.
برلين
هي عاصمة بروسيا وألمانيا معا، تعد ثالثة مدن أوروبا في العظمة والأهمية، ولكنها حديثة العهد لم يبدأ تاريخ عظمتها إلا من بعد منتصف القرن الماضي ويزيد سكانها عن مليوني نسمة، وكان في مكانها نهر على ضفتيه غياض وسهول خصيبة فلم تعمر إلا في القرن الثاني عشر حين سكنها بعض فلاحي الألمان وجعلوها مدينتين: واحدة إلى الضفة اليمنى من النهر، وهي برلين، والأخرى تجاهها وهي كولن، فاتحدت المدينتان سنة 1307 ودخلت في حوزة آل هوهنزلورن في القرن الخامس عشر، وصارت قاعدة إمارتهم في أواخره، وكان ذلك بدء تقدمها حتى إذا حدثت حرب الثلاثين سنة التي ذكرناها في فصل التاريخ وانتهت على ما يريد ملك بروسيا، زادت برلين أهمية وكثرت فيها الأبنية، وظلت على هذا التقدم وملوكها يزيدون محاسنها واحدا بعد واحد، حتى دخل هذا القرن وانتصرت بروسيا انتصاراتها الباهرة على الدنمارك والنمسا وفرنسا؛ فزادت أهمية عاصمتها زيادة كبرى، وأكثر ما فيها الآن من منظر فخيم وأثر عظيم يعد حديث العهد، ويدل دلالة قاطعة على نمو المدينة في السنوات الأخيرة من تاريخها، ولا سيما في الضواحي خارج بوابة براندنبرج؛ حيث بنيت أحياء جديدة برمتها فبلغت مساحة الشوارع 2500000 متر مربع، موزعة على خطوط لا يقل طولها عن 487 كيلومترا، وعدد العاملين بكنسها ورشها يزيد عن 1500 رجل و500 غلام.
والمدينة في منبسط من الأرض يشطرها نهر صغير اسمه سبري شطرين، ولها عدة مداخل أو (بوابات) قديمة العهد، أشهرها مدخل براندنبرج في القسم الغربي من المدينة، وهو يفصل ما بين برلين القديمة، والقسم الحديث منها علوه 21 مترا وعرضه 62، وفيه ثلاثة أبواب أو منافذ تفصل بينها عمد من الرخام، تمر في الباب الأوسط منها عربات البلاط الإمبراطوري والعائلة المالكة فقط، وللناس الجانبان الآخران، أحدهما للداخلين وثانيهما للخارجين. وفي أعلى بوابة براندنبرج هذه تمثال الظفر أقيم سنة 1871 تذكارا للنصر العظيم على فرنسا، وهو عبارة عن ثلاث أفراس من النحاس الأصفر صنعت كأنها تعدو مسرعة علامة التقدم السريع، ومنظرها بديع يستوقف الأنظار، وإلى كل من الجانبين بناء صغير، أحدهما مخفر للجنود والثاني مكتب للتلغراف، ولو وقف الإنسان عند بوابة براندنبرج هذه وألقى بنظره إلى الجهات المحيطة بها لرأى أفخم مشاهد برلين وأعظمها، فإن أكثر ما سيرد وصفه هنا يحيط بهذه البقعة أو يقرب منها؛ ولذلك اخترنا أن نجعلها بدء وصفنا لعاصمة الألمان العظيمة، وقد زاد هذه البوابة أهمية أنها واقعة في رأس شارع عظيم اسمه شارع أونتر لندن، ومعناه شارع الزيزفون طوله 1500 متر، وعرضه 60 مترا، وهو أقسام عدة، بعضها للمسير على الأقدام وبعضها للخيل والبعض للعربات على مثل ما تقدم من وصف الشوارع التي تضارع شرع الزيزفون هذا، وفيه أربعة صفوف من الشجر تزينه وتزيده رونقا وجمالا، وقد أطلق عليه اسمه المشهور بسبب هذه الأشجار. وفي هذا الشارع كثير من الأبنية الفخيمة ومنازل الكبراء والسفراء، وهو يبتدئ عند بوابة براندنبرج التي ذكرناها وينتهي في ميدان قام به تمثال فريدريك الأول.
وفي أول هذا الشارع عند بوابة براندنبرج ميدان فسيح عظيم يعرف باسم «ميدان باريز»، وهو حسن الموقع، في وسطه بركة من الماء عظيمة وتمثال للمريخ إله الحرب عند القدماء، وإلى الجهة الجنوبية منه بناء عظيم هو قصر البرنس بلوخر ووراءه ناد كبير لضباط الجيش الألماني، في داخله القاعات والغرف والملاهي على أشكالها، ويليه قصر البرنس أرشم، وفي الجهة الشمالية من هذا الميدان سفارة فرنسا وغيرها من الأبنية إذا تقدمت في تلك الجهة رأيت أثناء سيرك شيئا كثيرا منها، مثل: وزارة الأديان وسفارة روسيا وهي لها واجهة بديعة الشكل من الرخام الأبيض النقي، ومن ذلك أيضا وزارة الداخلية وعلى مقربة منها معرض للأسماك والطيور والقردة دخلناه وهو مؤلف من طبقتين: في الطبقة العليا منهما بيوت من الزجاج للحيات على أشكالها أرسلت إلى هذا المعرض من الهند وأواسط أفريقيا وأميركا الجنوبية وغيرها من المواضع الحارة تراها غادية صادية وليس بينك وبينها إلا جدار من الزجاج المتين، هذا غير ما في البرك من أنواع السمك الجميل ما بين أحمر وذهبي وفضي ومرقط وملون بالألوان البديعة، جلب أكثره من البحار النائية أيضا إتماما لفائدة هذا المعرض، وقد صنعوا في ذلك المعرض مغارة كبيرة وعرة المنظر جلبوا إليها الشجر اليابس والحجر الكبير، ووضعوها على نسق يحكي نسق الطبيعة في جماله، وأدخلوا إليها من الطير أنواعا كثيرة تتنقل في جوانبها كأنما هي حرة في الخلاء ولها منظر كثير الجمال.
ويلي ذلك إذا استمر المتفرج على المسير في الجهة التي ذكرناها «الرواق القيصري»، وهو بناء ضخم شاهق، يخيل لك أنه مدينة صغيرة فيه مخازن ومطاعم ومكاتب كثيرة، وفيه أيضا معرض لتماثيل صنعت من الشمع، بينها تماثيل الأسرة الإمبراطورية والرجال العظام من أهل السياسة والحرب والشعر والعلم والصناعة والكل بهيئاتهم الصحيحة وملابسهم المعتادة، وقد أتقن الصنع فيها إتقانا عجيبا حتى إنه ليلتبس عليك التمييز بين الأحياء والتماثيل، وأذكر أني رأيت هنالك من هذا القبيل مائدة للطعام رتبت على النسق المعروف، وفيها الأطباق والأدوات وبعض الألوان وقد جلس من حولها الناس رجالا ونساء، وهم كمن بدأ في الطعام، ولولا جمود منظرها لحكمت أنهم يشربون ويأكلون، وفي هذا ما يراه القارئ من إحكام الصنع وإتقان العمل.
وفي وسط شارع الزيزفون قهوة بوير، وهي من أحسن حانات برلين يتسابق إليها الألوف لحسن مركزها وإتقان معداتها، ويقعد الناس فيها يتفرجون على المارة في الشارع الذي لم نزل في وصفه، وفي آخره ساحة رحيبة أقاموا فيها تمثال فريدريك الأول وحوله القصور والمنازل في جملتها: الأوبرا وقصر ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي، وقصر فريدريك الثاني والده، ودار المحافظة ونادي العسكرية والمكتبة العمومية والمدرسة الجامعة، أما التمثال فقد صنع من نحاس وقام على قاعدة ارتفاعها 14 مترا ولها أربعة جوانب، في الجانب الشرقي تماثيل لبعض أمراء ألمانيا، وفي الجانب الغربي رسم القائدين زيتن وسيدلتز، وهما أشهر من حارب مع فريدريك الأول، وفي الجوانب الأخرى رسوم المشاهير أيضا من الذين شادوا لألمانيا صروح العز والفخار.
وأما المكتبة العمومية التي ذكرناها فبناء عظيم، كتب على صدره من الخارج باللغة اللاتينية «غذاء للأرواح»، وفيها زهاء مليون مجلد من الكتب المطبوعة وعشرين ألفا من كتب الخط، في جملتها: كتابات وأسفار دينية قديمة العهد؛ ولذلك يؤم هذه المكتبة كل باحث وطالب للفائدة، فإذا دخلت قاعة المطالعة فيها رأيت هنالك هيئة الوقار والعلم، حيث يجلس الباحثون بعضهم وراء بعض، وليس بين تلك الجموع علاقة غير الشغف بالمطالعة والسكوت التام وتقليب الأوراق فيتجلى لك الاجتهاد والدرس العميق بكل وجوهه، ولا بد للذي يريد مطالعة كتاب نادر المثال من كتب هذه المكتبة أو مراجعة شيء فيها أن يطلب ذلك على ورق مطبوع في دائرة المكتبة، ويعين الكرسي الذي يريد أن يقرأ الكتاب فيه والزمان، فإذا جاء في اليوم التالي وجد الكتاب حيث يريد وأمامه الحبر والورق والأقلام فيعلق ما أراد، وفي ذلك تسهيل على الباحثين لا تخفى فوائده.
وتجاه هذه المكتبة الماهب أو الأوبرا، بني معظمها من الحديد والحجر حتى يقل خطر الحريق ما أمكن، ويمكن لألف وخمسمائة شخص أن يسمعوا التمثيل في قاعتها الكبرى، وقد أصيبت هذه الأوبرا كما أصيب غيرها بالنار، فأعادوا بناءها على مثل ما تقدم، وأكثروا من النوافذ والمخارج تسهيلا للفرار حين اضطرام النار، ولكن ذلك أصبح من الأمور النادرة الآن بعد أن عول مديرو المراسح على إضاءة أماكنهم بالنور الكهربائي ومنعوا التدخين في داخل المراسح إلا في قاعات معلومة أرضها من البلاط، وفيها خدمة يراقبون ما يلقيه الرجال من السجاير وسواها.
والنادي العسكري - الذي مر ذكره أيضا - من المشاهد المذكورة في برلين، وأنت تعلم أن ألمانيا دولة حربية عسكرية، وأن نظام جيشها نال شهرة فائقة حتى إن بعض الدول الشرقية، كبلاد الصين والدولة العلية واليابان، تستخدم الضباط الألمانيين لتدريب جنودها وتنظيم جيوشها، وللقيصر الحالي - ولهلم الثاني - شغف بالجنود ونظاماتهم وحركاتهم؛ فهو يستعرض الألوف منهم في كل حين، ويزور المخافر والثكنات مرارا في الشهر؛ فلهذا أصبح مركز العسكرية خطيرا في البلاد، وزادت أهمية هذا النادي وسواه وأصبح للضباط امتياز على بقية الناس في ألمانيا، والحق يقال إن دولة الألمان لم تزل على النسق القديم الذي كان متبعا في العصور المتوسطة فيما يخص الجندية؛ فإن قسوة الأحكام العسكرية واستبداد الكبير بالصغير في جيش ألمانيا جرت مجرى الأمثال، ولطالما انتحر الجنود، ورحل الأهالي إلى أميركا تخلصا من ظلم جاويش أو جور ضابط أو ثقل عمل شاق، هذا غير أن الضباط العسكريين لهم حق الدفاع عن شرفهم إلى حد أنه يجوز لهم قتل من يتعرض لهم بأقل إهانة، ولا يحاكمون على هذا المنكر ولا يعدمون، وقد حدث من هذا القبيل عدة حوادث في عهد الإمبراطور الحالي، ونجا الضباط القاتلون من طائلة العقاب بعلة أنهم قتلوا من قتلوا في سبيل المحافظة على الشرف العسكري.
وكل من يزور برلين يرى أهمية الجيش الألماني فيها وحركات جنوده الكثيرة، فإن الضباط والعساكر يخاطرون في كل الشوارع جماعات وأفرادا، والتمرينات العسكرية في ضواحي المدينة وأطراف المملكة الألمانية شاغلة للأذهان، يقصدها القواد والأفراد من كل جهة والمسافر في سكة الحديد الألمانية يرى فرق الجند منتقلة من موضع إلى موضع، وقد ملأت بعض السهول والبقاع بكثرتها؛ فإن جيش ألمانيا لا يقل عن ستمائة ألف في أيام السلم، ولا يزيده في العدد غير جيش روسيا.
وقد رأيت في هذا النادي من الأعلام والرايات شيئا كثيرا اكتسبه الألمان من الأعداء في حروبهم القديمة والحديثة كحربهم مع الدنمارك والنمسا وفرنسا، ومدافع غنموها من الفرنسيس في الحرب الأخيرة المشهورة وأسلحة قديمة العهد كالرمح والفأس والسهم وغيرها حديثة من أجمل أنواع المدافع والسيوف الجديدة، وهنالك أيضا قاعة كبرى فيها رسوم قلاع وطوابي ووقائع حربية تمثل الجنود والخيل والأماكن والأسلحة تمثيلا دقيقا، وقد صنعت كلها من الجبس، وفي جملة ذلك: شكل سيدان ومعركتها المشهورة، فإنك ترى تلك المدينة العظيمة بأسوارها وقلاعها ومنازلها وطرقها، وترى الجنود تتهيأ وتصطف لقتال الألمان في جانب، والفرنسيس في الجانب الآخر، والكل بملابسهم المعروفة وأسلحتهم الكاملة، والخيل لكل فرقة لها لون معروف، وقد صفت المدافع من أمام الجيش في الناحيتين، ووقف الإمبراطور الألماني مع قواد جنده في ناحية من الموضع وأمامهم فرقة هاجمة على المدينة هجوم الأسود الكواسر، فبعضهم أصابته رصاصة وبعضهم بتر ذراعه وبعضهم سال الدم من جسمه، ونحو ذلك مما يوهم الرائي أنه في معركة حقيقية لولا السكون السائد على ذلك المشهد الغريب.
وفي الدور الأعلى من هذا النادي قاعات للضباط، وغرف للمطالعة والكتابة، وفي أكثرها رسوم حربية وصور ولهلم الأول وبسمارك ومولتكي، وهم الثلاثة الذين رقت بروسيا بحكمتهم وعلمهم أوج العز وصارت رئيسة للسلطنة الألمانية العظيمة، والذين يختلفون إلى هذا البناء من الرجال العسكريين كثار العدد، وقد يتوهم الساذج من كثرة المشاهد العسكرية في هذه العاصمة أنها على أهبة الحرب، كما أن الغريب الذي يأتي باريس لأول وهلة يظنها في عيد عظيم لكثرة ما يرى من الهرج والمرج وآيات الحظ في تلك المدينة الزاهرة.
ويقرب من هذا النادي قصر الإمبراطور ولهلم على ضفة نهر سبري وصلناه من جسر عليه رسوم وتماثيل حربية من كل نوع، من ذلك تمثال رجل يقص حديث الحرب على غلام، وتمثال مارس إله الحرب يعلم شابا استعمال السلاح ويقلد شابا آخر سلاحه بعد أن أتم دروسه العسكرية، ويتوج جنديا ظفر في ساحة القتال وينشط آخر مجروحا على القيام محرضا له على مداومة القتال وغير هذا، وكان على باب القصر حين وصلت جماعة من السائحين في انتظار الإذن بالدخول، فلما فتح الباب دخله الجميع وراء حارس أخذنا إلى الدور الأول، وأدخلنا غرفة عظيمة قال إنها خاصة بالإمبراطور - وكان جلالته يومئذ غائبا عن برلين على عادته في أكثر أشهر الصيف - وهي الغرفة التي اشتهر عن ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي أنه كان يطل من نافذتها ليرى الجنود حين تروح وتجيء في الشارع أو حين تذهب للمناورات وتعود منها، وفي قاعة أخرى من هذا القصر الفخيم صور أفراد العائلة المالكة من آل هوهنزولرن صنعت بالزيت ووضعت في براويز مذهبة وكلها آيات في الحسن والإتقان، وقاعة أخرى تعرف باسم القاعة الذهبية فيها عمود من الفضة أنشئ تذكارا لإيجاد وسام الصليب الأسود، وفيها تمثال ولهلم الأول واقفا في معركة جرافلوت بفرنسا في الحرب السبعينية المشهورة، وقاعة النسر الأحمر تذكارا لإنشاء وسام النسر الأحمر الألماني، وفيها ذلك الوسام معلق على عمود بديع الشكل، وقاعة النسر الأسود، وهي مثل سابقتها في الغرض والوضع وقاعات أخرى كثيرة كلها ملأى بأفخر أنواع الرياش النفيس، وكان الحارس يقص علينا أقاصيص تلك الغرف وحكاية ما فيها من الغرائب والتحف حتى دخلنا قاعة الطعام، وهي فسيحة واسعة الجوانب بهية الشكل تشرح مناظرها الصدور، ويمكن أن يجلس إلى موائدها 450 شخصا لكل منهم كرسي جميل يمتاز عنه كرسي من الفضة خص بالإمبراطور الحالي، فهو يجلس إليه كلما تناول الطعام في هذا القصر، وقد أهدي هذا الكرسي إليه من مدينة برلين بعد جلوسه بقليل ، وأما عن قاعة الاستقبال أو البهو الكبير فحدث ما شئت وتصور من أشكال فخامته ما أردت، إنه يقصر الوصف عن محاسنه. ولقد أذهلني اتساعه ورياشه وزخارفه وأعجبت بفرشه النفيس وسقفه السحيق وما يحدث من صدى الأصوات فيه على اتساعه، وما يضيء فيه من نور المصابيح التي لا تعد، وما تنعكس صورته على المرائي من الرسوم البالغة حد الإتقان، وهي - بالإجمال - من أجمل ما رأيت بين القاعات العظمى في قصور الأمراء والملوك، وسرنا بعد هذا في القصر إلى القسم المخصص لجلالة الإمبراطورة، وفيه قاعة اسمها القاعة البيضاء كل رياشها من الحرير الفاخر الأبيض، وفيها 12 تمثالا جميلا من المرمر الأبيض أيضا تمثل ولاية براندبرج التي كانت أساس المملكة البروسية على مثل ما رأيت في فصل التاريخ. ويلي هذا القسم جانب من القصر جعل كنيسة للعائلة الإمبراطورية، وجدرانها من الرخام الأبيض المحلى بالذهب، وكذلك المصابيح والأعمدة والمقاعد وبقية ما فيها ولها قبة من الرخام الأبيض أيضا يزيد ماء الذهب جمالها ظهورا، والناس يرون هذه القبة البديعة من خارج القصر، وفي الهيكل من هذه الكنيسة أعمدة من الرخام أخذوها من مصر، وهي من شكل الرخام الذي صنعت منه أعمدة الجامع في قلعة مصر، وبعد ذلك رأينا قاعة الرسوم وفيها من الصور ما لا يعد ولا يعدد، أذكر منها: صورة بطرس الأكبر قيصر روسيا والقيصرة كاترينا الثانية والسلطان سليمان الثاني، ونابوليون الأول وولهلم الأول قيصر ألمانيا يتوج قيصرا في قصر فرسايل بفرنسا، وصورته وهو عائد إلى برلين بموكبه الحافل بعد النصر في سنة 1871، فوقف السياح طويلا يتحدثون عن تلك الرسوم وتركتهم حتى أزور المتحف.
والمتحف هذا عظيم الشأن لما بذله الألمان في سبيل تحسينه وزيادة نفائسه، وهم أهل عزيمة وجد في المسائل العلمية، بلغوا في العلوم العقلية شأوا بعيدا حتى إن بقية الأوروبيين والأميركيين إذا أرادوا التعمق في الفنون الرياضية والعقلية والفلسفة على أشكالها قصدوا مدارس الألمان، والقوم يرسلون اللجنات العلمية في كل حين إلى الأقطار البعيدة لجمع الآثار التاريخية والمتحجرات والأحافير وغير هذا مما يفيد أهل العلم، وقد اشتهر من رجالهم عدد كبير بالاكتشاف، مثل شلمين الذي سيمر بك ذكره وغيره ممن جاب الأقطار النائية وراض الصعاب في مصر والشام والعراق والأناضول والهند وسواها؛ للبحث عن بقايا السابقين والعلم بما مر من تاريخ الأرض وسكانها، ولطالما دفعت إدارة هذا المعرض من المال ألوفا بثمن بعض معداته، وجادت بالشيء الكثير على الصور المتقنة، وهي لها عندهم وفي كل بلاد متمدنة شأن عظيم؛ لأنها نتائج القرائح المتوقدة والأفكار السامية تمثل للرائي الأفكار والخواطر الرفيعة والحوادث المؤثرة، فهي مثل الشعر الجيد وبقية الفنون الجميلة مهذبة للأفكار مرقية للعقول، ومع ذلك فإن أهل الشرق - ونحن في جملتهم - لا يهتمون لها، وقد ينفقون الألوف على فرش البيت ولا يشترون صورة ذات قيمة حقيقية بمال يسير خلافا للذين جروا في مضمار التمدن، فإن كبراءهم وأغنياءهم يجمعون في منازلهم من الصور الثمينة ما تبلغ قيمته المقادير الطائلة، والمتاحف - مثل متحف برلين - لا تضن بمال كثير في سبيل الحصول على صورة نادرة المثال أو ممتازة بإتقان الصنع والجمال، وهذا متحف برلين الذي نحن في شأنه دفع مليون مارك أو نحو خمسين ألف جنيه ثمن بعض الصور الزيتية، ولما ضاق نطاق المتحف عن كل ما ابتاعوه من التحف والنفائس بنوا متحفا آخر وصلوه بالأول بدهليز حتى صار طول البنائين معا 191 مترا والعرض 93.
ولو شئنا تعداد ما في المتحف من آثار آشور وبابل ومصر وفينيقية والروم والرومان وغيرهم من أهل الممالك الأولى لما أمكن البيان بغير التطويل الكثير، ولكننا نكتفي بهذه الإشارة إليها. ولبعض الآثار قيمة كبرى فإني رأيت تمثالا ليوحنا المعمدان يأكل عسل البر اشتروه بمائتي ألف مارك - والمارك قطعة ألمانية من الفضة تعدل الشلن في قيمتها - فيكون ثمن الأثر عشرة آلاف جنيه، هذا فضلا عما في تلك الخزائن الكثيرة من النقود، ما بين قديم وحديث وعددها لا يقل عن مائتي ألف قطعة، وأما قسم الصور في هذا المعرض، فقد مر بك كلام عن قيمته واعتناء القوم به وهو كبير كثير النفائس والغرائب غالي القيمة، فمن أمثلة سخائهم في إتمام غرائبه أنهم اشتروا له في سنة 1870 صورا كانت في منزل الكونت شويرمن بأربعين ألف جنيه، وأنت لو دخلته ترى في جوانبه من أشكال الصور الدينية ما يستوقف الأنظار، ويوهمك بعد طول التأمل أنك في أيام الرسل والأنبياء، فقد رأيت في جملة هذه الرسوم صورة موسى وقد عاد من الجبل فرأى قومه يعبدون العجل فألقى باللوحين اللذين كتبت عليهما الوصايا العشر إلى الأرض وكسرهما، وصورة مريم العذراء مع خطيبها وابنها هاربين إلى مصر، ثم هي جالسة تحت ظل شجرة تستريح من عناء السفر والطفل بين يديها، فذكرني ذلك المنظر بشجرة العذراء في المطرية، وهي التي يروى أن العذراء استراحت تحت ظلالها، ولما أضناها الظمأ تضرعت إلى خالقها أن يغيثها فتفجرت عين ماء معين أمامها وشربت منها مع الطفل.
هذا كله في المتحف القديم، وأما القسم الجديد منه ففيه الآثار القديمة وضعت في غرف خص بعضها بكل مملكة قديمة، وهنالك ترى في القسم المصري الأجسام المحنطة وأمثال قبور الفراعنة وأنواع البردي (البابيروس) كتبت عليها المواد الكثيرة، وأهمها قانون هورس معبود المصريين القدماء، كتب باللغة الهيروغليفية القديمة، ولهذه الكتابة قيمة عظيمة عند علماء التاريخ، وهنالك أيضا تماثيل الملوك والكهنة وآثار مصرية أخرى من كل نوع وضعت في غرف تمثل هيئة الهياكل والمنازل المصرية القديمة في وضعها وتلوينها، وقس على ذلك آثار بقية الممالك القديمة، وهي كثيرة في هذا المتحف العظيم.
وخرجنا من تلك الدار العظيمة فظللنا على المسير حتى وصلنا بناء المجلس البلدي، وهو ذو ثلاث طبقات بنيت من الطوب الأحمر وليس له رونق يزيد عما سواه، بل إنه لا يقاس بقصر المجلس البلدي في فيينا، وإن تكن قاعات فسيحة كثيرة الزخارف أذكر أني رأيت في بعضها صورة مؤتمر برلين، وهو أشهر ما عقد من نوعه في العصور الحديثة، كان السبب في اجتماعه حرب الروس والدولة العلية سنة 1876، وخوف أوروبا من امتداد المطامع الروسية بعد الانتصار، فقام بسمارك - وهو يومئذ وزير الدولة الألمانية - ودعا الدول إلى الاشتراك في عقد مؤتمر ينظر في مسائل الشرق ويقرر حالة كل مملكة وإمارة في جنوب أوروبا وشرقيها، ولبت أوروبا الدعوة فعينت كل دولة أكبر فطاحلها وكان بسمارك مندوب دولة الألمان مع غيره من الأكفاء وعين رئيس المؤتمر؛ لأنه عقد في عاصمة بلاده وهم يعطون الرئاسة لصاحب البلاد في كل مؤتمر من هذا القبيل، وكان النائبون عن إنكلترا يومئذ بيكونسفيلد وسولسبري، وعن روسيا غورتشاكوف وشوفالوف، وعن فرنسا وادنتون وأوليفيه، وعن الدولة العلية عمر باشا وسعد الله باشا، وكلهم من أشهر رجال السياسة في هذه الممالك العظيمة.
وتوجهت من هنالك إلى موضع مثلث فيه مشاهد سيدان ومعركتها المشهورة بالبانوراما أو النظارات المجسمة والمكبرة، وسيدان هذه مدينة في فرنسا انتصر فيها الألمان على ثمانين ألفا من جنود الفرنسيس كانوا تحت قيادة نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا، فكان فوزهم فيها خاتمة الحرب، ولم يبق عليهم غير حصار باريس فساروا إليها وحاصروها وفتحوها؛ ولذلك ترى الألمان يذكرون واقعة سيدان معجبين متباهين وهم يحتفلون بعيد النصر في سيدان كل عام، وما اكتفوا بما أقاموا من معالم النصر وما رسموا من الصور والنقوش في كل موضع للدلالة على ذلك النصر، بل إنهم جعلوا يظهرون أدوار المعركة بهذه الصورة المجسمة هنا على هيئة يضطرب لها العقل ويجري الدم في عروق المتأمل ويقف الشعر في رأسه؛ لأنه إذا ما وضع عينه على تلك النظارات رأى سيدان والجنود الفرنسية والألمانية فيها تتقاتل قتالا تشيب لهوله النواصي وتندك من شدة وقعه الرواسي، فإنك ترى الجيشين في بدء الأمر وقفا يستعدان للقتال والنضال، وشجر الحور في طرق سيدان الكثيرة من وراء هذه الجنود الباسلة تبكي أوراقه الحسناء على الذي ترى أنه سيهرق من دم الإنسان، وأغصانه تتمايل كأنما هي سكرت من خمرة الحرب القادمة أو زاد بها الألم واشتدت عليها الحسرات من عدوان بني الإنسان؛ فجعلت تميل حرقة وتوجعا حتى إذا تم المنظر الأول ورأى المتفرج هاتيك الصفوف من الجند تموج وتضطرب فغرت مدافع الحرب فاها وتصاعدت كراتها القتالة، وثار دخانها من ألف موضع وموضع، ثم بدأ الجنود يطلقون الرصاص بعضهم على بعض وتصادمت هاتيك الجموع المسلحة وتلاطمت بنارها وسيوفها، فما ترى في تلك الساعة الدهياء غير صدر ينهال عليه الرصاص انهيال السيل، وعنق تدقه سنابك الخيل، ونار تقذفها المدافع وتتفرقع بين صفوف المقاتلين البواسل، فهنا جسم يتمزق ويتقطع وهنا فارس قد حصانه شطرين فوقع هو إلى الأرض يتألم من جراحه ويتوجع، وهنا فرقة من الجنود تصطدم بفرقة فتردي الرجال الرجال، وقد حجب بعضها قتام البنادق والمدافع، وقامت قائمة البلاد والهول، فما ترى كيفما قلبت النظر غير ويل في ويل في ويل، فإذا انتهيت من هذا واتضح لك بعد كل هذا البلاء أن معظم الخسران في جانب الفرنسيس ظهر لك جندي فرنسوي يحمل علما أبيض علامة التسليم وطلب الهدنة؛ فيقل الاضطراب وتهدأ الطلائع وترتد المواكب عن المواكب، وبعد قليل من المخابرة ومناظر لا محل لوصفها ترى نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا قادما، وقد صغرت نفسه ولم يبق له في العز مطمع فيصل إلى حيث يلقى ولهلم ملك بروسيا الظافر في دائرة من رجاله العظام، وبعد مبادلة الرسوم المقررة يسلم نابوليون سيفه لولهلم علامة الخضوع، وينتهي بذلك دور حرب شابت لأخبار هولها الأطفال، ولسوف يذكر الناس أمرها على ممر الأجيال.
هذا جل ما يستحق الذكر من مناظر برلين التي يراها المرء على خط مستقيم أثناء سيره من حيث بدأنا ولا يضيع الزمان، وقد تقدم بك القول إن شارع الزيزفون الذي يوصل منه إلى كل هذه المشاهد يمتد من الشرق إلى الغرب، ويلي ذلك في كثرة الحركة والزحام شارع فريدريك الممتد من الشمال إلى الجنوب على مسافة 3300 متر، وفي هذا الشارع حانات ومخازن كثيرة ملأى بالأبضعة المختلفة، وأشهر ما يذكر منها مخزن الخواجا فابر صاحب معمل أقلام الرصاص المكتوب عليها اسمه، وهي مشهورة ومعروفة في كل بلاد، وأكثر منه أهمية شارع ولهلم، وهو من أهم شوارع هذه المدينة العظيمة يمتد أيضا من الشمال إلى الجنوب وفيه من القصور الباذخة والمنازل الفخيمة ما لا يمكن إلا ذكر بعضه هنا، من ذلك وزارة الحقانية والخارجية ورئاسة الوزارة وقصر لبسمارك وسفارة إنكلترا وقصور للأمراء ولحاشية الإمبراطور وغير هذا كثير، وفي وسط الشارع حديقة جميلة ينتابها الناس كثار العدد، وفيها غير الأغراس والبرك تماثيل القواد المشهورين ولا سيما الذين أحسنوا البلاء في حرب السبع سنين التي ذكرنا طرفا من حكايتها في الخلاصة التاريخية.
وليس ينحصر جمال برلين في شوارعها وحاناتها ومتاحفها، ولكن الضواحي المحيطة بها وهاتيك المصايف والمنازل لكبراء الناس وأمراء السلطنة الألمانية من أعظم ما يجب ذكره، فإني لما علمت ذلك خرجت من باب براندبرج المعروف في عربة، فوصلت في أول الأمر مجموع غابات وحدائق تعرف باسم تير جارتن أو حديقة تير، وهي - كما قلت - مجموع غياض وحراج وأغراس مساحتها ستمائة فدان، وقد أنشئت فيها الطرق بين صفوف الشجر والزهر والبحيرات البديعة تسبح فيها طيور الماء من كل جانب، وتسير الزوارق الصغرى تحمل أناسا يسيرونها بأيديهم بين هاتيك المناظر الساحرة والميادين الواسعة، قطعوا من موضعها الشجر وجعلوها متسعا للعب والرياضة، فمن لاعب بالاكر، ومن فاعل غير ذلك ترويضا للجسم، وهم يحفلون بالرياضة والألعاب البدنية علما منهم بفائدتها، ولعل الألمان في ذلك بعد الإنكليز شهرة، فإن شهرة الإنكليز بترويض الجسم واللعب على أشكاله واسعة في الخافقين.
وقد أقاموا في قسم من هذه الغابات مسرحا للحيوان غير الداجن ملأوه بأنواع النمر والسبع والضبع والدب والزرافة، وغير هذا مما نقلوه بالنفقات الطائلة من مواطنه القاصية، ولكل نوع من هذه الوحوش أماكن خاصة به، كما أن الطيور لها أقفاص كبرى يعرف شكلها كل من زار حديقة الجيزة في مصر، وهنالك بحيرات للحيوانات والطيور المائية وأبنية كثيرة للزائرين بعضها مطاعم وبعضها حانات قضيت فيها زمنا ثم برحتها إلى الأحياء المستجدة في تير جارتن، وهي مزدانة بأجمل المساكن والطرق وألطف البحيرات وأبهى الحدائق والأزهار يسكنها سراة الألمان وأصحاب اليسار من أهل برلين وهم كثار العدد وتنار أكثر جوانبها بالنور الكهربائي الساطع في الليل، فلا تعرف أهي أجمل في الليل أم في النهار.
ويذكر بين ضواحي برلين البهية قصر شارلوتنبرج بني سنة 1761 وكان مصيف آل هوهنزولرن من بعد أن صاروا ملوك بروسيا، وفيه مدافن لبعض الرجال العظام من هذه العائلة المالكة، أشهرها قبر ولهلم الأول مؤسس السلطنة الألمانية الحالية وجد الإمبراطور الحالي، وصلناه بعد سير طويل في العربة واجتزنا حدائق تير جارتن، فرأينا جماعة كثيرة في انتظار الإذن بالدخول حتى إذا جاء الموعد نزل الناس ووقف الألمان منهم عند ضريح الإمبراطور الكبير خاشعين متهيبين، تبدو عليهم علامات الوقار والاحترام لمؤسس مملكتهم ورافع لواء عظمتهم، وأكثرهم يذكرونه ويذكرون له الحسنات، فكان المشهد حول ذلك الضريح مؤثرا في النفس عظيم الدلالة على قدر المدفون ومعرفة الناس لفعاله شأن الكرام الذين يذكرون للمرء فعله ولا ينكرون.
ودعاني للعشاء في ذلك اليوم الموسيو هارتمان، الذي كان وكيلا لقنصلاتو ألمانيا الجنرالية في بيروت، وعرفته يوم زار اللاذقية للبحث عن الآثار القديمة ونزل ضيفا على المرحوم عمي يعقوب إلياس، وهو يومئذ فيس قنصل ألمانيا في اللاذقية، والموسيو هارتمان من علماء اللغات الشرقية توسع في درس اللغة العربية مدة وجوده في الشرق، فعين مدرسا لهذه اللغات في أكبر مدارس برلين الجامعة، وقد أراني نسخة من كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام علي بن أبي طالب، أهداه إليه المرحوم الشيخ محمد عبده المشهور.
وفي ذلك اليوم قضيت السهرة في ملعب للخيل (هيبودروم) ينتابه الألوف وتجري فيه الألعاب المدهشة على نغم الألحان، وأكثر هذه الفعال غرابة تقوم بها فتيات لهن خفة في الوثوب والحركات، أذكر أن فتاة منهن كانت تسوق ست أفراس وهي تثب من ظهر واحدة إلى الأخرى ولا تخطئ، وأخرى كانت ترقص على ظهر جواد يسير بها مسرعا ولا تهتز، وغير هذا كثير من الألعاب التي تحلو مشاهدتها في كل حين.
وزرت في اليوم التالي رجلا من مشاهير برلين اسمه الموسيو فون لاشان مدير المتحف التاريخي الثاني، كان معي له كتاب من صديقي المرحوم إسكندر كاتسفيلس فيس قنصل ألمانيا سابقا في طرابلس، وقد لقيت منه ومن حضرة قرينته كل ملاطفة وإكرام، وكانت السيدة تحدثني عما رأت من الأطلال والآثار في نواحي الموصل؛ حيث ذهبت مع زوجها حبا بالاطلاع والاكتشاف، ودعيت بعد ذلك منهما لقضية يوم الأحد في «بوتسدام»، وهي مدينة في ضواحي برلين عدد أهلها 50 ألفا؛ فلبيت الدعوة وسرت في القطار مع صحبي زهاء نصف ساعة، ووصلتها فإذا هي مجموع محاسن طبيعية وصناعية نسبتها إلى برلين كنسبة فرسايل إلى باريس، ترى في جميع جوانبها من بديع الزهر والشجر شيئا كثيرا، وفي وسطها بحيرات متسعة المجال تسير فيها البواخر الصغيرة وهي ملأى بالمتنزهين من أهل برلين وسواهم، ولا سيما إذا كان ذلك في يوم أحد أو عيد، وعلى هذا فالقطر الحديدية ما بين برلين وبوتسدام لا تقل عن خمسين في كل يوم، وقد كانت بوتسدام مسكنا لفريدريك الكبير ملك بروسيا الذي مر ذكره، أنشأ فيها الحدائق الغناء واعتنى بتلك المروج الفيحاء وشاد القصور الشماء، وفي جملتها قصر «سان سوسي»، ومعنى الاسم «خلي البال» إشارة إلى خلو أصحاب القصر من الشواغل، وهم يطلقون هذا الاسم على مثل هذه المصايف؛ حيث يقضي أمراء الزمان وقت الفراغ، وفي حديقة القصر غير غرائب الزهر والشجر برك اشتهرت بقوة ما يندفع من ماء أنابيبها، فإنه يصعد من بعضها إلى علو 39 مترا كأنما هو جبل من الماء صاعد ثم يهوي ويصب في بركة يحدث فيها لشدة وقعه اضطرابا وموجا كبيرا، وقد جرى الأمراء مجرى فريدريك الكبير الذي شاد القصور في بوتسدام وولع زمانا بسكناها فبنوا فيها فخيم المنازل هناك، رأينا في جملتها قصر أورانجري أو قصر البرتقال اشتهر بأغراس البرتقال، وضعت في براميل كبرى وقد صفت من حول البناء ولها رونق وبهاء، فإذا اشتد البرد عليها نقلوها إلى مواضع أدفأ في داخل المنزل، ومن ذلك قصر فريدريك الثالث والد الإمبراطور الحالي، مات فيه صاحبه فريدريك وأقامت فيه الإمبراطورة فريدريك والدة الإمبراطور الحالي إلى يوم مماتها، والقصر واسع الأنحاء كثير الجمال فيه مائتا غرفة، ولحديقته منظر تضرب به الأمثال، ومن ذلك قصر بابلسبرج بني على عهد فريدريك الكبير وزاده الملوك من بعده تحسينا، وفي حديقته بقعة تعرف باسم المطحنة سميت بذلك؛ لأنه لما بنى الملك هذا القصر كان في هذه البقعة مطحنة لفلاح بروسي فقير، فأراد الملك أن يشتريها منه، وامتنع الرجل ثم استدعاه الملك بعد أن فرغت الحيل في إقناعه وتهدده باغتصاب الأرض وبالعذاب إذا أصر على الإباء فلم يهتز الفلاح لهذا الوعيد، وقال للملك: «إن هذا يمكن إذا لم يبق في برلين قضاة»؛ فأعجب الملك بجرأة الفلاح وثقته بقضاة المملكة وترك المطحنة له على حالها كما رأيتها في ذلك اليوم، وأنعم عليه بجملة مال شأن الملوك العظام.
وبعد التنزه في غياض بوتسدام وهضابها وبحيراتها عدنا إلى منزل الموسيو فون لاشان في برلين، وقضينا السهرة عنده، وكان في جملة المدعوين بعض من أهل الأدب والمقام فأطلعنا صاحب الدار على رسوم عنده لبعض مدائن الشام، مثل: بيروت واللاذقية وجونية وطرابلس وسواها، ثم أرانا أشكالا من الجلد تمثل ألعاب «كراكوز» أو هي خيال الظل، وبينها رسوم عيواظ والمدلل، وقد أعجبت باعتناء هؤلاء القوم بأمور المشرق حين أراني المضيف رسالة من تصنيفه بالعلامات الموسيقية الإفرنجية في أغاني «الكراكوز»، وأسمعوني بعض هذه الأنغام فكأنني كنت في قهوة شرقية، وهنا غاية الاعتناء بالعلم ومثال التدقيق في جمع المعارف.
ودعينا إلى زيارة المتحف الذي يديره فون لاشان في اليوم التالي فذهبنا إليه ورأيت ما فيه من الآثار الألمانية التامة في كل فن ومطلب، هنالك مجموعة من الآثار النفيسة كشفها الأستاذ شليمان المشهور عند آثار تروادة، وقد ذاع ذكر هذا المكتشف وجاء مصر مرارا ليبحث عن قبر الإسكندر ذي القرنين ظنا منه أن الإسكندر دفن في مصر فلم يتوفق إلى اكتشافه. وفي المعرض من غرائب كل البلاد ما يقصر القلم عن وصفه، استوقف نظري منه ملابس كثيرة الحشو والزخارف لهنود أميركا الأصليين، وهي قديمة ضاع شكلها من بين الهنود الحاليين، وبطل استعمالها حتى إن فون لاشان قال لي إنه إذا أراد هنود أميركا الآن أن يعرفوا شكل أجدادهم الأقدمين وجب عليهم أن يأتوا برلين ويزوروا هذا المعرض ، حيث حفظت الأشكال الأولى على أصلها وغرابتها، وهنالك أيضا ملابس لثيودوروس ملك الحبشان الذي قتل في حربه مع الإنكليز سنة 1861، وكوبة كان يشرب الماء بها وآثار لا تحصى من أميركا وأفريقيا وآسيا، كلها أدلة على الاجتهاد والنشاط الذي امتاز به القوم الألمان، وهم - بلا ريب - من أهل الطبقة الأولى في العلم والصناعة، والتعليم عندهم إجباري حتى إنه يندر وجود واحد يجهل القراءة ومبادئ العلوم بينهم، على أنني لم أبرح برلين قبل أن أمتع النظر بمرآها جملة من مرتفع يسمى كروسبرج يطل عليها فقصدت أكمة مجاورة لها، ومعي الدليل والمنظار حتى إذا ارتقيت قمتها نظرت إلى الجنوب سهولا خضراء يزرعونها حنطة وغلالا، وإلى جانبها سهول يستعرض فيها الجيش الألماني وتجري المناورات العظيمة يرأسها الإمبراطور بنفسه، ويدعى إليها أكابر القواد من كل البلاد، وهنالك شجرة دلني إليها الدليل يقف تحتها الإمبراطور ساعة الاستعراض.
على مثل هذا قضيت أسبوعا في عاصمة الألمان العظيمة حتى إذا تم لي المراد من الدرس والفرجة برحتها في قطار قام ينهب الأرض نهبا في وسط حراج غضيضة وسهول أريضة في إقليم مكلنبرج، طورا يشق الأرض وتارة يسير على ضفاف البحيرات أو فوق الجسور حتى وصلنا الحدود الفاصلة بين بروسيا والدنمارك عند محطة «وارنموندا»، فسافرنا من هنالك في البحر زهاء ساعتين، ووصلنا بعدهما فرضة جدسر وهي مدينة دنماركية ركبنا فيها قطار سكة الحديد، ومررنا بعدها على عدة محطات آخرها محطة «دينجبونج»، وهناك وصلنا خليجا آخر لم يكن لنا بد من عبوره فعبرناه على طريقة غريبة لم أر مثلها قبل هذه المرة، ذلك أن القطار وقف على ضفة الخليج واتصل أوله بباخرة بحرية في الماء وفوق سطحها خطوط الحديد ليقف عليها القطار كأنما هي أرض مدت عليها الخطوط الحديدية، وسار القطار على مهل حتى صار كله فوق تلك السفينة فوقف وتحركت هي فسارت في الخليج حاملة للقطار حتى إذا وصلت البر من الناحية الثانية وقفت عند نقطة فيها خطوط الحديد للقطار فألقت رحلها ووقفت مكانها، ومن ثم تحرك القطار فسار من ظهر الباخرة إلى الأرض وظل سائرا في طريقه، فكان ذلك من أجمل ما رأيت في طريقي بين برلين وكوبنهاجن، وهي العاصمة التي وصلتها بعد سير 12 ساعة من برلين، وأما بقية المدائن الألمانية التي زرتها مثل كونستانس وستراسبورج ومايانس ووسبادن وفرانكفورت وكولون فترى الكلام عنها في فصل يجيء من فصول هذا الكتاب.
الدنمارك
خلاصة تاريخية
كان الدنماركيون أقواما متوحشة شأنهم شن الغارات على الممالك المجاورة لبلادهم، واشتهروا بهذه الغارات والغزوات في البر والبحر حتى صار اسمهم - وهم أهل الشمال - مرادفا للشر والهجوم عند سكان أوروبا في القرون المتوسطة، وهم يومئذ مع أهل السويد والنورويج يدا واحدة؛ لأنهم من جنس واحد، وقد اشتهرت غزوات الدنماركيين في إنكلترا من القرن التاسع إلى الحادي عشر؛ فإن ملكهم سوين هاجم بلاد الإنكليز سنة 1981 وملكها وأورثها من بعده لابنه كانوت الذي صار أعظم ملوك زمانه؛ لأنه ملك إنكلترا والدنمارك والسويد والنورويج وكان مشهورا بالعدل والحكمة، ولما مات في سنة 1036 اقتسم أولاده الثلاثة أملاكه، فكانت بلاده الأصلية نصيب ابنه هرديكانوت وهو الذي ضاعت إنكلترا من يد الدنمارك في أيامه، واستعادت استقلالها.
ولم يحدث بعد هذا أمر مهم في تاريخ البلاد غير تعاقب الملوك والغزوات إلى أن ورثت العرش ملكة اسمها مرغريتا كانت مفرطة الذكاء كثيرة الحكمة، ظهرت مآثر اقتدارها في ممالكها الثلاث، وهي: الدنمارك والسويد والنورويج فسميت سميراميس الشمال إشارة إلى سميراميس ملكة آشور التي تروى عنها عظائم الفعال، وذلك في أواخر القرن الرابع عشر، ولما اشتهر أمر الانقلاب الديني في أوروبا بعد أيام لوثيروس كان ملك الدنمارك رجلا عاتيا جبارا اسمه كوستيان الثاني، وهو يعرف عند بعض المؤرخين باسم نيرو الشمال إشارة إلى نيرو قيصر الرومان الذي اشتهر بقسوته وفظائعه، فلما انتشر المذهب البروتستانتي في ممالك كرستيان هذا استعمل منتهى الشدة مع الذين اعتنقوه، حتى إنه دعا معظم أشراف السويد إلى وليمة وفتك بهم غدرا وعدوانا؛ بسبب انضمامهم إلى طائفة البروتستانت فهاجت أمة السويد لذلك، وقامت بنصرة أمير نجا من الذبح اسمه جوستافوس فاسا، فحاربت جنود الدنمارك تحت قيادته وطردتها من البلاد، وبذلك انسلخت بلاد السويد عن هذه المملكة وصارت مملكة مستقلة في سنة 1521، وبعد هذا بقليل فر كرستيان من البلاد؛ لأن معظم الأهالي قاموا عليه فسارت بلاد الدنمارك بعد ذلك في سبيل التقدم تحت إمرة ملوكها من آل أولدنبرج، ولم يحدث أمر يذكر لهم غير أن الملك استبد بالأمر في سنة 1660، ولم يبق أثرا لنفوذ الأشراف والأمراء ووافقه عامة الناس على صنيعه.
وكانت الدنمارك من الدول البحرية، ولها متاجر واسعة فلما عظم أمر نابوليون الأول اتحدت معه على مناوأة الإنكليز فهاجمها أسطولهم مرتين تحت قيادة اللورد نلسون أمير البحر المشهور في سنة 1801 و1807، ودمر حصون عاصمتها كوبنهاجن وأسر أسطولها برمته فاستخدمه في محاربة نابوليون، وكان ملك الدنمارك صديقا لنابوليون حميما ظل على ولائه إلى يوم سقوطه، فأسخط ذلك دول أوروبا الناقمة على نابوليون، وسلخت منه بلاد النورويج فأضافتها إلى مملكة السويد على ما سيجيء في تاريخ هاتين المملكتين. وفي سنة 1834 تحرك الأهالي لطلب الحقوق الدستورية فسلم بها الملك فريدريك السادس، وصارت البلاد دستورية شوروية من ذلك الحين، فتقدمت في درجات الحضارة ونمت ثروتها، ولكنها فقدت بعض أملاكها في سنة 1864 بعد محاربة شاقة مع بروسيا، وأخذت منها ولايات لاونبرج وشليسوج وهولشتين، كما تقدم عند الكلام عن ألمانيا.
فريدريك الثامن ملك الدنمارك.
وفي سنة 1863 رقي عرش الدنمارك ملكها السابق كرستيان التاسع وكان ذا منزلة عظمى بين ملوك أوروبا وأقيالها؛ لأنه - فضلا عن فضائله وحسن سياسته - ارتبط بأعظم العائلات المالكة بربط القرابة، فإن ابنته الأولى اقترنت بجلالة ملك إنكلترا الحالي ولها شهرة بالفضائل لا تفوقها شهرة، يحبها الإنكليز جميعهم حبا مفرطا لحسن خصالها، واقترنت أختها الثانية بالمرحوم إسكندر الثالث قيصر روسيا والد القيصر الحالي، وهي أيضا من أشهر الأميرات في رقة القلب وحب الفضيلة، واقترنت الثالثة منهم بالديوك أوف كمبرلند حفيد جورج الرابع ملك إنكلترا، وهو المطالب الآن بسرير مملكة هانوفر التي ذكرنا خبر ضمها إلى السلطنة الألمانية في الفصل السابق، وأما أولاده الذكور فأولهم جلالة الملك الحالي، وثانيهم جلالة ملك اليونان الحالي أيضا ، والثالث أمير اسمه فلاديمير عرضت عليه إمارة البلغار فلم يقبلها، توفي هذا الملك الكبير يوم 29 يناير سنة 1906 بعد أن ملك 23 سنة وهو في سن الثمانين، فأثرت وفاته في أكثر عائلات أوروبا المالكة، ودفن باحترام عظيم فخلفه جلالة الملك فريدريك كرستيان الحالي وهو الثامن من ملوك الدنمارك بهذا الاسم، وقد بدأ حكمه بخطاب ألقاه على الناس من شرفة قصره يوم وفاة أبيه قال فيه: «إن ملكنا السابق والدي العزيز قد قضى نحبه، وكان أمينا في قضاء الواجب عليه حتى ساعة الممات؛ فورثت عنه الحمل الكبير، ولي أمل أن أحذو حذوه وأسأل الله إعانتي على تحقيق هذا الأمل، ويسرني أني على اتفاق مع نواب الأمة فيما يضمن خيرها وتقدمها، فلنناد كلنا بصوت واحد ليحيا الوطن.» فوقعت هذه الخطبة أحسن وقع في النفوس، وعدد النفوس في بلاد الدنمارك نحو ثلاثة ملايين.
كوبنهاجن
هي عاصمة الدنمارك، فيها من السكان أربعمائة وخمسون ألف نفس، ومعنى اسمها «فرضة التجارة» إشارة إلى اشتهارها بالمتاجر من عهد بعيد أو من عهد تأسيسها، فإنها بدأ ببنائها الأسقف إكسل في القرن الثاني عشر للميلاد، وكانت في أول الأمر قرية ينتابها بعض تجار السمك، ويقيم فيها الصيادون، فجعلت تكبر وترتقي إلى أن تولى مملكة الدنمارك كرستيان الرابع سنة 1588، وكان مقداما نشيطا ميالا إلى توسيع المتاجر هماما باسلا في الحروب، فتقدمت المدينة على أيامه تقدما عظيما وبنيت فيها حصون لصد هجمات الأعداء، أكثرها باق إلى الآن، وهي من المناظر التي تستحق الذكر في كوبنهاجن، وقد اشتهرت هذه المدينة فوق المتاجر بصناعة القفاز أو الكفوف والسفن الشراعية، وبعض أشكال الخزف، وأتقنت صناعة الجبن؛ لأن أهلها اشتهروا بتربية المواشي. وفيها من المشاهد المعدودة شيء كثير، من ذلك الميدان الملكي كان أول ما قصدناه عند خروجنا من الفندق، فإذا هو ساحة متسعة الأطراف أقيم في وسطها تمثال للملك كرستيان الخامس راكبا جواده، وكان كرستيان هذا من ملوكهم العظام، حكم البلاد من سنة 1670 إلى 1699، واشتهر بمحاربة الأسوجيين، واتحد مع النمسا لمحاربة لويس الرابع عشر ملك فرنسا ، وسن قانونا للأحكام لم يزل أساس الأحكام الدنماركية إلى هذا اليوم. وفي ذلك الميدان بناء المرسح الكبير وسفارات الدول العظيمة ومنازل لبعض السراة وفنادق وحانات ومطاعم في جوانبه الأربعة، فترى الناس يقصدونه بسبب وجود هذه الأشياء كلها عصاري كل يوم يتمشون في جوانبه أو يقعدون في إحدى حاناته، وهو من أشهر مواضع الاجتماع في كوبنهاجن.
وإني بعد أن رأيت هذا الميدان الملكي خطر في بالي ملك الدنمارك وطلبت إلى الدليل الذي كان معي أن يسير بي قبل كل شيء إلى قصر الملك السابق ففعل، ولما انتهيت إليه تولاني العجب من بساطته فعلمت أن القصر الذي كان الملك يقيم فيه احترق عام 1884، ولم يشأ جلالته أن ينفق الأموال الطائلة على تجديده؛ لأنه كثير الميل إلى البساطة، فهو يقيم حيث تقدم الكلام، وللملك الحالي قصر أجمل من مسكنه ولأخيه جورج ملك اليونان قصر أجمل من الاثنين، وهو مقفل لم يرض كرستيان أن ينتقل إليه؛ لما اشتهر من حبه للعيش البسيط وإنفاقه المال على الإحسان بدل التلذذ بالأطايب والتفاخر باليسار. وقد كان يوالي فقراء أمته بالمال والزاد ويوزع على بيوت كثيرة في كوبنهاجن وسواها وقودا وطعاما في زمن الشتاء، ونوادر بساطته كثيرة، قص علي صاحب الفندق الذي نزلت فيه واحدة منها، هي أنه لما زارت هذه العاصمة البرنسيس ستفاني ابنة ملك البلجيك وأرملة رودولف ولي عهد النمسا الذي انتحر عام 1888، جاء الملك ليسلم عليها في ذلك الفندق ووصل الباب وحده كأنما هو واحد من تجار المدينة أو صناعها، فأخذ من جيبه بطاقة الزيارة وأعطاها لواحد من الخادمين؛ ليوصلها إلى الأميرة وظل هو منتظرا عند الباب يحدث صاحب الفندق ويسأله عن إيراده ونفقاته، وعدد الذين يدخلون فندقه كل عام وغير ذلك من المباحث، حتى عاد الخادم وأخبره أن الأميرة تنتظر تشريفه فصعد إليها وراء الخادم، وبعد أن أقام معها زمانا عاد كما جاء بلا طنطنة ولا احتفاء، وكان الناس يحبون هذا الملك الفاضل وأسرته الكريمة حبا مفرطا ، وهم يعلمون ميله إلى البساطة ونفوره من الطنطنة والأبهة، فإذا مر بهم حادوا من طريقه احتراما وتوقيرا، وقد لا يسلمون عليه حتى لا يحملوه مشقة الرد، وفي ذلك موافقة لأمياله أيضا.
وأما متاحف كوبنهاجن وقصورها العظيمة فأشهرها قصر روزنبرج، وهو صرح ترك على حالته الأصلية، وفيه من نفائس التحف وثمين الآثار شيء كثير، بناه الملك كرستيان الرابع عام 1588، وله موقع في وسط المدينة جميل، وسرت إلى هذا القصر في ثاني الأيام فوجدت غيري ينتظرون الإذن بالدخول على مثل ما كنت أرى في أكثر هذه المتاحف المشهورة، حتى إذا جاء الموعد أتانا خادم باللباس الأسود والقفاز الأبيض وربطة العنق بيضاء أيضا كأنما هو في حفلة للتشريفات، وقادنا إلى غرف القصر، فإذا هي أو أكثرها ملونة بالألوان الواضحة كالأصفر والأحمر والأزرق، وأول هذه الغرف قاعة فسيحة كانت معدة لاستقبال الزائرين، وقد وضعوا فيها صور أفراد العائلة المالكة حالا في الدنمارك والكل بملابسهم الرسمية القديمة على أتم إحكام وأوفى إتقان، وهنالك عروش كثيرة جلس عليها ملوك البلاد من آل أولدنبرج، بعضها من الفضة والبعض الآخر من الخشب الثمين، وقد نقش على أكثرها شعار الدولة الدنماركية، وهو ثلاثة أسود، ورسوم أخرى تشير إلى بعض ما حدث في البلاد من الأمور الكبيرة. ومن غريب الآثار المحفوظة في هذه الغرفة أيضا قرن جاموس له حكاية خرافية، فحواها أن الكونت أولدنبرج أبا مؤسس الدولة الدنماركية الحاضرة ظهرت له منجمة في سنة 1448 وأعطته ذلك القرن، وأشارت عليه أن يشرب ماء فيه فيرافقه السعد ويخدمه الزمان؛ ففعل بإشارتها وما مر زمان بعد ذلك حتى صار ابنه ملكا لبلاده والملك باق في يد سلالته إلى اليوم، وقد أبقوا هذا القرن أثرا لمؤسس دولتهم فطلوه بالفضة ورصعوه بالحجارة الكريمة وحفظوه في هذه الغرفة مع حلي لبعض ملكاتهم وأسلحة مثمنة لبعض ملوكهم وملابس مزركشة، وغير هذا من آثار الملوك الذين درجوا نكتفي بهذه الإشارة إليها؛ لأنها كثيرة ووصفها يضيق عنه المقام.
ودخلنا بعد ذلك غرفة الورد، سميت بذلك؛ لأن جدرانها ملبسة بنسيج من الحرير النفيس عليه صور الورد من كل أشكاله، وفيها المصابيح والثريات البديعة، ومنضدة صنعت من خشب الأبنوس وزخرفت بالعاج والصدف وضعت على أشكال الطيور، وفيها فوق العشرين من الأدراج السرية يفتح كل منها بأسلوب خاص، وقد صنعت هذه المنضدة للملك في سنة 1735 وأنفق عاملها على صنعها نحو 450 جنيها، وهي من الآثار الجميلة في هذا المتحف لغرابة صنعها وغير هذا كثير.
ثم صعدنا الدور الأعلى من القصر ومن غرفه العجيبة: قاعة المرائي سميت بذلك؛ لأن جدرانها كلها من هذه المرائي، وتليها قاعة النبلاء ملئت بصور الأمراء والقواد الذين اشتهروا في تاريخ الدنمارك، وفيها كرسي من الفضة جميل الصنع يتوج عليه ملوك هذه البلاد، وجرن للعماد يعمد فيه أطفال الأسرة المالكة، وقد نقش عليه تاريخ 1720 وكله من الفضة الخالصة، وعليه رسوم كثيرة، منها رسم يوحنا المعمدان يعمد المسيح في نهر الأردن، وفي جدران هذه القاعة صورة بطرس الأكبر قيصر روسيا الذي جاء هذه المدينة متنكرا، وأقام في معامل السفن يدرس بنفسه كيفية صنعها حتى يعلم أهل بلاده وكان مدة وجوده هنا مثل بقية العمال في معيشته.
وظللنا في ذلك القصر القديم ندور بين نفائسه ونمتع الطرف زمانا، ثم انصرفنا وكثيرون من السائحين والسائحات يترددون في الخروج، وقد رأينا من خدمة هذا القصر شمما لم نعهده في أمثالهم من الخادمين؛ فإنه لما عرض على أحدهم مال قليل كالذي يأخذه الخادمون في كل موضع أبى قبوله، وأظهر الاستغراب من صنيعنا، وهذا أمر يستحق الذكر للدنماركيين، وهم قوم اشتهر عامتهم وخاصتهم بالأمانة والصدق. وأحقر الناس عندهم لا يجهل القراءة والكتابة؛ لأن التعليم قسري في هذه البلاد، فليس في طولها والعرض أمي واحد، ونزلنا بعد ذلك إلى حديقة قصر روزنبرج هذا، وهي بعيدة الأطراف فسيحة المجال فيها من صفوف الكستناء أشجار عمرت قرونا. وهنالك تمثال للملك كرستيان الرابع الذي مر ذكره وتمثال آخر للعالم أندرسون الذي اشتهر بالكتابات الأدبية والقصص الصغيرة يقرأها الأولاد في المدارس ويتعلمون منها أحسن المبادئ، وهو في التمثال هذا واقف بيده كتاب ومن حوله صبية يصغون لأقواله، والناس يحترمون ذكر هذا الكاتب المفضال هنا حتى إنهم أقاموا له الذكر في عدة مواضع، ولما ساروا بجثته للدفن بعد وفاته كان الملك في جملة الماشين وراء النعش احتراما لفقيد الأدب، وهنا يظهر لك نفع البساطة والحرية عند الملوك؛ فإن إكرام العلماء إلى مثل هذا الحد ينشط أصحاب العقول ويشجعهم ويدفعهم إلى الإقدام على الدرس والكتابة فيما يفيد.
وعلى ذكر هذه الحديقة التي نحن في شأنها أذكر أني زرت في كوبنهاجن حديقة أعظم منها وأوفر جمالا وأوسع شهرة، هي حديقة تيفولي تعد من المتنزهات المشهورة عندهم. وقد قضيت سهرة من أحلى السهرات رأيت في جوانبها الواسعة مصابيح تعد بالآلاف، وهي صغيرة كثيرة الألوان صفت صفوفا منظمة على أبواب الحديقة، وعلى أقواس عدة نصبوها من هنا ومن هنا في نواحي الحديقة، وعلى جوانب الطرق الكثيرة وفوق بركة من الماء كبيرة، وبين غصون الشجر وفي المروج الخضراء، وكلها - كما تقدم - ذات ألوان مختلفة توافق محل وضعها، ولها منظر بديع شائق لا تشبع العين من النظر إليه، ولا سيما فوق ماء البحيرة وحول جوانبها، حيث تنعكس الأنوار الكثيرة الملونة فتزيد المنظر غرابة وبهاء. والقادم إلى هذه الحديقة يحسب أنه في يوم عيد عظيم مع أن هذا حالها في كل يوم، وقد أنفقوا المال الكثير على إيصالها إلى هذه الدرجة من الجمال حتى صيروها من أجمل المشاهد، وبنوا في وسطها الملاعب والحانات والمطاعم، أذكر أني دخلت مطعما منها سموه باسم قصر الحمراء في غرناطة بإسبانيا، وجعلوه على شكل ذلك القصر الفخيم الذي ترى وصفه عند الكلام على مملكة إسبانيا، وفي ذلك المطعم الموائد الشهية ومواضع لثلاثمائة شخص صفت على أجمل الأشكال، وفي بحيرة الحديقة أيضا سفائن صنعت على شكل السفن الدنماركية القديمة، يدور بها المتنزهون حول تلك الضفاف البهية، ومغارة تشبه المغارة الزرقاء في نابولي، وسوف يأتي الكلام عليها أيضا عند الكلام على مملكة إيطاليا، وتل صناعي من الصخور الجميلة يتدفق الماء من جوانبه وينصب في البحيرة، ومن فوق ذلك التل صرح صغير أو كشك أنير بالمصابيح الملونة، وفيه نفر من القوم الطليان يغنون الأنغام الإيطالية، والناس يدورون بهم من كل جانب، وقد كانت سهرتي في تلك الحديقة كثيرة الفكاهة واللذة، ولا سيما إذا ركبت زورقا في البحيرة والزورق يخترق صفوف السفائن ملأى بالمتفرجين. وأعجبني على نوع خاص ما رأيت من هدو أهل البلاد وسكونهم وتأدبهم في الحديث والإشارات، فإن الذين دخلوا الحديقة في تلك الليلة لا يقلون عن عشرة آلاف، ومع هذا فإن الهدوء كان سائدا والأنس شاملا، فما سمعت جلبة ولا ضوضاء ولا رأيت غير كل وقار ومهابة، والناس يسيرون أفرادا وأسرابا في جوانب الحديقة على مهل فرحين وشعور صغارهم ذكورا وإناثا تتلألأ بياضا كأنما هي فضة فوق ورد الخدود النقية، وهي صفة عامة في أهل الشمال.
وأصبحت في اليوم التالي فقصدت المين الحربية، وفيها الاستحكامات صفوفا، وقد تقدمت الإشارة إليها، وبعضها يعد موقعه من أجمل المواقع وتولم فيه الولائم العسكرية الفاخرة، وعلى مقربة منها ميناء التجارة، وهي واسعة كبيرة ترى فيها من أشكال السفن والبواخر والأبضعة ما يعسر عده، وأكثر السفن في ميناء كوبنهاجن إنكليزية؛ لأن للإنكليز أوسع المتاجر مع أهل هذه البلاد، وهم يشترون من إنكلترا الحديد والفحم الحجري، وبعض المصنوعات ويرسلون إليها كثيرا من حاصلات بلادهم ومصنوعاتها، ويقرب من هذه المين مطعم من الطبقة الأولى بين المطاعم المعروفة، بني على مرتفع من الأرض وأكثر الذين يقصدونه ضباط من أسطول هذه البلاد والدوارع التي تزورها. وأذكر أني رأيت من ذلك المطعم عربة فاخرة يجرها فرسان من جياد الخيل، وقد لبس سائقها والخادم الآخر إلى جانبه القطيفة الحمراء مزركشة بالقصب، فسألت الترجمان عن حقيقة أمرها، وعلمت أنها جلالة الملكة الحالية، وهي أميرة أسوجية لها ثروة طائلة وهبت منها نصف مليون جنيه لابنها الثاني البرنس شارل ملك نروج الحالي عند اقترانه بالبرنسيس مود ابنة ملك إنكلترا، وهي ابنة عمته كما يذكر القارئون، وقد اشتهر ملك الدنمارك والملكة بالأدب وحب الدرس والمطالعة، وهما على شاكلة الملك السابق في البساطة وحب الفقير، فالناس يميلون إليهما كثيرا ويسرون كلما التقوا بواحد من هذه العائلة الكريمة.
وقصدت بعد ذلك الحديقة العمومية، وهي من أجمل الحدائق اشتهرت باتساع مروجها البهية، حيث يغطي الأرض عشب قصير سندسي مرقط بأشكال الأقحوان والزهر الجميل على نسق يحيي في النفوس ذكر الجمال الطبيعي، وتفوح من تلك الأزهار روائح عطرية أكثرها يتضوع من الورد الكثير المزروع في هذه الحديقة على أشكاله، ولا حاجة إلى القول إن في هذه الحديقة من الأبنية والمشاهد ما في سواها، وقد أسهبت في وصفه غير مرة فأتركه كما تركت الحديقة يوم زرتها وتوجهت إلى متحف الآثار القديمة في كوبنهاجن، وهو من المشاهد المعدودة في هذه العاصمة، وقد قسم ثلاثة أقسام: أولها قسم التاريخ القديم ويليه قسم العصور الوسطى ثم قسم التاريخ الحديث، فترى في الأول أشكال الأسلحة الأولى من الحجر والصوان، وبعض الحراب والسيوف والرماح والنبال، وما كان يستعمله الأولون من آنية الطبخ وأمشاط من قرن الجاموس وصناديق من قشر الشجر وأدوات أخرى لا محل لذكرها تمثل حالة الأوائل وكيفية معيشتهم وحروبهم أتم تمثيل. وأكثر ما في القسم الثاني ملابس وأسلحة لفرسان العصور الوسطى ونقود من أيام شارلمان ومن قام بعد أيامه من ملوك الدول الأوروبية، وقد رتبت حسب تاريخ ضربها والممالك التي ضربت فيها وأكثرها يدل على تقهقر الصناعة في العصور المتوسطة؛ فإن الأولين أتقنوا النقش والحفر والرسم لا سيما في أيام الرومان واليونان الذين تشهد آثارهم الكثيرة أنهم وصلوا درجة عظيمة من التقدم في هذه الفنون الجميلة، فلما انقرضت دولتهم وكثر ظلم من خلفهم استولى الجهل على العقول وسميت تلك الأزمان بالعصور المظلمة؛ لما اشتهر عن أهلها من الجهل الكثير، فما أفاقوا من تلك الغفلة إلا في القرن الخامس عشر حين هبت ممالك أوروبا الحالية إلى إتقان العلم والصناعة، وأخذت شيئا كثيرا عن العرب، وهم والحق يقال تفردوا في أيام دولة الأندلس بالعلم والارتقاء، وأوصلوا معارف الأولين للآخرين فلهم على الحضارة فضل لا ينكر.
وأما القسم الثالث من هذا المتحف ففيه آثار جمة معظمها يشير إلى حوادث مشهورة في تاريخ أوروبا عموما والدنمارك خصوصا، بينها كتب غريبة في جملتها كتاب هندي ألفه واحد من أدباء الهند وقدمه لملك إنكلترا الحالي حين زار سلطنة الهند سنة 1876، وهو ولي العهد وفيه قصيدة ترجموا بعض أبياتها للإشارة إلى ما في التعبير الشرقي من الغرابة على ذهن الغربيين، وقد قال الهندي في أحد تلك الأبيات مخاطبا للأمير إن: «أين اللؤلؤ والكافور والقمر منك! فإن في القمر نقطا سوداء تشوه وجهه، وفي اللؤلؤ ثقوبا تقلل متانته، وللكافور رائحة تطير ولا تبقى، وأما أنت فإن شهرتك ناصعة البياض وهي صلبة وباقية.» وهي معان تخطر في بال الشرقي كما لا يخفى.
وسرت بعد ذلك لمشاهدة معرض للتماثيل يصنعونها من الشمع على شكل الرجال والنساء من مشاهير العصر الحالي والعصور الماضية، وهو له نظائر في أكثر العواصم الأوروبية يرى فيها الغريب رجال الدولة العظام ومشاهير الأمة كأنه واقف معهم فلا يفوته العلم بهيئة الذين يذكرون بين عظماء البلاد التي يزورها، وقل من يزور أوروبا ولا تتوق نفسه إلى مقابلة هؤلاء المشاهير، فالذي لا تمكن له المقابلة يكتفي بمثل هذا المعرض الذي رأيت فيه جميع مشاهير الدنمارك وسواها، أذكر منها رسم غامبتا رجل فرنسا المشهور تقتله عشيقته، ورسم ستانلي الرحالة وهو الذي اخترق القارة الأفريقية من زنجبار في الشرق إلى مصب الكونجو في الغرب، واستغرقت سياحته هذه 999 يوما رأى فيها من هائل المتاعب ما تنوء به الرجال، وجاب الأقطار الاستوائية قبل ذلك باحثا عن لفنستون الرحالة الشهير أيضا، ثم عاد إليها ثالثة لإنقاذ أمين باشا واكتشاف بعض المجاهل، وكان قبل وفاته من أعضاء مجلس النواب في بلاد الإنكليز وأحرز ثروة من سياحته ومؤلفاته، وكان مقامه بين الناس عظيما، وإلى جانب ستانلي تمثال اثنين من نوتية الدنمارك رافقوه في بعض سياحاته، وتمثال الكونت مولتكي القائد الألماني العظيم الذي قاد جيوش بروسيا إلى ساحات النصر والظفر في حربها مع النمسا ومع فرنسا، وكان أصله دنماركيا فنصبوا له هذا التمثال هنا ، وأذكر أيضا تمثال البرنس كرستيان بن هانز ملك الدنمارك أرسله أبوه إلى نروج في مهمة فلقي هناك فتاة فاتنة بارعة الجمال وشغف بحبها، فاقترن بها على كره من أبيه، فغضب عليه الملك وحرمه الملك، وبهذا أضاع الفتى ثلاث ممالك، هي: الدنمارك وأسوج ونروج وهي يومئذ متحدة بسبب حبه لهذه الفتاة التي صوروها معه في هذا المعرض وهي في غيبوبة تفارق الحياة، وقد أمسك الشاب بيدها يجس نبضها والحزن ظاهر على محياه إلى درجة توجب اشتراك الرائي معه في الأسف الشديد، ويقول الدنماركيون إن هذا الشاب رقص مع تلك الفتاة ثلاث رقصات كلفه كل منها مملكة، وهو من الأقوال المأثورة عندهم إلى اليوم.
ولا بد من القول إن ضواحي كوبنهاجن من المواضع الكثيرة الجمال وهي يقصدها الناس بحرا وبرا؛ لأن بعضها في جزر قريبة من المدينة، منها كلامبربرج، وهي على مسيرة ساعتين إلى الشمال من كوبنهاجن واقعة على ضفة خليج السوند الفاصل بين الدنمارك وأسوج، والمنظر من المدينة إليها في غاية الجمال، فلما وصلناها أعجبنا ما فيها من القصور، في جملتها قصر كان الملك السابق يقضي فيه أشهر الصيف، والقصر بسيط وإلى جانبه قصر عظيم كان القيصر إسكندر الثالث والد القيصر الحالي يقيم فيه حين يجيء مدة الصيف، هنالك كانت الأميرات والملكات تجتمع ومعهن قيصر الروس وملك اليونان وملك إنكلترا وآل أولدنبرج جميعهم من الأسرة المالكة في الدنمارك، ويقضون أوقاتا شهية ضيوفا لملك البلاد الجليل حتى أصبحت تلك البقعة ملتقى الملوك والأمراء على عهد إسكندر الثالث، وفي كلامبربرج مروج وغياض وحراج عجيبة الإتقان والجمال تسرح فيها أسراب الأيل، وكان إسكندر الثالث الذي ذكرناه مولعا بهذه الأيائل وبالأرانب يأتون بها من أبعد الأقطار ويطلقونها في تلك الغابات فيصطادها في ساعات الفراغ، ولطالما رآه الفلاحون وحده في الغياض راجعا إلى قصره ومعه شيء مما اصطاده، وعرفوه من كبر جثته وعلو قامته فإنه كان من أكبر أهل زمانه.
وقضيت في كلامبربرج نهارا كثرت مسراته، فلما عدت إلى كوبنهاجن في آخر النهار رأيت على مقربة منها صفوفا من المنازل البسيطة بنيت من الطوب الأحمر وهي فسيحة الطرق نظيفة المنظر، فأخبرني الدليل أنها مساكن لعمال البريد والتلغراف وبعض المصالح الأخرى، والمستخدمات في هذه المصالح من البنات كثيرات في الدنمارك وسواها حتى إنهن صرن أكثر من الرجال عددا في بعض مكاتب البوسطة والتلغراف في أوروبا وأميركا، ولما كانت أجرة هؤلاء العمال قليلة لا تسمح لهم باستئجار المنازل المبنية على قواعد الصحة في المدينة، فقد بنى المجلس البلدي لهم هذه المنازل في خارج المدينة وعين لها الأجر الزهيدة فأفاد العمال واستفاد، وهذا شأن الحكومات المنظمة تنظر إلى مصلحة عمالها ورعاياها وتساعدهم على تحسين حالهم، وحكومة الدنمارك تعد - كما لا يخفى - من أحسن حكومات أوروبا نظاما، ومن أشهرها التفاتا إلى مصلحة الأصاغر والفقراء، وبناء هذه المنازل مع ما ذكرنا من الأشياء الأخرى يدل دلالة قاطعة على سهرها وحسن انتظامها.
وسرت بعد ذلك إلى قصر فردنسبرج، وهو من أجمل متنزهات الضواحي يبعد نحو عشرة أميال عن العاصمة شمالا، بناه الملك فريدريك الرابع سنة 1722 على إثر حرب مع بلاد السويد وجعله في بحيرات يوصل إليها بجسور بديعة الصنع، ولما دخلنا هذا القصر رأينا في مدخله ساحة كبرى يتوسطها بركة من الماء أحيطت بجدار من الرخام الأسود وفيها تمثال نبتون إله البحر عند الأقدمين وغيره، والماء يتدفق من 57 أنبوبة دقيقة ومن وراء ذلك غرف القصر الكثيرة قسمت إلى جناح أيسر للملك وجناح أيمن للملكة، ويحيط بالجانبين رواق على شكل شرفة فيه تحف وآثار وصور تمثل تاريخ هذه البلاد، ومن أشهرها صورة أهل هذه البلاد يهاجمون إنكلترا في القرن الحادي عشر، وصور الحوادث المشهورة وأكثرها حروب مع بلاد السويد وروسيا وصور أفراد العائلة المالكة وهم 22 شخصا بالقد الطبيعي، وصور بعض المشاهير من قواد الدنماركيين وأمرائهم، في جملة ذلك أمير البحر رانسو الذي «مات بالتقسيط» على ما يقول أهل بلاده؛ ذلك لأنه فقد عينه في واقعة ويده في واقعة ورجله في واقعة أخرى وأذنه في واقعة، وهكذا إلى أن قضى نحبه، والصور التي من هذا القبيل كثيرة لا محل لسردها هنا .
وبعد أن أقمت أياما في كوبنهاجن على مثل هذا الحال غادرتها قاصدا بلاد أسوج ونروج، ومررت بحصون كوبنهاجن المشهورة التي قاومت مدافع الإنكليز في أوائل هذا القرن، وهي التي كان بطرس الأكبر قيصر الروس يعمل فيها وجرى بينه وبين ملك الدنمارك حديث نسوقه هنا تفكهة للقراء، قال بطرس الكبير لزميله ملك الدنمارك يوما: «إني يا أخي الملك يمكن لي أن آمر من شئت من رجالي أن يلقي بنفسه من أعلى هذا البرج ولا يتردد، فهل يمكن لك ذلك؟» فأجابه الملك: «إني يا أخي القيصر يمكن لي أن أضع رأسي بين يدي من شئت من رعاياي ولا أخاف شرا فهل يمكن لك ذلك؟» وكان جواب الملك مفحما دالا على فضل النظامات الدستورية، هذا ذكرتني به الحصون السالفة الذكر، وقد مررت عليها حين مبارحتي لهذه الديار قاصدا بلاد أسوج التي ترى الكلام عنها في الفصل القادم.
أسوج ونروج
خلاصة تاريخية
إن هاتين المملكتين في أقصى الشمال من القارة الأوروبية، وهما مرتبطتان جغرافيا ارتباطا أوجب أن يكون تاريخهما - بوجه التقريب - واحدا، ولكنهما افترقتا سنة 1905 - كما سيجيء الكلام - وقد علم القارئ أن أصل الأهالي في هاتين المملكتين مثل أصل الدنماركيين، وقد اشتهروا مثلهم بالغزو والسطو، ولكن نروج صارت مملكة منظمة قبل غيرها وتبعتها الدنمارك ثم أسوج، فصارت هذه الممالك الثلاث ذات مركز معروف وقوة مشهورة، وكثرت بينها الحروب والمنافسات إلى أن ملك بلاد الدنمارك رجل اسمه ولدمار الرابع في سنة 1375، ولم يكن له وريث من أولاده فخلفه ابن ابنته مرغريتا، وهي أميرة اقترنت بملك نروج ورزقت ابنا هو أولاف الذي ورث عنها وعن أبيه بعدئذ مملكة نروج؛ فصار ملكا للبلادين، وكان ذلك بدء الاتحاد المشهور بين ممالك الشمال الثلاث. ومات أولاف هذا سنة 1387 فانتخب أمراء الدنمارك والدته مرغريتا - وهي ابنة ملكهم كما تقدم - لتكون نائبة الملك إلى أن يقع الانتخاب على ملك سواها، وكان تعيين الملوك بالانتخاب شائعا يومئذ في الممالك الشمالية. وفي السنة التالية - أي 1388 - أجمع سراة نروج على انتخاب مرغريتا أيضا وصية أو نائبة للملك في بلادهم إلى أن يقوم ملك سواها، وكان ذلك بعد مساع كثيرة منها وبدعوى أنها أم الملك المتوفى وزوجة أبيه، فعاد بذلك الاتحاد بين نروج والدنمارك، ووجهت مرغريتا همها إلى امتلاك أسوج فخدمها السعد؛ لأن أهالي تلك البلاد شقوا عصا الطاعة وقاموا على ملكهم ألبرت سنة 1388، حتى إذا هاجمت البلاد ساعدها أكثر الأهالي؛ فانتصرت على ألبرت وأسرته مع ابنه ثم أطلقت سراحه على أن يعيش بعيدا عن بلاده، وأقر الأسوجيون انتخاب مرغريتا وصية للملك في بلادهم أيضا، وبذلك اتحدت هذه الممالك الثلاث تحت حكم ملكة واحدة اشتهرت بالحزم والسياسة حتى لقيت بسميراميس الشمال على ما تقدم في تاريخ الدنمارك. ولما تم الاتحاد انتخبت كل مملكة ملكا لها على شرط أن يحكم البلاد بعد وفاة مرغريتا، وظلت هي نائبة الملك وحاكمة مستبدة ولم يسموها ملكة؛ لأن قانون أكثر الممالك الأوروبية المعروف باسم «القانون الساليكي» يمنع النساء من الحكم، وأكثر ممالك أوروبا خاضعة لهذا الناموس ما خلا إنكلترا وهولندا، وقد أبطلته البورتوغال من عهد غير بعيد، وعادت روسيا إلى نوع منه بعد أيام القيصر بولس، وهو قانون لا يعرف لمبدئه تاريخ، ولا يدري المؤرخون اسم واضعه ولكنه بقية آداب الأولين الذين كانوا يظنون أن المرأة لا تليق للأحكام.
وقام بعد ذلك ملوك كثيرون ورثوا مملكة الدنمارك وأسوج ونروج عن مرغريتا هذه، لم يشتهر لهم ذكر حتى أوائل القرن السادس عشر حين عمت المبادئ البروتستانتية في هذه الممالك، وكان الملك يومئذ كرستيان الثاني - تقدم ذكره في تاريخ الدنمارك - فلما اشتد ظلمه وأمر بذبح سراة أسوج في ستوكهولم قام عليه الأهالي تحت قيادة جوستافوس فاسا أحد أبناء ملوكهم الأولين، واستقلوا في سنة 1521، وبذلك انفصلت أسوج عن المملكة الشمالية، وأما نروج فظلت مع الدنمارك إلى سنة 1814 كما سيجيء القول.
وتقدمت أسوج بعد استقلالها هذا، واشتهر قوادها في حروب الأجيال الوسطى، وأعظمهم الملك جوستافوس أدولفوس، وهو بطل ضرغام انتصر للمذهب البروتستانتي وحارب أعداءه واحتل بلاد ألمانيا ، ففل جنودها وفرق مواكب أمرائها، وجعل لدولته مقاما عظيما، ثم قتل في معركة لوتزن سنة 1632 بعد أن ملك البلاد من عام 1611، فكانت مدة حكمه عزا عظيما لبلاد أسوج، وخلفته ابنته كرستينا على العرش، ثم تنازلت عنه لابن عمها شارل العاشر سنة 1654، وحدثت في أيامه حروب كثيرة مع بولونيا كان النصر في أكثرها لجنوده، وملك بعده ابنه شارل الحادي عشر سنة 1660 واشتهر بالعمل على تمدين بلاده وتنقيح نظاماتها وترقية شئون فقرائها، ولما مات في سنة 1667 خلفه ابنه شارل الثاني عشر وهو يومئذ فتى في الخامسة عشرة من عمره، وكان ذكي الفؤاد هماما حازما باسلا في الحروب، ولكنه قليل الحظ سيئ البخت، فإن ملك الدنمارك وملك بولونيا حارباه فانتصر عليهما ثم حاربه بطرس الكبير قيصر روسيا المشهور؛ فكان النصر في أول الأمر لجنود أسوج ولكن الروس انتصروا في آخره انتصارا عظيما في بولتافا سنة 1907، فاضطر شارل إلى الفرار من بلاده والإقامة مدة 5 سنين في مدينة بندر من مدائن تركيا، فلما عاد إلى بلاده مكرما بعد هذه المدة هاجت الأمة وماجت واستقبلته استقبالا حماسيا عظيما فعاد إلى سابق همته وعول على قهر الأعداء، ولكن القدر المحتم أصابه بقنبلة مدة حصار فردركشاد سنة 1718 في حربه مع الروس فمات مأسوفا عليه، والأسوجيون يعدونه من أعظم أبطالهم وأشهر ملوكهم.
ولم يعرف عن أسوج شيء يستحق الذكر بعد هذا إلا سنة 1809 حين تولى الملك شارل الثالث عشر، ولم يكن له وريث من آله فتبنى البرنس بونت كورفو من أمراء فرنسا، وهو المشهور في التاريخ باسم المارشال برنادوت، كان قائدا عظيما من قواد الجيش الفرنسوي على عهد نابوليون بونابارت، وهو الذي صار ملكا لأسوج سنة 1812، وما عتم أن رقي العرش حتى انضم إلى روسيا وبروسيا وإنكلترا وحارب معها رئيسه نابوليون الذي كان السبب في ترقيته؛ فكافأته الدول بعد سقوط نابوليون بتأييده على عرش أسوج، وأهدت إليه مملكة نروج أيضا وكانت تابعة إلى ذلك الحين للدنمارك، ولكن النروجيين لم يرضوا بالملك لبرنادوت فانتخبوا أميرا ألمانيا بدله، فتقدم برنادوت بجيش قوي عليهم اضطرهم إلى الرضوخ على شرط أن تكون بلادهم مستقلة في أمورها الداخلية تمام الاستقلال ولها النظامات القديمة، فقبل برنادوت رأيهم. ومن ذلك الحين صارت أسوج ونروج مملكة واحدة يحكمها آل برنادوت، ولكل مملكة من المملكتين نظامات خاصة بها تقرب من النظامات الجمهورية أو الملكية المقيدة، وقد ارتقت الأمتان بعد ذلك، فصار الأسوجيون والنروجيون الآن في طليعة المتمدنين؛ لأن التعليم عندهم إجباري، فلا تجد أميا في طول البلاد وعرضها ما خلا بعض أقسام شمالية من أسوج، والقوم أهل همة وعزيمة وحب للعلم أو المعارف. وقد اشتهر من النروجيين كثيرون شغفوا بالاكتشاف، ومن أشهرهم الدكتور نانسن الذي جاب الأقطار الشمالية، والأستاذ أندريه الذي طار إلى القطب في قبة أو بالون ولم يسمع الناس بأخباره إلى الآن، والنروجيون أصحاب متاجر واسعة، ولبلادهم مناظر غاية في الفخامة يقصدها السياح من كل البلاد، ولهم اختلاط كثير ببلاد الإنكليز، وأهل البلاد - بوجه الإجمال - معروفون بالنشاط والصدق والأمانة، حتى إنه ليضرب بهم المثل في الشهامة وكره الخداع، وهي صفات لا توجد إلا في المترقين.
وقد ملك أسوج ونروج من آل برنادوت خمسة، هم: شارل الرابع عشر الذي أسس الدولة، خلفه أوسكار الأول سنة 1844، وتلاه شارل الخامس عشر سنة 1859، ثم خلفه الملك أوسكار الثاني سنة 1872، اشتهر بحب العلم والمعارف شهرة لا تحتاج إلى الذكر، وعكف على درس التاريخ القديم والحديث حتى صار من الثقات في هذا العلم الجليل، وعرف بالميل إلى اللغات الشرقية وآدابها، فرأس مجمع المستشرقين وجمع علماء اللغات الشرقية في عاصمته على مثل ما يعلم الجمهور، وجاد بالصلات والوسامات على أهل العلم والمؤرخين، وقد اشتهر فوق علمه ومعارفه برقة القلب وبساطة المعيشة ولطف المعاشرة والحب الشديد لبلاده وأهلها، وأما الملك الخامس من آل برنادوت فهو جوستافوس أدولفوس الحالي، وسنعود إلى ذكره بعد أن نذكر حادثة انفصال أسوج عن نروج؛ لأن هذه الحادثة تمت على عهد أبيه.
قلنا إن أسوج ونروج كانتا مملكة واحدة إلى عهد قريب، ولكن النفار كان شديدا مزمنا بين الأمتين حتى إذا خالف الملك أوسكار رغبة أهل نروج في سنة 1905 اشتد النزاع وزاد ميل النروجيين إلى الاستقلال، فلما كان يوم 7 يونيو من السنة المذكورة قرر البارلمان النورويجي انفصال أمته عن السويد، وكان الشعب قد أظهر ميلا إلى هذا الانفصال ما عدا قسما منه صغيرا أراد بقاء الاتحاد، فلما عرضت هذه المسألة في البارلمان تقرر فيه أن تؤخذ أصوات الشعب، وضرب يوم 13 أوغسطس موعدا لهذا الغرض فكانت النتيجة أن 368200 من الأهالي أقروا الانفصال، وخالفهم في ذلك 184 صوتا فقط، وبذلك أصبحت نروج مملكة مستقلة بموجب هذا القرار الذي حمله، وقد ذهب به إلى ملك السويد في عاصمته استوكهولم، فلما اطلع الملك عليه قال متأسفا إنه كان يود الاتحاد؛ لأن الاتحاد يولد القوة أو على الأقل أن يؤجل تنفيذ هذا القرار إلى ما بعد وفاته؛ لأنه صار في أواخر العمر، وهو لا يريد سفك الدماء بسبب ذلك كما حدث في الممالك الأخرى، فإذا كان الانفصال طلب الشعب النورويجي فهو يقبل به، فأجابه الوفد أنه وإن يكن الانفصال أصبح عندهم أمرا مقررا ولكنهم حبا بالملك يريدون أن يكون ابنه البرنس شارل ملكا عليهم ترضية لجلالته واعترافا بجميله، ولكن الملك لم يشأ أن يقبل ولده التاج، وبعد انصراف الوفد أمر ملك السويد بنزع الإشارة الموجودة في العلم السويدي التي تدل على اتحاد النورويج معها، وأن يعين يوم أول نوفمبر لرفع العالم السويدي بطريقة رسمية خاليا من هذه الإشارة علامة الانفصال، فتم ذلك في اليوم المذكور وكان ذلك آخر عهد المملكتين بالاتحاد.
عاد الوفد النورويجي إلى كريستيانا عاصمة بلاده وبلغ البارلمان نتيجة مأموريته، وكان قسم من الشعب يريد أن تكون الحكومة جمهورية، وآخرون يريدونها مملكة فاتفق الفريقان على أن تؤخذ أصوات الشعب، وعين يوم الأحد 12 نوفمبر لأخذ الأصوات فبلغ عدد الطالبين للجمهورية 69246، وعدد الطالبين للملكية 259563؛ فبناء عليه ذهب وفد إلى عاصمة الدنمارك وقابل ملكها كريستيان وعرض التاج على حفيده البرنس شارل، فأرسل ملك الدنمارك تلغرافا إلى ملك السويد يرجوه بإلحاح أن يقبل لابنه تاج النورويج، فأجابه الملك بالإصرار على رأيه السابق وتمنى للأمير الدنماركي كل سعادة وهناء، فاستدعى ملك الدنمارك حفيده بحضور الوفد الذي جاء ليعرض عليه تاج نروج، وألقى عليه خطبة مؤثرة قال فيها إن حمل التاج وراءه مسئولية، فما عليه إلا أن يتدبر بحكمة في الأمور التي تسند إليه؛ فأجاب بالقبول ووعد أنه وزوجته يوقفان حياتهما على ارتقاء شأن الشعب النورويجي، وعلى هذا صار البرنس شارل ملك نروج، واسمه الآن هاكون كما سيجيء، ولد في 13 أوغسطس سنة 1872 واقترن بالبرنسيس مود ابنة إدورد السابع ملك إنكلترا، وله منها ولد عمره الآن 5 سنين واسمه أولاف.
وصل الملك الجديد في مدرعة دنماركية إلى عاصمة النورويج في يوم السبت 25 نوفمبر؛ فأطلقت المدافع من القلعة، وبادر لمقابلته رئيس البارلمان وأعضاؤه ثم ذهب إلى قصره مع الملكة وابنه، وسار في شوارع ازدحمت بجماهير الناس وهم يحيونه حتى دخل القصر وتمت فيه المقابلات الرسمية، وفي الغد - أي يوم الأحد - ذهب هو وزوجته وابنه إلى قاعة البارلمان حيث حلف يمين الأمانة لدستور البلاد بحضور المطران والإكليروس ولقب بالملك هاكون السابع، وهو اسم بعض من ملوك النورويج السابقين، وكان هاكون السادس آخر هؤلاء الملوك توفي منذ خمسمائة سنة، وسمي ابنه ولي العهد أولاف وهو أيضا اسم الملك أولاف الذي جمع القبائل ووحد مملكة النورويج في القرن العاشر، وجعل راتب الملك 38888 جنيها في السنة، وكان الازدحام شديدا في ساحة البارلمان، فلما خرج الملك إلى الشرفة ورآه الشعب صاحوا مرارا وتكرارا بصوت واحد: «فليحيا هاكون.» وكان ولي العهد الصغير إلى جانب والده وفي يده العلم النورويجي، فلما حركه بيده الصغيرة أمام الجمهور الواقف في الميدان زاد الهتاف وتعاظم سرور الناس من هذا المنظر حتى بكوا من شدة السرور، وبعد ذلك أرسل الملك تلغرافات إلى القياصرة والملوك ورؤساء الجمهوريات يعلمهم بارتقائه عرش النورويج؛ فوردت له التهاني من الجميع وآيات النصح من جده ومن حميه ملك إنكلترا، وهو الآن من الملوك الذين تعلقت الرعية على حبهم، وله شهرة بحب البسالة والفضائل مثل أكثر أقاربه العظام.
غوستاف ملك السويد .
وتوفي الملك أوسكار الثاني في 9 ديسمبر سنة 1907 بعد أن بلغ من العمر 79 سنة، وخلفه ابنه الأكبر وهو الملك الحالي، وله ولدان: أولهما البرنس غوستاف وهو الآن ولي العهد تزوج بابنة الديوك أوف كنوت شقيق ملك إنكلترا، وكان هذا البرنس وابنة الديوك قد حضرا للسياحة في مصر؛ حيث حصلت المقابلة وتم الاتفاق بينهما على الاقتران. والملك جوستافوس مشهور بالأدب والعلم مثل أبيه، وأهل بلاده يحبونه ويكرمونه غاية الإكرام، وأما عدد سكان مملكته فقد بلغ خمسة ملايين ونصف مليون من النفوس حسب الإحصاء الأخير.
استوكهولم
لما تركت بلاد الدنمارك قمت في باخرة إلى أسوج، ومرت الباخرة في خليج السوند الفاصل بين البلادين، فوصلت بعد مسير ساعتين أو أقل إلى مالمو، وهي أولى الفرض الأسوجية من ناحية الجنوب، ومركز ولاية سكان التي اشتق منها اسم سكاندنافيا، وهو اسم ممالك الشمال الثلاث وبعض ما يجاورها. ومالمو هذه بلدة صغيرة فيها 50 ألف نسمة، ولكنها نظيفة مرتبة مثل أكثر المدن الأسوجية، ولها بعض الشهرة بصنع القفاز (الجوانتي أو الكفوف)، وهي على بعد 618 ميلا من العاصمة ستوكهولم أو 16 ساعة في القطار تفرق بينهما أراض بديعة المناظر كثيرة الجمال، ويزيدها رونقا أن بحر البلطيق إلى جانب من الطريق الذي يمر به القطار والجبال إلى الجانب الآخر، فلا يشعر المسافر بشيء من التعب أو الملل في كل تلك المسافة؛ لأن تغيير المناظر المفرحة يتبعه انقطاع الغبار لصلابة الأرض وكثرة الأمطار وإتقان العربات في القطار، ومررنا باثنين وثلاثين محطة بين مالمو وستوكهولم، هذا غير القرى الأخرى التي لم يقف الرتل فيها فكنا نرى في كل ناحية الحراج الفخيمة والبساتين الجميلة والمزارع النضرة والبيوت البهية، والناس يشتغلون بزراعتهم اشتغال الذي خلا باله من الهم وأمن غدرات الدهر، والأشجار تتدلى منها الأثمار المختلفة في كل جهة، وهي دليل اجتهاد الأهالي في إنمائها فأثر فينا منظر هذه البلاد تأثيرا عظيما.
وأما مدينة ستوكهولم عاصمة أسوج فعدد سكانها 350000 نفس، ويضرب المثل بجمالها وبهائها؛ لأنها واقعة في أرض بعضها جزر يصلون من إحداها إلى الأخرى بالزوارق المتقنة أو الجسور البديعة، وبعضها في منبسط من الأرض فسيح المجال وبعضها على مرتفعات وهضبات متدرجة في الارتفاع، ولها منظر يقرب من منظر البندقية في جزرها، ومن منظر الآستانة في قرنها الذهبي وروابيها البهية، وقد زادها حسنا ورونقا أن معظم أبنيتها من الحجر المنحوت، لا طلاء يكسوه ولا دهان، وبعضها من الطوب الأحمر تفصل بين طبقاتها خطوط بيضاء من الكلس، وفي حدائقها وبعض طرقها أيضا صخور صوانية كبرى تركت على حالها الأصلية عند تنظيم المدينة، وأشياء أخرى غير هذه تميز ستوكهولم عن سواها وتجعلها من أجمل مدائن الأرض بلا مراء، هذا غير أنها نظيفة في كل جوانبها لا رائحة تعرف عنها ولا أقذار متراكمة ولا تراب يطير غبارا فيعمي الأبصار، ولا دخان ينعقد في الجو من كثرة المعامل التي تدور بالبخار، ولا بلية أخرى من مثل ما يعرف عن أكثر مدائن الشرق، فلا غرو إذا تغنى الشعراء بمدحها ونظموا القصائد الحسان في وصفها، فإنها تستحق الذي قالوا عنها، وقد أوصلها الملوك الحديثون من آل برنادوت إلى درجتها الحالية بالدأب والاجتهاد وحسن الإدارة، فإنها لم تكن شيئا يذكر قبل أول هذا القرن، بنيت سنة 1255 واسم مؤسسها جارل برجر جعل من حولها حصونا ترد غارات الأعداء، وكان هجوم الدنماركيين عليها في العصور الخالية كثيرا؛ فإن الملكة مرغريتا غزتها سنة 1389، وكرستيان الأول فعل مثل ذلك أيضا في سنة 1520، وغيرهما أغار عليها كثيرا، فلم يترك هؤلاء المهاجمون لها وقتا تتقدم فيه وتنمو، إلا أنها لما استقلت من بعد أيام جوستافوس فاسا - الذي ذكرناه في فصل التاريخ - نمت وتقدمت حتى إذا تولى برنادوت أمرها في أول هذا القرن - وهي يومئذ لا يزيد عدد سكانها عن 75 ألفا من النفوس - زادت في العمران واتسع نطاقها، وبنيت فيها المنازل والشوارع والحوانيت الكثيرة خارج دائرة الحصون الأولى، فصار عدد سكانها الآن حوالي 350 ألفا كلهم يعرفون بالتهذيب وصدق الوفاء والاجتهاد والأمانة.
ويزيد ستوكهولم جمالا أنه يرد إلى مينائها شيء كثير من البواخر والسفن الشراعية تنقل الأبضعة والمسافرين إلى هذه المدينة ومنها، ثم إن السفن الصغيرة تمخر ما بين الجزر التي تتكون منها بعض أحياء المدينة، فترى في مياه ستوكهولم أينما سرت حركة وحياة تحبب إليك الإقامة فيها طويلا، وإني عند وصولي إليها والتمتع بهذه المشاهدة من وجه عام قصدت درس ما فيها فجعلت وجهتي في بادئ الأمر قصر الملك، وهو في جزيرة شتادن حيث كانت مدينة ستوكهولم القديمة، وهذه الجزيرة يمكن الوصول إليها من بقية أجزاء المدينة إما بحرا أو من فوق جسر عظيم الشان اسمه جسر نوربرو، وهو ذات سبع قناطر مبنية من الصوان كثير الزخرف والارتفاع بحيث إنك إذا وقفت عليه رأيت المدينة من هنا ومن هنا بين يديك، والبواخر سائرة فوق الماء من كل جهة ما بين صغيرة وكبيرة فتتجلى لك المدينة بكل محاسنها من تلك النقطة. والقصر هذا بناء فخيم له ثلاث طبقات، مربع شكله طول كل جهة منه 418 قدما وفيه 516 غرفة، وهو ثلاثة أقسام: أولها للملك والثاني للملكة والثالث لولي العهد، وفيه قسم للحرس الملوكي والأعوان الكثيرين، ولكل من هذه الأقسام عمال وخدمة خصوا بالخدمة فيه، وهم يقومون بخدمة السياح والمتفرجين من الذين يقصدون التمتع برؤية ما في هذا القصر، وقد كان يوم دخولي إليه جمع من السائحين يتفرجون على نفائسه، وجلهم من الإنكليز والأميركان، فجعلنا ندور في جوانب القصر، ورأينا في الطبقة الأولى منه ملابس ملوك أسوج وأسلحتهم في الزمان السابق وأكثرهم من بدء القرن السابع عشر إلى الآن، وفي جملة ذلك: سروج من الذهب والفضة على النمط الشرقي، وسيوف وخناجر مذهبة ومرصعة قبضاتها بثمين الحجارة الكريمة، ورأيت هنالك فرسا مصبرة كان يركبها الملك جوستافوس أدولفوس الذي قتل في معركة لوتزن على مثل ما رأيت في الخلاصة التاريخية، وسيف الملك شارل الثاني عشر كان في يده حين وقع قتيلا في معركة فردركشاد، وهناك رايات وأسلحة وأشياء أخرى يعرف منها تاريخ أسوج أو بعضه، ولأكثرها علاقة بحروبها الماضية مع الدنمارك وبولونيا وروسيا وغيرها من الممالك الأوروبية.
ثم ارتقينا سلما من الرخام الجميل أوصلنا إلى الطبقة الثانية من البناء، فدخلنا قاعة الموسيقى فقاعة الاستقبال، وفي سقفها نقوش بديعة تمثل تاريخ الإسكندر ذي القرنين وحروبه، وقاعة الصور فيها من الرسوم الزيتية شيء لا يعد، فقاعة الولائم وهم يسمونها البحر الأبيض إشارة إلى لون جدرانها وكلها بيضاء ناصعة يتخللها عروق من الذهب، ولها منظر ترتاح إليه النفوس، وقاعة المجلس الخاص يجتمع فيها الوزراء وأهل الشورى تحت رئاسة الملك، والقاعة الحمراء جدرانها مطلية بالألوان الحمراء المعرقة بالذهب، وفيها صور لأفراد الأسرة المالكة، وقاعة سرافين سميت باسم وسام أسوجي قديم هو إلى الآن أرفع ما عند الدولة الأسوجية من النياشين، وقاعات أخرى غير هذا لكل منها غرض خاص، وقد ملئت جوانب القصر كله بأفخر أنواع الرياش وزخرفت بأبهى الألوان حتى أنه ليعد من أحسن القصور في أوروبا وأكثرها جمالا وإتقانا.
ورأيت معظم ما في الأقسام الثلاثة من فاخر التحف وبديع المناظر، فلما وصلت القسم المخصص لولي العهد رأيت سريرا للأطفال سوري الشكل صنع من خشب الجوز ورصع بالعاج والصدف، وقد استعملته زوجة ولي العهد لغرس الأزهار الجميلة فيه ورأيت هنالك أيضا صورة سعادة أحمد باشا زكي الياور الخديوي الأول، أخذتها قرينة ولي العهد تذكارا لقيام سعادته بخدمتها مدة وجودها هنا، فإنها - كما يذكر القراء - جاءت مصر مرتين وأقامت هنا مدة الشتاء كله عامين مراعاة لصحتها، فكانت الحكومة المصرية تعني براحتها وتقوم بواجب إكرامها، وهي حفظت لمصر وأميرها كل ذكر جميل.
وإلى جانب القصر ميدان واسع جميل في مسلة علوها مائة قدم نصبها الملك جوستافوس الرابع تذكارا لانتصاره على روسيا سنة 1778، وفيه تمثال جوستافوس على قاعدة تشبه دفة السفينة تذكارا لانتصاره على الأعداء في الحروب البحرية، ومن هذا الميدان يمكن الوصول إلى السوق الكبرى، وهي التي جرت فيها المعارك المشهورة في التاريخ والحوادث المريعة أشهرها حادثة قتل الأمراء والأعيان على عهد كرستيان الثاني، وهي التي ذكرناها في باب التاريخ، وقد سمي الموضع من بعدها «حمام الدماء»؛ لكثرة ما أريق فيه من دماء النبلاء والأبرياء.
وقد مر بك القول أن ستوكهولم يحيط بها البحر من ناحية وآكام ورواب من ناحية أخرى، فهي جامعة لأعظم المشاهد الطبيعية؛ ولهذا فإنها لم تشتهر بحدائقها اشتهار غيرها من المدن التي تحتاج إلى الحدائق، ولكن فيها حديقة بارسيلي الجميلة ينتابها الألوف بعد الأصيل من كل يوم وتصدح فيها الأنغام الشجية، وفيها مطعم فاخر له طبقتان: في الأول منهما أنواع المشروبات تؤخذ على موائد نصبت بين صفوف الشجر وفي الطبقة العليا موائد الطعام تشرف على أبهى مناظر المدينة.
وفي هذه المدينة أيضا متحف عظيم الشأن هندسه ستولر المهندس الألماني المشهور، وهو استقدم إلى ستوكهولم لهذه الغاية، وظل العمال على بنائه وزخرفته 16 سنة من 1850 إلى 1866، وللملك عناية كبيرة بهذا المتحف وما فيه، وهو جامع للآثار الكثيرة لا تخرج في وصفها عما تقدم ذكره من المعارض التي شرحنا أمرها في غير هذا الموضع، ولا يسمح لنا المقام بالإسهاب فيها الآن.
وفي هذه المدينة نفق تحت شاهق الجبل يخترق الأرض ما بين المدينة وأطرافها في الناحية المقابلة لها، كان الغرض من حفره تسهيل الانتقال بين الجهتين، وقام بعمله مهندس من مهندسي البلاد على نفقة نفسه بطلب من الحكومة، اشترطت عليه ألا يجبي لنفسه من المارة رسما يزيد عن عشر بارات على كل فرد منهم، وأن يتمتع بأرباح مشروعه مدة عشرين عاما، ثم يصير النفق ملكا لبلدية ستوكهولم فتم ذلك، وأثرى صاحب المشروع، ثم انتقل النفق إلى المجلس البلدي، فهو ينفق إيراده على ما يفيد المدينة ويزيدها نظاما وقد تسهل المرور على الناس في تلك الناحية كثيرا.
ولما انتهيت من المرور في النفق سرت في آخر النهار إلى قهوة تعرف باسم ستومبارتر، وهي واقعة على ضفة الخليج ينزلون إليها بسلم، وفيها حديقة شهية يقعد فيها الناس ويمتعون الطرف بمنظر الخليج وما يمر فيه من السفن والبواخر الكثيرة، ومنظرها في الليل لا يقل بهجة عنه في النهار؛ لأنهم ينيرونها بأجمل الأنوار موضوعة على أشكال شتى، وبينها كثير صنع على شكل الراية الأسوجية بالمصابيح الملونة.
والمدينة هذه مشهورة بجزرها على ما تقدم وقد ذكرنا بعضها، ومن أجملها جزيرة دجورجارد فيها القصور والمنازل لكبراء القوم، وفيها غابات كثيرة من شجر القرو، وهو كثير في هذه البلاد، تمتد أغصانه وتتكاثف أوراقه، فيشبه أرز لبنان في امتداد عروقه، ويتخلل هاتيك الحراج طرق فسيحة نظيفة تخترق الشجر في الجهات الأربع؛ لتسهيل المرور والانتقال ولها منظر يشرح الصدور. ولقد سرنا في أحد هذه الطرق فانتهينا إلى قصر روزندال الذي بناه الملك شارل الرابع عشر، وفي ذلك القصر يقيم الكونت برنادوت وهو ثاني أنجال الملك، اعتزل الدنيا وتنازل عن كل حقوقه في الملك والأبهة؛ لأنه شغف بحب فتاة إنكليزية فائقة الجمال، وهي ابنة ضابط من ضباط الجيش الإنكليزي، فاقترن بالفتاة بعد أن نهاه أبوه الملك أوسكار عن الاقتران، وتغلب الحب للفتاة على كل أمر آخر، فغضب الملك غضبا شديدا على ابنه وأصدر أمرا بحرمانه من كل حقوق الأمراء حتى إنه سلخ عنه لقب الإمارة، فما أثر ذلك في الأمير، وهو إلى الآن مع عروسه في هذا القصر يتنعم؛ لأنه ورث عن أمه مالا كثيرا والفتاة غنية أيضا؛ ولهذا القصر حديقة غناء وعلى مقربة منه برج بناؤه شاهق، وعلو قمته عن الأرض 110 أقدام، صعدته فرأيت المدينة بجميع أجزائها تحت نظري، والبرج مبني على أكمة علوها 250 قدما فكان منظر تلك الجهة بديعا.
وتحولت من ذلك البرج إلى غربي الجزيرة، وهناك أماكن الاجتماع أقيمت في جوانبها الحانات والملاهي والمطاعم، ومرسح بني على مثال القصور العربية في بلاد المغرب الأقصى وله جدران خضراء عليها أشعار عربية بالقلم الأبيض، وكان النهار قد انقضى فأنيرت المصابيح الكثيرة، وبدأت في المكان حركة من توافد الألوف إلى تلك الملاهي والحانات لقضاء السهرة، فكنت ترى من أشكال الأسوجيين كبارا وصغارا رجالا ونساء ما يمثل لك حال البلاد برمتها، وقد ظهرت على الجميع علامات التأدب والتهذيب وراحة البال من عناء المشاكل الداخلية والخارجية، فإن هذه المملكة من الممالك القليلة التي لا تشتد فيها حدة الأحزاب السياسية، وليس لها من العقد الخارجية ما يشغل البال ويقطب الجبين.
وقضيت السهرة في مسرة وحبور في تلك الجزيرة حتى إذا انقضت عدت بالترامواي إلى الفندق، والطريق كله حدائق ومشاهد جميلة وأصبحت في اليوم التالي على نية الاستقصاء في التفرج ودرس المناظر، فكان الدليل ينتظرني وسرت معه إلى قصر دروتنغولم، ومعنى الاسم قصر الملكة، سمي بذلك؛ لأن الملكة حنة الثالثة بنته في أواخر القرن السادس عشر وأتم زخارفه الملوك الذين جاءوا من بعدها، والقصر في جزيرة من الجزر المحيطة بالعاصمة فسرنا إليها في باخرة جميلة تشق عباب بحيرة مارلان التي ورد ذكرها من قبل، وطفقت هذه الباخرة تمر بقصور وحدائق ومتنزهات جمة وباخرات أخرى تنقل الناس من جهة إلى جهة في نواحي ستوكهولم، وكنا إذا مررنا بإحدى الجزر البهية مثل التي كنت بالأمس فيها نرى الناس هنالك يطربون ويسرون، وقد دب في بعض الرءوس تأثير بنت الحان فجعل القوم يرقصون ويتخاصرون، وإذا مرت بهم سفينتنا لوحوا لها بالمناديل تسليما وتحية فيرد الركاب التحية بمثل ما فعلوا من رفع الأكف والقبعات وتلويح المناديل، وبعض الأحيان يفعلون ذلك بالهتاف والصياح والتصفيق، وفي كل هذا دليل على ما يرتع به القوم من الرخاء وصفاء البال، وما زالت الباخرة في مسير بين مثل هذه المناظر ونحن نتمنى لو تطول مدة المسير حتى رست بعد ساعة في آخر البحيرة، فنزل الركاب وأنا معهم على رصيف من الخشب وسرنا من هنالك في طريق كثرت محاسنه إلى القصر، ودخلنا القصر بعد أن بلغناه فرأينا جوانبه وقاعاته، ولا حاجة إلى القول إنه كامل الجمال والإتقان من حيث النقش والرياش وغيرهما. وفي القسم المعد للملك منه صور ملوك أوروبا الحاليين وقياصرتها بالحجم الطبيعي، وفي قسم الملكة صور الملكات والقيصرات بقدهن الطبيعي أيضا، والقصر يقيم فيه الملك بعض أشهر الصيف، وهو قديم العهد مملوء بالتحف والنفائس وله حديقة غناء تستحق الذكر على نوع خاص، فإنها جمعت من أشكال الزهر والشجر كل جميل وغريب، وغرست فيها الأشكال على نمط بديع يحيط بها طرق مرصوصة بالحصى ومتقنة الوضع، يزيدها جمالا أنواع النصب والتماثيل الكثيرة وبرك الماء المتدفق من الأنابيب المختلفة، وفوق هذا فإن الحديقة تشرف على البحيرة فيتم بذلك رونقها وبهجتها.
ومن أجمل ما اكتحلت بمرآه العين وأبهى ما وصفه الواصفون ضاحية من ضواحي ستوكهولم لا مشاحة في أنها لها رونق وجمال ما رأيت أعظم منه تأثيرا في النفس، ولا سمعت بأكثر غرابة وفخامة، أريد بها ضاحية سولتجون، هنالك جمعت الطبيعة كل قواها ووفقت بين غرائب جمالها، وساعدتها يد الصناعة والاجتهاد على إيصال البدائع الموجودة فيها إلى حد النهاية، فصار الموضع بإقرار كل من رآه آية فتانة من آيات الجمال الرائع والمنظر المؤثر، لا تنسى النفوس ذكراه، هنالك الجبل الشامخ والبحر الخضم والجدول المنحدر والصخر الصلد والحرجة الغضة والأكمة البهية، والوادي القشيب والبحيرة النقية مياهها، وكل حسنة من حسنات الطبيعة تتوقف إلى رؤيتها النفس وتشتاق سماع أخبارها الآذان، وقد سرت إليها في باخرة من هاتيك البواخر الحسناء والمسافة بينها وبين العاصمة ساعتان في مضيق من الماء أو هو بوغاز يضارع البوسفور فيما يليه من تنوع المناظر وجمال الضفتين وغرابة المحاسن من هنا ومن هنا. ولقد كان هذا البوغاز البهي يضيق تارة ويتسع أخرى، وسواء ضاق أو اتسع فإن الذي يراه الراكب ليسحر العابد من حراج وغياض وخضرة نضرة ترصعها قصور شماء لأكابر الناس، تطل كواها وشرفاتها على ذلك المنظر الفخيم، وأعجبني فوق هذا كله تلك الصخور الصوانية الباقية من عهد تكوين الأرض شاهدة بفضل الطبيعة وقوتها، وهي قائمة إلى جانبي الطريق تليها الأعشاب وأشكال الشجر المدلاة أغصانه، ولا سيما إذا ما ضاق مجرى الماء وصار مثل شارع غير متسع المجال، فإن هاتيك الغصون تتقابل من الجانبين ويتكون منها أقواس من الخضرة فوق الماء المترقرق فتمر الباخرات من تحت تلك الأقواس البهية، ويا له من ممر عجيب! ثم إن ذلك البوغاز غير مستقيم السير، وهنا نقطة أخرى للجمال فإنه يتعرج في بعض أجزائه تعرجا كثيرا يوهم الراكب أن الطريق سدت في وجه الباخرة، فلا يظهر للرائي من الماء غير الذي تسير السفينة فوقه، وتعترضها صخور وغياض، ثم هي تنساب في تلك المسالك الشهية انسياب الأفعى فما يشعر الراكب إلا وقد انفرج المجال وصار إلى وسط بحيرة ماؤها نقي ومنظرها شهي، ولها ضفاف نقشت بمحاسن البناء في وسط الحدائق أو على رءوس الآكام، وفي وسطها جزيرات لطيفة كلها معارض لما اجتمع في هذا الصقع من بدائع الطبع والصنع.
تلك حالة الطريق ما بين ستوكهولم وسولتجون، لما وصلناها نزلنا من السفينة إلى الأرض على رصيف من الخشب دخل في الماء دخول اللسان من الأرض في شواطئ البحار، فسرنا منه صعدا إلى قمة جبل بنيت عليها المنازل والمطاعم وأماكن الاجتماع، وهنالك مطعم تفننوا في إتقانه وأنفقوا على معداته الألوف، فجعلوا الأدوات والآنية كلها من الفضة والذهب والبلور والموائد نظيفة بالغة حد الإتقان، يقف من حولها الخدم بأجمل هندام. وأذكر أني رأيت عبدا أسود في ذلك المطعم عرفت بعد السؤال أنه سوداني أخذ من بلاده صغيرا وربي في ذلك الموضع البهي، فما ينطق بغير الأسوجية، وصعدت برجا في ذلك المطعم أطللت منه على تلك المناظر البديعة، فارتسمت في ذهني وذكرها لا يزول؛ لأني لم أجد أكثر منها غرابة وجمالا، ثم عدت في المساء إلى المدينة بعد أن قضيت النهار كله متنقلا بين هاتيك الغياض والمشاهد، وكان رجوعي في قطار سكة الحديد والطريق لا يقل غرابة وجمالا عن طريق البحر الذي وصفناه.
وأعجبت في ستوكهولم بالأمن العام والنظام الشامل؛ فإن حكومتها الدستورية من أرقى أنواع الحكومات في الأرض، ولها بوليس لم أر في الشرطة أجمل منه منظرا ولا أكثر لطفا وعلما في كل العواصم الأوروبية، فإن الجندي البسيط من أولئك الرجال يلبس لبس ضابط كبير له بنطلون أسود من الجوخ اللامع، ومن فوقه سترة من نوعه لها صفان من الزرائر المطلية بالذهب، وحزام مقصب يتدلى منه السيف، وقبعة سوداء صغيرة لها خطوط، ونحاسة لامعة في مقدمها شعار الدولة الأسوجية، وقفاز أبيض في اليدين، والناس يحترمون رجال البوليس ويصعدون بإشارتهم، وهم أصحاب علم وذوق وتربية مثل كل الأسوجيين، فلا عجب إذا شمل النظام وعم الأمن واستراحت قلوب الناس في هذه البلاد من الهم والمشاغل.
ويقال - بوجه الإجمال - إن هذه المدينة من مدائن الطبقة الأولى بجمال مناظرها الطبيعية وغرابة وضعها وبهاء ضواحيها، ولكنها باردة الهواء في أكثر فصول السنة ما خلا فصل الصيف، وهو لا يزيد فيها عن أربعة أشهر أو ثلاثة، والماء يتجمد فيها مدة الشتاء فتصبح هاتيك البحيرات البهية صفائح من الجليد يزحف عليها الناس بالقباقيب الدراجة، ويعد ذلك عند أكثر أهل الشمال من أحسن ما يروض الأبدان ويسلي العقول. هذا غير أن قرب أسوج من الشمال الأقصى يجعل أكثر أيام السنة فيها قصيرة والليل طويلا، فلا يزيد طول النهار في معظم أيام السنة عن 6 ساعات لأسباب طبيعية يعلمها القارئون، وهو من غرائب البلاد، وفي جملة محاسنها الكثيرة. وأهل هذه البلاد من الطبقة الأولى في حسن التربية، بعيدون عن الغش والخداع في أمورهم وأعمالهم، وإذا تزوج المرء منهم أعطى عروسه يوم الزواج نسخة من الإنجيل مع بقية الهدايا، وأما العروس فتهدي زوجها قميصا للنوم تخيطه بيدها، يلبسه مرة ثم يغسله ويطويه فيبقى محفوظا إلى يوم الممات ليدفن فيه.
فنلاندا
إني قصدت زيارة هذه البلاد حبا في الاطلاع؛ لأنه لم يزرها من أهل الشرق قبلي رجال كتبوا عنها، وليس فيها من المشاهد ما في غيرها من بلدان أوروبا، ولم أكتب لها خلاصة تاريخية كغيرها؛ لأنها لم تكن شيئا يذكر في الماضي، وتاريخها ينحصر في حروب ومنازعات على امتلاكها بين دول الشمال إلى أن صارت ملكا للروس في أوائل هذا القرن، وهي الآن ولاية روسية ممتازة تعد إمارة مستقلة لها نظامات خاصة بها غير نظامات الدولة الروسية، وفي قاعدتها مجلس للشيوخ ومجلس للنواب يسنان ما يلزم لها من القوانين ويصدق عليها قيصر الروس رأسا، والبلاد واقعة بين روسيا وأسوج، وهي واسعة الأرجاء منبسطة الأرض كثيرة الجزر والخلجان، وعدد سكانها قليل لا يزيد عن مليونين ونصف من أهلها الأصليين، وهم من النوع التوتوني.
والحق يقال إن السياحة بين ستوكهولم وفنلاندا من أشهى السياحات، يرى السائح في خلالها نحو 1300 جزيرة في بحيرة مالار والخليج والبحر، وفي ثمانين منها 1500 نفس لصيد السمك.
وتكثر الأسماك الكبيرة والصغيرة في شواطئ فنلاندا بسبب موقعها الطبيعي وكثرة جزرها، فتجارة السمك من أعظم مصادر الثروة في هذه البلاد، والزائر يرى لأول وهلة أكواخا كثيرة فوق صخور هائلة في وسط تلك الجزر، يقيم فيها الصيادون أشهرا ويأتون بالزاد إليها حينا وراء حين، وقد بنيت فوق تلك الصخور أعشاب، ويسمع عند الأكواخ خرير الماء المنحدر من المصايد، وفي هذا كله شيء لا يراه السائح في غير بلاد فنلاندا، ويمكن للمسافر أن يراه في طريقه؛ فإن الباخرة التي سرت فيها قضت 15 ساعة تشق عباب البحر في وسط تلك المناظر، وهي تتعرج وتتقلب في ميلها بين تلك الجزر الكثيرة، فأثر فينا ذلك المنظر الغريب الخاص ببلاد سحيقة قلما يسمع عنها الشرقيون شيئا. وكان في الباخرة خادمات للمائدة من أهل فنلاندا جميلات نظيفات الملابس حاسرات عن زنودهن، والمآكل تقدم مرارا للمسافرين، ومناظر الخلجان والبحيرات والجزر تزيد غرابة في كل حين حتى انتهينا إلى مينا هانكو، وهي أول بلد في فنلاندا قائمة على لسان داخل في البحر، وفيها حمامات يقصدها الناس من داخلية البلاد في فصل الصيف، ولم نقف في هانكو إلا قليلا ثم عادت الباخرة إلى المسير وظلت سائرة ثماني ساعات أخرى حتى استقر بها النوى في هلزنفورس وهي عاصمة البلاد.
هلزنفورس
هي مدينة بناها جوستافوس فاسا محرر أسوج - الذي مر ذكره - سنة 1550، وقد تقلبت عليها الأحكام كثيرا إلى أن صارت من أملاك الروس في سنة 1812، وعدت قاعدة الولاية من سنة 1819، ونقلت إليها المدرسة الجامعة من آبو سنة 1827، يبلغ عدد سكانها ستين ألفا، وفيها عدة أبنية فاخرة مثل دار الولاية والمدرسة والثكنة العسكرية وبناء مجلس الشورى والمرسح والكنيسة الكبرى، وغير هذا مما لا أتعرض لشرحه ووصفه؛ لأنه لا يختلف كثيرا عما تقدم ذكره في المدائن الأخرى؛ ولأن البلاد هذه ليست بذات أهمية عند معظم القراء الشرقيين، وفيها أيضا قصر إمبراطوري أمامه تمثال للقيصرة ألكساندرا فيودوروفنا نصب تذكارا لزيارتها تلك العاصمة عام 1833 وإلى جانبه نسران روسيان. وفيها كنيسة مار نيقولاوس بنيت من حجر الصوان على مرتفع من الأرض وقد جعلوا في أعلاها خمس قبات ملونة باللون الأزرق السماوي، وهو غاية في الجمال صعدت أعلاها على سلم ذات خمسين درجة من الحجر، فأطللت على المدينة بكل أنحائها. وسرت بعد ذلك إلى مجلس الأمة، وفي بنائه الفخيم أكثر مصالح الحكومة الإدارية والمالية، وقد رأيت في إحدى غرفه صور القياصرة الروسيين المتأخرين في براويز جميلة وهي كثيرة الجمال والإتقان.
واشتهرت هذه العاصمة بحصون منيعة بنتها دولة الروس، وهي تمتد في البحر مسافة ثمانية آلاف متر، وفيها تسعمائة مدفع، وستة آلاف جندي يزاد عددهم وقت الحرب، ومما يذكر عن هذه الحصون أن دولتي إنكلترا وفرنسا أرسلتا الأساطيل لتدميرها سنة 1855 - أي مدة حرب القرم - فلم تقو تلك الأساطيل على تخريب هذه الحصون العظيمة؛ ولذلك أطلق عليها بعضهم اسم «جبل طارق الشمالي»؛ إشارة إلى جبل طارق الذي حصنه الإنكليز عند مدخل البحر المتوسط في طرف إسبانيا الجنوبي، وجعلوه أشهر المواقع الحربية منعة وتحصينا. والحصون كلها مبنية من الحجر مثل بقية ما في هذه المدينة من الأبنية، فإن كل منازلها ومخازنها من الحجر لا يعلوه دهان، ولكنهم يتفننون في ترتيب الحجر على ألوانه ترتيبا يروق للناظرين، ويجعلون بين كل صف من البناء والصف الآخر خطا من الكلس الأبيض، فهي في ذلك تقرب من بيوت بيروت في بعض الشيء، وقد استخدموا الحجر أيضا لرص الشوارع، فترى أرض مدينتهم مبنية بالحجر وهم يغسلونها كل يوم بالماء فتظل أبدا نظيفة تشرح بمناظرها الصدور، وفي ذلك ما يقرب من شوارع أبردين ونظافتها، وهي مدينة اسكوتلاندية سيأتي الكلام عنها في فصل بلاد الإنكليز.
وأقمت في بلاد فنلاندا هذه أياما قليلة، ثم برحتها قاصدا سلطنة الروس، وهي في جوارها فقمنا في باخرة جميلة جعلت تجتاز تلك الجزر الغريبة حتى إذا دخلت بحر البلطيق وانفسح لها المجال، طفقت تتمايل وتضطرب من تعالي الموج وهياج البحر، فقلت لربان السفينة إذا كان هذا حال البحر هنا مدة الصيف فكيف به في الشتاء؟ قال: إن البواخر تنقطع عن المسير في الشتاء هنا؛ لأن البحر كله يجمد ماؤه ويصبح سهلا واسعا من الجليد، وقد صنعوا بواخر لها مقدم محدد كالسيوف يقطع الجليد من أمام الباخرة ويفتح لها بابا للمرور، ومسير هذه الباخرات صعب لا يخلو من الخطر، فهم يعولون في السفر مدة الشتاء على سكك الحديد الممدودة بين البلادين.
على أن البحر هدأ اضطرابه بعد أن سارت الباخرة قليلا، فلما أصبح الصباح التالي ظهرت لنا أرض روسيا، ورست الباخرة في مينا كرونستاد، وهي التي يجيء الكلام عنها مع ضواحي بطرسبرج.
روسيا
خلاصة تاريخية
كانت روسيا بلادا غير معروفة، يسكنها أقوام محاربون اشتهر ذكر بسالتهم في تاريخ إيران واليونان والرومان، ولكنهم عرفوا بالغلظة، ولم يكن بينهم رابطة ولا ائتلاف حتى قام أمير اسمه رورك في سنة 862 من قبيلة تعرف باسم روسن واشتهر بالحكمة فاستدعته قبائل أخرى للحكم عليها وعظم أمره، فكان هو أول من بدأ بتشييد الدولة الروسية الحالية، وأطلق على رعاياه اسم روسيين نسبة إلى قبيلة روسن من ذلك العهد. وتوارث الملك عن رورك أمراء من نسله وسعوا نطاق الدولة حتى قام فلاديمير الأول وأدخل الديانة المسيحية إلى البلاد في سنة 988، ومن ذلك الحين ظهرت دولة الروس وصار لها علاقات مع الدول الأخرى، ولكن سوء الحظ فاجأها؛ لأن مملكة بولونيا أغارت عليها وكسرت جنودها وامتلكت أكثر أجزائها، وظلت البلاد تابعة لبولونيا إلى القرن الثامن عشر، وكان الجزء الذي تعد موسكو قاعدته قد وقع تحت حكم التتر من بعد أيام فلاديمير، فظل خاضعا لهم. والأمراء الروسيون يعدون من الولاة التابعين لسلاطين التتر حتى أوائل القرن الخامس عشر حين استقلوا في أيام إيفان الثالث سنة 1505، وكانوا مدة سيادة التتر قد انفصلوا عن الأجزاء الأخرى انفصالا تاما، فإن الروسيين الذين خضعوا لبولونيا اعترفوا بسيادة البابا الدينية، والذين خضعوا للتتر ظلوا تابعين للكنيسة الشرقية ثم أعلنوا استقلالهم وانفصالهم عنها مع بقائهم على عقائد الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، وكانت بلادهم تعرف باسم روسيا الكبرى أو بلاد المسكوب، وهي التي تغلبت بعدئذ على بقية الولايات الروسية وصيرتها دولة واحدة، وبدأت بذلك من أيام إيفان الثالث الذي ذكرناه، فإنها اتسع نطاقها وعظم شأنها من بعد القرن الخامس عشر وضمت إليها بعض أجزاء سيبيريا والولايات الروسية التي أخضعها التتر مثل كازان وأستراخان وغيرها.
وفي سنة 1598 انقرضت سلالة رورك فوقعت البلاد في فوضى طالت مدتها، وانتهت سنة 1613 بقيام رجل اسمه ميخائيل رومانوف كان ابن أحد الأساقفة وأمه من بيت رورك، واستلم هذا الزعيم ملك قياصرة الروس فأسس من ذلك العهد الدولة الحاكمة في البلاد إلى الآن، وبذل جهد المستطاع هو وابنه الذي خلفه على الملك في توطيد دعائم الأمن وقطع دابر الفتن من البلاد، فنجح في ذلك وأعاد إلى روسيا شأنها الأول. ولما جاءت سنة 1689 قدر للبلاد أن يتولى أمورها رجل من أعظم رجال الدهر وأكبرهم همة وأوسعهم شهرة، نريد به بطرس المعروف باسم بطرس الكبير في التاريخ، أظهر مقدرة تندر في الرجال، وهو يومئذ فتى في السابعة عشرة من عمره، وجعل همه الأول الوصول إلى البحر الأسود وإنشاء أسطول حربي وتجاري يدور في مينه، فتوصل إلى امتلاك فرضة أزوف وهي على ضفافه بعد عناء كبير، ومن ثم شرع في بناء أسطول يعاونه على ما يريد من الفتح ومهاجمة بلاد الدولة العلية، وكان أهل بلاده إلى ذلك الحين لا يدرون من صناعة السفن شيئا ولا مال في خزينة حكومته يقوم ببناء السفن المطلوبة، ففرض مالا طائلا على أشراف مملكته وخدمة الدين فيها، واستخدم أناسا لجمع ذلك المال ثم سافر متنكرا إلى ممالك أوروبا التي اشتهرت بقوتها البحرية فأقام زمانا في إنكلترا والدنمارك على شواطئ البحار والأنهار يعمل كعامل بسيط فقير في بناء السفن ويتعلم دقائق الصناعة، والناس لا يعرفون من هو فإذا عرفوه انتقل من مكانه وعاد إلى التخفي حتى إذا أتم المراد من ذلك عاد إلى بلاده سنة 1700 واستلم مهام الملك، وبدأ بعمل الأسطول في البحر الأسود، ثم اتفق مع ملك الدنمارك وملك بولونيا على محاربة أسوج واقتسام أملاكها، ولكن أسوج كان لها يومئذ ملك باسل هو كارل الثاني عشر، فرد جموع المهاجمين وفل جنود أعدائه مرارا، ثم حدث ما ذكرناه في تاريخ أسوج وعاد بطرس الكبير إلى مهاجمتها؛ فكسرها شر كسرة في معركة بولتافا سنة 1709، ونتج عن هذه الحرب أن عدة ولايات في الشمال والغرب أضيفت إلى روسيا، وصار لها المواني على بحر البلطيق فعظم شأن روسيا من بعد هذا النصر، ولقب بطرس الكبير إمبراطور روسيا جميعها، وهو لقب القياصرة من آل رومانوف إلى الآن.
وانقطع بطرس الكبير بعد ذلك إلى إصلاح داخلية بلاده، فأدخل إليها النظامات الجديدة المصطلح عليها يومئذ في ممالك أوروبا المتمدنة، وأصلح الجيش وإدارة الأحكام والمحاكم والمالية، وفتح الترع وبنى الجسور والطرق، ووسع نطاق المتاجر وأنشأ المدارس وأبطل امتياز البطاركة الأروام في كنيسة بلاده، فجعل نفسه رئيس الكنيسة الروسية ولم يزل القياصرة رؤساء الدين في بلادهم إلى الآن. وفي سنة 1704 بنى مدينة بطرسبرج وسماها باسم القديس بطرس واسمه وجعلها قاعدة المملكة، ولما مات في سنة 1725 كانت روسيا في عداد الدول العظيمة، مع أنها لم تكن قبل أيامه على مثل هذا.
وورث الملك عن بطرس الكبير امرأته كاترينا الأولى، ملكت عامين ثم ماتت، وخلفها بطرس الثاني حفيد بطرس الكبير، ومات بطرس الثاني سنة 1730 فخلفته الإمبراطورة حنة، وهي ابنة إيفان أخي بطرس الكبير حدث في أيامها حروب كثيرة مع الدولة العلية لم تستفد منها روسيا شيئا، ولما حان أجلها أوصت بالملك لإيفان حفيد أختها كاترينا، وكان إيفان هذا أميرا ألمانيا من آل هانوفر لا يزيد عمره يومئذ عن ستة أشهر، ولكن الجيش الروسي لم يرض به ملكا فخلعه بعد سنة وعين إليصابات إمبراطورة سنة 1741، وهي أصغر بنات بطرس الكبير، وحكمت هذه الإمبراطورة إلى سنة 1762 حين تنازلت عن الملك لابن خالتها أمير هولشتين، وهو أيضا ألماني فرقي العرش وسمي باسم بطرس الثالث، ولكنه أغضب رجال الدين وقواد الجيش ببعض أموره فخلعوه وأقاموا مكانه الأميرة صوفيا أوغستا من آل أنهلت زربست في ألمانيا، فحكمت روسيا باسم الإمبراطورة كاترينا الثانية أو الكبيرة ، وهي ملكة مشهورة في التاريخ بالحروب الكثيرة التي جرت بينها وبين الدولة العلية، وكان الفوز في أكثرها لرجالها، وأضيفت في أيام هذه الإمبراطورة عدة ولايات ومدن إلى روسيا من أملاك الدولة العلية، وفي أيامها أيضا جزئت مملكة بولونيا، وهي التي ملكت روسيا أو بعضها حينا من الدهر، فلما ماتت سنة 1796 كان ملكها عظيما ودولتها قوية ورثها عنها ابنها بولس الأول، وكان مشهورا بقبح الخصال وقبح الوجه، وله أمور لا تنطبق على قياس، وهو الذي سن لائحة تقضي بحرمان النساء حق الملك في روسيا، وكان له ولع خاص بالوقوف أمام المرآة زمانا والتفرج على سحنته، فلما ثقل جوره على الناس تآمر بعضهم عليه وقتلوه سنة 1801، وبذلك بطلت الحرب بين روسيا وإنكلترا التي كاد الإمبراطور يضرمها بسوء تدبيره.
وملك البلاد بعد بولس ابنه إسكندر الأول، وهو من الملوك العظام له شهرة في التاريخ بسبب تحالفه مع نابوليون الأول ومحاربته له بعد التحالف بعد ما كان من طمع نابوليون، وكان هذا الإمبراطور حكيما عادلا تروى عنه المآثر الكثيرة، وهو الذي كان السبب في سحق قوة نابوليون؛ لأنه لما دخل ذلك الفاتح بلاده تمكن من رده وكسر جنوده، ثم دخل باريس مع من دخلها سنة 1812، وقضى بإبعاد نابوليون عنها وكان في آخر أيامه صديقا حميما لدولة الإنكليز، وتوفي إسكندر الأول سنة 1825 فخلفه أخوه نقولا الأول، وكان جبارا عظيم الخلقة شديد القوة يحكي الجبابرة الأول في قوة جسمه وكبره، وله شهرة في البسالة وحب الأثرة لا تفوقها شهرة، وحدثت في أيام هذا الإمبراطور عدة حروب، منها ما كان مع بلاد إيران ونتج عنها استيلاء روسيا على ولاية أروان وما وراء نهر جيجون، ومنها مع الدولة العلية ونتج عنها وضع حماية روسيا على الفلاخ والبغدان (رومانيا الحالية)، وهي يومئذ من أملاك الدولة العلية، ومنها مع بولونيا التي حاولت استرجاع استقلالها فسحقها نقولا سحقا وبطش بقواتها إلى حد أنه أقعدها عن كل حركة قادمة، ومنها مع المجر؛ لأن إمبراطور النمسا استغاث به على قمع ثورتها وردها إلى طاعته، فأعانه وأرسل عليها جيشا جرارا سحق ثورتها وأخضعها إخضاعا تاما.
وظل نقولا الأول على المحاربة والفتح زمانا، وهو لا يكتفي بما وصل إليه، ونفسه الطماعة تتوق إلى المزيد حتى إنه لما ثار محمد علي والي مصر على الدولة العلية وعدها بالمساعدة على شرط أن يكون لدولته الكلمة الأولى في الآستانة فتم له ذلك، ثم أخضع دولة إيران لنفوذه وحملها على إرسال جيش يقوده ضباط روسيون لمهاجمة الهند فردهم الإنكليز على الأعقاب.
وجملة القول أن هذا الإمبراطور العظيم كان جبارا وفعل فعل الجبابرة، وسحق أمما كثيرة لولا فعله لكانت الآن دولا زاهرة، وظل به الطمع إلى أن عول على ابتلاع ممالك الدولة العلية، وأثار عليها حربا عنيفة سنة 1854 تعرف بحرب القرم، ولم يزل خبرها يرن في الآذان، ولما كانت إنكلترا تخشى امتداد صولة الروس وصيرورة المراكز البحرية على البوسفور والبحر المتوسط إلى يدهم جهرت بمضادتهم وانتصرت للدولة العلية، وسعت في ضم غيرها إلى هذا التحالف فانضمت إليها فرنسا ومملكة سردينيا، وتحارب الفريقان زمانا أظهر فيه الروس والأتراك والإنكليز والفرنسويون من أشكال البسالة والإقدام ما تعجز عن وصفه الأقلام، وانتهت حرب القرم بفتح سباستيول، وهي فرضة على البحر الأسود في بلاد القرم التابعة لروسيا كان القيصر نقولا يظن أنها لا تفتحها قوات الإنس والجن، وأن جيشه لا يغلبه جيش في الوجود، فلما انتهى الأمر على غير ما أمل اضطر إلى عقد صلح لم تخسر منه روسيا كثيرا، ولم تستفد الدول الأخرى غير رجوع روسيا عن الفتح زمانا، وضاق صدر القيصر نقولا من هذا الحادث وهو جبار لا تذل نفسه ولا ترضى بغير النصر، فمات بعد الحرب بقليل وخلفه ابنه إسكندر الثاني، ويعده البعض أشرف القياصرة نفسا؛ لأنه حرر الفلاحين في بلاده الواسعة وكان الفلاح الروسي بمنزلة عبد للأشراف، فأبطل ذلك النظام القديم وترك له ذكرا حميدا في تاريخ البشر، وحارب إسكندر الثاني الدولة العلية الحرب الأخيرة المشهورة سنة 1876 فانتصر في أكثر المواقع، وملك بعض الأراضي العثمانية وساعد بلغاريا على الاستقلال، فاسمه مقرون بالاستقلال والحرية في جميع فعاله.
وكان هذا القيصر جميل الوجه، طلق المحيا، شريف الملامح، لم يقم بين ملوك الروس أجمل منه وجها ولا أطيب قلبا، ولكنه بلي في آخر أيامه بفئة التهلست التي قويت وامتدت صولتها وكثر أعوانها، وهم أعداء له وللحكم الاستبدادي، فقتلوه بقنبلة تفرقعت في طريقه سنة 1881، وأسفت أوروبا لفقده أسفا كبيرا، فورثه ابنه إسكندر الثالث، وهو المشهور باسم «بطل السلام»، كان ملكا شريف الخصال طيب القلب سليم النية، كبير الجسم، عظيم القوة، حكم بلاده بالعدل والإنصاف، وعمل على ترقيتها بإنماء موارد الرزق فيها، وتوسيع جوانبها بلا حرب ولا قتال، فعظم شأن روسيا في بلاده وتوددت إليها الممالك، وأبرمت بينها وبين فرنسا محالفة مشهور أمرها، واقترن هذا الإمبراطور قبل أن يرقى العرش بالأميرة داجمار ابنة ملك الدنمارك، وهي أخت ملكة إنكلترا وملك اليونان، فكان يحبها حبا مفرطا، ويعمل برأيها في أكثر الأمور، وقد رزق منها القيصر الحالي وأخاه وبنتين، وتوفي هذا القيصر في 1 نوفمبر سنة 1894.
ورقي عرش القياصرة العظام بعد إسكندر الثالث بكر أنجاله جلالة القيصر الحالي نقولا الثاني، وهو شاب في مقتبل العمر أظهر إلى الآن مقدرة في اختيار الوزراء وحبا للعدل، ورغبة شديدة في ترقية مصالح بلاده، وزادت قوات روسيا في البحر مدة الأعوام الأخيرة، واتسعت متاجرها وقوي نفوذها، وقد جال جلالة القيصر قبل توليه في الشرق والغرب مع أخيه الغراندوق جورج وابن خاله البرنس جورج أمير كريت، ورآه أهل هذه البلاد وسواها، وكان أينما حل يلقى من آيات الاحتفال والتعظيم ما لم يلقه السوى، وحاول رجل في بلاد اليابان أن يقتله فأنقذه البرنس جورج اليوناني، وقد اقترن القيصر بالبرنسيس أليس حفيدة ملكة إنكلترا السابقة، وأحب الحفيدات إليها، وهي ابنة أمير هس درامستات من أمراء ألمانيا، ورزق منها أربع بنات وولد، وهو مشهور بحبه لأهل بيته وأقاربه جميعهم، وقد عرف بحسن الخصال واشتهر في أيامه ارتباطه بفرنسا وزيارته لها وزيارة رئيس الجمهورية وبقية الملوك العظام له، وتعاظم نفوذ روسيا قبل حربها مع اليابان.
وكانت سبب هذه الحرب أنه لما مدت روسيا سكة الحديد من بلادها إلى الشرق الأقصى عظم نفوذها هنالك وتجسمت مصالحها، ولا سيما بعد أن احتلت منشوريا وبدأت بنيل الامتيازات في كوريا، وزادت حصون بورت أرثر زيادة كبرى، كل هذا واليابان ترى أن في تقدم روسيا على هذا المنوال خطرا عليها عظيما؛ لأن تلك البلاد مواجهة لها ومتصلة بها، وهي مورد الأرز الذي يعول عليه اليابانيون في الغذاء، فإذا ملكتها روسيا أصبحت اليابان نفسها تحت تحكم الروس؛ ولذلك جعلت حكومة اليابان تخابر روسيا في الرجوع عن كوريا والوقوف على حد معلوم في منشوريا، فلم تعتد روسيا بها كثيرا؛ لأنها حسبت قوات اليابان دون الصحيح بمراحل، وكان هذا هو الرأي الغالب في العالم المتمدن إلى ذلك الحين، فاضطرت اليابان إلى إضرام نار الحرب قبل إعلانه رسميا حسب عادة الدول، وهجمت بخدعة على مينا بورت أرثر، فأضرت بأسطولها ضررا بالغا وانقضت بوارجها على بارجتين صغيرتين كانتا في ثغور كوريا فأغرقتهما، وعند ذلك هاجت روسيا وطفقت تسير الفيالق البرية عن طريق سيبريا لمواقعة الأعداء، وأرسلت الأميرال مخاروف إلى بورت أرثر ليقود قواتها البحرية، وبدأ السير في حرب كبيرة دامت أكثر من سنة، كان القائد العام فيها لدولة الروس الجنرال كورباتكين الذي تولى وزارة الحرب في بطرسبرج عدة سنين، والقائد العام لليابان الجنرال أوياما، ولكن روسيا لقيت من المتاعب في هذه الحرب شيئا كثيرا؛ لأنه لم يكن لجيوشها طريق إلى الحرب غير سكة الحديد المنشورية ومركزها في خربين يبعد 15 يوما عن عاصمة روسيا على الأقل، هذا غير أن أهل منشوريا كانوا أعداء لروسيا في الحرب، وأن اليابانيين أظهروا علما بتلك البلاد وخبرة بما فيها يفوقان التصديق.
وقد جرت في هذه الحرب عدة معارك بحرية وبرية، فأما البحرية فمنها المعركة الأولى في ثغر بورت أرثر وقد ذكرناها، ومعركة أخرى في شهر مارس من سنة 1905 أصاب فيها بارجة الأميرال مخاروف نسافة أغرقتها، وكان الأميرال المذكور في جملة القتلى، ومنها معركة في 10 أوغسطس من تلك السنة حين حاول أسطول روسيا الإفلات من ثغر بورت أرثر ففقد بعض بوارجه وتعطل البعض الآخر، وكانت آخر المعارك البحرية من المواقع المعدودة في تاريخ الأمم، وهي معركة بحر اليابان حدثت على مقربة من جزيرة تسوشيما حين التقى أسطول البلطيك لروسيا وقائده الأميرال رودجفنسكي بأسطول اليابان وقائده الأميرال توجو؛ فكان انتصار اليابانيين يومئذ عظيما؛ لأن معظم الأسطول الروسي وقع في أيديهم، وأما المعارك البرية فكانت كثيرة، منها معركة نهر يالو عند حدود كوريا ومنشوريا حدثت في أوائل الحرب، ومعركة لياوتنج كانت من المواقع الكبرى والفوز فيها لليابانيين، ومعارك بورت أرثر، وهي مدينة حصنها الروسيون وأقام مائة ألف جندي من اليابانيين على حصارها تحت قيادة الجنرال نوجي نحو عشرة أشهر، ثم سلمت حاميتها حين قطعت الرجاء من وصول المدد إليها، وقد حوكم الجنرال سنوسل قائد حاميتها كما حوكم الأميرال نبوجاتوف الذي سلم في معركة بحر اليابان؛ لأن قوانين روسيا الحربية لا تبيح التسليم للأعداء على أي حال، فصدر أمر المحكمة الحربية بإعدام الرجلين، وأبدل القيصر هذا الحكم بالسجن في قلعة بولس وبطرس المشهورة في بطرسبرج، ثم عفا عنهما مراعاة للسن والصحة بعد 3 سنين.
قلنا إن جيشا قويا من اليابان أقام على محاصرة بورت أرثر حتى اضطرها إلى التسليم، ثم انضم إلى الجيش الكبير الذي كان أوياما قائده في منشوريا فصارت قوة اليابانيين هنالك عظيمة قدرت بنحو 450 ألفا، وتقدمت على أهم مواقع الروس في مكدن، وهي عاصمة منشوريا، فحدثت هنالك معركة ربما كانت أكبر معارك التاريخ الحديث، اشترك فيها نحو مليون محارب من الجانبين، ودامت يومين، ثم رأى القائد الروسي أن البقاء موضعه أصبح مستحيلا؛ نظرا إلى تكاثر قوات الأعداء فأرسل يخبر القيصر بتقهقره مرة أخرى، واستعفى من القيادة العامة فخلفه الجنرال لنيفتش، ولكن الحرب وقفت بعد هذه المعارك الهائلة؛ لأن أمم الأرض بدأت ترى جسامة مصائبها فجعلت تسعى في الصلح، وكان السابق في هذا السعي المستر روزفلت رئيس ولايات أميركا المتحدة سابقا ففاز بالمراد ودعا مندوبي الدولتين إلى بلاده لعقد الصلح، وقد تم الصلح على شروط ، أهمها: أن تعترف روسيا بسيادة اليابان على كوريا وتخلي لها بورت أرثر، وتعيد إلى الصين النصف الجنوبي من منشوريا وتتنازل لليابان عن نصف جزيرة سخالين، ولكنها لم تدفع غرامة حربية وبهذا انتهت أكبر حروب القرن العشرين.
على أن روسيا لم تنته من هذه الحرب حتى وقعت فيما هو شر منها، إذ ثارت في أرجائها القلاقل الداخلية، وقام المطالبون بالدستور وأهل الفوضى على الحكام والسراة فأودوا بكثيرين، أعظمهم الغراندوق سرجيوس عم القيصر قتل في موسكو بقنبلة انفجرت تحت عربته فحطمتها ومزقت الرجل تمزيقا، وألقيت قنبلة في منزل المسيو ستولبين رئيس الوزارة يومئذ، فأودت ببعض الأعوان وجرحت ابنة الوزير وكثير من سواها، وما زال القوم في مطالبة بالدستور ومعظم رؤساء الدين والأشراف يقاومونهم حتى أذعن القيصر لرأي الأمة وعمل بالمشهور عنه من حب الرعية؛ فأمر بإنشاء مجلس نيابي اسمه الدوما وإشراكه مع الحكومة في شئون البلاد، ويبلغ عدد سكان روسيا مائة وخمسين مليونا وهم يزيدون مليونا ونصف مليون من النفوس كل عام، فسيكون لها شأن عظيم في المستقبل.
نقولا الثاني إمبراطور روسيا.
بطرسبرج
تعد اليوم بمليونين من النفوس، وقد أسسها القيصر بطرس الكبير على ما عملت في باب التاريخ، وجعل موقعها على نهر النيفا، وهو يخرج من بحيرة عظيمة اسمها لادوجا على مقربة من المدينة، ويصب في البلطيق عند مدينة كرونستاد.
كانت مدينة موسكو المشهورة عاصمة روسيا حتى قام بطرس الكبير ورأى أن بعدها عن بقية أنحاء أوروبا وعدم اتصالها ببلدان الغرب يضر ببلاده؛ ولهذا انتخب موقع بطرسبرج ودعا إليها العملة ألوفا، فكان يعمل في بناء المدينة نحو 40 ألف عامل مدة أعوام متوالية، والأسوجيون يوالون الهجوم عليه حتى اضطر أن يبني حصونا ترد هجماتهم وتقي العمال شر فعلهم، ولم يزل ذلك الموقع حصينا مشهورا باستحكاماته هو كرونستاد التي مر عنها الكلام.
وبنى بطرس لنفسه كوخا من الخشب في ذلك المكان، وأبدله بعد ذلك بمنزل فخيم على ضفة النيفا، فكان يراقب سير العمال ويرشدهم بنفسه ويدير أمور المملكة من ذلك الموضع، وكلما عسر عليهم أمر فعله بيده حتى إنه ليروى عنه أنه جاءه عامل يشكو من ألم في ضرسه ويرجوه الإذن بالذهاب إلى الطبيب، فقام القيصر واقتلع ذلك الضرس بيده حتى لا يغيب الرجل عن عمله زمانا، ولم يزل الضرس محفوظا في أحد معارض العاصمة دليل اجتهاد هذا القيصر العظيم وكثرة مواهبه، وظل الأسوجيون يهاجمون بطرسبرج إلى أن سحق بطرس الكبير قواتهم في معركة بولتافا، ومن ثم تقدم العمل في بناء المدينة وتنظيمها حتى صارت من المدائن العظيمة، وتقاطر السكان إليها من كل حدب بعيد.
على أن تقاطر الناس للسكن في بطرسبرج لم يكن بغير عناء، فإن أهل موسكو وكييف، وهما العاصمتان القديمتان لروسيا ما زالوا يحنون إلى وطنهم ويذكرون ما فيه من الكنائس والأديرة ومدافن القديسين، وهم أهل تقى وورع مشهور - كما يعلم القارئ - فرأى القيصر أن يحول ميلهم إلى مدينته الجديدة بنقل عظام القديس نفسكي الذي يعتبره المسكوييون وليهم الأكبر من موسكو إلى بطرسبرج، وبنى لهذه العظام كنيسة وديرا عظيمين ومدرسة يتلقى فيها رجال الدين العلوم اللاهوتية، فمالت بعض النفوس إلى الانتقال مع عظام هذا القديس، وكان القيصر يلجأ إلى القوة في بعض الأحيان؛ لنقل العائلات وتعمير العاصمة الجديدة، وحول بطرس بعد موسكو نظره إلى كييف، وهي العاصمة الأولى لروسيا، فيها مدفن القديس إسحق الذي أدخل النصرانية إلى البلاد وكانت يومئذ أشهر مدائن روسيا بمعابدها وأديرتها، فبذل القيصر جهده وبنى للمهاجرين منازل من الحجر، وحظر على كل المدائن الروسية أن تشيد منزلا بالحجر حتى يتم بناء بطرسبرج، وما زال على مثل هذا الجهد حتى عمر المدينة وغادرها حين وفاته وفيها 75000 نفس، ولم يكن هذا بالشيء القليل وقتئذ، ولكن المدينة ظلت على النماء والتقدم حتى إنها الآن من أشهر عواصم الأرض وأكثرها جمالا وفخامة وأعظمها مشاهد وأبدعها نظاما، وهي مقر البيت القيصري والفيلق الأول من الحرس الإمبراطوري ومركز تجارة روسيا من ناحية البلطيق وليس في الأرض مدينة تفوقها في القصور العديدة.
وصلت هذه العاصمة العظيمة عن طريق كرونستاد وتوجهت إلى فندق أوروبا ، وهو من الفنادق الكبيرة يمتاز عما سواه بتوسط مركزه ووقوعه في أشهر الشوارع - أريد به شارع نفسكي الذي سيجيء الكلام عنه - وفيه من أنواع المشاهد ما يعز نظيره، وقد أصبح موضع هذا الفندق محطة لقطر الترامواي وموقفا للعربات الكثيرة؛ نظرا لأهميته يجتمع فيه خلق كثير من السائحين ومن أهل المدينة وضباطها وهم كثار العدد، وقد كان قربه من المتاحف والمشاهد - التي سيرد ذكرها - داعيا كبيرا لتسهيل الرحلة علي ودرس ما في بطرسبرج من آيات العظمة والإتقان، وكان وصولي في مدة الصيف على ما تقدم، والصيف هنالك قصير مدته. ولبطرسبرج هواء وأحوال جوية غريبة؛ فإن هذه المدينة نظرا لتطرفها في الشمال يطول زمان الشتاء فيها ويكثر البرد فتجمد مياهها ويصبح النهر والبحيرة ألواحا من الجليد تسير عليها العربات والجموع، ومعظم القوم يلبسون الفرو الروسي المشهور مدة البرد ويتلثمون بأنواع من القبعات كثيرة، فلا يظهر منهم غير العينين اتقاء للبرد ومضاره، وأما الصيف فإنه قصير الأجل لا يزيد عن 61 يوما في السنة، أعني من 7 يونيو (حزيران) إلى 12 أوغسطس (آب)، ولا يرى الناس في تلك المدة ظلام الليل إلا قليلا؛ لأن النهار يطول والشفق يستمر معظم ساعات الليل، فترى المدينة منيرة والشمس في كبد السماء عند الساعة الثالثة بعد نصف الليل، والناس كلهم نيام لا حركة في المدينة ولا صوت للساكنين كأنما أنت في مدينة خلت من أهلها، ويذهلك ذلك بقدر ما يذهلك ظلام المدينة مدة النهار في أشهر الشتاء، فإن نور الصباح لا يظهر هنالك في فصل البرد إلا قبل الظهر بساعة، ويغيب عند الساعة الثالثة بعد الظهر، فترى المدينة في حركة كبرى وجد كثير، والنواحي كلها منارة بالمصابيح في وسط النهار، وهنا موضع للاستغراب ومزية لمدينة بطرسبرج على بقية العواصم المشهورة.
بطرس الأكبر.
وقد بنيت هذه المدينة على نهر النيفا - كما تقدم - وهو عظيم الاتساع، ولكنه ليس من الأنهر الطويلة، يختلف عرضه ما بين 260 مترا و650 وعمقه من 3 أمتار إلى 16، وهو داخل في العاصمة يقسمها سبعة أقسام، وله فروع وأجزاء يتكون منها جزر تدخل في عداد أحياء المدينة وتجعل لها رونقا وبهاء كبيرين، وقد مدوا في داخل المدينة ترعا كثيرة لا يقل عديدها عن 21 بني فوقها 150 جسرا أو قنطرة بعضها بالحديد والبعض بالحجر، ولكلها نوع جمال ودقة في الصناعة يمر فوقها الألوف مشاة، وتجري العربات وقطر الترامواي، وإذا تجمد الماء من تحت هذه الجسور في الشتاء قل مرور الناس عليها وكثر مشيهم على الجليد حتى إن العربات لتجري فوق ذلك الماء المتجمد ولا خطر عليها من الغرق. وأما بحيرة لادوجا التي يخرج منها هذا النهر العظيم فتعد من أكبر بحيرات أوروبا، مساحتها 18000 كيلومتر مربع، وطولها 200 كيلومتر، وعرضها 158. وهي جميلة المنظر يذهب إليها الناس للنزهة على تلك البواخر الكثيرة التي تروح وتجيء بين بطرسبرج وسواها. ولهذه البواخر تسعة خطوط ينشأ عن السير فيها حركة دائمة تدل إلى أهمية المدينة وعظيم شأنها، وليس يقتصر الأمر على هذه الخطوط البحرية؛ فإن في مدينة بطرسبرج خمس محطات للسكك الحديدية يسافر منها الناس إلى الضواحي وداخلية البلاد، وفيها 21 خطا للترامواي، ترى عرباتها ملأى بالمتنقلين من هنا ومن هنا في كل حين، وهي إذا أضيفت إلى الذي تراه من العربات في هذه المدينة كانت شيئا يفوق الحصر، ولا عجب فإن بطرسبرج مسكن الأمراء الفخام وأهل السعة ورجال الإدارة والأحكام وكبراء المتاجرين وسراة الروسيين.
ولما كانت هذه العاصمة حديثة النشأة وقد بنيت على النظامات الأخيرة، فهي ممتازة بانتظام أكثر شوارعها واتساع طرقها وميادينها وعدم وجود العوج والشذوذ في دروبها، ويمكن أن يجتمع في ميدان واحد من ميادينها الكثيرة مائة ألف نفس، وقد ساعدها على كل هذا وجودها في أرض منبسطة، واتساع المجال من ورائها، فأهلها ليسوا في حاجة إلى الحفر والردم ولا إبدال الأسوار القديمة والحصون بالطرق والمتنزهات كما فعل غيرهم في مثل فيينا وبرلين وباريس، إذا أرادوا التوسع في دائرة المدينة فعندهم أرض للضواحي عريضة طويلة من كل جانب، فلا عجب بعد هذا إذا اشتهرت بشوارع عظيمة فيها مثل شارع نفسكي الذي تقدم ذكره؛ لأنه أكبر ما في هذه العاصمة من الطرق المعروفة، طوله نحو خمسة آلاف متر، وهو يمتد في قلب المدينة من الشرق إلى الغرب، وفيه القصور الباذخة والمباني العمومية والكنائس الفاخرة والفنادق والمراسح والمخازن مملوءة بأنفس السلع وأجود الأبضعة، فالناس ينتابون جوانبه ألوفا مؤلفة في كل حين، ويتنقلون في الشوارع التي تتفرع منه لقضاء الحاجات الكثيرة، وهنالك يحلو التمشي للزائر؛ لأنه يرى عاصمة الروس بأبهى مظاهرها وجميع ما تحوي من أنواع الساكنين، هنالك يرى الزائر العربات صفوفا صفوفا تجرها الخيل الروسية المشهورة بكبر الخلقة وجمال المناظر، ولا مثيل لها في خدمة العربات؛ فهي يشتريها الناس لهذا الغرض من روسيا لجميع الأقطار، ومعظم الجياد الكبيرة التي تدق الأرض دقا ولوقع حوافرها رنة وطنين يأتي بها التجار من تلك البلاد. ويكثر أن تمر هنالك عربات الأمراء العظام من آل رومانوف وهم أصحاب الحكم في الدولة الروسية لهم أملاك في هذا الشارع كثيرة، وعدد البيوت التي يسكنونها لا يقل عن مائة في بطرسبرج وضواحيها؛ لأنهم عائلة كبيرة ولأكثرهم قصور منيفة ولهم رواتب من الدولة وأراض فسيحة تدر المال الوفير، فإذا مرت عرباتهم في مثل شارع نفسكي وغيره عرفها الناس من ملابس الساقة والخادمين؛ لأنها حمراء مزركشة بالقصب تحكي ملابس الغلمان الذين يقفون في خدمة العربات الخديوية في حفلات التشريفة الكبرى، والناس إذا مر بهم واحد من أعضاء العائلة القيصرية أبدوا الاحترام الكثير؛ لأن هذه العائلة العظيمة رفعت بلادهم إلى أوج العظمة، وامتاز أفرادها بعلو النفس وكرم الأخلاق وسمو التربية حتى إنه ليس في أوروبا كلها أمراء يمتازون عن أمراء الروس في حسن تربيتهم وعلو آدابهم وتمسكهم بالدين والفضائل.
وليس يقتصر الأمر على عربات الأمراء والسراة وأهل اليسار في شارع نفسكي؛ فإن عربات الأجرة المعروفة لا يقل عددها في تلك العاصمة عن 24 ألفا، وفيها فوق ذلك من أشكال الأمنبوس والترامواي ما يعسر عده، هذا غير أن الذين يخطرون في هذا الشارع لهم مناظر جميلة مختلفة الأنواع، ومن أهم أنواعهم الضباط من جيش روسيا وأساطيلها، وهم يلبسون الملابس الفاخرة تختلف ألوانها باختلاف الآليات التي يختصون بها، ويغلب بينها اللون الأخضر الزيتي، والقبعة السوداء تحكي الفرو في شكلها، وهي تقرب من طرابيش الجراكسة في الجيش العثماني، وأما ملابس رجال الحرس القيصري فتبهر الأنظار بجمالها وكثرة زخارفها؛ لأنها تكاد تكون من القصب والذهب، ومن فوقها خوذة صفراء تسطع وتلمع، وقد وضع في أعلاها تاج صغير مطلي بالذهب وفوقه صليب من الفضة، فلا تشبع العين من النظر إلى هذه الجنود وضباطها، وهم كثار يخطرون أو يمرون على ظهور الجياد فيستوقف منظرهم الأبصار، ولا حاجة إلى القول إن الجيش الروسي يمتاز بغير هذه الملابس وله شهرة في البسالة والقوة لا تزيد عنها شهرة، وقد تفردت هذه الدولة العظيمة بزيادة عدد الجنود الواقفة تحت السلاح في أرجائها الواسعة؛ فهي مجندة الآن نحو مليون جندي، وفي وقت الحرب لا يعسر عليها أن تجند عدة ملايين من الرجال.
ويزيد منظر هذا الشارع جمالا أن تلامذة المدارس الروسية يمرون فيه، والعادة عندهم أن التلامذة يلبسون بذلا تقرب من البذل العسكرية، سواء كانوا من تلامذة المدارس الحربية أو سواها، ولكل مدرسة نوع من البذل فإذا مرت بك فرقة من طلبة العلم حسبتها نفرا من الجند، وليس في بقية العواصم الأوروبية مثل هذا النظام، هذا غير أن عمال الحكومة ومستخدميها الملكيين يلبسون أيضا أنواعا معلومة من البذل، لكل مصلحة أو نظارة نوع خاص بها، وقد اقتدت المصارف الكبرى والمحلات التجارية الواسعة بمصالح الحكومة؛ فجعلت تميز عمالها ببذل خاصة بهم، فكيفما اتجهت في عاصمة الروس رأيت أناسا يلبسون نوعا لا يلبسه سواهم، وزادت لذة التفرج على المارة في شوارع بطرسبرج بسبب هذا التنوع في الملابس والتفنن الذي يجهل الغريب سره، وأما الواقف على الحقيقة فيمكن له أن يعرف كل من مر به ببذلة غير معتادة في أية المصالح هو، وهذا أيضا تمتاز به بطرسبرج لا يقرب منه في المدائن الأوروبية الأخرى إلا أن يكون امتياز عمال البريد والتلغراف بالملابس الخاصة.
ويرى المتأمل في هذا الشارع أيضا عامة الروس وفلاحيهم يأتون من القرى والضواحي بهيئتهم المعروفة فيزيدون منظر المدينة غرابة، والفلاح الروسي يعرف بصفرة فوق بياض الوجه، وقصر في القامة مع شيء من السمن، ولحية كثير شعرها ورأس كبير، يلبس الجبة الكبيرة وحولها منطقة من الجلد وحذاء طويلا يصل إلى الركبتين فيفيده في السير على الجليد وخوض السواقي الكثيرة، وقبعة من الصوف أو الفرو تشبه الطربوش الجركسي، وهو من أبسط الخلق حالا وأطيبهم قلبا وأكثرهم ورعا وتعبدا، فقل أن تلقى في الأرض رجلا يتمسك بدينه ويحترم رؤساء ملته مثل الفلاح الروسي، ولما كان القيصر رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في بلاده فالناس هنالك والفلاحون - بنوع أخص - يحترمونه ويحبونه حب الرجل البسيط لمولاه ورئيس دينه، وهذا سر عظمة القياصرة الروسيين وسبب صولتهم العجيبة ونفوذهم الغريب. هنالك نرى أيضا النساء الفلاحات وهن عنوان صحة الجسم وبساطة القلب يرتدين جلبابا بسيطا من الشيت الأحمر، ويعتصبن بمنديل أحمر فيشبهن نسوة الشام في القرى منظرا، وهن يأتين مع الأزواج لبيع الحاصلات في العاصمة أو لمشترى الحاجات، ويدرن في هذا الشارع حاملات صررا من الملابس والزاد، وهنالك ترى باعة الطعام يدورون به منادين بلذته ومحاسنه وآخرين يبيعون الأحذية أو لعب الأولاد، وفي بدء كل شارع قوم يبيعون الشاي، وللروس ولع بشرب الشاي - كما تعلم - فهم والإنكليز سواء في استعماله، غير أن الإنكليز يشربون الشاي مع اللبن، والروس يؤثرون شربه بسيطا أو مع قليل من عصير الليمون، هذه كلها مناظر تعرض لك في شارع نفسكي إذا ما زرته فتمثل لك حال الدولة الروسية بكل فروعها، وتريك الفلاح البسيط الحقير والأمير النبيل الكبير، وتبسط أمامك درجات الحياة الروسية كلها فتغنيك عن السياحة في داخلية البلاد، وقل أن تجد مثل هذه الأشكال المتنوعة في قلب مدينة عظيمة أوروبية إلا أن يكون في الآستانة العلية، وهي مشهورة بكثرة الأجناس التي ترى فيها، والقاهرة وهي عاصمة قطر جمع ما بين أهل الغرب والشرق والشمال والجنوب، فترى هنا الأوروبي والأميركي في شوارع مصر يمشي وإلى جانبه أسود الوجه من سنار أو دارفور، وقليل مثل هذا في عواصم الأوروبيين.
والذي يقف في هذا الشارع العظيم يمكنه الوصول منه إلى كثير من مشاهد بطرسبرج المشهورة، من ذلك كنيسة كازان (العذراء) الكاتدرائية، ولها شهرة ذائعة في الخافقين؛ فإنها قائمة على 132 عمودا ضخما من الرخام تشبه عمد كنيسة القديس بطرس في رومة، وقد بنيت على النسق الكورنثي، وهو الذي تحيط به أعمدة كهذه، ولها قبة من النحاس الأصفر قطرها عشرون مترا، وقد طليت بالذهب فكأنما هي ذهب خالص بما تشع من الأنوار، وما يظهر لها من الجمال الساحر للأنظار، والقبة هذه قائمة على عمد عددها ستة وخمسون، قوائمها وتيجانها من النحاس الأصفر المغشي بالذهب أيضا، وفي جدرانها أعلام غنمها الروس في حروبهم الكثيرة مع الأتراك والنمسويين والألمان والفرنسيس والإيرانيين، وإلى جانب هذه الأعلام مفاتيح المدن التي دخلها جيش الروس عنوة وضعت كلها تذكارا لفعال الأبطال الذين غنموها، وعنوانا على فخر الأمة بجيشها الباسل، وأما هيكل الكنيسة وأيقونسطاسها فقد صنعا من الفضة الخالصة، وفي الكنيسة صور للعذراء كثيرة ورسوم أخرى دينية، ولم يقتصر الروسيون على تحلية هذه الأيقونات بالفضة والذهب بل هم رصعوها بحجارة الألماس الكبيرة (برلانتي)، وهذا إتقان خاص بالروسيين دون سواهم.
وفي هذا الشارع بعد الكنيسة المذكورة المكتبة القيصرية المشهورة، وهي من أعظم مكاتب الأرض في كثرة المجلدات إن لم تكن أعظمها، فيها نحو مليون وستمائة ألف كتاب مطبوع، وأكثر من أربعين ألف كتاب بخط اليد، وثمانون ألف رسم متقن لجوانب الأرض، وكل هذه النفائس الثمينة في خدمة الذين يطلبون العلم من أهل البلاد وساكنيها، وبناء المكتبة واسع فخيم له طبقتان، وقد قسم أقساما جمة: بعضها للكتب الدينية والبعض للكتب الفلسفية أو الطبية أو الرياضية أو غير هذا من مواضيع العلم والمعرفة، وقد رأيت فيها كتبا عربية قديمة العهد، منها ما كتب بخط اليد، ومنها ما هو مطبوع، وتوراة يونانية من الجيل الخامس وجدها الأستاذ تشندورف في دير طور سينا، وفي المكتبة أيضا معرض لأدوات الكتابة من أول أمرها إلى الآن ، وأول كتاب روسي طبع في هذه السلطنة، وغير ذلك من التحف التي لا تعد، وقد أسس هذه المكتبة العظيمة القيصر بطرس الكبير وعنيت القيصرة كاترينا بتحسينها من بعده، فأنت كيفما سرت في أنحاء المكتبة ترى رسوم هذا القيصر وهذه القيصرة؛ إقرارا بفضلهما وإحياء لذكر مآثرهما.
وإلى جانب المكتبة هذه حديقة مشهورة في بطرسبرج تعرف باسم حديقة ألكساندرة، أنشأها القيصر إسكندر الثاني وجعلها تذكارا لكاترينا الثانية، وهي أعظم القياصرة بعد بطرس الكبير، وقد نصب فيها تمثال هذه القيصرة في عنقها وسام القديس أندراوس أقدم وسامات الدولة الروسية، وفي يمينها صولجان الملك، وفي اليسار تاج ومن حولها تماثيل الرجال الذين اشتهروا بخدمة الدولة الروسية في أيامها سواء في الحرب أو في السياسة أو في العلم والصناعة، وكل ذلك صنع على أجمل نظام، وبين أغراس وأزهار بهية وطرق نظيفة مرصوصة بالحصى تزيد منظر تلك الحديقة رونقا وبهاء.
وفي آخر هذه الحديقة مرسح ألكساندرة، وهو من المراسح الكبيرة قائم على عمد كورنثية وله قاعة من داخله تضم ألفي سامع للتمثيل، وللروس ميل إلى الروايات الفرنسية، فهم يستحضرون الأجواق الكبيرة من فرنسا ويدفعون إليها المال الطائل فوق الذي تمدهم به الحكومة من الصلات، وليس يقتصر حب الروسيين على الروايات الفرنسية، بل هم مغرمون بآداب اللغة الفرنسية كلها، وأهل الطبقة العليا منهم يتكلمون هذه اللغة كما يتكلمها أصحابها، وهم يستعملونها في بيوتهم ومع صحبهم وخلانهم كأنما هي لغة أجدادهم ويقرءون المؤلفات الفرنسية كما يقرأها أهل فرنسا، ويؤلف كثيرون منهم بهذه اللغة فلا يجهلها غير الفلاحين والخدمة من الروسيين، وقد تأصل فيهم هذا الميل من عهد بطرس الكبير الذي استعان بأساتذة من الفرنسيس على تمدين بلاده وزاد من جيل إلى جيل.
وفي هذا الشارع قصور عديدة للأمراء والسراة لا يستفيد القارئ من عدها، وأشهرها قصر نقولاي كان جلالة القيصر الحالي يقيم فيه مدة كان ولي العهد، وينتهي هذا الشارع بدير نفسكي الشهير، وهو مقام رئيس الأساقفة وأعظم أديرة روسيا شهرة وثروة يعد أحد الأديرة القيصرية، وهي ستة : منها ثلاثة في روسيا، أولها دير نفسكي هذا والثاني في ترويستا والثالث في كييف، وثلاثة في الخارج هي، دير طور سينا ودير أورشليم ودير أثوس عند مدخل الدردنيل في بلاد الدولة العلية، ودير نفسكي هذا مبني على شكل حصن عظيم تحيط به الخنادق والأسوار القوية، وهو أغنى أديرة روسيا بما له من الأوقاف وما فيه من الكنوز والذخائر، بدأ به بطرس الكبير على مثل ما تقدم ووهبته الإمبراطورة إليصابات سنة 1752 ما استخرج من الفضة مدة سنة كاملة من مناجم روسيا التي اكتشفوها وقتئذ، فبلغ ذلك 1800 كيلو، وأهديت إليه هدايا لا حصر لها ولقيمتها، فزينت كنيسته بالذهب في أكثر جوانبها وعلقت فيها الأيقونات الثمينة المرصعة وملئت جوانبها بالمصابيح الفاخرة والنقوش البديعة، حتى إن منظر هذه الكنيسة في داخل الدير ليعد من أجمل ما تراه العين، وإلى يمين الكنيسة قبر القديس نفسكي الذي نقله بطرس الكبير من موسكو، وقد صنع القبر من الفضة الخالصة، وفوقه إنجيل مغشى بالفضة وصليب من الذهب وأمامه شمعدانان كبيران من الفضة هبة القيصر إسكندر الأول، وتحف أخرى لا محل لذكرها، وعيد هذا القديس من الأيام المشهورة في روسيا تقام له صلوات ويحضر القيصر بنفسه صلاة العيد في كنيسة هذا الدير، وأكثر الأحيان يتناول الغداء مع رئيس الأساقفة بعد الصلاة في منزله الكائن داخل سور هذا الدير العظيم. وفي فناء الكنيسة مدافن لبعض أمراء الأسرة القيصرية وأشراف الدولة الروسية وهو- بوجه الجملة - من المشاهد العظيمة في هذه العاصمة.
على أن الذي مر كله لا يذكر في جنب القصر الشتوي المشهور وما له من الأهمية الكبرى في مدينة بطرسبرج؛ فإن الواقف في الميدان المتسع أمام هذا القصر الباذخ يرى أعظم المساكن القيصرية، ويرى متحف أرمتاج وقصر أركان الحرب ونظارة الخارجية ودار وزارة البحر وندوة الأعيان والمجمع المقدس، وكلها تشرف على نهر النيفا حيث بني رصيف عظيم إلى جوانبه سفارات الدول الكبرى وقصور الأمراء العظام حتى أصبحت تلك البقعة مركز روسيا وقلبها ونقطة السؤدد والفخامة فيها، فليس يخفى أن حكومة روسيا مطلقة غير مقيدة، وللقيصر في أمورها القول الفصل، غير أن جلالته يعمل في مهام الدولة برأي مجلس الأعيان، وهو مركب من وزراء البلاد وكبرائها وأصحاب الشأن الخطير فيها وبرأي الدوما أيضا أو مجلس النواب، والمجمع المقدس يفصل في الأمور الدينية كلها وله رأي في المسائل الإدارية الكبرى أيضا يرأسه القيصر كما أنه يرأس مجلس الأعيان، فلا عجب إذا قلنا إن القوة والعظمة في روسيا تنحصران في تلك البقعة التي بني فيها القصر الشتوي وما ذكرنا من القصور الأخرى.
ولطالما سمعت بشمم هذا القصر وبدائع صنعه وتاقت النفس مني إلى رؤيته، فأوصيت الدليل بعد استقراري في عاصمة الروس أن يأخذني إليه، فقام بالأمر وجاء في أحد الأيام بإذن يمكن لنا به دخول القصر، وهو ذات أبواب ومداخل عدة، منها ما خص بآل البيت القيصري، ومنها ما أعد لسفراء الدول، ومنها باب لوزراء الدولة الروسية وقوادها يدخلون لقضاء المهام وتلقي الأوامر العالية، ومنها باب لعامة الناس والسائحين دخلناه والهيبة ملء الفؤاد لما رأينا من عظمة البناء في خارجه، فإن هذا القصر واسع عظيم الهيئة له أربع طبقات بنيت كلها على عمد متناسقة من الرخام وفوق عمده ونوافذه وأبوابه آيات من النقش والزخارف وضعت على نسق ترتاح لمرآه النفس، ويحدث بعظمة البانين وبالمال الطائل الذي أنفق على تشييد مثل هذا البناء العظيم، وارتقينا من ذلك الباب سلما عريض الذرى صنعت كلها من الرخام الأبيض النقي حتى انتهينا إلى بهو عظيم يعرف بقاعة إسكندر، وهي قاعة فسيحة عظيمة قامت على عمد من الرخام يتوج كل عمود منها نقش دقيق، وقد أعدت من عهد بعيد لذكر مجد الدولة الروسية في الحروب، وإحياء الذكر لأبطالها وقوادها المشهورين؛ ففيها 250 صورة محكمة الصنع تمثل أولئك القواد من أيام القيصرة كاترينا الثانية إلى هذا العهد، وهنالك يستقبل القيصر أمراء البحر وقواد الكتائب من رجال أسطوله وجيشه، فيرى القادم صورة أولئك الرجال وصورا أخرى تمثل بعض الحوادث العظيمة مثل دخول الروس مدينة برلين سنة 1760 وباريس سنة 1812، وحصار وارنا سنة 1828 واستيلائهم على أرضروم سنة 1825 وغير هذا من الحوادث التي يفخر الروس بمثلها، وفي صدر هذه الرسوم كلها رسم بطرس الكبير بقده الطبيعي وضع في برواز غالي الثمن، وكل ذلك يذكر الرائي بمجد الأمة الروسية وفعال أبطالها في الحروب.
وقاعات هذا القصر العظيم أكثر من أن تعد هنا، ولا مجال لوصف شيء منها غير القليل، أذكر منها قاعة ألكساندرة كلها بيضاء مذهبة لمنظرها تأثير يفرح النفوس وينعش الصدور، وقد زاد بهاؤها في أن أدوات النور من الشمعدانات والثريات فيها صنعت من اللازورد الغالي الثمن، ومقاعدها وكراسيها محلاة بالذهب الوهاج وملبسة بالحرير الأبيض من أحسن أنواعه، وتليها قاعة بطرس الكبير وهي حمراء اللون كسيت جدرانها ومقاعدها بالمخمل الأحمر، وفيها رسم هذا القيصر العظيم تحيط به الملائكة وشعار الدولة الروسية صنعت بماء الذهب، ولها منظر فائق الجمال، وفي صدر هذه القاعة عرش القياصرة، وهو مقعد كبير من الذهب مرصع بالحجارة الكريمة لا يقعد فيه القيصر إلا مرة أو مرتين في العمر، وقد اعتاد القياصرة في المدة الأخيرة استقبال سفراء الدول في هذه القاعة يوم رأس السنة، وهو الاستقبال الذي يقول فيه القيصر شيئا عن سياسة الدول ويرن صداه في كل الأقطار.
ومن هذه القاعات العجيبة قاعة القديس جورجيوس قائمة على عمد من الرخام بديعة، وفيها الثريات والمصابيح العديدة، وهم يحتفلون بعيد هذا القديس في القاعة المذكورة كل عام، وقاعة الرقص كلها زخارف ومراء نقية، وهي قائمة على ستين عمودا مذهبة القواعد والرءوس، ولها أرض من خشب الورد المصقول يحكي المعدن اللماع في صقلته، وقاعة الطعام يمكن أن يتناول الطعام فيها 300 نفس، وفيها خزائن وضعت ضمنها الآنية الفاخرة من الصيني النادر المثال والبلور الثمين والأشياء المصنوعة من الفضة والذهب، وفي جملتها ممالح أهديت إلى قياصرة الروس من الأمراء الخاضعين لهم ولم يزل القياصرة يقتبلون يوم تتويجهم خبزا وملحا من رعاياهم علامة الخضوع، وهي عادة قديمة تمسكوا بها، ومن طبعهم الاحتفاظ بالقديم والنفور من التغيير السريع.
ودخلت بعد هذا قاعة كان القيصر إسكندر الثاني الذي قتله النهلست يتناول الطعام فيها، وعلمت يومئذ قصة يعدها بعض الروسيين من غرائب العناية الإلهية بذلك القيصر، فإن النهلست - وهم فئة من أهل البلاد يكرهون العائلة المالكة وحكمها ويكيدون لها المكايد - قصدوا قتل إسكندر الثاني بنسف هذه الغرفة بالديناميت مدة وجوده فيها، ونجحوا في أمرهم إلى حد أنهم وضعوا الديناميت تحت أساسات الغرفة التي يقيم فيها الحرس، وهي واقعة تحت غرفة الطعام التي نحن في شأنها فنسفت غرفة الحرس وقتل من هؤلاء الخدام الأمناء سبعة عشر رجلا، والغرفة التي كان جلالته فيها تهدمت برمتها وتحطم كل ما فيها، ولم يسلم من هذا الهول إلا شخص القيصر، فكان ذلك داعيا للاستغراب والشكر الكثير، ولكن هؤلاء الأشرار ما زالوا يعملون على الإيقاع بإسكندر الثاني حتى قتلوه في الطريق يوما خرج فيه لزيارة شقيقته، وكان من عادته الاشتغال في غرفة بهذا القصر بسيطة الرياش والأدوات فأبقوها على حالها إلى الآن ودخلتها فإذا بالمنضدة التي كان يجلس إليها وعليها أوراقه كما تركها يوم اغتياله وكرسي من الخشب له مقعد من الجلد يدور مع القاعد كيفما أراد، وقد وضع أمام المنضدة ووجهه إلى ناحية الباب كما تركه صاحبه ساعة خروجه، وهنالك شمعتان ذاب نصفهما وسيجارة أشعل طرفها وورقة بدأ القيصر بالكتابة عليها ولم يكملها، والكل في حالة تمثل لك إسكندر الثاني كأنما هو باق إلى اليوم وقد خرج وترك غرفته على هذه الحالة ليعود إليها بعد حين.
وقصدت بعد ذلك الحمام التركي في داخل القصر، وهو على شاكلة الحمامات الشرقية التي يكثرون من بناء مثلها في أوروبا ويطلقون عليها اسم الحمامات التركية، فرأيت على بابه أشعارا تركية وستاير عليها كتابات بمعنى نعيما وهنيئا، والحمام كله آية في الإتقان والجمال، بني أكثره من الرخام الأبيض الثمين.
والعائلة القيصرية قدوة للأمة الروسية كلها في الورع والتدين، فلا يفوت أفرادها حفلة عامة للصلاة، ولها تمسك بالدين الأرثوذكسي مشهور، حتى إن أمراء الروس لا يجوز لهم الاقتران بأميرة غير أرثوذكسية ولا بد للأميرة الأجنبية من اعتناق المذهب الأرثوذكسي قبل الاقتران بواحد منهم، وهذا الذي جرى لجلالة القيصرة الحالية والقيصرة الأخيرة وكثيرات غيرهما، ولما كانت هذه منزلة العبادة عندهم فهم أقاموا في داخل القصر الشتوي الذي نحن في شأنه كنيسة بنيت على اسم العذراء، تقام فيها صلوات عامة في بعض المواسم والأعياد الكبرى، وقد وضعوا على باب هيكلها صورة للعذراء ثمينة مرصعة بالألماس والياقوت والزمرد، وبعض هذه الحجارة يساوي ألوفا من المال، وهنالك خزانة غالية الثمن وضعت فيها عظام يقولون إنها بعض عظام مار يوحنا المعمدان ومريم المجدلية، وقد أرسلت الصورة والعظام إلى قياصرة الروس من فرسان مالطة المشهورين اعترافا منهم بفضل القياصرة على أهل النصرانية عامة، ويحتفل في هذه الكنيسة بقداس عظيم يوم عيد الغطاس من كل سنة، يحضره القيصر وأمراء البيت القيصري وكبراء السلطنة ورؤساء الدين وقواد البر والبحر، وبعد الصلاة يسير القيصر في جمع غفير من الشعب ورجال الحرس الإمبراطوري إلى نهر النيفا وتنصب فوق الجليد مظلة كبيرة يحتفلون تحتها بصلاة يحمل فيها رئيس الأساقفة صليبا يغطسه في الماء المصلى فوقه، ويرش به القيصر وأعضاء عائلته وبقية الحاضرين، ثم يأخذ كل واحد شيئا من ذلك الماء المصلى فوقه في زجاجة ويبقيه في بيته للتبرك، وقد رأيت منه زجاجة في غرفة القيصر نقولا الأول باقية في هذا القصر من أيام الإمبراطور المذكور.
وأجمل ما في هذا القصر العظيم وأثمنه قسم منه خصص لجواهر القياصرة ونفائس التحف النادرة المثال، وقد وضعت هذه المجوهرات الثمينة في غرفة متينة أبوابها من حديد، يقوم بحراستها اثنان من ضباط الحرس الإمبراطوري، فإذا أذن لأحد الناس بالدخول إليها دخل معه الضابطان وأوصدا من ورائه الأبواب، فيرى من غالي الحجارة الثمينة ما يبهر الأنظار ويسحر الأفكار، في جملة ذلك حجر من الألماس عظيم القدر والقيمة قيل إنه كان في عين معبود للهنود في مدينة دلهي اسمه المغول الكبير، وكان في العين الثانية الحجر المشهور باسم «كوه نور» أي جبل النور، وهو الآن في حوزة الدولة الإنكليزية والحجران من أثمن جواهر الأرض طرا وأعظمها جمالا، ويقال في كيفية وصول ذلك الحجر إلى قياصرة الروس إن هنديا سرقه من عين الصنم وفر به إلى مدينة مالابار في جنوبي الهند، فلقيه ربان لسفينة بورتغالية واشترى الألماسة منه بألفي جنيه، ولما عاد إلى أوروبا باعها لتاجر إسرائيلي باثني عشر ألف جنيه، وباعها التاجر لصائغ أرمني في مدينة أمستردام بهولاندا، وهي مشهورة من قدم بصناعة الألماس وطرائق قطعه ونحته وصقله، وكان هذا الصائغ الأرمني روسي التبعة اسمه لازاريف فعرف بالأمر الكونت أورلوف وهو يومئذ من كبراء الدولة الروسية وأصحاب الثروة الطائلة فيها، فاستقدم إليه الصائغ واشترى الجوهرة منه بنصف مليون ريال روسي، ومعاش سنوي لذرية البائع مقداره ألفا ريال، ثم حمل الكونت ذلك الحجر إلى القيصرة كاترينا الثانية وقدمه هدية لها ووزنه 158 قيراطا، فهو من أكبر الجواهر حجما ووزنا، وللحجر الآخر الذي كان في عين الصنم بدلهي قصة أخرى تحكي هذه؛ فإن الفاتحين من ملوك إيران، مثل نادر شاه ومحمود الغزني استولوا عليه مدة ثم عاد إلى قبضة سلاطين دلهي حتى أتيح للإنكليز دخول الهند والاستيلاء على بعض خزائنها، فكان هذا الحجر الثمين أكبر ما أحرزوا من الجواهر وأعظمها فأرسلوه إلى أمستردام ليضلع ويقطع، وكان الأمير الهندي دوليب سنغ الذي أخذ هذا الحجر من خزائنه بعد أن طرده الإنكليز من مملكته لا يتحسر على شيء قدر تحسره على تلك الجوهرة الثمينة، واشتهر هذا الأمير بالتجائه إلى روسيا وعمل الدسائس الكثيرة ضد إنكلترا، فلما أخفق سعيه ورأى أن الحكمة في التسليم للقوة طلب الصفح من الملكة فكتوريا؛ فصدر أمرها بالعفو عنه، ولما جاء لمقابلتها بعد العفو قال لها: إني أرجو جلالتك في أمر صغير؟ قالت: ما هو؟ قال: أن تسمحي لي بنظرة من كوه النور أو هي تلك الألماسة العظيمة فإني أشتاق لرؤيتها أكثر من شوقي لرؤية الوطن والخلان؛ فأمرت الملكة بإحضار الجوهرة وقدمتها إليه فأخذها بيده وجعل يقلبها ويعجب بباهر نورها، ثم ردها إلى الملكة قائلا: إني بكل احترام أقدم هذه الهدية العظيمة إلى إمبراطورة الهند وملكتي المعظمة، فقبلتها الملكة باسمة شاكرة وانصرف الرجل، وابن هذا الأمير الهندي اسمه البرنس فكتور دوليب سنغ ربي في إنكلترا واقترن بابنة اللورد كوفنتري أحد أشراف الإنكليز من عهد غير بعيد.
على أننا في حكاية الجواهر التي رأيناها في خزائن القصر الشتوي العظيم، فمنها أيضا تاج قيصري صنع سنة 1762 وتوجت به الإمبراطورة كاترينا الثانية، في أعلاه صليب مرصع بحجارة الألماس النقي كبيرة بحجم البندق، والنور يسطع منها شعاعا شعاعا، وقد وضع هذا الصليب فوق ياقوتة حمراء كبيرة فاخرة يحيط بها 11 حجرا من الألماس النقي، وعند حافة التاج مما يلي الجبين لؤلؤة عظيمة المقدار يحيط بها 26 حجرا من الألماس، وفيه جواهر أخرى نسقت تنسيقا بديعا حتى أصبح ذلك التاج مجموع جواهر كأنما هي مصابيح تتوقد أنوارها وجمالها يفوق الوصف، ولا عجب فإن ثمن هذا التاج الغريب خمسة ملايين ريال، وقليل بين تيجان الملوك ما كان مثله، وفي جملة هذه المجوهرات كرة من الذهب الخالص تمثل الكرة الأرضية فوقها صليب مرصع بأثمن الجواهر يحملها القياصرة في اليسار يوم تتويجهم كما يحملون صولجان الملك في اليمين، وهذا الصولجان من الذهب الخالص يبلغ طوله 3 أقدام، وفيه 268 حجرا من الألماس و360 من الياقوت و15 من الزمرد، هذا غير المجوهرات والحلي والحجارة الأخرى التي اشتراها أمراء الروس وقياصرتهم أو أهديت إليهم، وهي محفوظة في هذا القسم الثمين من القصر الشتوي الذي لا يفوقه قصر في أوروبا كلها في جمال متاحفه وكثرة كنوزه وفخامة بنائه واتساع قاعاته وبدائعه الأخرى.
وقد أطلت المقال في وصف هذا القصر، وصرت أخشى أن يعتري القارئ الملال، ولولا ذلك لأسهبت في وصف حديقته الغريبة، وهي في الطبقة الثانية من البناء وفي ذلك غرابة لا تخفى، يكفي أن يقال إني قضيت هنالك ثلاث ساعات متواليات أتنقل من غرفة إلى غرفة فلا أرى شيئا إلا قلت هو أبدع ما نظرت من نوعه، حتى إذا بصرت بغيره زدت إعجابا فوق إعجابي الكثير، وما خرجت من ذلك القصر الفخيم إلا وفي النفس رهبة لعظمة القياصرة وطرب بجمال ما رسخ في الذهن من المناظر الشائقة وإعجاب بما وصلت إليه يد الصناعة الدقيقة، وما تمكن سادة هذه السلطنة من جمعه في تلك القاعات، وهو شيء يعجز عن مثله كبار الملوك وتقصر عن امتلاك بعضه الدول الكبيرة، كل هذا وهم يقولون لك إن بين قصور القياصرة ما هو أعظم من هذا وأفخم، مثل قصر بترهوف وقصر تسارسكوي سيلو مما سنعود إلى ذكره.
وإلى جانب القصر الشتوي متحف للصور عظيم يعرف باسم أرمتاج وهو بناء فخيم ملتصق بالقصر المار ذكره طوله 156 مترا وعرضه 113، وجهته الشمالية تشرف على نهر النيفا، والجنوبية تطل على ميدان القيصر، دخلنا هذا المتحف من باب قائم على عمد من الرخام عدتها ستة عشر، والبناء كله فيه من هذه العمد الجميلة مائة وأربعة، وهو مشهور من قدم، عني قياصرة الروس بأمره واحدا بعد واحد، وأحضروا إليه أثمن ما أمكن لهم امتلاكه من الصور البديعة حتى بلغ عدد رسومه الآن 2000 صورة من صنع أشهر المصورين في أوروبا، أنفق عليها مال طائل، من ذلك أن كاترينا الثانية وهي مؤسسة هذا المتحف اشترت سنة 1763 مجموع صور من تاجر ألماني عددها 317 ودفعت ثمنها مائتي ألف ريال، وكان الرجل قد جمع هذه الصور ليبيعها لفريدريك الكبير ملك بروسيا، فما قدر الملك على ابتياعها بسبب ما أنفق من المال على الحرب، واشترت هذه الإمبراطورة بعد ذلك مجموعة الماركيز كروزات أحد رجال البلاط الفرنسوي في دولة الملك لويس الخامس عشر، ومجموعة روبرت وولبول الإنكليزي بأربعين ألف جنيه، واشترى القيصر إسكندر الأول مجموعة من جوزفين زوجة نابوليون الأول بمليون فرنك، ونقولا الأول اشترى صورة واحدة للعذراء من صنع روفائيل المشهور بمبلغ ثمانية آلاف جنيه، ومن هذه الأمثلة تعلم مقدار ما في متحف أرمتاج من الصور الثمينة. وقد قسمت الرسوم أقساما ووضعت في مواضع مرتبة وطبعت لها جداول وكتب، وهي كثيرة الأشكال لا يمكن الإشارة إليها بغير الإيجاز، لا سيما وأنها تحكي ما في المعارض الأخرى للصور من رسوم تمثل حوادث التوراة والإنجيل، أذكر منها صورة احتراق سدوم وعمورة وقد انقضت عليهما النار من السماء انقضاضا هائلا أشعل جوانبهما، وأرجف أهلهما خوفا حتى إنك لترى الأولاد وقد تولاهم الرعب فارين ممسكين بأذيال والديهم، والرجال ينظرون إلى السماء وقد تفطرت قلوبهم جزعا وخوفا، ومن ذلك صورة فرار لوط وأهل بيته من هذه النار المحرقة بناء على ما أوحي إليه، وهي مما يمثل للناظر حالة الناس في تلك الحوادث المشهورة ويزيدها رسوخا في الأذهان، وهنالك صور معارك وحوادث معروفة وأشخاص نوابغ ومناظر طبيعية تنشرح لجمالها الصدور.
وليس يقتصر الأمر في هذا المعرض على الصور والرسوم، بل إن في الدور الأول منه تماثيل وأشكالا تمثل تاريخ الأمم القديمة، وهي كثيرة لا موضع لوصفها، وفيه قسم للآثار اليونانية القديمة أكثروا فيه من وضع الأدوات والآلات البيتية بعضها من الفضة وبعضها من الذهب، وفي المعرض أيضا قسم عظيم للنقود لا يقل مجموع القطع التي عرضت فيه عن مائتي ألف قطعة، قسمت إلى روسية وأجنبية وقديمة وحديثة، فالقسم الروسي فيه جميع أنواع النقود الروسية من أول عهدها إلى هذا اليوم، والقسم الأجنبي فيه نقود الممالك الغربية والممالك الشرقية، وللنقود القديمة عندهم شأن عظيم.
ويلحق بهذا المعرض العظيم معرضان آخران: أحدهما على اسم بطرس الكبير والثاني على اسم كاترينا الثانية، وقد وضعوا في المعرضين شيئا كثيرا من آثار هذين المليكين العظيمين، ولا سيما الذي صنعه بطرس الكبير بيده أو كان يستعمله مدة حياته، من ذلك علب للسعوط بعضها من الخشب البسيط وبعضها من المعادن الثمينة مرصع بالحجارة الكريمة وأدوات رياضية زاول العمل بها أعواما طويلة ومركبة من صنعه، وقفص داخله شجيرة فوقها ديك، والكل من ذهب وغير هذا شيء كثير، وأما الأشياء المحفوظة في معرض كاترينا الثانية فأكثرها ملابس وآثار من أيام تلك الملكة العظيمة.
وخرجت من هذه المتاحف إلى ميدان القصر وهو واسع بعيد الأطراف فارتحت إلى منظره الفسيح بعد التنقل بين الآثار العديدة كل تلك الساعات الطوال، وفي هذا الميدان عمود للقيصر إسكندر الأول أقامه القيصر نقولا الأول سنة 1834 تذكارا لسلفه وهو من أفخم الأعمدة التي نصبت لمثل هذه الغاية وأطولها، كله من الرخام الأحمر المصقول جاءوا به من بلاد فنلاندا، وقاعدته رخام أبيض بهي المنظر، وفي أعلاه كرة من النحاس كبيرة ملبسة بالذهب وفوقها رسم ملاك باسط جناحيه وقد رفع يدا إلى السماء وأمسك باليد الأخرى صليبا كبيرا من النحاس المذهب؛ ولذلك الميدان بهاء لا يزيده بهاء القصور المتجمعة حوله مثل القصر الشتوي، وهذه المتاحف وقصر أركان الحرب وهو بناء فخيم ذو ثلاث طبقات لها 768 نافذة تطل على الميدان، وفي جوانب هذا البناء وزارة المالية ووزارة الخارجية «والدفترخانة» الروسية، وهي جامعة لشيء كثير من الأوراق الرسمية والتقارير عن الحروب الحديثة. ومن تحت هذا البناء سرداب واسع وباب كبير يمكن الوصول منه إلى شارع نفسكي، وفوق الباب تمثال مارس إله الحرب صنع من النحاس تجر مركبته ستة من الجياد، وقد دخلت وزارة البحرية فألفيتها قصرا باهيا باهرا دهن باللون الأصفر في خارجه ما خلا الأعمدة والأركان، فإنها بيضاء وفي أعلاه نصب وأعلام قيصرية وتمثال بطرس الكبير مؤسس هذه الوزارة يتناول من نبتون إله البحر خطافا مثلث الزوائد، وفوق الباب برج علوه 75 مترا، في أعلاه سهم مذهب يناطح السحاب وينتهي السهم بشكل تاج ومركب، وفي هذه الوزارة غير المواضع المعدة للأعمال الرسمية غرف للمدرسة البحرية ومكتبتها ومتحفها، وفيها رسوم بحرية لا تعد ترى في أولها رسم بطرس الكبير وبعض السفن التي صنعها بيده وصورته في معركة أزوف البحرية التي أشرنا إليها في الخلاصة التاريخية، وغير هذا كثير.
وسرت من هذه الوزارة إلى ميدان بطرس الكبير، فرأيت فيه تمثاله العظيم الذي أقامته كاترينا الثانية واستقدمت لصنعه مهندسا فرنسيا اسمه فالكونه، فرسمه راكبا جواده وعلى رأسه إكليل الظفر يهمز جواده ملتفتا إلى نهر النيفا وقد مد يده إلى ناحية المدينة التي أنشأها، والجواد واقف على قاعدة من الرخام عظيمة الاتساع يتقهقر إلى الوراء ويدوس تنينا تحت رجليه، وقد لزم لهذا التمثال الكبير قناطير مقنطرة من النحاس، وبلغت نفقاته أكثر من مليوني ريال روسي، وهو أكبر تمثال من نوعه في عاصمة الروس.
وعلى مقربة من هذا الميدان الكبير مجلس الأعيان، وهو الذي أشرنا إليه قبل، وهنا يجتمع أمراء المملكة وكبراؤها للنظر في الشئون العامة تحت رئاسة القيصر أو من يقوم مقامه، وفي قسم من هذا البناء المجمع المقدس، وهو كما قلنا قبل الآن يفصل في المسائل الدينية الخطيرة ورئيسه القيصر أيضا، والبناء كله على شاكلة القصور الأخرى التي ذكرناها، فلا أتعب القارئ بوصفه ولا أطيل عنه الكلام.
وقد ذكرنا أن في شارع نفسكي كنيسة كازان، وأشرنا إلى بعض ما فيها، ولكن في بطرسبرج كنيسة أخرى لها شهرة قديمة لا تقل عن شهرة أعظم الكنائس الروسية، هي كنيسة مار إسحق ويسمونه إسحق الدلماسي؛ لأنه جاء من دلماسيا في بلاد ألمانيا، وكان هو أول من بشر الروس بالإنجيل وهداهم إلى النصرانية على عهد فلاديمير كما رأيت في الخلاصة التاريخية، فبنوا هذه الكنيسة على اسمه وجعلوها من أعظم الكنائس وأفخمها، وكان البادئ في بنائها القيصر إسكندر الأول، وضع الحجر الأول فيها سنة 1819، واستمر في البناء القيصر نقولا الأول، فما تم حتى عام 1858 على عهد إسكندر الثاني، فاشتغل في إتمامها وإتقانها ثلاثة قياصرة عظام مدة 39 عاما، وبلغت نفقاتها 24 مليون ريال وهي مبنية من الرخام والصوان، وقد جعلت على شكل صليب طولها 105 أمتار وعرضها 90 مترا، ولها قبات كثيرة مختلفة الأشكال، أهمها القبة الوسطى التي بلغ محيطها 26 مترا، وهي قائمة على 24 عمودا ركزت فوق برج عظيم قائم على أعمدة أخرى، وفي أعلاها صليب كبير، والقبة بأعمدتها وصليبها وقاعدتها وبرجها ملبسة بالنحاس المذهب، ولها منظر فائق الجمال، وهي تظهر للقادم إلى بطرسبرج من عرض البحر نظرا إلى ارتفاعها ولمعان معدنها ولا يقل علوها عن مائة متر.
وللكنيسة أربعة أبواب، منها اثنان أصليان كل منهما قائم على 16 عمودا من الرخام الأحمر المصقول، وقواعدها وتيجانها من النحاس المذهب، وهي تقرب من أعمدة الهياكل المصرية القديمة وأعمدة قلعة بعلبك في منظرها وضخامتها، فإن قطر العمود منها متران، وقد صنعت أبواب هذه الكنيسة من النحاس وحفر عليها رسوم ملائكة الجنان والقديسين على مثال الموجود من هذه الرسوم في كنيسة القديس مرقص في مدينة البندقية بإيطاليا، والدرجات الموجودة في هذه الكنيسة كلها من الرخام أو الصوان المصقول كل درجة منها حجر واحد، وواجهة الكنيسة من الرخام الأبيض تتخلله عروق من الذهب، وفيها من الأيقونات ما لا يعد أكثرها مرصعة بالحجارة الكريمة وباب الهيكل من الفضة الخالصة يحف به 18 عمودا باهر الجمال، منها عشرة من اللازورد وثمانية من المالكيت الأخضر وهما من الحجارة الغالية الثمن، وعلى باب الهيكل إلى اليمين واليسار صورة العذراء والمسيح مرصعة بالألماس (برلانتي) ترصيعا لم أر له نظيرا في غير هذه البلاد، فإن حجارة الألماس أدخلت في الصورة نفسها مرتبة حول الرأس وفي الصدر، وهي كبيرة الحجم لا تقل عن البندقية، والروسيون ينفقون على مثل هذا الترصيع مالا وفيرا، وأما المذبح فكله من الفضة الخالصة، وآنية الخدمة من الذهب الدقيق الصناعة، وجملة القول إن وزن ما في هذه الكنيسة من الآنية الفضية 1200 كيلو، ومن الآنية الذهبية 40، وأكثره هدايا من القياصرة وأعضاء البيت القيصري وبعض المجالس البلدية وسراة الروسيين. وفي هذه الكنيسة أعلام ومفاتيح مدن غنمها الروس في حروبهم وأشياء كثيرة لتذكار الفعال العظيمة التي قام بها رجالهم، وهي - بوجه الإجمال - من أغرب كنائس الدنيا وأوفرها بهاء.
وخرجت من هذه الكنيسة إلى حديقتها، ومنها إلى ميدان مريم وهو متسع من المدينة أشهر ما فيه تمثال لجبار القياصرة - أعني به الإمبراطور نقولا الأول - وقد مثلوه راكبا جوادا جموحا، ونقشوا على جوانب القاعدة أعمال هذا القيصر العظيم وآثاره الكبيرة، ووضعوا بينها رسوم زوجته وأولاده، وعلى كل جانب من جوانب القاعدة إحدى هذه الكلمات الأربع، وهي: القوة، العدل، الإيمان، الحكمة، وهم يمثلون هذه الكلمات في رسوم وتماثيل عديدة تجدها في دور القضاء وقصور الملوك كثيرة في كل المدن الأوروبية، وقد أقيم هذا التمثال تذكارا لحادثة تاريخية جرت في أيام نقولا الأول؛ فإن بعض الأهالي ثاروا وتجمهروا في هذا الميدان يقصدون الشر، فجاءهم إليه القيصر راكبا جواده فحالما رأوه خروا خاضعين وانتهت ثورتهم .
ولما كانت وزارة الخارجية في قصر أركان الحرب الذي تقدم ذكره، وكان سعادة السري الموسيو سليم دي نوفل وطنينا الكريم في هذه الوزارة مستشارا لها، فإني دخلتها وقصدت زيارته، فعلمت من العمال أنه مقيم من أيام في منزله الكائن في شوفالوفو إحدى ضواحي بطرسبرج، فعدت إلى فندقي وفي ثاني الأيام أخبرني صاحب الفندق أن تلميذا من تلامذة المدارس القيصرية جاء بكتاب إلي مدة غيابي فتناولت الكتاب وفضضت غلافه، فإذا به من سعادته نقله نجله إلى الفندق، وفي الكتاب أنه طريح الفراش من كسر أصاب رجله إثر سقطة، وألح علي كثيرا أن أذهب إلى شوفالوفو لزيارته، فذهبت في القطار الحديدي بين غياض وحراج وبقاع مرصعة بفاخر البناء والمنازل، ولبساتينها وحدائقها الغناء جمال خاص بها حتى إذا وقف القطار في محطة شوفالوفو قصدت منزل صديقي، وهو قائم في وسط حديقة جميلة فقابلني حضرة قرينته وحضرات أنجاله بالترحاب وساروا بي إلى غرفته فسررت لذلك اللقاء سرورا كثيرا، وظللت في غرفته إلى ساعة الغداء حين قمنا إلى قاعة فسيحة للطعام مدفأة بالنار ونحن في أواسط شهر أوغسطس، وبعد الغداء قمنا ندور بين تلك الحدائق ومتعت الطرف بهاتيك المناظر البهية وأنا مع عائلة المسيو دي نوفل، ثم عدنا إلى المنزل، والحديث أذكر منه أن صديقي سألني عما رأيت فحدثته عما خلج صدري من التأثر حين زرت القصر الشتوي، ورأيت غرفة إسكندر الثاني الذي اغتاله النهلست، فقال لي إن هذا القيصر كان كثير الورع شديد الاعتقاد بحكم القضاء وبعناية الله به حتى إنه كان مع كل الذي أصابه من مكايد النهلست لا يحذر على نفسه منهم، وحاول أحدهم أن يغتاله سنة 1876 فأخطأ سهمه المرمى، وفي السنة التالية حاول آخر بولوني الأصل أن يقتل جلالته أيضا فلم يفلح في سعيه المذموم. وفي سنة 1878 خرج يتمشى من قصره الشتوي فهجم عليه أحد هؤلاء الأشرار وجعل يطلق الرصاص عليه خمس مرات متواليات وهو لا يصيبه، وكان القيصر - كما قلنا - ماشيا ففر من الرجل وظل يعدو مسرعا والرجل وراءه يطلق الرصاص حتى دخل وزارة الخارجية تجاه قصره الشتوي، ونجا من القاتل. وفي سنة 1880 حاول النهلست نسف غرفته على مثل ما تقدم، وما برح القوم يكيدون المكايد لهذا القيصر النبيل حتى ظفروا به.
قال صديقي وحدث أنه يوم اغتياله رجاه مدير البوليس السري ألا يخرج من قصره ذلك اليوم، فما سمع النصيحة وذهب لزيارة شقيقته فألقى الأعداء اللئام تلك القنبلة المفرقعة تحت عجلات عربته وتفرقعت فقتلت الخيل والسائق، وكان القيصر في داخل العربة فلم يصبه أذى، ولو ظل فيها لما وصله مكروه، كذلك حذروه الذين كانوا معه ورجوه أن يبقى مكانه داخل العربة، ولكن القيصر كان جسورا كثير الاتكال على ربه فخرج من العربة ليسأل عن رجال حرسه، فألقى أحد الأشرار بين قدميه قنبلة ثانية قضت على حياته الثمينة وحزن العالم المتمدن لموته حزنا شديدا، وكان الموسيو دي نوفل يورد لي هذه القصة والحزن ملء فؤاده حتى إذا انتهى منها خنقته العبرة لأن إسكندر الثاني كان ولي نعمته، رقاه وأحسن إليه برفيع الرتب والوسامات وقبل طلبه، فتنازل إلى أن يكون عرابا للموسيو إسكندر بسترس نجل المرحوم سليم بسترس، وكان القيصر إسكندر الثالث عرابا للموسيو فلاديمير وهو النجل الثاني للمرحوم سليم بسترس أصدر بذلك أمرا قيصريا حمله الموسيو دي نوفل إلى لندن، حيث كان الموسيو بسترس، واحتفل بذلك احتفالا عظيما حضره سفير دولة روسيا وكثيرون من أهل المقام العالي، وكان مع سعادته أيضا وسامات عالية من جلالة القيصر، واحد منها للمرحوم سليم بسترس وآخر لحضرة قرينته نظرا لما اشتهر عنها من الفضائل والمبرات.
وآخر ما أذكر هنا من مشاهد بطرسبرج الإسطبلات القيصرية، وما هي بالشيء الحقير كما يفهم من اسمها، بل إنها معرض لجياد الخيل من روسية ومجرية وإنكليزية وعربية وللعربات الفاخرة والسروج النفيسة المرصعة بالحجارة الكريمة والأدوات الأخرى كاللجم والمهاميز والأزمة وسواها، أكثرها من الذهب والفضة وبعضها هدايا من سلاطين آل عثمان وملوك إيران وأمراء بخارى وخيوا وبقية الممالك التي علا فيها سؤدد روسيا في أواسط آسيا. وفي أول هذا المتحف جواد القيصر نقولا الأول محنطا، وهو الذي كان يركبه في حرب القرم، ثم رسوم أمراء الإسطبل القيصري بالزيت وبالقد الطبيعي من يوم أنشئت هذه الوظيفة إلى الآن، وهنالك عربات كثيرة للقيصر والقيصرة والأعوان والحشم وعربات أخرى كثيرة الزخرف فائقة الإتقان للقياصرة السابقين، أجملها عربة إسكندر الثالث وهي كلها مذهبة الجوانب تبرق وتلمع كأنما هي شعلة من نار، ومركبة لبطرس الكبير صنعها بيده، ومضرب لكاترينا الثانية كانت ترقد فيه وقت الحرب، ومركبة نقولا الأول سار بها يوم تتويجه، ومركبة إسكندر الثاني التي قتل بها وهي محطمة الجوانب بفعل الديناميت، وعلى مقربة من هذا المكان، البقعة التي قتل فيها القيصر إسكندر الثاني وقد غرزوا صليبا حيث تفرقعت القنبلة القتالة، وشرعوا ببناء كنيسة ستكون من أعظم ما في بلاد الروس من نوعها، وقد لا ينتهي العمال منها قبل أعوام كثيرة تجيء فوقفت في ذلك المكان أتأمل أحكام القدر، حيث سقط قيصر عظيم لم تغنه قواته الهائلة شيئا وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
وجملة القول أن مشاهد بطرسبرج العظيمة لا تعد في مثل هذا المقام، وقد بنيت على جزر والنهر يشقها شطرين، فتكثر فيها وفي ضواحيها الغابات والحدائق، منها الحديقة الصيفية مساحتها 15 كيلومترا مربعا أنشئت على النسق الفرنسوي، وحديقة بطرس الكبير أنشئت على النسق الإنكليزي وتكثر فيها الروابي والهضاب، وحديقة الحيوانات وفيها من كل حيوان غريب ما في معارض الحيوان المعروفة في أوروبا. ومطاعم بطرسبرج كثيرة، بعضها صيفي وبعضها شتوي، وملاهيها ومراسحها كثيرة أيضا ينفقون عليها المال الطائل، وكثير منها تمثل فيه الروايات بالفرنسية ويحضرها سراة الروس وهم معروفون بالترف والبذخ في المعيشة، وقد رأيت في أحد هذه المراسح ما لم أره في غيرها مدة سياحاتي من أنواع الرقص الإفرنجي البديع، فإن الستار رفع عن نحو مائتي فتاة جعلت يتفتلن ويتمايلن ويترقصن على أشكال وحالات تسكر الأذهان وتختلب العقول وهن بتلك الملابس المزخرفة، ظللن في تفنن ولعب بديع والناظر إلى حركاتهن وأقدامهن يظنهن آلة تدار بقوة واحدة، فلا تخطئ السير في جهة من الجهات أو إذا تأمل هاتيك القدود تتثنى وتتهادى ببهي الحلل خيل له أنه يرى بحرا من الحسن تغرق فيه الأفكار.
هذا بعض من كل شهدته في عاصمة الروس العظيمة، ولو أني شئت التطويل لضاق المقام عن البيان، فأتقدم الآن إلى ذكر شيء عن ضواحي هذه المدينة.
ضواحي بطرسبرج
كنت مدة مكثي في عاصمة السلطنة الروسية أسمع ببهاء ضواحيها، وأول ما قصدت منها قصر تزارسكوي سيلو - أي قرية القيصر - أنشأها بطرس الكبير وبنى بها قصرا، ثم تبعه في البناء قياصرة الروس وسراتهم حتى أضحت هذه الجهة مجموع مشاهد باهرة ورياض زاهرة ومنازل عامرة، فيها القصور المنيفة حيث يقيم أهل الشرف الشامخ والحدائق الغناء يتراوح بين أزهارها وشجرها جماعة الترف الباذخ، وفي وسط هذا العز الساحر زينة القصور الشماء وصلة السعد ما بين عيشة الأرض وعيشة السماء، أريد به قصر تزارسكوي سيلو بنته كاترينا الثانية، وهو الذي طارت شهرته في الآفاق وملئت بوصف جماله الأوراق، والقصر بناء عظيم يحيط به سور شاهق في أعلاه حديد مذهب، وطول البناء لا يقل عن 245 مترا، وقد دهن من خارجه بلون أصفر بهي واللون الأصفر كثير الاعتبار في بلاد الروس خلافا للمواضع الأوروبية الأخرى حيث يقل وجوده، وقد زاد بهاء هذا اللون في قصر تزارسكوي سيلو أن العمد والقباب والقواعد والشرفات كلها مذهبة تسطع منها الأنوار، وتجعل لذلك القصر العظيم أبهة وجمالا يقل لهما النظير بين قصور روسيا، وهي التي اشتهر أنها امتازت عن جميع العواصم الأوروبية بقصورها وما فيها من القاعات الغريبة. ولا عجب إذا قلنا إن قصر القيصر في تزارسكوي سيلو هذه يعد أعظم القصور الحالية؛ فإنهم أنفقوا على تذهيب جوانبه المرة الأخيرة اثني عشر مليونا من الفرنكات، فما قولك في بقية ما فيه من غرائب البناء والنقش والتصوير والزخارف والرياش الذي يعجز عن مثله أقيال الزمان، ولا تكتفي لعشر معشاره أموال قارون؟!
وقاعات هذا القصر تبلغ الثلاثمائة عدا، منها 31 قاعة على خط واحد بعضها وراء بعض، إذا وقف المتأمل في أولها عسر عليه أن يرى آخرها، وكلها آيات معجزات في إتقان الصنع ونفيس الفرش وباهر التحف وبديع الجوانب المذهبة، إذا أسعدك الحظ برؤيتها حكمت لأول وهلة أنها زينة القاعات الملوكية، ما رأى الراءون أكثر منها حسنا وبهاء، ولا سمع السامعون بأوفر منها رونقا وزهاء، تغرس في نفس الرائي بهجة وحبورا وتنسيه بقية ما في الأرض من أمر شاغل أو شيء خطير، ولا قبل لنا بغير الاختصار فنذكر هنا من هذه البدائع الشهية قاعة الرقص والولائم يقيمون فيها الحفلات الراقصة أو الولائم الفاخرة، وهي قاعة حدث عن جمالها ما شئت، وقل في غرائبها ما استطعت، إنها مفروشة بالحرير الأصفر الفاقع وسقفها وجدرانها ملأى بالزخارف المذهبة، ومرائيها عظيمة المقدار والقيمة، فوقها الشعار القيصري، وهي تعكس هاتيك المناظر الباهرة من هنا ومن هنا فلا يرى المتأمل غير جمال وراء جمال، ولا سيما إذا تدلى من السقف والجدران هاتيك الثريات تحكي الجواهر في لمعانها، وهي متى أوقدت مصابيحها في الليل تألق نورها وكثر شعاعها إلى حد يبهر الأبصار، وكلها تنار بالشمع؛ لأن النور الكهربائي غير مستعمل في قصور الضواحي، وفي هذه القاعة وحدها 2650 شمعة، فتأمل بهاء تلك الأنوار ومن حولها المناظر الساحرة لا سيما إذا احتفلوا بالليلة الراقصة التي يقيمها جلالة القيصر في كل عام، ويدعو إليها أمراء البيت القيصري وأميراته وسفراء الدول ووزراء المملكة وقواد الجيوش والأساطيل ورؤساء المصالح الكبيرة وسراة الأمة وعظمائها، فيأتون كلهم بالملابس الرسمية والوسامات، ومعهم سيدات تنفق الواحدة منهن ألوفا على لباس تلك الليلة وتتحلى بنفيس الجواهر، فما ترى في كل جانب غير عز وبهاء ويسار كثير وترف ونعمة تزيد عما في بقية العواصم الكبرى، والكل من سادة وسيدات يؤدون واجب الإكرام للقيصر، وهو متى بدأ الرقص يخاصر قرينة أقدم السفراء الحاضرين ويرقص معها دورا ثم يتنحى، والقيصرة ترقص دورا مع أكبر السفراء الحاضرين سنا ثم تتنحى أيضا، ويظل الباقون في طرب ونعيم إلى آخر الليل.
ولكن بدائع هذه القاعة الغريبة تعد شيئا يسيرا عند قاعة الكهرباء الفاخرة، وقد أطلق عليها هذا الاسم؛ لأن الكهرباء الثمينة فيها تقوم مقام الخشب والحديد فكل مقاعدها ومناضدها وكراسيها صنعت من الكهرباء مع ما تعلم من غلاء قيمتها، والفرش من فوقها حرير أصفر يتلاءم ببقية ما في القاعة، وقد ذاعت شهرتها في أوروبا وتحدثت الركبان بعظيم قيمتها. ومن ذلك أيضا قاعة الفضة وكل ما فيها من هذا المعدن الناصع صنع على نسق يحلو للأنظار، وتليها قاعة اللازورد، وهي لا تقل في الغرابة عن قاعة الكهرباء؛ لأن حجر اللازورد من أثمن الحجارة المعروفة وهو أزرق سماوي في لونه، زينوه بعروق من ماء الذهب، فصار له منظر يشرح الصدور ولا تشبع العين من التأمل فيه، والقاعة الصينية وكلها من الأطلس الأسود المزركش بالقصب وخشبها كله من التيك الأسود الفاخر، وقاعة الصور وفيها صور بعض الحوادث التاريخية مثل تسليم الشيخ شامل وتتويج إسكندر الثاني وتنصير أولاده وغير هذا كثير، وقاعة الموائد وهي للولائم الرسمية العظيمة، فيها مواضع لمائتين وخمسين مدعوا، وكل آنيتها من الذهب والفضة تليق بعظمة ذلك القصر العظيم، وقاعات أخرى لا يعي الذهن ذكرها وكلها من غرائب الصناعة ودلائل اليسار والعز الكبير.
وفي هذا القصر كنيسة جميلة مدهونة جدرانها بلون أزرق تتخلله عروق ذهبية بديعة الإتقان، وللقيصر والقيصرة كرسيان أمام باب الهيكل من أجمل ما رأته العين، وللكنيسة قبة بديعة يراها القادم إلى القصر من خارجه، ويلي الكنيسة رواق عظيم طوله 82 مترا يطل على أشهى المناظر، ومنه يمكن الوصول إلى الحديقة المحيطة بقصر تزارسكوي سيلو، وهي يقصر في وصفها قلم الكاتب البليغ، تجولت في جوانبها حينا من الدهر ثم غادرتها ونفسي تحدث بما رأت من محاسن هذا القصر الغريب، وعدت إلى المدينة وأنا أفكر بما رأيت فيه من الغرائب، وقد خطر في بالي أن بانيته العظيمة القيصرة كاترينا الثانية لما انتهت من بنائه وإعداده دعت سفير فرنسا في ذلك العهد لرؤيته، فجاء السفير وجعل يحدق ببصره ويتأمل تلك البدائع، وهو يتطلع ذات اليمين وذات الشمال كأنما هو يبحث عن شيء، فسألته القيصرة أن: ما الذي تبحث عنه؟ قال: إني أبحث عن غطاء من البلور أغطي به هذا القصر الثمين .
وفي هذا اليوم قصدت مدفن القياصرة العظام فقمت من الفندق مارا بميدان فسيح اسمه شان ده مارس، سمي على اسم إله الحرب؛ لأن المناورات العسكرية تجري فيه، ومن ورائه الحديقة الصيفية ثم الجسر المبني فوق نهر النيفا، وفي آخره على الشمال كنيسة لها قبة علوها 128 مترا، وهي أعلى ما في روسيا من القبات. وفي هذه الكنيسة مدفن القياصرة وأصله قلعة قديمة دخلته ورأيت قبر بطرس الكبير وكاترينا الثانية وإسكندر الأول صاحب وقائع بونابارت، ونقولا الأول صاحب حرب القرم، وإسكندر الثاني أشرف القياصرة ومحرر الأمم، وإسكندر الثالث بطل السلام، وهو والد القيصر الحالي، وفي تلك المدافن مصابيح يوقد فيها الشمع ليلا ونهارا ولها منظر يؤثر في النفوس.
بقي علي من هذه القصور العظيمة في ضواحي بطرسبرج قصر بترهوف المشهور، وبترهوف هذه قرية على شاطئ البلطيق قريبة من بطرسبرج أول من عمرها بطرس الكبير فسميت باسمه كما ترى، وكان هذا القيصر ينوي جعل قصره في بترهوف مثل قصور فرنسا في فرسايل فبالغ في إتقانه، وجاءت كاترينا الثانية من بعده ونقولا الأول وغيرهما، فأضافوا إلى هذا القصر العظيم ما تعجز الألسن والأقلام عن وصفه. ويمكن الوصول إلى بترهوف من العاصمة برا أو بحرا في البلطيق، فاخترت طريق البحر ووصلت موضع القياصرة العظام حيث يقضون معظم أشهر الصيف، والحق يقال إني أراني عاجزا عن وصف هذا القصر الفخيم؛ لكثرة محاسنه المشهورة ولكثرة ما تقدم من وصف أمثاله، فأكتفي ببسيط الإشارة إلى أهم ما فيه وهو يظهر لك عن بعد من بريق قباته المذهبة ومن حوله العمائر الفاخرة لأمراء الروس، فكأنما هو الشمس تدور بها النجوم السيارة في فضاء كله جمال وبهاء ما بين بحر نقي ماؤه وأرض فرشت بالسندس ورصعت بأبهى ما في الرياض من زهر وشجر، ولا سيما حديقة القصر الإمبراطوري نفسه، وهي تحكي حدائق النعيم في جمالها واتساعها، حتى إن ألوفا من العربات تسير في جوانبها ولا تظهر بين هاتيك المناظر الفاتنة ، وللقصر أبواب كثيرة، منها واحد ارتقينا عشرين درجة من الرخام الأبيض البديع حتى وصلناه، وأمامه بركة للماء صنعت من الرخام الأبيض أيضا يحف بها أربعون تمثالا مذهبا، وفي وسطها وزة كبيرة من المرمر يتدفق الماء من فمها تدفق السيل صعدا، ثم ينهمل من علو 25 مترا وينصب في البركة فيجري منها بين الأغراس والتماثيل إلى ما وراء القصر ويستقر في بحر البلطيك.
وقد جعلوا رياش كل غرفة في هذا القصر من نسق يختلف عن نسق غيرها، فهذه فرشت على النسق الصيني، وهذه هندية وهذه يابانية وهذه مصرية وهذه تركية وهذه أوروبية، وكلها بدائع إتقان تحار في وصفها الأفهام. وهنالك قاعة عظيمة للرسوم عنيت كاترينا الثانية بجمع أشكال النساء فيها، فأمرت برسم فتيات ونساء روسيات على أشكالهن في كل إقليم، ووضعت تلك الرسوم تمثل حالة المرأة الروسية في أيامها، فلا يقل عدد الصور هنا عن 368 صورة. ويلي هذه الغرفة قاعة الاستقبال الخاصة بهذه الإمبراطورة فرشت بأنفس الطنافس وأثمن أنواع الحرير، وفيها صور بنات حزن قصب السبق في مدرسة البنات التي أسستها هذه الإمبراطورة العظيمة، وقاعة الاستقبال العمومية، وقاعة نساء الشرف التابعات للقيصرة، وقاعة المائدة لها 30 نافذة أو شباكا لكل شباك برواز بارز جميل يحيط به من داخل القاعة، وإلى جانبيه الشمعدانات المذهبة في كل منها 40 شمعة، فيكون عدد الشمعات حول تلك الشبابيك فقط 1200 غير المدلى من سقف القاعة في الثريات البديعة، وفي القصر كنيسة لها قبات مذهبة جميلة، وفيها بعض غنائم الحروب من آسيا الوسطى، وزخارفها أكثر من أن تعد، وهناك قصر ألكساندرين، وقصر إسكندرية، وقصر بطرس الكبير حفظت فيه بعض ملبوساته، فمصيف بترهوف هذا مجموع قصور شيدت في تلك الحديقة العظيمة، وليس قصرا واحدا، وأما عن تلك الحديقة فحدث أني ما رأيت في حدائق القصور أغرب منها ولا أبهى، وقد قضيت النهار أدور في جوانبها وأتفرج على روابيها ونجادها وجزرها وطرقها وأغراسها، واستلفت الدليل نظري إلى شجرة لم أر لها في أول الأمر مزية، ولكنه تنحى عني إلى حيث فتح أنبوبا فانبعث الماء حالا من فروع الشجرة وأوراقها وأزهارها وكل أجزائها ، وعلمت حينئذ أنها شجرة صناعية ملئت بالمسام الغير المنظورة يخرج الماء منها على مثل ما رأيت.
وقد رأيت في تلك الحديقة من الأزهار والأغراس ما غرسته أيدي القيصرات، فإن والدة القيصر الحالي غرست شيئا كثيرا والقيصرة التي تقدمتها كانت مغرمة بهذه الحديقة أيضا، ولكل منهما قطعة تعرف باسمها وتدل على حسن الذوق وكثرة الاعتناء، وفي هذه الحديقة جزيرة صغرى فيها أنواع الغرس والنبت، ومنها شجرة أصلها من أميركا وقد اتفق أن سائحا أميركيا رآها في أحد الأيام مهملة فدفع إلى البستاني مائة ريال؛ ليعنى بأمرها؛ ولذلك أطلقوا على هذه الشجرة اسم واشنطن تخليدا لأريحية ذلك الرجل الأميركي.
والقسم الخاص بكاترينا الثانية بين هذه القصور الشماء قديم العهد، فيه غرفة الطعام الخاصة بها صنعت على شكل يمكن به إرسال الصحون وألوان الطعام في آلة ترفعها في غرفة سفلى فتصل إلى المائدة، ويمكن بهذا الاستغناء عن خدمة يقفون حول المائدة ويسمعون حديث الملكة مع رجال الدولة، وهنالك أيضا غرفة النوم، وفيها بعض ملبوسات هذه الإمبراطورة، وإلى مقربة منها حمامها الصيفي، وهو عبارة عن بحيرة كبيرة كانت تسبح في مائها النقي، وفي وسط البحيرة أنابيب مستدقة ينبعث الماء منها تقرب من المائة عدا، وهي كثيرة الجمال.
وأعود إلى القول إني لو شئت عد الغرائب في قصور بترهوف وحدائقها لما أمكن لي بعض الشيء منه؛ لأن الموضع الذي أجهد البارعون قرائحهم في تحسينه وأنفق القياصرة العظام مالا لا يعد وأعواما طوالا في إعداده، لا يكثر فيه وصف ولا يحيط بجماله وغرائبه علم إلا الذي تسعده الأيام برؤيته، فلما انتهيت من التجول في تلك الجنات البهية عدت إلى العاصمة، وقصدت من بعدها حصون كرونستاد، وهي التي كان دخولنا من البلطيق إليها قبل الوصول إلى بطرسبرج على ما تقدم، وكرونستاد هذه مينا بطرسبرج اشتهر أمرها في الأعوام الأخيرة بزيارة الأسطول الفرنسوي لها، وإبرام المعاهدة فيها بين الدولتين، وقد كان منظرها يوم دخلتها مؤثرا، وهيئة الحصون والقلاع والبوارج الحربية ترسخ في النفس، وأذكر منها بنوع أخص يختا لجلالة القيصر أنفق والده إسكندر الثالث على بنائه وإعداده أربعمائة ألف جنيه، وكان يجتاز البحر فيه كل صيف إلى الدنمارك حيث يجتمع بالأهل والأقارب، ولهذه المدينة مين تجارية ومين حربية كلها كاملة الإتقان، وفي آخرها أرصفة عريضة وطرق جميلة، وأمامها فنادق عظيمة أكثر الذين يؤمونها من ضباط البحرية الروسية، ولا حاجة إلى القول إن استحكامات كرونستاد هذه وحصونها في الطبقة الأولى من القوة والمنعة، قضيت في التفرج على جوانبها زمانا، ثم عدت إلى بطرسبرج مودعا لها متنقلا من موضع إلى موضع ومن شارع إلى شارع، فلما انقضى اليوم العاشر على زيارتي لهذه العاصمة العظيمة غادرتها وأنا معجب بآيات العز فيها، وسرت إلى مدينة موسكو، وهي التي يجيء الكلام عنها في الفصل التالي.
موسكو
يبلغ تعدادها اليوم مليونا ونصف مليون، والمسافة بالقطار الحديدي إليها من بطرسبرج ست عشرة ساعة في مروج كلها مناظر بهية كسيت بالخضرة النضرة، ورصعت بالعمائر والقرى تخرقها الجداول وترويها الأنهار، فكيفما وجهت نظري كنت أرى أرضا أريضة ومزارع مقبلة، ومراعي فسيحة تسرح فيها الأبقار الضليعة والماشية الكثيرة، فتمثل لك في كل جهة مقدار ما يعول الروسيون على الزراعة في بلاد واسعة الأكناف بعيدة الأطراف، هائلة سهولها كثيرة غلالها، يصدرون منها مقادير كبرى في كل عام، وهي مصدر الثروة الكبرى في البلاد، كما أن الصناعة والتجارة مصدر الثروة في بلاد الإنكليز. ولما انقضى زمان المسير وأشرفنا على مدينة موسكو العظيمة ظهرت لنا قبات كنائسها الكثيرة بعضها مذهب تنبعث منه أشعة النور في ذلك السهل الفسيح، وبعضها ملون بألوان مختلفة، هذه صفراء وهذه حمراء وهذه خضراء وهذه بيضاء أو زرقاء، أو لها لون آخر يستلفت الأنظار لا سيما وأن لها أشكالا غريبة لا تراها مجتمعة في مدينة من مدائن الأرض غير موسكو، فإن تلك القباب بعضها مضلع وبعضها مستدير وبعضها إهليلجي وبعضها على شكل الرمان أو الموز أو الشمع أو غير هذا، فالقوم ما تركوا شكلا شرقيا أو غربيا حتى جمعوه إلى تلك الأشكال، وعملوا على مثاله قبات في مدينة الروس المقدسة فإذا رأيت كل هذا وأنت مشرف على المدينة من بعد ذكرت الآستانة ومآذنها، وقد بنيت موسكو في سهل كما بنيت معظم مدائن الروس ومنازلها بعيدة بعضها عن بعضها، وفيها من الحدائق والبحيرات والميادين الفسيحة ما يجعل لها مساحة لا تقل عن مساحة باريس، ولما كانت هي مسكن أهل الطبقة العليا من أشراف الروس وفيها من أكابر التجار الموسرين عدد عظيم لكل منهم قصر أو قصور تحيط به الأغراس والحدائق، فقد اتسع نطاقها وبعدت أطرافها فوق ما يقتضيه عدد سكانها، فزاد في رونقها وجمالها وغرائبها الكثيرة التي سنورد بعضا منها فيما يلي.
وأما أن هذه المدينة مقر الغرائب في بلاد الروس والعظائم فواضح من كثرة قصورها الشماء كما تقدم، ومن كثرة كنائسها أيضا وأديرتها، فهي المدينة المقدسة عند الروس، وهي كانت عاصمة المملكة إلى عهد ليس ببعيد فيها الآن نحو 400 كنيسة و21 ديرا و460 مدرسة أو تزيد، وهي مقر الحاكم العام لولاية موسكو العظيمة يغلب أن يكون الحاكم فيها أميرا من أمراء البيت القيصري، وفيها مركز الفيلق الثاني من الجيش الروسي وكرسي المجمع المقدس يرأسه رئيس أساقفة موسكو، وهو أعظم رجال الكنيسة الروسية بعد القيصر، وقد بنيت هذه المدينة الكبرى إلى جانبي نهر صغير اسمه موسكوفا، فدعيت المدينة باسمه وغلب هذا الاسم بعد ذلك على الولاية كلها ثم على المملكة برمتها؛ لأسباب فصلناها في التمهيد التاريخي، وهي إذا دخلها الزائر الغريب أذهله ما فيها من الأزياء الكثيرة والأجناس المتباينة، يكثر فيها التتر والجراكسة والأتراك والإيرانيون والبولونيون وبقية أشكال المتوطنين فيها من الناس حتى إنك لترى فيها العجمي بقبعته السوداء الطويلة وجبته وسمرة وجهه، والتتري له صفرة وعين تدل إلى شيء من القوة والغدر، وهو بملابسه التترية وعمامته المتدلية أطرافها أو بشيء من الملابس الإفرنجية لا تخفي عن المتأمل حقيقته، وهنالك الجراكسة وأهل داغستان وكرمان وقوقاف بعضهم يلبسون الفرو وجلود الغنم على مثل ما اعتادوا في بلادهم، وهم يمشون بجنب الذين رقوا أعلى درجات التمدن الغربي من الروس وتهذبوا في المدارس الكبرى، أو الذين تراهم على تلك الخيول المطهمة، وفي العربات الفاخرة من أغنياء المدينة وموظفيها وضباطها وأبناء أشرافها فيختلط الشرق بالغرب في تلك المدينة اختلاطه في الآستانة أو أعظم، وفي ذلك نزهة للغريب وفرجة يعسر الوصول إليها في غير هذا المكان.
وقد كانت روسيا في أول عهدها يحكمها أمراء كييف على مثل ما رأيت في الخلاصة التاريخية، فلما قويت شوكتهم قليلا بعد التنصر بنى أحدهم حصنا على ضفة نهر موسكوفا في سنة 1147، واسم هذا الأمير فلاديميروفتش دولجوروسكي، فكان ذلك بدء تأسيس المدينة وأطلق اسم النهر عليها، والحصن الذي بناه عرف من يوم بنائه باسم كرملن، وهو لفظ تتري معناه القلعة أو الحصن، فبقي هذا الاسم ملازما للجهة الأصلية التي نشأت فيها مدينة موسكو، وهو الآن اسم القصور العظيمة والكنائس والمنازل الفاخرة المختصة بالقيصر وعائلته، ويطلق أيضا على القسم المجاور له من أقسام موسكو وهو أعظمها وأفخمها وأكثرها غرائب، وطفقت موسكو تتقدم من بعد بنائها شيئا بعد شيء حتى صارت مقر الولاية - كما تقدم القول - ولكنها احترقت مرتين في القرن السادس عشر، وعادت إلى النماء حتى إذا قام بطرس الكبير نقل تخت السلطنة منها إلى بطرسبرج ولكن خلفاءه لم يسهل عليهم الانتقال، فعادوا إليها ولم يستقر رأيهم على الانتقال منها نهائيا إلا في أوائل هذا القرن حين أضرم أهلها النار فيها؛ ليردوا جيش نابوليون عنها، ولكن موسكو عادت وبنيت على أحسن مثال من بعد تلك الحرائق وجددت معالمها وشيدت قصورها ومعابدها وهي يتوج فيها القياصرة إلى هذا اليوم، وتعد مقر التجارة الروسية الداخلية ومركز الرأي العام الروسي والكنيسة الأرثوذكسية، وها أنا مورد بعض الشيء من وصف الذي فيها ملتزما خطة الاختصار.
تقدم القول إن قسم الكرملن أهم أقسام المدينة، وهو في منتصف البلدة آخره متصل بنهر مسكوفا بني على رابية مرتفعة واسعة قام فوقها القصر الإمبراطوري والكنائس والأديرة، وقد جمعت هذه الأبنية العظيمة كلها في الدائرة التي تعرف باسم الكرملن وأحيطت بسور واطئ محيطه نحو ألفي متر، وللكرملن هذا عند الروس مقام عظيم واعتبار فائق حتى إن بين أمثالهم مثلا معناه أن الكرملن يعلو كل شيء ولا يعلوه غير السماء، وله مداخل عدة، منها مدخل المخلص وهو باب عظيم علق فوقه أيقونة السيد المسيح جاء بها القيصر ألكسي من بلدة سمولنسك، وهم يضيئون أمامها مصباحا لا يطفأ في الليل ولا في النهار، وقد جرى الروس على عادة قديمة في عهد القيصر الذي ذكرناه واتبعوها بأمره هي أنهم إذا مروا من تحت هذه الصورة رفعوا القبعات احتراما لها وخشوعا، وصار الأجانب في موسكو يفعلون فعلهم أيضا، ولما دخلت الكرملن من ذلك الباب أذهلني كثرة ما يضمه ذلك المكان من الأبنية العجيبة والكنائس، فإنك كلما سرت خطوات معدودة وجدت أمامك كنيسة تزيد التي تقدمتها في محاسنها وغرائبها فقصدت قبل كل أمر قصر القياصرة الذي يقيمون فيه عند زيارة موسكو أو حين حضورهم للتتويج، فارتقينا سلما عريضا من الرخام النفيس درجاته منبسطة لا يكاد الصاعد عليها يشعر بعناء الصعود، وفي آخرها رسوم تاريخية، منها رسم تتويج إسكندر الثالث ومشايخ الأقاليم يقدمون له الخبز والملح علامة الخضوع، وغير هذا من رسوم الحوادث المشهورة، والقصر عظيم الاتساع فيها ثمانمائة قاعة وغرفة ورحبة، شرع نقولا الأول في بنائه سنة 1838، على أطلال القصور السابقة التي أفنتها النار أو تهدمت من طول الزمان، فما تم البناء إلا سنة 1849، وأنفق عليه حوالي 12 مليون ريال روسي، وفي أول القسم الجديد من هذا القصر الفخيم رحبة مستطيلة قائمة على عمد من الرخام المصقول، وهي توصل إلى قاعات ثلاث لها شهرة ذائعة في أوروبا كلها، وقد سميت بأسماء القديسين الذين أعطيت أسماؤهم لأشرف الوسامات الروسية، وهي قاعة القديس جورجيوس وقاعة القديس إسكندر نفسكي وقاعة القديس أندراوس.
أما قاعة جورجيوس فسميت باسم القديس الذي تحترمه الطوائف الأرثوذكسية وتروى عنه حكاية التنين، وقد جعلوا طول هذه القاعة الفخيمة من قصر كرملن 61 مترا، وبنوها من الرخام الأبيض البديع تزينه عروق من الذهب ورسوم كثيرة ، وأرض هذه القاعة من الخشب المصقول مثل أكثر القاعات الكبرى في قصور الملوك والأشراف، وسقفها قائم على عمد ودعائم من الرخام أيضا نقش عليها بماء الذهب تاريخ الفتوحات الروسية وأسماء المواضع التي ملكها الجيش الروسي، وعلى الجدران أسماء الفرق التي امتازت بالإقدام في هذه الحروب والقواد الذين شادوا لهذه السلطنة صروح الفخار في معامع النزال، وأحسن إليهم بوسام القديس جورجيوس وهو أعلى وسام يناله المرء عندهم بسبب بسالته وإقدامه، وفي آخر القاعة تماثيل قواد عظام من الفضة مثل القائد يرماك الذي فتح سيبيريا، وفيها ثريات لا يقل عدد شموعها عن 4500 شمعة وكلها آية في الجمال والبهاء.
ويتصل بهذه القاعة العظيمة قاعة القديس إسكندر نفسكي، وهي حمراء والجدران محلاة برسوم ذهبية طولها 31 مترا وعلو قبتها 21 مترا. وفي هذه القاعة صور تمثل حياة القديس نفسكي الذي سميت القاعة باسمه، وفيها 14 شباكا أمامها مراء ترى فيها ما وراء القصر من المناظر وحركة المارين.
ثم قاعة القديس أندراوس وهو يعد حامي بلاد الروس ووسامه أشرف وسامات الدولة الروسية، أنشأه بطرس الكبير سنة 1697، وقد جعلوا هذه القاعة العظيمة خاصة بالعرش ولونها أزرق معرق بالذهب، وضعوا في صدرها عرش القياصرة يحمله نسران عظيمان والقيصر يجلس عليه حين قدوم المهنئين بعد حفلة التتويج، وطول هذه القاعة 49 مترا، وهي محاذية للقاعتين السابقتين تكون معهما خطا واحدا، وتتصل بهما بأبواب فسيحة، فطول القاعات الثلاث كلها 146 مترا، ولها منظر غاية في الجمال وهي تقام فيها الحفلات العظيمة وتولم الولائم للسفراء ورؤساء الكنيسة وكبراء الدولة بعد انقضاء حفلة التتويج، ووراء قاعة العرش هذه قاعات للحرس الإمبراطوري ثم قاعات القيصرة وسيدات الشرف من الأميرات اللائي يسرن بمعيتها، وكل هذه القاعات من الرخام الثمين المذهب، وفي بعضها عمد بديعة الشكل من حجر المالكيت، وأما رياشها وأدواتها فيكفي أن يقال بأنها تليق بأعظم القصور وأعظم القياصرة ولا حاجة بعد هذا للإسهاب، وقد رأيت أن قاعة الطعام في هذا القصر كل كراسيها ومناضدها من الفضة الخالصة وأدوات الأكل كالملاعق والسكاكين من الذهب، وهنالك حمام على النسق الشرقي كله رخام وبلور ورسوم ذهبية وستائر ثمينة كتب فوق بعضها ألفاظ شرقية، وكل معداته دالة على منتهى الترف، وكنيسة هذا القصر فاخرة فخيمة صنع بابها من الفضة المحلاة بالذهب ومثله الهيكل.
هذا كله في القسم الجديد من قصر القياصرة في الكرملن، وأما القسم القديم فإنه باق على حاله من أيام القيصر فيودور ألكسوفتش والد بطرس الكبير الذي بنى هذا المنزل لأولاده، فله عند الروسيين اعتبار عظيم؛ ولهذا القصر القديم أربع طبقات كان بطرس وإخوته يشتغلون في الأوليين منهما بالصنائع كالرسم والنجارة والحدادة وغيرها، ويقيمون في الدورين الباقيين، والغرف كلها واطئة بسيطة إذا قابلتها بقاعات القصور الحديثة، منها غرفة الرقاد فيها سرير من الحديد قديم في غاية البساطة لوالد بطرس الكبير، وبساط صنعته ابنة ذلك القيصر العظيم بيدها وصندوق كانت توضع فيه عرائض المتظلمين والمشتكين، فكان القيصر ينزل في آخر النهار إلى هذا الصندوق ويأخذ ما فيه من الأوراق بنفسه ثم ينظر فيها وينصف أصحابها، وفي داخل هذه الغرفة غرفة أخرى صغيرة خصت بالعبادة توقد فيها الشموع حول الأيقونات ليلا ونهارا، ومررنا من الدهليز إلى القسم المخصص للمجمع المقدس، حيث كانت تعقد جلساته للمفاوضة في الأمور الدينية، وفي جدران هذا القسم صور تمثل الحوادث الدينية المذكورة في التوراة والإنجيل.
وعلى مقربة من قصر القيصر هذا دار التحف الإمبراطورية، وهي ذات طبقتين: الأولى منهما للعربات الفاخرة كان يستعملها القياصرة في حفلات التتويج ترى في أشكالها المختلفة صناعة كل عصر وذوق أهله، وأكثر العربات القديمة ضخمة ثقيلة واسعة تشبه القاعة الكبرى كثيرة الزخرف، وأما العربات الحديثة وأخصها التي استعملها إسكندر الثاني مدة تتويجه فجميلة رشيقة فاخرة قليلة الأدوات، والقسم الذي فوق العجلات منها كله ذهب وأطلس نفيس، وقد كان القياصرة يسيرون في شوارع موسكو بعد التتويج بعرباتهم هذه ولكنهم صاروا يركبون الخيل ويسيرون على ظهورها ليراهم الناس جميعا من بعد تتويج إسكندر الثالث، وفي هذا القسم غير العربات المختلفة أسلحة استعان بها بطرس الكبير على زمرة من الجنود طغوا وبغوا يعرفون باسم أوسترلتز، وهم أشبه بالمماليك الذين أبادهم محمد علي في مصر أو الإنكشارية الذين أبادهم السلطان محمود في الآستانة.
كاترينا الثانية إمبراطورة روسيا.
هذا جل ما في الدور الأسفل من دار التحف. وأما الدور الأعلى ففي صدره صورة الإمبراطورة كاترينا الثانية امتطت جوادا مطهما، وقد ركبت كما يركب الرجال لا كما يركب نساء هذا العصر، وتردت بأثواب الفرسان فلا يظنها الرائي لأول وهلة من النساء. وفي غرف هذا المتحف أنواع الأسلحة من قديمة وحديثة وشرقية وغربية، وفيها شيء كثير أهدي إلى قياصرة الروس من سلاطين آل عثمان وملوك إيران وأمراء خيوا وبخارى وألبانيا والجركس، هذا غير أسلحة القياصرة الكثيرين مرتبة في دائرة واسعة وضعوا في وسطها رايتين للقائد يرماك فاتح سيبيريا، وراية للبرنس يازارجسكي الذي أنقذ الروس من دولة بولونيا في سنة 1612 على ما رأيت في الخلاصة التاريخية، وأعلاما أخرى للإمبراطور ألكسي، وغيرها لبطرس الكبير وسواه تشهد بمفاخر الروس وفعالهم في الحروب.
وفي هذه الدار غرف وضعت فيها مجوهرات القياصرة والقيصرات وملابسهم الرسمية والأكاليل الفاخرة وعصي الملك الثمينة والحلي النفيسة، وهي تامة هنالك مرتبة ترتيبا تاريخيا مدة هؤلاء القياصرة، فترى ملابس كل قيصر أو قيصرة في موضعها حتى الأحجبة التي كانوا يعلقونها تحت قمصانهم وكذلك كراسيهم، أو هي العروش يجلسون عليها في ساعات الحكم والإمارة، أذكر منها عرش القيصر ألكسي وهو مرصع بنحو ثمانمائة حجر من الألماس، وعرش إيفان فيه نحو تسعمائة حجر من الألماس والفيروز أكثرها هدايا من شاه إيران في أيامه، وقد جلس جلالة القيصر الحالي على هذا العرش يوم تتويجه، وعرش بطرس الكبير فيه ألفان ومائتا حجر من الألماس، ورأيت هنالك كرسي الملك قسطنطين آخر ملوك الدولة الشرقية في الآستانة صنع من العاج وقد نقل من الآستانة إلى موسكو بمساعي الإمبراطورة صوفيا، وهو الذي جلس عليه إسكندر الثاني يوم تتويجه.
ومما يذكر بين تحف هذه الدار العظيمة سيف عثماني مرصع بالألماس، وسرج عربي مرصع أيضا ولجام وركابات صنعت على النمط العربي، وهي من الفضة محلاة بالذهب، وقد أهديت هذه كلها إلى الإمبراطورة كاترينا الثانية من السلطان سليم الثالث، وهنالك آنية من الذهب وبقية المعادن الثمينة لا تعد أكثرها هدايا لقياصرة الروس من أقيال الشرق والغرب، من ذلك آنية للمائدة كاملة كلها من الذهب الخالص تستعمل في ولائم التتويج، ومنضدة وسيف وديك ونسر من الفضة أهديت من مدينة باريس في أيام نابوليون الأول، وقصع جميلة قدم عليها الخبز والملح للقياصرة علامة الخضوع، وطاقم صيني من أنفس أنواعه صنع في معمل سيفر المشهور، وأهدي من نابوليون الأول لإسكندر الأول، ورأيت هنالك كرسي خان خيوا استولى عليه الروس سنة 1873 وكرسي عباس ميرزا سلطان إيران أخذ سنة 1827، وسريرا لبطرس الكبير كان يضطجع عليه مدة الحروب، وسريرا لإسكندر الأول لهذه الغاية وسريرين لنابوليون بونابرت وقعا في قبضة الروس سنة 1812 حين تقهقر ذلك الفاتح العظيم عن بلادهم بعد واقعة موسكو. وأما ملابس القياصرة الموجودة في هذه الدار فيعجز القلم عن وصفها ويضيق المقام، أذكر منها ملابس إسكندر الثالث وقرينته، وهما والدا القيصر الحالي، وهي حلة من الحرير الأصفر الفاخر فوقها رسوم النسر الروسي بالقطيفة السوداء ولها ذيل طويل مبطن بالفرو الأبيض الثمين، وفي صدرها «بطرشين» إكليريكي عليه رسوم النسر الروسي والملائكة وفوقها التاج البطريركي مرصع بأنفس الحجارة الكريمة على أشكالها، وفي قمته نسر من الذهب فوقه صليب من الفضة، وأما حلة القيصرة فقد صنعت كلها من الفضة الرقيقة وبطنت بالحرير الأبيض وزركشت بالرسوم مماثلة لما ذكرنا عن حلة القيصر، وفوقها تاج أصغر من تاج القيصر ولكنه لا يقل عنه جمالا وثمنا، وهذه حلة ثقيلة لا يمكن للقيصرة المسير بها، ولكن الأميرات التابعات لها يرفعن جوانب الحلة من وراء القيصرة مدة وقوفها في حفلة التتويج ومسيرها القليل، وقد وضعوا هاتين الحلتين داخل قباء أو مظلة من الحرير الأصفر المزركش بالرسوم الروسية يتدلى من جوانبها أهداب حريرية صفراء، وهي قائمة على عمد رفيعة من الفضة المحلاة بالذهب عدتها اثنا عشر، يمسك بكل منها قائد من قواد السلطنة الروسية، ويرفعون هذه المظلة فيسير من تحتها القيصر والقيصرة بأبهة عظيمة، وقد أوصت القيصرة الحالية في باريز على بدلة التتويج حين توج قرينها القيصر فاشتغل مهرة الرجال والنساء بها 12 شهرا، وبلغ ثمنها 40 ألف جنيه، والبدلة كلها حجارة من الألماس واللؤلؤ نسجت بخيوط مستدقة من الذهب، وقدر بعضهم قيمة ما في هذا المتحف من النفائس بنحو 12 مليون جنيه.
تتويج القيصر نقولا الثاني.
تتويج القيصر نقولا الثاني.
وقد أشرت مرارا إلى حفلة التتويج كما ترى، فرأيت هنا أن أوضح بعض الشيء عنها؛ لأنها أكبر ما يأتيه البشر من أنواع الأبهة ومظاهر العظمة والفخامة في الحفلات الكبرى، وكانت زيارتي لبلاد الروس في أيام القيصر إسكندر الثالث والد القيصر الحالي، فاخترت أن أصف كيفية الاحتفال بتتويجه؛ لأن نظام هذه الحفلات يتغير قليلا بحسب مطالب الزمان ورغائب القيصر، ولو أن الأشياء الجوهرية تظل على حالها، وأما إسكندر الثالث فإنه جاء ليتوج في موسكو مع عروسه في قطار خاص يتقدمه قطاران، أولهما رائد الطريق والثاني فيه بعض الأعوان والعمال، وكانت الطرق كلها تحرسها الجنود الروسية والمحطات مزدانة أبهى زينة، وفيها الجنود أيضا يؤدون التحية العسكرية ويضجون بالدعاء كلما مر القيصر بواحدة منها حتى إذا وصل القطار الملكي موسكو أطلقت المدفع، وجرت رسوم الاستقبال العظيم، وسار القيصر والقيصرة إلى سراي بتروفسكي من الضواحي في طرق زينت أفخر زينة، وكانت المدينة كلها يومئذ في فرح عظيم وفيها من الناس ألوف فوق ألوف جاءوا من كل صقع بعيد؛ ليروا أعظم الحفلات الملكية وكانت هذه الألوف تصيح بالدعاء وتطأطئ الرءوس تجلية وإكراما أينما سار القيصر العظيم. وبات القيصر والقيصرة تلك الليلة في قصر بتروفسكي الذي ذكرناه، وهي عادة جرى عليها القياصرة من أول هذا القرن تذكارا لخروج نابوليون بونابارت منه، فإنه جعله منزلا له مدة وجوده في موسكو محاربا للروس، ولما بدأ الصباح التالي قامت موسكو عن بكرة أبيها لتحتفل بيوم التتويج، فما كنت ترى إلا جنودا وقوادا وأمراء وسفراء ووزراء ونوابا وأهل مقام كبير يخطرون بالحلل الفاخرة وسيدات من كل نوع وملة يتهادين بجميل الملابس ويتفاخرون بنفيس الحلي والجواهر، وقد تراكمت ألوف الناس بعضها فوق بعض وامتلأت الطرق بهم وبالرياحين والأزهار والطنافس والرايات وغيرها من أدوات الزينة، وما بقي سطح ولا شرفة ولا نافذة حتى احتشد الجمع فيها بلهفة وشوق إلى رؤية الموكب العظيم، حتى إن البيوت والأماكن الواقعة في الشوارع التي مر منها الموكب استأجرها أهل اليسار بالمال الكثير، ودفع بعضهم خمسة آلاف ريال أو تزيد أجرة موضع تقعد فيه العائلة وتطل على ذلك الموكب حين مروره.
ولما جاءت الساعة التاسعة من يوم التتويج امتطى القيصر صهوة جواد كريم مطهم، وتبعه فريق من أهل الشرف الباذخ والمقام الرفيع على ظهور الجياد أيضا حارسين لجلالته ومعظمهم أمراء وقواد وكبراء بالملابس الرسمية والوسامات العالية، والقيصر يومئذ بلباس قائد من قواد جيشه الباسل، وكان أمام هذه الفرقة العظيمة مركبة فاخرة أكثرها من الذهب قعدت فيها القيصرة، ومن ورائها عربات أخرى بديعة الصنع للأميرات ونساء الأشراف وتابعات القيصرة، وأمام الكل فرق من الجند ما بين مشاة وفرسان ومدفعية وقوزاق، والكل بأبهى الحلل وأجمل المناظر يحار المتفرج في أي أقسام هذا المركب أولى بالتحديق والإمعان، ومن وراء الكل أيضا بقية المحتفلين وفرق الجند مصطفة إلى جانبي الطريق، وما زال الموكب سائرا والأبصار خاشعة والقلوب مفتونة بأبهته وكماله حتى وصل القيصر والقيصرة قصر الكرملن؛ حيث يتوجان، فدخلا من باب المخلص الذي ترفع القبعات عند دخوله، فرفع القيصر ومن أحاط به من القواد والأمراء أيديهم إلى رءوسهم علامة الاحترام ولم يرفعوا القبعات كغيرهم؛ لأنهم كانوا لابسين الملابس العسكرية، وظلوا على ذلك إلى أن اجتازوا الباب، وأما الباقون فكلهم طأطئوا الرءوس ورفعوا القبعات إجلالا وإكراما، وأما القيصرة والأميرات والسيدات فإنهن جعلن يرسمن علامة الصليب على الوجوه والصدور حتى صرن وراء ذلك الباب، ودخل الجميع ذلك القصر الفخيم فلبس القيصر والقيصرة بدلة التتويج - التي مر ذكرها - وحمل التاج الملكي قائد عظيم من قواد الجيش، وحمل الصولجان قائد آخر والكرة الأرضية قائد ثالث - وقد تقدم ذكر هذه الكرة عند وصف الجواهر في القصر الشتوي، وهي ترى صورتها في شعار الدولة الروسية - ثم دخل القيصر والقيصرة تحت المظلة التي وصفناها، وقد رفعها فوق رأس القيصر 12 قائدا، وسار الموكب العظيم - على مثل ما سبق الذكر - إلى كنيسة الصعود بين هتاف صعد إلى السماء من جموع الناس وقصف المدافع، وكان الأساقفة وخدمة الدين في مقدمة الموكب، ومن ورائهم أمراء الدولة والوزراء والقواد، وكل ذي مقام خطير، حتى إذا دخلوا الكنيسة بدأت الصلاة بوقار وجلال عظيم، وكان القيصر قد وقف فوق منصة عالية فرشت أرضها بالأطالس وزينت جوانبها بالذهب وبهي الألوان، ولا حاجة إلى وصف ما في الكنيسة من بدائع وما خامر نفس الحاضر من هيبة ذلك الموقف العظيم، وما كان له من الواقع والجمال الغريب، وتقدم رئيس أساقفة موسكو في خلال الاحتفال الديني فناول القيصر ورقة خط عليها يمين الأمانة، يقسمه القياصرة حين تتويجهم، فأخذها القيصر منه وتلاها بصوت جهير، والناس قد ملأت أفئدتهم هيبة تلك الرسوم ووقار ذلك الموضع، وهاك تعريب القسم المذكور:
يا ربي وإلهي، يا ملك الملوك، إني أعترف برأفتك وإشفاقك، وأنحني خضوعا أمام مجدك العظيم؛ لأنك اخترتني ملكا وقاضيا للسلطنة الروسية المظفرة، فاجعل الحكمة السائدة في عرشك أن تهبط علي من علو قدسك حتى آتي الذي يروق في عينيك، وأفهم كل ما ينطبق على أوامرك، وليكن قلبي مودعا بين يديك الطاهرتين وأهلني لعمل ما يفيد الأمة العظيمة التي أقمتني رئيسا لها، على أن أقدم الحساب عنها في يوم قضائك الرهيب آمين.
هذه صورة القسم العظيم يتلوها القيصر وهو راكع والناس وقوف خاشعون، حتى إذا انتهى من تلاوتها نهض وركع الحاضرون جميعا إلى أن يتم الاحتفال الديني، ولما فرغ القيصر من القسم تناول تاجه من يد رئيس الأساقفة ولبسه علامة أنه هو رئيس الكنيسة الروسية، ثم تناول تاج القيصرة ووضعه على رأسها أيضا، فتقدم رئيس الأساقفة ودهن رأس القيصر ويديه وجبينه بالزيت المقدس، وباركه وبارك القيصرة، وتلا صلاة وجيزة ثم رفع يديه مبتهلا شاكرا الله، وتم بذلك الاحتفال، فنهض الجمع الغفير، ودقت أجراس الكنائس كلها وأولها جرس كنيسة فان فلكي، وعدد هذه الأجراس لا يقل عن ألف وخمسمائة ثم أطلق مائة مدفع ومدفع، وهتفت الجنود بالدعاء، وصاحت جماهير الناس وألوفهم المؤلفة بأصوات الفرح والابتهال حتى إذا اشتد قصف المدافع ورنة الأجراس كلها اختفت عند تلك الأصوات الكثيرة والضجة الهائلة، وعاد القيصر ومن معه في وسط تلك الأصوات المتصاعدة إلى السماء فدخل القصر المشهور واستقر به المقام في قاعة القديس أندراوس - التي ذكرناها - وفي صدرها العرش جلس فوقه والقيصرة عن يساره، وهنالك جاءت وفود المهنئين والذين يقدمون علامات الخضوع خبزا وملحا، وطال المقام لكثرة القادمين من أصحاب المراكز الكبرى حتى جاءت ساعة الطعام فدخلوا قاعته وهم لا يقلون عن ثلاثمائة شخص من أكبر كبراء الأرض والقيصر في أولهم، وفي المساء زينت موسكو زينة باهية باهرة، وظلت الحفلات والولائم والأفراح قائمة بعد ذلك ثمانية أيام عاد من بعدها القيصر إلى العاصمة، وانتهى بذلك الاحتفال بتتويجه.
وبعد أن خرجت من هذا القصر سرت في الطريق الذي اتبعه الموكب إلى كنيسة الصعود التي يتم فيها التتويج، ورأيت غيرها من كنائس موسكو العظيمة، وهي كثيرة العدد أخاف إن أقدمت على وصفها أن يطول الشرح إلى فوق ما يمكن إيراده، ولكنني أقول هنا بالاختصار إن كنائس موسكو تعد في الطبقة الأولى من الأهمية بين الكنائس، يكثر فيها الذهب والرخام وأبواب الفضة والهياكل والمذابح من الفضة أيضا، وفيها صور ثمينة كلها مرصعة، أذكر منها صورة العذراء في كنيسة الصعود هذه يقولون إنها من صنع لوقا الإنجيلي، نقلت من الآستانة إلى كنائس روسيا في القرن الثاني عشر، ولا يقل ثمنها وثمن جواهرها عن خمسمائة ألف ريال روسي، وصورة أخرى هنالك للسيد المسيح يحافظون عليها كل المحافظة، ولا يراها إلا القليلون في بروازها حجارة ثمينة من هدايا القياصرة لا تقل قيمتها عن نصف مليون ريال أيضا، ومذبح هذه الكنيسة من الذهب الخالص صنع على شكل جبل طور سينا، وفي أعلاه صورة الكليم موسى حاملا ألواح الشريعة، ولا يقل ثمن هذا المذبح عن خمسين ألف جنيه .
ويقرب منها كنيسة على اسم رئيس الملائكة، فيها مدافن لبعض قياصرة الروس الذين توفوا في موسكو يزورها كل قيصر يأتي هذه المدينة بعد الاحتفال بتتويجه، ولكنه لا يقف في الكرسي المعد له، بل بين هذه المدافن عبرة وذكر.
ومن ذلك كنيسة العذراء العجائبية يزورها كل قيصر يأتي موسكو أيضا، ولا يمر بها روسي إلا وهو يرسم الصليب على وجهه، فيها صورة العذراء داخل إطار غالي الثمن نفيس الحجارة، وأصل الصورة من دير طور سينا، والناس يعتقدون بكرامة هذه الأيقونة ويقدمون لها النذور الكثيرة، وقد يطوف الكهنة بها في عربة فاخرة تجرها أفراس ستة فيدخلون بها بيوت المرضى، ويجل القوم مقامها إجلالا عظيما ويتبركون بحضورها، فإذا قابلوها في طريق طأطئوا الرءوس ورفعوا القبعات، وفي موسكو غير هذا من الكنائس ما ليس يمكن لنا الإشارة إليه بعد الذي تقدم ذكره.
ورأيت في موسكو ساحة الأعمال الحربية، وهي على مقربة من هذه الكنائس، فيها ركام متراكمة من المدافع القديمة يبلغ عددها 875 مدفعا، منها 366 تركها نابوليون الأول عند تقهقره من بلاد الروس، وعلى بعضها الحرف الأول من اسمه، وهناك مدافع نمسوية وبروسيانية وبولونية وبافارية وهولاندية وأسوجية، وكلها من غنائم الحروب السابقة، وأعظمها مدفع مسكوبي من أيام القيصر فيودور الأول يقال له أبو المدافع وزنه 39000 كيلو وقطره متر، ويلزم لكل طلقة من طلقاته 2000 كيلو من البارود.
ومما رأيت في موسكو متحف الصور، وأكثره رسوم تمثل حوادث التاريخ الروسي، فإني لما رأيت صورة حصار بلفنا مثلا، وقائد الجند الروسي سكوبلف يخطر على جواده بين الصفوف بعد تسليمها، ذكرني ذلك بما كان من بسالة الجنود العثمانية والروسية في ذلك الحصار المشهور، وما جرى للغازي عثمان باشا من الإكرام بعد أن سلم للروس وصار أسيرا عندهم، فإن القيصر إسكندر الثاني وقواد جيشه رأوا أن هذا البطل العثماني أظهر بسالة خارقة في الحصار، فأحبوا إظهار إعجابهم بصفاته وأرسل القيصر وراءه، وهو أسير فجاء في طريق اصطف جنود الروس إلى جانبيه، ولما دخل مضرب القيصر وجده واقفا بين قواد جيشه الظافر، فحياه القيصر ولاطفه كثيرا وهنأه بإقدامه الغريب ثم رد إليه سيفه ، والأسير لا يرد إليه السيف إلا علامة الإكرام العظيم فقبله البطل العثماني شاكرا، وخرج من خيمة القيصر فصاح الجنود الواقفون في الطريق «برافو عثمان»، معجبين ببسالته وشكرهم هو على ذلك اللطف، فكانت حكاية بلفنا من أجمل حكايات الحروب الحديثة.
وقصدت بعد ذلك موضعا في الضواحي يسمونه جبل العصافير، سرت إليه في عربة فوصلته بعد ساعتين، ورأيت هنالك خلقا كثيرا من المتفرجين، وسفح هذا الجبل عند نهر موسكوفا، ثم تتعالى جوانبه شيئا فشيئا حتى تناطح السحاب وكلها مكسوة بالشجر البهي كالسنديان والصنوبر، فلما ارتقينا القمة رأينا موسكو تحت أنظارنا والنهر ملتف بها متعرج بين جوانبها، ومن ورائها هاتيك السهول الفسيحة والأغراس البهية وذكرت ساعتئذ أن بونابارت استطلع المدينة حين قدومه لمحاربتها من هذا الموضع، ولعل ذلك البطل الذكي لما رأى حصون موسكو وقبابها وعظمة ما فيها حدثته النفس بالرجوع عنها مدحورا، فإنه كان سريع الخاطر كثير الإصابة فيما سيكون من ارتداده عن بلاد الروس بالخيبة، وكانت حملته عليها بدء سقوطه وضياع سلطته، فذكرني ذلك بما كان يقوله لقواده وهو ذاهب إليها: «لأفعلن ما أريد»، وأما في عودته فقال لهم: «افعلوا ما تريدون.» وعدت إلى المدينة في المساء في النهر، فعند وصولي قابلني صديق لي هو مدير شركة الكسييف التجارية العظيمة، ذهبت معه إلى مطعم أرمتاج، وهو محل فخيم ينار بالكهربائية، وكل ما فيه روسي محض، فإن ألوان الطعام روسية والخدمة يلبسون ملابس الروس القديمة، وهي سراويل ضيقة بيضاء وسترة بيضاء واسعة الأكمام وقبعة صغيرة بيضاء أيضا، فكان لهذه المناظر البهية ولصوت الموسيقى تأثير مطرب وأثر جميل، وأهل المدينة يقصدون هذا المطعم الفاخر لإحياء الليالي وعمل الولائم والأعراس، وفيه استعداد تام لكل ما يلزم من هذا القبيل، وغرف لكل أمر ومطلب حتى إن السمك يوجد في بركة حيا، والمرء يختار السمكة التي يريدها فيصطادونها ويطبخونها له في الحال.
وقد سرت مع هذا الصديق في اليوم التالي لزيارة كنيسة المخلص، وهي من أعظم الكنائس وأبهاها، بنيت فوق أكمة تشرف على المدينة ولها قباب مذهبة بديعة الأشكال بناها القيصر نقولا الأول تذكارا لخلاص البلاد من الفرنسويين، وبلغت نفقات بنائها عشرين مليون ريال، جمعت بالاكتتاب من مدن روسيا، وقد اشتغلوا ببنائها 44 سنة، والذي فيها من الصور الثمينة والأنوار البديعة والجوانب المزخرفة يفوق الوصف، وفيها خمسة آلاف نور. وكنيسة أفان فليكي في برجها 34 جرسا، صنع أكبرها من بقايا أجراس قديمة بعد حريق موسكو سنة 1812 وزنه 68390 كيلوجراما، وعليه صور الإمبراطور إسكندر الأول وبعض أعضاء عائلته، وهو يقرع مرتين في السنة - أي يوم عيد الميلاد ويوم عيد الفصح - ويقرع أيضا عند التتويج أو عند حدوث حادث في السلطنة عظيم كوفاة قيصر أو ما يشبه هذا، وأعظم منه - بل هو أعظم أجراس الدنيا - الجرس الكبير الملقى إلى الأرض على مقربة من هذا البرج، وضعوه في قبة متينة فسقطت من ثقله، علوه 8 أمتار ومحيط فوهته 24 مترا، فيمكن لعشرين شخصا أن يجتمعوا داخله، وعليه نقوش دينية ورسوم بعض القياصرة، ويؤخذ من كتابة عليه أن الإمبراطورة حنة صبته سنة 1731 ويبلغ وزنه 195000 كيلو.
وقد ذكرنا أن القياصرة إذا أتوا موسكو للتتويج باتوا في قصر بتروفسكي تذكارا لخروج نابوليون منه، وهو بات فيه ليلة اندحاره وتقهقره عن موسكو، ومما يذكر عنه أنه جاء بلاد الروس ومعه 150 ألف جندي، فلما خرج من موسكو كان معه 40 ألفا فقط، وذلك بسبب ما أصاب هذا الجيش من هجمات الروس والبرد الشديد وتراكم الثلج وقلة الزاد، وقد مات هذا الخلق الكثير - أي مائة وعشرة آلاف - في ثلاثة أيام فقط من 19 إلى 22 أكتوبر سنة 1812، فسرت إلى هذا القصر في سهل فسيح تحيط به الحدائق الغناء والرياض الفيحاء، ووراءها ساحة التمرينات العسكرية وميدان لسباق الخيل ومتنزهات وقصور جميلة، حتى أتينا القصر ورأينا جوانبه، ولا حاجة إلى الوصف والإسهاب بعد كل الذي كتبناه عن قصور القياصرة العظام.
وجملة القول أني شغفت بهذه المدينة وآثارها العظيمة، فما أبقيت منها شيئا حتى قصدته، ولما انتهى الأجل وعولت على الرحيل منها غادرتها وقصدت غيرها من مدائن الروس.
كييف
اجتاز القطار بنا المسافة بين المدينتين في 27 ساعة قضينا معظمها نخترق الهضاب والبطاح، ونسرح الأنظار في تلك المروج النضرة والحراج الغضة والحقول الفسيحة مرصعة بالقرى والعمائر، وفيها الفلاحون بالجبات الطويلة والجزم الروسية المتينة، والنساء بملابس من الشيت يعملن في إنبات الأرض واستدرار خيرها على مهل، والرزق متوفر لديهم بما نالوا من خصب الأرض وطيب الهواء. وكييف - ولا يخفى - كانت عاصمة الروس قبل موسكو، وهي تعد مدينة مقدسة عند القوم؛ لأن النصرانية امتدت منها إلى بقية نواحي المملكة، وفيها مناسك الأولياء ومعابد قديمة العهد، وهي عاصمة إقليم كبير بنيت على ضفة نهر دنيبر العظيم، وهم يسمونه نهر أورشليم؛ لأن الذين اعتنقوا الدين المسيحي عند دخوله البلاد تعمدوا في مائه، ولمنظرها جمال تحفظه الذاكرة؛ لأن أحياءها واقعة على تلال وآكام، تليها عقبات وساحات، وهي مشهورة بتجارة الغلال؛ لأنها مثل أكثر مدائن الروس في وسط سهول تكثر فيها الزراعة.
ومن أشهر ما في كييف الدير القيصري وكنيسته والمغارات المقدسة إلى جانبه، وهو على رأس أكمة بديعة قصدناه ودخلنا تلك المغائر الضيقة، فرأينا فيها مدافن المتعبدين الأول توقد الشموع إلى جانبها ليل نهار، وللناس ولع بزيارة هذا الموضع حتى إنهم لا يقلون عن مائتي ألف زائر كل عام، وفي هذا الدير مدرسة لاهوتية ومطبعة وفرن للقربان المقدس، بلغ ثمن ما وزع منه على الزائرين في سنة واحدة خمسين ألف ريال، وفيه كنيسة كأنها قطعة من الذهب لكثرة ما ذهبوا من جوانبها، وقد أودعوا فيها عظام القديس ثيودوسيوس، وهنالك موضع بسيط لا أثر فيه للعظمة غرسوا فيه صليبا وإلى جانبه بركة من الماء يحترمهما الروس احتراما عظيما؛ لأن هذا الموضع كان أساس النصرانية في البلاد وأول من تنصر من أهلها عمد في تلك البركة، فهم يتبركون بمائها وينقلونه إلى أبعد الأنحاء، وأكثر ما في كييف مناظر مثل هذه لست أرى داعيا إلى الإسهاب في وصفها، وعدد سكانها ثلاثمائة ألف نفس.
أودسا
تركت كييف قاصدا أودسا وهي مدينة للروس عظيمة في الجنوب على شاطئ البحر الأسود، تبلغ المسافة بينها وبين كييف 16 ساعة في القطار، ولا يصل المسافر من بطرسبرج إليها إلا بعد سفر ستين ساعة في القطار المستعجل يجتاز في خلالها 11 إقليما، وفي هذا ما يكفي للدلالة إلى اتساع بلاد الروس وعظمتها، والطريق إلى أدوسا لا يختلف في وصفه عما مر ذكره من مناظر البلاد الروسية، ولكن المدينة عظيمة الأهمية، والمتاجر يصدر منها في كل عام من الحبوب ما قيمته مائة مليون ريال، وفيها معامل للنشا وللصابون والحديد والجلد والدخان والشمع، ومعامل لبناء السفن التجارية والحربية، ولا يقل عدد السفن التي تدخل ميناءها كل سنة عن ستة آلاف سفينة. ولهذه المدينة تاريخ قديم مثل كييف، فإنها بنيت على عهد كاترينا الثانية، وأتاها في سنة 1790 فرنسوي هو الدوك ريشليو هجر بلاده لأسباب سياسية، فعين حاكما لها ونظمها ورفع منزلتها، فصارت من أيامه تعد من أمهات المدائن الروسية، وهي الرابعة بين مدن روسيا الكبيرة الآن، وعدد سكانها نصف مليون من النفوس.
وأعظم مشاهد أودسا محل يشبه منشية الإسكندرية في شكله ووضعه، وهو إلى جانب البحر ترى منه البواخر الراسية أو السائرة في كل الجهات وقسما عظيما من المدينة، وهو مثابة الكبراء من أهل أدوسا ينتابونه في الليل والنهار، وفيه مطاعم ومواضع للتنزه من كل جانب، ويلي هذا الموضع البهي بناء البورصة والمكتبة العمومية ونادي الأشراف ومركز شركة البواخر الروسية والمرسح الجديد، وغير هذا مما أكتفي بالإشارة إليه، هذا غير الضواحي الجميلة والقرى الكثيرة المحيطة بهذه المدينة، مما قضيت ردحا من الزمن في التفرج عليه إلى أن آن زمان السفر من بلاد الروس فتركتها معجبا بما فيها.
الدولة العلية
خلاصة تاريخية
أسس هذه الدولة العظيمة أمير اسمه أرطغرل، كان قد نزح مع أبيه وقبيلته على عهد جنكيز خان من بادية خراسان إلى جهات الأناضول في أواخر القرن السابع للهجرة، وكان في أول أمره تابعا لأمير قونية السلجوقي، فلما مات ورث الإمارة ابنه عثمان وهو جد هذه الدولة الذي أورثها اسمه، كان حاكم قضاء صغير في إمارة قونية، فلما مات أميرها علاء الدين استقل عثمان بولايته سنة 1299 مسيحية و699 هجرية، وجعل من بعد ذلك يوسع دائرة ملكه، ويسطو على الأقوام المجاورة له، حتى إنه توصل إلى فتح مدينة بروسة (بورصة) المشهورة على يد ابنه أورخان، وجعلها مقر إمارته إلى يوم مماته في سنة 1326 / 726ه.
وخلف عثمان ابنه أورخان، وكان محبا للفتح وله ميل إلى تحسين الإدارة الداخلية، فهو أول من نظم الحكومة العثمانية ووضع أساس الجيش العثماني والإنكشارية الذين اشتهروا بعد ذلك في تاريخ هذه الدولة، وأصلهم من أسرى الحروب ومن أولاد النصارى، جعل السلطان يربيهم تربية إسلامية؛ ليكونوا عدته في الحروب القادمة، وبقي وجاقهم ذا شأن كبير يولي السلاطين أحيانا ويخلع السلاطين إلى أواسط القرن التاسع عشر حين أفناهم السلطان محمود، وأراح البلاد من عنادهم وتحكمهم.
وتعاقب السلاطين بعد أورخان، وكل منهم في أوائل هذه الدولة يوسع أملاكها ويفتح أقطارا جديدة حتى وقعت آسيا الصغرى كلها في قبضتهم وبعض أوروبا، ثم قام محمد الثاني فاتح القسطنطينية وتمكن من الاستيلاء عليها بعد حصار شديد سنة 1453 فجعلها قصبة ملكه، فهي دار السلطنة والخلافة الإسلامية إلى اليوم، وكان الأتراك يتشوقون من زمان طويل إلى فتح هذه المدينة واستخلاصها من يد الروم، وقد قتل الملك قسطنطين باليولوغوس في أثناء الحصار، وهو آخر ملوك السلطنة البزنطية، وعرفت جثته بعد دخول الأتراك إلى المدينة، فأمر السلطان محمد أن تدفن بالإكرام. ثم استولى السلطان على خزائن الآستانة وعظم شأنه في الأرض، وبدأت أوروبا تخاف من سلامتها من الفاتحين العثمانيين؛ لأنه من يوم تولى السلطنة سليم الأول صار فتح أوروبا أمنية السلاطين، وسليم الأول هذا هو الذي ملك سورية ومصر وكردستان وبلاد العرب، وورث الخلافة عن العباسيين فبلغت السلطنة العثمانية في عهده مقاما رفيعا، ولما آلت الدولة إلى ابنه سليمان الأول، وهو المعروف بالكبير أو القانوني كان آل عثمان في أوج عزهم حتى إن نفس هذا السلطان سولت له أن يفتح أوروبا برمتها؛ فاكتسح بلاد البلقان وضمها إلى ملكه وتقدم على بلاد المجر فأثخن في أهلها، وزحف بعد هذا على فيينا سنة 1529 فحاصرها وضيق عليها الخناق ، ولكنه لم يتمكن من فتحها، ولو هو فعل لوقع معظم أوروبا في قبضة الأتراك.
السلطان محمد الخامس.
وكان السلطان سليمان معاصرا لشارلكان إمبراطور ألمانيا وإسبانيا وفرانسوا الأول ملك فرنسا، وقد تداخل مرة في الحروب بينهما نصرة لملك الفرنسيس، ولم تر الدولة عزا مثل الذي رأته على أيامه؛ لأنها بلغت حدا بعيدا في أملاكها؛ ولأن سلطانها كان حكيما في الإدارة قديرا في حروب، فلما آلت السلطنة إلى من جاء بعده بدأت بالهبوط لما أن الخمول والانغماس في اللذات تغلبا على السلاطين، هذا غير أن الاضطرابات الداخلية كثرت من بعد أيام السلطان سليم، وعاث الإنكشارية في البلاد فسادا، وصيروا السلطان ألعوبة في أيديهم حتى أبادهم السلطان محمود كما تقدم القول، وقد ضعفت الدولة بتوالي الحروب مع روسيا وسواها، وجعلت أملاكها الأوروبية تضيع من قبضتها شيئا بعد شيء حتى إذا كانت سنة 1878، وعقد مؤتمر برلين بعد حروب روسيا وتركيا الأخيرة انتهى عمله بفصل معظم الولايات الأوروبية وتحريرها، ثم تلا ذلك أن كريت استقلت إداريا على إثر حرب الأتراك والأروام الأخيرة، وأن القلاقل الداخلية كثرت وتجسمت على عهد السلطان عبد الحميد الثاني، حتى رأى عقلاء الأمة أنه لا ينقذ هذه السلطنة من الاضمحلال غير الإصلاح على القاعدة الدستورية، فظلوا يستعدون سرا لهذه الغاية، والسلطان يبطش بكل ذي صراحة منهم حتى استمالوا إليهم قسما عظيما من الجيش، وأكرهوا السلطان على قبول الدستور وإعادة القانون الأساسي الذي نودي به في أوائل حكمه، وكان ذلك في 24 يوليو سنة 1908 ففرح العثمانيون بهذه النعمة فرحا عظيما في سائر الأقطار، وأقاموا الحفلات الشائقة، وسارت الحكومة العثمانية سيرا دستوريا بضعة أشهر سولت النفس في خلالها للسلطان عبد الحميد أن يعيد استبداده السابق؛ فانتفض عليه الجيش مرة أخرى وتغلب على أعوانه وخلعه بفتوى من شيخ الإسلام يوم 28 أبريل من سنة 1909، ثم ارتقى العرش مكانه جلالة السلطان الحالي محمد الخامس، وهو أول ملك دستوري رقي عرش عثمان وأعلن رغبته مرارا في الحكم على الطريقة الدستورية، وميله إلى الاختلاط بالأمة والسياحة في الأقطار، وقد قلد جلالة السلطان محمد الخامس سيف آل عثمان يوم 10 من شهر مايو سنة 1909 في حفلة باهرة، هي بمثابة حفلات التتويج عند ملوك الإفرنج، ورأيت أن أنقل هنا تفاصيل هذه الحفلة العثمانية إتماما للفائدة فأقول:
لما عزمت الحكومة العثمانية على تقليد جلالة السلطان سيف جده عثمان أرسلت منشورا إلى سكان الآستانة، بينت لهم فيه مواضع الاحتفال المئوي وآياته، وأشارت بتزيين الطرق والمنازل، ثم اهتمت بإعداد الدواوين والجوامع والميادين وبقية المواضع العمومية التي مر بها الموكب، أو تم فيها شيء من حفلات التتويج، ونصبت السرادقات الخصوصية للسفراء والأمراء والرؤساء الروحيين ونواب الصحف، حتى إذا تم الاستعداد رسا يختان عثمانيان قرب سراي طولمه بغجه، وهي منزل السلطان الحالي، فلما جاء موعد القيام خرج أمراء البيت السلطاني وجلسوا في أحد اليختين المذكورين، وركب حرم القصر العربات السلطانية وسرن محفوفات بالخدم والأغوات إلى استامبول. وفي الساعة الحادية عشرة والدقيقة 35 خرج جلالته فصدحت الموسيقى بنغم الحرية، وركب يخت سيودلي فسار إلى بستان أسلكه سي، وحيته المراكب الحربية العثمانية بإطلاق المدافع، وفي مقدمتها المدرعة مسعوديه.
ولما وصل جلالته بستان أسكله سي استقبله الوكلاء وشيخ الطريقة المولوية جلبي أفندي، وهو الذي له حق تقليد السلطان سيف عثمان وبعض المشايخ، وسار الموكب إلى جامع أيوب الأنصاري مشيا على الأقدام فدخل، جلالته المكان المعد له وجلس الوكلاء في أماكنهم. وبعد أن استراح قليلا دخل إلى التربة حيث كان السيف موضعا على نمرقة فأخذه بحضور رئيس الأعيان والمبعوثان والصدر الأعظم وشيخ الإسلام، وأعطاه لجلبي أفندي فقلده إياه، وقرأ دعاء لجلالته، وكان الانفعال باديا على جلالته، ثم خرج الناس وتركوا جلالته يؤدي الصلاة لله شكرا على هذه المنة.
ولما اجتمع الموكب خارج الجامع دخل السر تشريفاتي وأخبر جلالته بذلك فخرج وحيا المدعوين في صحن الدار، وركب العربة وسار الموكب في ثلاث ألايات على الترتيب التالي: (1)
سيارة مصفحة تقل جماعة من الضباط سارت أمام الجميع لفتح الطريق. (2)
فصيلة صغيرة من فرسان سلانيك. (3)
فصيلة من الفرسان أيضا. (4)
الموظفون الذين رتبتهم بالا راكبين العربات. (5)
ثلاثة فرسان وراءهم. (6)
الرؤساء الروحيون غير المسلمين. (7)
العلماء بالجبات الزرق. (8)
وفد المبعوثان. (9)
وفد الأعيان. (10)
فصيلة من الرماحة. (11)
الوزراء كل اثنين منهما في عربة. (12)
رئيسا النواب والأعيان. (13)
الصدر الأعظم وشيخ الإسلام. (14)
فصيلة من الفرسان. (15)
سر ياور. (16)
سر تشريفاتي. (17)
حرس سلانيك. (18)
قومندان الجندرمة. (19)
فصيلة رماحة. (20)
قائد الجيش العام. (21)
أنور بك بطل الدستور العثماني. (22)
فرقة رماحة. (23)
أركان الحرب. (24)
السلطان في عربة سلطانية مقابله مختار باشا الغازي أقدم الضباط العثمانيين عهدا. (25)
جنود من سلانيك ومعهم عدد من الرماحة. (26)
ضياء الدين أفندي نجل جلالة السلطان ولطفي بك تشريفاتي جلالته. (27)
نجم الدين نجله الثاني. (28)
عمر حلمي نجله الثالث. (29)
نيازي بك بطل الدستور. (30)
فرقة من المدفعية. (31)
الفرسان. (32)
الداماديون أو هم أصهار السلطان. (33)
طوبجية الفيلق الثالث.
وقد رجع السلطان بهذا الموكب الباهر، والناس محتشدة ألوفا مؤلفة في كل موضع مر به، وقضى ساعتين بعد خروجه من قصر طولمه بغجه حتى بلغ طوب قبو حيث تحفظ الآثار النبوية، وهنالك نزل من العربة وتبعه الأمراء والوكلاء والعلماء، فزار تلك الآثار متبركا بها، ثم رجع من هنالك إلى قصره في الطريق التي جاء منها، وبذلك انتهى الاحتفال بتتويج سلطان آل عثمان.
الآستانة
برحت أدوسا وهي آخر المدن الروسية، قاصدا الآستانة في البحر الأسود، وركبت باخرة روسية ظلت ثلاثة أيام في هذا البحر حتى وصلت أول البوسفور، فوقفت قليلا وجعلت أتأمل تلك الحصون المنيعة التي أقامتها الدولة العلية إلى جانبي البوغاز، وصوبت مدافعها إلى حيث تجري البواخر، ولما سارت الباخرة في البوسفور ظهرت بدائعه من الجانبين، سواء المناظر الطبيعية أو القصور الشماء والرياض الفاخرة التي رصعت بها جوانب الأرض، مما سنصف بعضه حتى وصلنا جسر غلطه، وهو الذي نزلنا من الباخرة إليه. وبعد التفتيش ذهبنا إلى فندق رويال في حي بك أوغلي حيث أقمت مدة وجودي في الآستانة.
وقد كان موقع الآستانة ذا شهرة من قدم، وعرف باسم بزانتيوم ورد ذكرها في القرن السادس قبل التاريخ المسيحي حين محاربة الفرس والروم، وتوالت عليها الدول، فيوما كانت تقع في حوزة الروم ويوما يملكها الفرس حتى إذا دالت دولة الإيرانيين الأولى صارت من المدن الرومية، وظلت على ذلك إلى أن فتحها قياصرة الرومان مع بقية الولايات الرومية، ولكنها لم تشتهر بشيء كبير حتى قام الإمبراطور قسطنطين الأول سنة 306 مسيحية وأعجب بموقعها، فشاد بها العمائر وجعلها مقر سلطنته وسماها «رومة الجديدة»، إلا أن الخلف أطلقوا عليها اسم الإمبراطور الذي أسس دور عظمتها، فهي تعرف باسم القسطنطينية إلى هذا اليوم.
وفي سنة 395 قسمت سلطنة الرومان هذه جزأين، أحدهما غربي عاصمته رومة، والثاني شرقي عاصمته الآستانة، فصارت هذه المدينة الجميلة مركز سلطنة كبيرة تعرف باسم المملكة الشرقية لم يشتهر عنها شيء يوجب الفخر؛ لأن الضعف كان من صفات ملوكها والفساد عم بين أهلها إلى أن قام إمبراطور اسمه جوستنيانوس في سنة 527 فأصلح بعض أمورها، وطهر حكومتها من الفساد السابق ورفع منزلة جيشها وإدارتها، ونشط العلم وأكرم العلماء، وأحيا بعض الصناعات، فدخلت المملكة الشرقية على عهده في دور جديد من الحياة، ولم تزل آثار ذلك العصر البهي يرى السائح شيئا منها في أكثر المعارض الحديثة. وحدث بعد هذا بقليل أن الإسلام انتشر في الشرق، فجاء جنود العرب عاصمة الدولة الشرقية هذه وهاجموها مرارا، ولكنهم لم يقووا على فتحها مع أنهم أخضعوا عدة أقطار كانت تابعة لها، وظلت هذه المدينة محافظة على استقلالها مع الضعف الظاهر فيها حتى حصلت الحروب الصليبية المشهورة، فمر جنود من الفرنجة بها وملكوها وأتلفوا شيئا كثيرا من عمائرها ونفائس الصناعة القديمة فيها، ثم عادوا عنها واسترجع الروم استقلالها فظلت على ذلك حتى قيام الدولة العثمانية. وكان أول من هاجمها من سلاطين آل عثمان السلطان مراد الثاني أتاها من أدرنه في سنة 1422 فلم يفلح وخلفه ابنه السلطان محمد الثاني، وهو الملقب بالفاتح، فوجه همه من يوم ارتقاء العرش إلى افتتاح هذه المدينة، وحاصرها في اليوم السادس من شهر مايو سنة 1453، ففتحها في التاسع والعشرين منه بعد قتال شديد وحرب عنيفة قتل فيها الإمبراطور قسطنطين باليولوغوس، وهو آخر ملوك الدولة الشرقية وصارت الآستانة من ذلك العهد مقر السلطنة العثمانية.
خارطة الآستانة.
ولا حاجة إلى القول إن الآستانة دخلت في دور جديد من العظمة والأهمية بعد هذا الفتح؛ لأن سلاطين آل عثمان أرهبوا أوروبا وأرجفوها، وكانت عاصمة بلادهم تعتز بعزهم فلما اشتهر أمر قوتهم الهائلة صارت هي أعظم مدائن الأرض وأشهرها، وعدد سكانها الآن مع ضواحيها مليون ونصف مليون نفس، وعني السلاطين ببناء الآثار فيها فسارت في خطة الارتقاء، وهي زينة البرين ودرة البحرين والصلة الحسنى ما بين القارتين؛ فإنها وجدت في أجمل المراكز وأمنعها، إذا تأملتها من وجه سياسي رأيت أنها في مركز العمران هي الحد الفاصل ما بين أوروبا وآسيا، حتى إن نصفها بني في أوروبا والنصف الآخر في آسيا، والذي يملك مركزها يعد مالك أحسن المراكز الحربية في الوجود، وهذا الذي قلناه رأي أكبر أهل السياسة والنظر من عهد بعيد. وأما من حيث الأهمية الجغرافية فقليل بين مدائن الأرض ما يحيط به كل هذا العدد الغريب من الممالك والولايات. وأما في جمال المنظر فأجمع أهل العلم على وضع الآستانة في الموضع الأول.
وقد زاد الآستانة بهاء وجمالا أنها بنيت على تلال، فهي تعرف باسم مدينة التلال السبعة، فالقادم إليها من جهة البوسفور يسحره جمال هاتيك الروابي البهية، رصعت بالمنازل وازدانت جوانبها بالخضرة النضرة من فوق ماء نقي في مجرى البوسفور. وقد قسمت الطبيعة هذه العاصمة قسمين كبيرين: شرقي في آسيا وهو المعروف باسم أسكودار وأهله جلهم أتراك، وقسم آخر في الناحية الأوروبية، وبين القسمين بوغاز البوسفور وبحر مرمرا، وقد توسط ما بين البوسفور ومرمرا متسع من الماء سمي قرن الذهب، وهو يقسم الشطر الأوروبي من الآستانة قسمين: أولها قسم بيرا (بك أوغلي) وغلطة، وسكانهما خليط من الفرنجة والأرمن وبقية السكان غير الأتراك، وهو أهم أجزاء المدينة. والثاني وهو المدينة الأصلية يعرف باسم استامبول وسكانه أتراك ونزلاء على اختلاف الأجناس. وتمتاز هذه العاصمة البهية بأمور عدة، منها اجتماع الأجناس الكثيرة من كل لون وشكل في ربوعها، فهنالك الجنس الأوروبي من أهل النسق الحديث، والجنس الشرقي من أواسط آسيا وأقاصيها وأطرافها بالملابس الآسيوية، والأفريقي يسير إلى جانب الشركسي، والرومي يقيم مع الداغستاني، والأسوجي يلتقي في كل حين بالإيراني، فما ترى في مدينة من مدائن الأرض موضعا ضم كل هذه الأجناس المتباينة، وليس بين المدائن واحدة فيها من الأزياء الغريبة ما في هذه العاصمة العظيمة، التي لم يبن الناس موصلا بين الشرق والغرب أهم منها، ولا عثروا على مركز أجمل من مركزها.
وقد مر بك أني توجهت حال وصولي من غلطه إلى الفندق في بك أوغلي، وهذان القسمان أهم أجزاء الآستانة، يمكن الوصول من أحدهما إلى الآخر بثلاثة طرق: أولها نفق تحت الأرض حفروه ومدوا فيه خطوط الحديد تسير عليها العربات بقوة الضغط، فإذا شاء المرء أن ينزل من بيرا إلى غلطه وضفة البوسفور، دخل محطة هذا النفق وقعد في عربة مع غيره حتى إذا جاء موعد الحركة تحركت العربات هاوية تحت الأرض، فلا تستقر إلا في محطة غلطه. وأما الطريقة الثانية فالسير على الأقدام والشوارع التي تمر بها هنا مهملة مثل أكثر شوارع الآستانة، لا يستثنى منها غير شارع بيرا. والطريق الثالث تجري فيه عربات الأمنبوس مارة أمام البنك العثماني.
ولما كان منظر الآستانة - بوجه الإجمال - من أبهى مناظر الأرض سبق إلى ذهني أن أراها في لحظة من الزمان قبل أن أبدأ بالتفاصيل، وذلك متيسر فيها من عدة أماكن؛ نظرا إلى وضعها البديع، وأحسن ما يكون منها برج غلطه المشهور، وهو برج مرتفع بني على مقربة من البوسفور، وكان القصد من بنائه الإشراف على نواحي المدينة كلها لإيصال أخبار الحريق أينما شبت النار إلى رجال المطافئ، والحرائق كثيرة هنالك؛ لأن المدينة مبنية أكثر منازلها بالخشب، وفي بعض جهاتها ازدحام يساعد على انتشار النار، فإذا رأى الرجل الواقف في أعلى هذا البرج نارا لوح براية حمراء في يده يراها رجل آخر في برج السردارية هو أبدا يرقب ما حوله ولا يبرح مكانه حتى يأتي سواه لاستلامه، فإذا لاحت الراية أطلق مدفع يسمعه رجال المطافئ وأعطيت إشارة بالجهة المقصودة فيهب الرجال ولا هبوب الرياح، وهم يحملون المطافئ على أكتافهم، ولهم حين يقومون لمثل هذه الغاية منظر غريب؛ لأن أكثرهم من أقوياء الرجال يعدون في الطريق وعلى وجوههم جرأة الأسود الكواسر، فلا يقف في طريقهم شيء ولا يردهم عن أمرهم راد حتى يصلوا النار، ويبدءوا بإطفائها، وأكثرهم يتشاركون ويتعاونون على هذا العمل، ولهم أجرة يتقاضون على كل نار يطفئونها، وما هم بفرقة منظمة تحت إمرة الحكومة مثل رجال المطافئ في أكثر النواحي الأوروبية؛ ولذلك قصدت برج غلطه المذكور بعد وصولي بيوم واحد وارتقيت القمة فراق لي منظر هذه المدينة العظيمة وضواحيها الباهرة من كل جانب، وأنت إذا صعدت قمة هذا البرج وجدت نفسك في دار أو رحبة لها 14 طاقة كبرى تريك ما حولك من الأرض في كل جهة، ففي الشمال جهة قاسم باشا ونظارة الحربية وقرن الذهب، وفيه الباخرات العثمانية راسية، وفي الشرق ترى حارة الطوبخانة وحي فندقلي، وفيه سفارة ألمانيا وحي نشان طاش قامت في أواخره سراي يلدز العظيمة، ثم إذا تلفت يمينا بعد هذه المناظر لاح لك البوسفور البهي بمائه المترقرق والسفائن التجارية ذاهبة وآيبة فوق سطحه تحدثك بغريب أمره، ويلي ذلك طاقات ترى منها الباب الهمايوني ومركز الصدارة العظمى ووزارات الدولة العلية من ورائها أسواق الآستانة، تنتهي بمنظر آيا صوفيا وجامع السلطان أحمد بمآذنه الست وجامع نور عثمان ثم سراي السر عسكرية وسراي شيخ الإسلام وبعض الجوامع المشهورة والمشاهد الأخرى التي سنعود إليها، وجملتها تؤثر في النفس تأثيرا عظيما يشهد بما لهذه العاصمة من فريد الجمال وغرابة الموقع الطبيعي وعظيم المشاهد.
جامع آيا صوفيا.
ولا بد لكل من يقيم يوما واحدا في الآستانة ويسمع بشطريها العظيمين وبحريها البديعين أن ينتقل من أحد قسميها إلى الآخر فوق جسر غلطه المشهور، وهو ينتقل عليه الناس بين غلطه واستانبول، ويعد الحد الفاصل بين البوسفور وقرن الذهب يمر عليه كل يوم ألوف من الناس أكثرهم مشاة على الأقدام وبعضهم في العربات أو على ظهور الخيل، وكل ذاهب أو آيب يدفع عشر بارات رسم العبور على هذا الجسر، فيجتمع عند الحكومة من إيراده مبلغ يستحق الذكر كل يوم، وما رأيت نقطة في الأرض ترى فيها أشكال الناس المتباعدة مثل جسر غلطه هذا، فإن الذي يقف فوقه ويتأمل المارة ساعة من الزمن يرى الذي لا يراه بعض السائحين في أشهر طوال، ولا عجب فهنالك الحلقة الموصلة بين العالمين كما قدمنا. والجسر مبني من الخشب على عمد من الحجر متينة، يقف عند طرفيه خادمون يتقاضون الرسم من المارة باليدين، فكلما امتلأت يد واحد منهم أفرغها في مكتب من الخشب عند طرف الجسر يقيم فيه عامل من الحكومة يدفع إليها المجموع في آخر النهار، وقد اعتاد هؤلاء العمال جمع الضريبة حتى إنهم لا يوقفون المار لحظة بل يقبضون من هذا باليمين ويصرفون لذلك القطع الكبيرة باليسار ولا يخطئون، وكل سائر في طريقه لا يقف لدفع ما عليه.
ولا بد أن يعلم القراء ما لجامع آيا صوفيا من الشهرة وهو أقدم جوامع الآستانة، كان أصله كنيسة بنيت على عهد الإمبراطور جوستنيانوس الذي مر ذكره، وكان في نيته أن يجعلها أعظم ما بني من نوعها، فاستحضر لها الأعمدة الثمينة من الهياكل القديمة في أثينا ورومة وبعلبك ومن بعض الهياكل المصرية، واستخدم في البناء عشرة آلاف رجل أقام عليهم المقدمين والوكلاء، وكان هو يأتي بنفسه من حين إلى حين ليراقب الأعمال وينشط العمال؛ لفرط اهتمامه بتلك الكنيسة، ثم إن هذا الإمبراطور أراد أن يجعل قبة الكنيسة من غرائب البناء، فصنع له عماله نوعا من الآجر أو القرميد خفيف الوزن لا يزيد عن عشر غيره وزنا، وجدوا ترابه في جزيرة رودس، ونقشوا على كل قطعة منه جملة معناها: «إن الله جبلها وهو يحفظها»، وكانوا يصلون إلى الله مدة البناء أن يؤيد دعائمه ويوطد أركانه فما أخطأوا؛ لأن البناء قاوم فعل الطبيعة مدة القرون الطوال، ولم يزل إلى يومنا الحاضر شاهدا على اجتهاد بانيه وغرابة وضعه وتقدم الصناعة في تلك الأيام، ثم إن القوم أنفقوا على تذهيب هذه الكنيسة مقادير وافرة من الذهب، فإن أدوات العبادة و24 إنجيلا كانت كلها من الذهب الخالص، وكان الهيكل قطعة من الذهب الثمين مرصعا بالحجارة الكريمة، ومائدته قائمة على أربعة عمد من هذا المعدن النفيس، ووزن سقفها 118 رطلا من الذهب الخالص، وعليها صليب وزن ذهبه 80 رطلا مصريا ولا حصر للأموال التي أنفقت على هذا المعبد العظيم، واحتفل بتدشينه رسميا بعد الفراغ من البناء والزخارف وعمل 16 عاما متواصلا، وكان الإمبراطور حاضرا في ذلك الاحتفال فوقف في ختامه، وقال: «الحمد لله الذي اختارني لإتمام هذا العمل، وها إني قد غلبتك يا هيكل سليمان»، ثم ما زالوا يفرقون الصدقات ويرتلون ويسبحون بعد ذلك مدة 14 يوما كاملا.
ولما فتحت الآستانة في 29 مايو سنة 1453 دخل السلطان محمد الفاتح هذه الكنيسة وهو على جواده والسيف مشهر في يده، ونادى «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ثم جعلها جامعا للمسلمين وأبقاها على أصلها، فلم يخرب منها إلا الذي لا يجوز في الشرع الإسلامي؛ ولذلك ترى داخل الجامع الآن على شكل الكنائس وفيه من آثار العبادة النصرانية شيء كثير، وأضاف هذا السلطان الفاتح مئذنة إلى الجامع الجديد ثم أضاف السلاطين من بعده مآذن أخرى، وكان آخر من أنفق الأموال الطائلة عليه السلطان عبد المجيد، فإنه أصلح فيه كثيرا، واستخدم لذلك مهندسا إيطاليا مشهورا، فلما تم الترميم والبناء احتفل السلطان بذلك احتفالا عظيما في سنة 1849، وهو الآن من أعظم جوامع الأرض وأشهرها، دخلته من أحد أبوابه التسعة ومشيت في رواق طوله 60 مترا وعرضه عشرة أمتار، وفي جدرانه قطع من الفسيفساء تلمع وتسطع مع قدم عهدها - والفسيفساء قطع من الزجاج تلصق بعضها ببعض وتدهن بالذهب فيكون لها منظر شهي رائق - فظللت أسير في ذلك الرواق وأتأمله حتى انتهيت إلى ساحة الجامع الداخلية، وهي لا تقل عن 75 مترا في الطول و70 في العرض، ولها قبة مركزية علوها 65 مترا وقطرها 31 مترا، قامت على ستين عمودا ولها منظر غاية في الفخامة والبهاء ، وقد كتب على جدران القبة وجوانبها آيات من القرآن بخط جميل، ومن حولها اسم الجلالة واسم النبي
صلى الله عليه وسلم
وأسماء الصحابة، وكل ذلك بأجمل أنواع الخط، وفي الوسط نقوش وزخارف فاخرة نفيسة، وإلى جانب المحراب سجادة قديمة يقال إن محمدا الفاتح صلى عليها يوم دخوله هذه الكنيسة، وهناك مكان خاص بجلالة السلطان يحجبه حاجز من الشعرية المحلاة بماء الذهب. وصعدت الطبقة العليا من الجامع وهي التي كانت على عهد النصرانية موضع النساء حين الصلاة.
محمد الفاتح على جواده يوم فتح القسطنطينية.
وفي صحن الجامع من الخارج مدفن السلطان سليم الثاني، وسبعة عشر من أولاده، وكذلك قبر السلطان مراد الثالث هذا وأولاده التسعة عشر.
ويقرب من هذا الجامع في الأهمية والشهرة جامع الأحمدية، بناه السلطان أحمد سنة 1610، واهتم لأمره حتى إنه كان يحضر مرة في الأسبوع؛ ليشاهد العمل بنفسه وينشط العمال؛ ولهذا الجامع ست مآذن وباب كبير دخلنا منه إلى رواق عظيم يعلوه أربعون قبة صغيرة قامت على عمد من الرخام، وفي وسطه بركة جميلة من الرخام البديع، وانتهينا من هذا الرواق إلى صحن الجامع طوله 72 مترا وعرضه 64، وفوقه قبة فخيمة قائمة على أربع عضائد ضخمة متينة، وقد نقشت عليها الآيات القرآنية، وأما المنبر فمن المرمر وقد صنع على شكل منبر الجامع النبوي في مكة، وفي قمته تاج من فوقه هلال والتاج والهلال مذهبان، وقد اشتهر هذا المنبر في التاريخ؛ لأن الأمر القاضي بإلغاء وجاق الإنكشارية في أيام السلطان محمود تلي عليه، وكان ذلك بدء انقلاب عظيم في نظامات الدولة العلية العسكرية. وفي هذا الجامع شيء كثير من الشمعدانات الكبيرة تشبه العمد منصوبة في اليمين وفي اليسار، وفوقها قناديل ضخمة ذات مناظر بديعة وله عدة شبابيك مغشاة بالزجاج الملون لا يقل عدد قطعها عن المائة، وهي زاهية الألوان عليها أسماء الصحابة، وفي سقف القبة ثريات ومصابيح وعدد كبير من بيض النعام علق بسلاسل من النحاس المذهب، وإذا أنيرت مصابيح هذا الجامع في شهر رمضان كان لنورها رونق وبهجة خاصة لا يتخلف عنها أحد من أهل الآستانة، وقد دفن السلطان الذي بنى هذا الجامع في صحنه الخارجي.
ومثل هذا يقال في جامع السليمانية بناه السلطان سليمان القانوني وجعل له أربع مآذن، وظل العمال ستة عشر عاما في بنائه، فما انتهوا منه إلا سنة 1566 وقد أخذت أدوات كثيرة له من بعض الكنائس. ولهذا الجامع قبة جميلة قطرها 26 مترا، وهي قائمة على أربع عضائد ضخمة من الرخام السماقي طولها 20 مترا، ومحيط الواحدة منها أربعة أمتار، وجدران هذا الجامع من داخلها مدهونة كلها بلون أبيض ضارب إلى الزرقة وقد حلي بعروق ورسوم من الذهب في كل جانب، فكان لمنظره بهجة تشرح الصدور، وفي جميع نوافذه وكواه زجاج ملون أتوا به من بلاد إيران، وعليه كتابات دينية، وفي صدره منبر عظيم القدر والقيمة ومصلى خاص بجلالة السلطان عليه نقوش بديعة، وفي كل جانب منه آيات بينات تشهد بالاعتناء ووفرة المال الذي أنفق عليه، وهو لا يقل عن عشرة ملايين فرنك، هذا غير الذي ينفق عليه كل سنة من أوقافه الكثيرة، وقد دفن باني هذا الجامع في ساحته من الخارج، والضريح يحيط به رواق قائم على 29 عمودا دخلناه من دهليز قائم على أربعة عمد، وفوقه قبة خضراء بديعة لها أربعة عمد من الرخام الأبيض وأربعة من الرخام السماقي. وفي القبة نقوش من الزجاج الملون تلمع وتسطع، وقد تدلت منها ثريات غاية في حسن الصناعة والبهاء، وتحت تلك القبة ضريح السلطان وأضرحة بعض خلفائه وكلها مغطاة بالشالات الكشميرية والخدم من حولها يعتنون بأمرها في كل حين.
جامع السلطان أحمد.
ولما انتهيت من رؤية هذه الجوامع المشهورة عدت إلى غلطه، ومشيت صعدا إلى أعلاها؛ لأن الآستانة أكثرها صعود ونزول - كما قدمنا - يعسر على العربات أن تسير فيها بغير قلقلة وقرقعة، فدخلت حديقة البلدية، وهي أشهر حدائق الآستانة ومقر المتنزهين من أهل غلطه وبك أوغلي (بيرا)، وفيها موسيقى عسكرية تصدح كل مساء وبعض المطاعم والحانات وموقعها جميل معروف. وبعد أن خرجت من هذه الحديقة سرت إلى شارع بيرا ، وهو قريب منها يعد أكبر شوارع الآستانة وأعظمها وأكثرها إتقانا ترى فيه من الأبنية الحديثة والمخازن الكبرى ملئت بالأبضعة النفيسة ما بين شرقية وغربية ما لا تراه في ناحية أخرى من نواحي الآستانة. وشارع بك أوغلي هذا ملتقى الهيئة الاجتماعية في الآستانة، وأكثر ما يكون وجود النزلاء الإفرنج في حاناته ومخازنه وجوانبه حتى إن بعضهم ليعده من الشوارع التي تستحق الذكر بين الشوارع الأوروبية.
ولما كان اليوم التالي عدت إلى استامبول بطريق النفق وجسر غلطه اللذين ذكرناهما، وقصدت جامع السلطان بيازيد، وهو من الجوامع المشهورة، بناه السلطان بيازيد سنة 1498. له باب من الرخام الأحمر والأبيض قائم على عشرين عمودا، ولم أزل أذكر أسراب الحمام الغريبة في هذا الجامع تعد بالألوف، وينفق على طعامها من أوقاف الجامع، ولها خدمة ينقطعون لخدمتها، وهي إذا جاء الجامع غريب التفت من حوله غير وجلة ولا حافلة حتى إنك لتمسك بعضها بيدك، وهي لا تحاول الفرار بل تتناول ما ينثر لها من الحبوب فتسر بمرآها الناظرين، ويروى من أمر هذا الحمام أن السلطان بيازيد ابتاع زوجا من فقير كان واقفا على باب الجامع، وأمر أن يكون ذلك الزوج وقفا فما زال يتناسل ولا يمسه أحد بسوء حتى بلغ ذلك القدر.
ولما تم لي بذلك رؤية أشهر الجوامع سرت لمشاهدة أثر قديم هو مسلة مصرية تعرف باسم الإمبراطور ثيودوسيوس الذي مر ذكره، وكان هذا الإمبراطور قد نقلها إلى عاصمته من معبد الشمس (هليوبولس) في المطرية سنة 390 مسيحية، وقد نصبت على قاعدة من الرخام مربعة الشكل ونقش على أحد جوانبها ثيودوسيوس جالسا على عرشه مع زوجته وأولاده، وعلى الجانب الآخر رسمه يستقبل وفود الحكام ومعهم الهدايا، وفي الجانبين الباقيين رسوم له وهو يكلل الظافر في ألعاب أولمبياد وقد صنعت هذه المسلة من الرخام الأحمر، وهي الآن في وسط ساحة صغيرة يراها كل زائر لعاصمة الممالك العثمانية.
ومن الآثار القديمة في الآستانة - أو هي أقدم الآثار التاريخية - عمود الحية، بناه الروم الأقدمون في سنة 478 قبل التاريخ المسيحي تذكارا لانتصارهم على جموع الفرس في معركة بلانا، وأنفقوا عليه مما سلبوه من جيش أعدائهم، ونصبوه أمام هيكل دلفي حيث كانوا يعبدون آلهتهم الكثيرة، وقد سمي عمود الحية؛ لأنه عبارة عن ثلاث حيات من النحاس الأصفر المذهب، كسر اثنتين منها أحد بطاركة الآستانة على عهد الإمبراطور ثيودوسيوس؛ لأنه تشاءم منهما، ولما دخل فاتح الآستانة ورأى الحية الثالثة كسرها وظل الناس من بعده يكسرون قطعا من نحاس هذا العمود، وقد أهملوا أمره فقوي على كل الأيادي التي عبثت به، وهو باق إلى الآن أقدم آثار الآستانة، وعليه أسماء 31 مدينة من مدائن اليونان القديمة، وكتابات عن حرب الروم مع الفرس في أيام داريوس وزركسيس قبل التاريخ المسيحي بنحو خمسمائة سنة.
وتوجهت بعد ذلك إلى أثر جليل، هو تربة السلطان محمود الثاني الذي ألغى وجاق الإنكشارية، وقد بني الضريح من الرخام الأبيض تحت قبة فخيمة وغطي بشال من الكشمير نفيس ووضع عند الرأس طربوش غرست فيه ريشة آل عثمان المشهورة بجواهرها. وفي ذلك المدفن قبور للبعض من آل عثمان، منهم السلطان عبد العزيز عند رأسه طربوش عزيزي من النسق المعروف، وقد غطي الضريح بشال بديع الصنع أيضا، وفي هذه التربة مصاحف قديمة العهد في جملتها مصحف جيء به من بغداد قيل إنه كتب من ألف سنة، ومن حول المدافن فقهاء يوردون الأذكار ويجودون.
وظللت على المسير من هنالك إلى صهريج العماد، وهو من المشاهد القديمة في الآستانة، حفر في أوائل الدولة الشرقية، ويقال إن أول بادئ به قسطنطين الكبير باني هذه المدينة، وكان القصد منه جمع ماء الأمطار لحين الحاجة، فإن الآستانة خالية من الأنهار الجارية، وكان أهل المدينة كلما أصابهم بلاء أو هاجمهم عدو يطمرون تحفهم وأموالهم في نواحي هذا الصهريج، ونزلت ذلك الصهريج منحدرا إلى أسفله فرأيت أنه لم يبق منه غير القليل، وقد كان له ألف عمود، بقي منها نحو مائتين، على كل منها رسم الصليب، وهي على الجملة من الآثار القديمة، ولا يبعد أن يكون فيما تردم منها بقايا ثمينة .
ومن مشاهد الآستانة التي تذكر، سوقها الكبرى المشهورة، وهي مرجع الذين يبتاعون الأبضعة الاستامبولية، سواء من أهل الآستانة أو من الذين يقصدونها لشراء الأبضعة المعروفة عنها، كالمناديل وأشكال الحرير والمقصب. وقد قسمت هذه السوق الطويلة أقساما لكل نوع من البضاعة قسم، وتفرع منها عدة أسواق صغيرة ضيقة المجال حتى إن الغريب إذا قصدها يضيع فيها، ولا بد لكل من يريد الوقوف على حالة الآستانة الحقيقية من زيارة هذه السوق التي ينتابها الأتراك رجالا ونساء، والسيدات يساومن الباعة من داخل البراقع ويشترين المطلوب كما تفعل نسوة الإفرنج، وهن على غاية من التأدب والاحتشام.
وقصدت في ذلك اليوم وزارات الحكومة، فذهبت بادئ بدء إلى أهمها وأجملها - أريد به سراي السر عسكرية - ودخلت ميدانا واسعا جدا يستعرض به الجند، وحدث أن وزير الحربية جاء في تلك الساعة فاستقبله رجل الجند بالإكرام والاحترام، ودخل من باب كبير ودخلنا نحن من باب آخر وقف على بابه خادم بيده بعض ريش ينظف به أحذية الداخلين، ويغلب أن يتقاضى منهم شيئا أجرة ذلك، وأما الموظفون في هذه النظارات فإنهم يلبسون حذاء فوق حذاء - كما يعرف القراء - فيتركون الحذاء الخارجي عند الباب ويعودون إلى لبسه حين الخروج. والسراي من داخلها واسعة جميلة كثيرة الأجزاء والغرف، كتب على أبوابها وظائف المقيمين فيها، هذه للوزير وهذه للوكيل وهذه للقلم الفلاني حسب ما تراه في أكثر الدواوين المنظمة. وقد بنيت هذه السراي من الحجر المنحوت طولها 430 مترا وعرضها 280، وهي منفردة عن سواها داخل سور متين، وقائمة على رأس أكمة بديعة تجعلها أجمل سرايات الحكومة في هذه العاصمة المشهورة، وفيها برج يقرب من برج غلطه في ارتفاعه إذا ارتقيته رأيت الآستانة كلها تحت يدك، وراق لك ذلك المنظر البديع.
ناووس الإسكندر.
وسرت بعد ذلك إلى باب همايون، وهو باب عظيم بني من الرخام الأبيض والأسود، وفوقه الطغراء العثمانية، يوصل منه إلى بعض النظارات، منها سراي الصدارة العظمى وفيها الأقلام التي تكاتب الولايات، ونظارة الخارجية ونظارة الداخلية ونظارة النافعة، وفي الآستانة نظارات أخرى مثل نظارة الضابطة، ونظارة الخزينة السلطانية الخاصة في جانب من سراي طولمه بغجه على ضفة البوسفور يبلغ عدد عمالها ستة آلاف، ونظارة البحرية في قرن الذهب، وتتبعها المدارس البحرية وإدارة الترسانات والفنارات وسواها، ونظارة الحربية في السر عسكرية، ونظارة العدلية في ميدان آيا صوفيا ونظارة المالية في ميدان بيازيد بسراي فؤاد باشا، ونظارة المعارف بالقرب من جامع محمود باشا. وأكثر جلسات الوزراء في الآستانة تعقد في سراي يلدز برئاسة جلالة السلطان وبعضها في الباب العالي في مقر الصدارة العظمى تحت رئاسة الصدر الأعظم، ولكن الأمور المهمة كلها تقرر في الجلسات التي يرأسها جلالة السلطان.
ويستحق الذكر في هذا المقام موضع يقال له طوب قبو، كان مقر الحكومة السابقة على عهد الدولة الرومية، وفيه قصورها وكنائسها ودواوينها، وصار بعد ذلك مقر حكومة آل عثمان، بنى فيه السلطان محمد الفاتح عدة أبنية وبنى السلطان محمود قصرا من الرخام وكذلك السلطان عبد المجيد.
وفي هذا الموضع قصور ومنازل كثيرة الإتقان والزخرف، منها كشك السلطان عبد المجيد وهو من بدائع الصناعة الحديثة، ومنها قصر قديم لسلاطين آل عثمان لا يقيم فيه الآن أحد، ولكنه مستودع لكنوز هؤلاء السلاطين العظام وما جمعوا من تحف الممالك التي دوخوها، فإنهم - كما لا يخفى - ورثوا ثروة الروم والعرب والفرس وبعض الإفرنج، وملكوا أطيب الأراضي ووصلوا إلى الذي لم ينله سواهم، وقد جمعوا بعض هذه التحف في السراي التي نحن في شأنها، وأقاموا عليها الحراس واحتفظوا بها احتفاظا يجدر بشأنها وقيمتها، فما رآها من الناس غير قليلين قدروا قيمتها بعدة ملايين، وهي مجموع من المثمنات والنفائس يندر مثاله. ولقد أتيح لرجل إنكليزي اسمه السر وليم روبنصن أن يدخل هذا المتحف العظيم بأمر خاص من جلالة السلطان فكتب عنه ما يأتي:
رافقني أحد الياوران يحمل الإرادة السنية المؤذنة بدخولي تلك السراي، فسلمها عند وصولنا إلى كخيا الخزانة، وهذا تناولها ورفعها إلى رأسه وقبلها، وأعلن المستخدمين تحت إدارته بفحواها ثم تقدم نحو باب الخزنة فصلى ونزع ختمه عن بابها بعد أن حدق به طويلا وتحقق سلامته، ولما فتح الباب ودخل الكخيا تبعه جميع المستخدمين باحترام وهدوء حتى وقفوا حول الخزائن الحاوية للنفائس، وكنت أنا وراء هذا المأمور، فأول ما رأيت في القاعة الأولى عرش من الذهب الخالص مرصع بألوف من الحجارة الكريمة كالألماس والياقوت والزمرد واللؤلؤ، وأكثر هذه الجواهر غنمها السلطان سليم في حربه مع إسماعيل شاه صاحب دولة إيران في سنة 1514، ويليه عرش آخر من الأبنوس والصندل مطعم بعرق اللؤلؤ والعاج وعروق الذهب، وفيه مئات من أنقى الحجارة الكريمة، وكان السلاطين السابقون يجلسون على هذا العرش متربعين، وفيه سلسلة من الذهب في طرفها زمردة بديعة طولها عشرة سنتمترات وسمكها أربعة، وأمامه جبة ثمينة مزركشة كان السلطان مراد الرابع يلبسها بعد الاستيلاء على بغداد سنة 1638، وفيها حجارة ثمينة كثيرة العدد، وإلى جانبها سيف ثمين مرصع بنحو ألفي حجر، وهنالك خناجر وسيوف لا تعد كلها من الذهب مرصعة قبضاتها وأنصبتها بأثمن الجواهر، وسروج ركابها وأدواتها من الذهب وكلها مرصعة ترصيعا يبهر الأنظار، فضلا عن أقداح من الذهب المرصع وملابس السلاطين السابقين من محمد الفاتح إلى محمود الثاني - أي من سنة 1423 إلى 1839 - وعلى كل كسوة عمامة غرست فيها الريشة المعروفة عن سلاطين آل عثمان، وهي مجموعة حجارة ساطعة غالية الأثمان.
هذا بعض ما قيل في تحف آل عثمان وهو - بلا ريب - قليل فإنه يمكن للمرء أن يبقى أياما ينتقل بين تلك المثمنات الباهرة ولا تشبع العين من النظر إليها؛ لكثرتها وجمالها، ولكنها مخفية عن الأنظار مع أن مثل هذه الجواهر في أوروبا تعرض لعامة الناس وخاصتهم يتفرجون عليها في مواضعها كما علمت من فصولنا السابقة، فيا حبذا لو درج أولياء الأمر في الآستانة على هذه العادة، فإن تحف هذا القصر من أثمن ما في الأرض وأوفره جمالا.
وفي هذه الجهة بناء يدعى «خرقة شريف أوداسي» فيه الآثار النوية المحمدية، في جملتها الخرقة الشريفة، وهي رداء أسود من شعر الإبل قيل إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان يضعها على منكبيه، والراية النبوية أخذها السلطان سليم الأول من مصر لما فتح هذه البلاد في سنة 1517 ونقلها إلى دمشق، وفي سنة 1595 نقلها السلطان مراد الثالث إلى غاليبولي، وفي سنة 1597 نقلها السلطان محمد الثالث إلى الآستانة، وقد كان الأتراك يحملونها معهم إلى ساحات الحرب، وهناك أيضا شعرات من لحية النبي حلقت بعد موته، وسن من أسنانه، ونعاله، ونسخ من القرآن الشريف منقولة بخط بعض كبار الصحابة. وفي الخامس عشر من شهر رمضان كل عام يذهب جلالة السلطان بموكب عظيم يسير فيه سماحة شيخ الإسلام والوزراء والكبراء جميعهم بالملابس الرسمية والنياشين، فيدخلون المكان لزيارة هذه الآثار، وهي داخل صندوق من الفضة فيقبلها، ثم يتقدم أمين السراي السلطانية ولديه مناديل يمسح بها المخلفات النبوية ويوزعها على الحاضرين، ثم يعيد هذه الآثار إلى صندوقها، وبذلك تنتهي هذه الحفلة الفريدة.
ومما يذكر من هذا القبيل، متحف الآثار القديمة في الآستانة بني من عهد قريب، وكان أول الذين وجهوا العناية إلى تنظيمه مديره الأول سعادة حمدي باشا بن أدهم باشا بعد أن درس سنين طويلة في مدارس ألمانيا، وعني بذلك من سنة 1881، فجمع في هذا المعرض أشكال الآثار الغريبة من ممالك الدولة العلية وهي - كما تعلم - أغنى أراضي الدنيا بآثارها الفاخرة، وكل معارض أوروبا التاريخية لا تقوم بغير آثار مصر وآشور وفينيقيا والروم والفرس وهاتيك الدول الشرقية القديمة، ومعظمها واقع في حوزة الدولة العلية إلى الآن، وأكثر ما في هذا المتحف آثار آشورية وفينيقية لا حاجة إلى وصفها بالإسهاب، وبعضها نواويس من الرخام جميلة الصنع غالية الثمن وجدوها على مقربة من صيدا، وعلى أكثرها نقوش بارزة ورسوم نسوة تنوح، وقد ظهرت ملامحها ظهورا غريبا، ويستفاد من بعض الكتابات التي عليها أن أحد تلك النواويس كان مدفن تبنت بن أشمنصر ملك صيدا.
ولكن المتحف الذي نحن في شأنه لم يزل صغيرا قليل الأهمية بالنسبة إلى ما يماثله من متاحف أوروبا، ولما كانت بلاد الدولة العلية هي مقر الآثار القديمة وفيها ما ليس في سواها، فإذا زيد الاعتناء بهذا المتحف وأنفق عليه مال يذكر صار من متاحف الطبقة الأولى في الأرض، وحق للدولة العلية أن تفاخر سواها بما جمعت من آثار الأولين.
ولما عدت من زيارة هذا المتحف عرجت على البنك العثماني، وهو بناء فخيم من أجمل أبنية الآستانة، له ثلاث طبقات وأشغاله كثيرة مع الأهالي والحكومة؛ لأنه يعد البنك الرسمي للحكومة العثمانية باتفاق تم بينها وبين الشركة الإنكليزية التي أنشأته، وقد قابلت مديره العام، وهو يومئذ السر أدجر فنسنت، وكنت أعرفه من أيام وجوده في مصر مستشارا ماليا.
السلاملك:
وحضرت بعد هذا حفلة السلاملك، وهي موكب صلاة الجمعة تجري في الآستانة كل أسبوع حين يذهب جلالة السلطان للصلاة، وكان السلطان عبد الحميد الذي شهدت هذه الحفلة في أيامه لا يصلي صلاة الجمعة إلا في الجامع الذي بناه على مقربة من قصره في يلدز؛ ولهذا الاحتفال أبهة وبهاء لا مثيل لهما؛ فقد شهد الإفرنج وغيرهم ممن حضره أنه من أعظم أشكال الاحتفال الرسمي، ولا عجب فإن الأمر متعلق بسليل آل عثمان والأمة العثمانية المعروفة بالمفاخر والمآثر، ومعلوم أن السلاملك أو البناء الذي يستقبل فيه الضيوف كائن إلى يسار هذا الجامع، ولكنه لا يؤذن لأحد بالدخول فيه إلا إذا كان من أهل المقام المعروف في الآستانة، فإذا كان الزائر أجنبيا فلا بد له من واسطة سفير دولته، أو مصريا فبواسطة حضرة قبوكتخدا الخديوية المصرية، ولكنني لم أطلب وساطته لبعد محله، فأوصيت سائق العربة أن يسير بي توا إلى السلاملك ففعل حتى أتيت سلم السلاملك، وقدمت رقعة عليها اسمي إلى عامل على بابه بقصد الاستئذان بالدخول، فأخذها الخادم وأطال الغياب ثم جاءني في سعادتلو شفيق بك من ياوري الحضرة السلطانية، فحياني برقة ولطف، ودعاني للدخول فدخلت ورأيت ذلك الاحتفال العظيم من أحسن موضع.
وبدأ الموكب بقدوم فرقة عسكرية تلوح على رجالها لوائح البسالة والنجابة، مثل أكثر فرق الجيش العثماني الذي طارت شهرته في البسالة وفي تحمل المشاق والصبر على الكريهة. وكانت الفرقة العثمانية التي ذكرناها تحمل البنادق، فحالما وصلت الساحة الكائنة بين السلاملك والجامع أحاطت بالجامع من كل جهة ووقفت تحرس جوانبه، ثم جاءت فرقة أخرى تتقدمها الموسيقى مثل الفرقة الأولى ووقفت في متسع من الأرض ما بين الجامع والقصر، ثم جاءت فرقة من الجنود العربية تلبس السراويل الضيقة والسترة الصغيرة ولها عمامات خضراء وتوجهت إلى القصر، وتلتها فرق أخرى من الفرسان يحملون المزاريق والمشاة بالبنادق والحراب والبحرية بملابسهم الخاصة، وتفرقت في جوانب ذلك المكان الفسيح فكان عدد الجنود الذين وقفوا في ذلك الموكب العظيم يومئذ لا يقل عن عشرة آلاف، ودخلت فرقة من الحرس الخاص إلى ساحة الجامع وأحاطت بالباب الذي يدخل منه جلالة السلطان، ثم دخل وراءهم عدد كبير من كبراء الآستانة وأصحاب الرتب والوظائف العالية، وجلهم من رجال المابين والعسكرية والرقباء وبعض المشايخ والعلماء، فلما تم عقد الجماعة على مثل ما ذكرنا أقبلت عربة الحرم السلطاني، ومن ورائها عربتان أخريان فدخلتا الجامع، وجاء بعد ذلك أنجال السلطان السابق وجلالة السلطان الحالي وأنجال السلطان عبد العزيز، وكان دولتو نجايتلو سليم أفندي بكر السلطان عبد الحميد أشهر الذين رمقتهم الأنظار، وهو يومئذ شاب في مقتبل العمر ضئيل الجسم أبيض الوجه يلبس النظارات المقربة لقصر نظره، وعلى وجهه دلائل الأنفة والذكاء، وهو كثير الظهور في متنزهات الآستانة، وكان هؤلاء الأمراء العظام على ظهور الجياد الكريمة، فدخلوا ساحة الجامع الخارجية ووقفوا على جيادهم كأنهم البدور، ولما حدقت بهم الأبصار كلها سمعنا بوقا وحركة تشير إلى اقتراب جلالة السلطان، فتحفز كل من حضر ذلك الاحتفال وتهيأ لإبداء مظاهر الإكرام حتى إذا تم ذلك فتح باب القصر على عجل، وظهرت عربة فاخرة يجرها فرسان كريمان، وفيها جلالة السلطان بسترة إسلامبولية بسيطة، وأمامه في المركبة دولة الغازي عثمان باشا جالسا مكتف اليدين إجلالا لمولاه واحتراما، ومن حول العربة حوالي ستين كبيرا من كبراء الدولة يمشون على الأقدام وهم بأفخر الحلل الرسمية والوسامات العلية، فما بقي بين تلك الأبصار عين إلا واتجهت إلى جلالة السلطان وجعلت فرق الجيش العثماني كلما اقترب جلالته من أحدها يهتف رجالها بالدعاء «أفندمز جوق يشاه »، وكان جلالته يحيي الحاضرين برفع يده، وبدأ بتحية الواقفين في السلاملك، فكان لبساطته في وسط ذلك الموقف الرهيب والمناظر الباهرة تأثير عظيم في النفوس.
ودخل جلالة السلطان الجامع في عربته، وأولئك الكبراء يحفون به على ما تقدم، والموكب على أبهى حالاته، فلما وقفت العربة عند الباب نزل جلالته منها، ولم يساعده أحد عند النزول كما هي عادة بعض الملوك والأمراء، ولما دخل بدأت الصلاة، وبعد نحو نصف ساعة عادت الحركة؛ لأن جلالة السلطان خرج من الجامع مارا بين صفوف الجند فنادت بالدعاء لجلالته، وكان جلالته في الرجوع وحده راكبا عربة غير الأولى، وهي من نوع الفيتون يجرها فرسان كريمان أبيضان، ويسوقها جلالة السلطان بيده الكريمة، وهو يمسك بالأزمة بيساره ويحيي الجماهير بيمينه إلى أن يدخل باب القصر ويتوارى عن العيان، ويرجع من عند حضرته أحد الياوران فيبلغ تحيته للذين في السلاملك ويأمر الجنود بالانصراف إلى ثكناتها فيتفرق الجمع وتعود الجنود وأمامها الموسيقى العسكرية تصدح بشهي الأنغام إلى أن تصل مواضعها، وينتهي بذلك احتفال السلاملك أو موكب صلاة الجمعة المشهور.
ولما رأيت السلطان السابق تأملته طويلا فإذا هو صغير الجسم نوعا، أصفر الوجه تلوح عليه لوائح الاشتغال العقلي والفكر الكثير، ولا عجب فإن الذي يدير أمور سلطنة آل عثمان ولا يشاركه في الرأي كبير أو صغير في معظم المسائل الداخلية والخارجية لا بد من ظهور أدلة الفكر والاهتمام على وجهه، ورأيت له عينين براقتين لونهما أسود ولهما تأثير غريب في الناظرين، اشتهر به بين العالمين، وقد عرفه الذين تشرفوا بمقابلته باللطف الزائد والذكاء الكثير، وكان إذا أذن لضيف أن يتشرف بالمثول بين يديه أكرمه ورفع مقامه حتى إنه ليقدم السجاير إلى ضيوفه بيده الكريمة، ويحدث كل ضيف على حسب ذوقه، فيظهر علما بأحوال الممالك غريبا، وقل أن يخرج من حضرته شخص إلا وهو معتقد باقتداره.
وقد آن لي أن أصف ملتقى البحرين والصلة الجامعة بين القارتين، أريد به بوغاز البوسفور الشهي الذي يمتد من البحر الأسود إلى البحر المتوسط طوله نحو 38 كيلومترا وعرضه يختلف ما بين 500 متر و3200، وله تاريخ مشهور، فكم من أسطول شراعي مر به! وكم من معركة حدثت على ضفافه في أيام داريوس الفارسي إلى هذه الأيام! ولقد أقمت في الآستانة شهرا ما مر علي من أيامه يوم إلا وأنا فوق ماء البوسفور، فرأيت في آخر الأمر أن أركب إحدى بواخر الشركة الخيرية التي تطوف نواحيه، ولها مكتب تباع فيه التذاكر على طرف جسر غلطه، وبواخرها ترفع أعلاما مختلفة، منها الأخضر وهو دليل أن الباخرة تمر على الشاطئ الأوروبي من ضفاف البوسفور، والأحمر دليل أن الباخرة تقصد الجهة الآسيوية، والاثنان معا معناهما التنقل ما بين الضفتين.
ذهبت أول الأمر في باخرة علمها أخضر تتنقل بين المحطات الأوروبية فقط إلى محطة قباطاش، فمرت بنا السفينة بإزاء سراي طولمه بغجه المشهورة، بناها السلطان عبد المجيد من الرخام الأبيض سنة 1855 وأنفق مالا لا يحصى مقداره حتى جعلها حيرة للألباب في فرط جمالها وثمن مفروشاتها ودقة زخارفها، وهي على ضفة البوسفور داخل سور جميل تحيط بها الأشجار والأزهار البديعة، يراها المار فوق الماء من أكبر آيات الجمال في تلك البقعة الطيبة، وواجهتها بديعة الجمال من الرخام الأبيض النفيس المزخرف بأدق أنواع النقش، ويقرب طول هذه السراي من 800 متر، وقد كانت مقر السلطان عبد العزيز وأولمت فيها الولائم الفاخرة للإمبراطورة أوجيني حين زارت الآستانة، وفيها اجتمع مجلس المبعوثين الأول حين صدور الأمر باجتماعه في أوائل حكم السلطان عبد الحميد، ومن قاعاتها واحدة يمكن اجتماع خمسة آلاف نفس فيها، وقد أتيح للناس عامة دخول ساحة هذا القصر المنيف ولم يكن ممكنا قبل إلا بإرادة سنية من السلطان السابق.
ومررنا بعد ذلك بمحطة باشكطاش، وهو اسم الحي الذي بنيت فيه سراي يلدز حيث أقام جلالة السلطان السابق، وفي تلك المحطة قبر أمير البحر خير الدين باشا المعروف عند الإفرنج باسم بارباروسا أو ذو اللحية الحمراء، ورأينا بعد ذلك سراي جراغان، وهي جميلة بنيت بالرخام الأبيض وأحيطت بسور عال منيع، ويقرب طول هذه السراي من ألف متر، وبعد ذلك محطة أورنه كوي فيها جامع والدة السلطان، وهي ملاصقة لجدار يلدز، وهنالك منازل فخيمة وقصور عديدة لسراة الآستانة وكبراء السلطنة. ومثلها محطة ببك التي تليها وهي مرصعة بأجمل القصور والديار تملأ جوانب تلك الأرض البهية من شاطئ البوسفور إلى قمة الجبل، وفي قمة الجبل المذكور كشك بديع الإتقان كان السلاطين فيما مر يختلون بسفراء الدول فيه ويتداولون بمهام الملك، وعلى مقربة منه مدرسة للأميركان كلية تعرف باسم روبرت، أسسها مرسل أميركي اسمه روبرت سنة 1863، وهي من أكبر المدارس في السلطنة السنية إذا لم تكن أكبرها وأعلاها يقصدها الطلاب من كل نواحي السلطنة ومن بلغاريا والسرب ورومانيا وبلاد اليونان، وبين وزراء بلغاريا كثيرون تلقوا العلوم في هذه المدرسة المشهورة، أشهرهم الوزير ستامبولوف الذي قتل من بضعة أعوام، وهو أشهر بلغاري رأس الوزارة في بلاده، ولهذه البقعة - أي محطة بيك - شهرة في التاريخ؛ فإن جنود داريوس وزركسيس وهي مئات من الألوف كانت تمر منها قاصدة بلاد الروم لمحاربتها في القرن الخامس قبل المسيح، والصليبيون لما عرجوا على الآستانة جعلوا بيك هذه نقطة مركزية لحركاتهم، ومحمد الفاتح هاجم الآستانة وملكها من تلك النقطة بعد أن أقام الحصون وركب المدافع مصوبا كراتها إلى عاصمة الروم، ورست الباخرة بعد ذلك في محطة بوياجي كوي، وأكثر سكانها روم وأرمن، ثم محطة ميركون وفيها قصر للخديوي الأسبق إسماعيل باشا أهدي إليه من جلالة السلطان عبد الحميد، ثم وقفنا في يكي كوي، وهي بلدة فيها نحو عشرة آلاف نفس أكثرهم من الروم والأرمن أيضا، وتليها محطة طرابيه المشهورة واسمها رومي معناه الشفاء سميت بذلك؛ لجودة هوائها وجمال مناظرها؛ ولذلك أصبحت مقر الهيئة العالية من سكان الآستانة واختارها أكثر السفراء لمنازلهم فبنوا هنالك القصور المنيفة والصروح الأنيقة، وقامت من حولها الفنادق العظيمة، فالذي يمر تجاه هذه البقعة يرى سفارات إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا في وسط حدائق غناء تتصل خضرتها النضرة برأس الجبل، ومجموع طرابيه هذه جمال مدهش وبهاء مفرط، وأما عامة السكان في طرابيه فأكثرهم أروام يقربون من خمسة آلاف نفس عدا، ومنازلهم درجات بعضها فوق بعض في ذلك المنحدر البهي، فهي متواصلة ما بين قمة الجبل وضفة البوسفور، ولها رونق وحسن بديع.
خارطة البوسفور.
ويلي هذه البقعة الجميلة محطة بيو كدره فيها سفارات أميركا والنمسا وروسيا ومساكن بعض التجار الأغنياء، وهي تقرب من طرابيه في جمالها الفتان. وآخر هذه المحطات قاواق، وهي في طرف البوسفور من جهة البحر الأسود أقيمت حولها الحصون المنيعة والقلاع الكبرى، فلما انتهينا إلى هذا الحد عدنا إلى مقرنا في العاصمة، وقد رأينا من جمال البوسفور ما تحفظه الذاكرة ولم يخطر لنا ببال.
وفي اليوم التالي عدنا إلى بواخر الشركة الخيرية، واخترنا واحدة علمها أحمر حتى نرى الشاطئ الشرقي أو الجهة الآسيوية من البوسفور العجيب، فقمنا أولا إلى أسكودار وهي القسم الشرقي من المدينة ذكرناه قبل الآن، وسرنا منها إلى قوز غنجق فمررنا من أمام سراي بكلر بك، وهي من أعظم قصور الآستانة، تعد ثانية طولمه بغجه بناها السلطان عبد العزيز سنة 1865 من الرخام الأبيض النقي على شاطئ البوسفور في وسط حديقة غناء تمتد أغراسها البهية إلى حدود الجبل، ولها سور مذهب وزخارف يطول المقام لو أردنا وصفها، يكفي أن يقال إن الإمبراطورة أوجيني أقامت في هذا القصر، وإن السلطان عبد العزيز أنفق على إضافتها والهدايا التي قدمت لها مبلغا كبيرا، ثم لما جاء إمبراطور ألمانيا سنة 1889، أقام هنا أيضا ولا غرو؛ فإنها تليق بأعظم ملوك الزمان. ثم جئنا محطة جنكل كوي، وفيها حديقة واسعة لها ذكر في التاريخ، هو أن السلطان سليمان المشهور اختبأ فيها 3 سنوات فرارا من والده السلطان سليم، وكان السلطان قد أمر بقتله فلما عرف بعد طول المدة أن ابنه حي في تلك الحديقة فرح فرحا لا يوصف وأقام الأفراح في عاصمة بلاده، وظللنا على المسير نتنقل بين محطات البوسفور الشرقية حتى انتهينا منها عند آخر محطة في فم البوسفور وعدنا إلى المدينة.
قصر طولمه بغجه.
بقي علينا الخط الثالث لهذه البواخر وهم يسمونه الزقزاق؛ لأنه يمر على النقط الشرقية والغربية معا في البوسفور، فقصدناه في يوم ثالث وجعلنا نقف تارة في الشرق وطورا في الغرب، وقد ذكرنا أسماء المحطات في الجهتين فلا حاجة إلى التكرار، وقضينا في ذلك خمس ساعات متواليات، فما رأت عيني مثل الذي رأيناه من بهي الحراج وشهي المناظر الطبيعية، وقد رصعتها يد الصناعة بالقصور الشماء والطرق الحسناء فما البوسفور إلا معجزة من معجزات الزمان، وما أخطأ الذي قال إن الآستانة وضواحيها زينة البرين ودرة البحرين.
ولقد ذكرنا قرن الذهب كثيرا، وهو مجرى من الماء بديع جميل يفصل بين القسمين الأوروبيين من أقسام الآستانة، نريد بهما غلطه وبيرا من ناحية، واستامبول من ناحية أخرى، والموصل بين هذين القسمين جسر غلطه المشهور وقد مر ذكره. طول هذا المجرى 11 كيلومترا وعرضه 450 مترا، وهو يتصل عند طرفه الواقع في غلطه بالبوسفور وبحر مرمرا، وأما في الطرف الآخر فإنه ينتهي بجبال بهية سرنا إليها في أحد الأيام ورأينا في الطريق بواخر الأسطول العثماني، وعلى الشاطئ من تلك الناحية سراي وزارة البحر (طوبخانة)، وهو بناء شاهق فخيم تتبعه المدرسة البحرية والترسانة، ثم وقفت الباخرة في محطة آيا قبو في سفح الجبل، وعلى قمة الجبل المذكور جامع السلطان سليمان، وتليها محطة الفنار فيها بطرخكانة الروم الأرثوذكس ومدرستهم، ثم انتهينا إلى آخر قرن الذهب في محطة أيوب فنزلنا إلى البر وتقدمنا إلى جامع أيوب، بناه السلطان محمد الفاتح تذكارا لمقتل أبي أيوب الأنصاري حامل الراية النبوية، وكان قد جاء في جملة المسلمين الذين هاجموا الآستانة في صدر الإسلام سنة 668 وقد وضع سيف النبي
صلى الله عليه وسلم
في هذا الجامع، فكلما بويع سلطان بالخلافة احتفلوا بتقليده السيف هنا، وهم لا يسمحون لواحد من الأجانب أن يدخله ولو يكون من السفراء، هذا مع أن لسفراء الدول في الآستانة مقاما خطيرا وامتيازا لا نظير له في العواصم الأوروبية، فإن لكل سفير هنا باخرتين حربيتين تقومان بخدمته وحراسة السفارة والرعايا حين اللزوم، وفي كل سفارة من القواصة والأعوان عدد كبير، حتى إن السفير في الآستانة يعد بمثابة ملك صغير، وقد بني هذا الجامع من الرخام الأبيض وصنعت له قبة عظيمة ومئذنتان، ودفن حامل الراية النبوية فيه. وبرحنا أرض هذا الجامع فصعدنا قمة الجبل، وأشرفنا من هنالك على متنزه يعرف باسم كاغدخانة، والإفرنج يسمونه الماء الحلو؛ لأن النهر يلتقي عنده بالبحر، وهذا الموضع مصيف لبعض الناس يكثر ترددهم إليه في أيام الربيع.
هذا بعض ما يذكر بين ضفتي قرن الذهب، ولكن الآستانة - كما علمت - قسمان: أحدهما في أوروبا، وقد وصفنا ما فيه، والقسم الآخر في آسيا يعرف باسم أسكودار وهو مدينة لا يقل عدد سكانها عن خمسين ألفا كلهم من المسلمين ومعظمهم أتراك، وأبنية أسكودار منتشرة ما بين ضفة البوسفور والجبل على شكل طبقات بعضها فوق بعض، وفيها عدد ليس بقليل من الصروح والمنازل الفخيمة، والبواخر تسير إلى هذه الجهة ومنها في كل ساعة، فلما وطأنا أرضها أخذنا عربة وسرنا في طرق عوجاء متعرجة إلى مقبرة المسلمين، وهي من أوسع مقابر الأرض وأكبرها، طولها ثلاثة أميال، وفي كل جوانبها شجر من السرو باسق كثير العدد، وفي تلك الجهة مقبرة صغيرة للذين قتلوا من جيش إنكلترا في القرم سنة 1854 و1855، وقد كتبت أسماء المدفونين هنالك من الإنكليز على الأضرحة والأرض هبة من الدولة العلية.
وهنالك ثكنة (قشلاق) السليمانية، وهي من أكبر الثكنات العسكرية وأجملها بناها السلطان سليمان وحسنها السلطان مراد الرابع، فتأملنا هذا البناء الكبير ثم تقدمنا صعدا حتى وقفنا أسفل جبل بولغورلو، وهو الذي كنا نقصد الوصول إليه فترجلنا ومشينا ربع ساعة حتى بلغنا القمة، وهنالك تجلت لنا عروس الطبيعة بأبهى أشكالها، ورأينا سهولا زرعت بالعنب والتين والزيتون وغيره ممتدة إلى داخل القارة الآسيوية العظيمة، ومن ورائها عدد كبير من القرى والمزارع والطرق تتشعب من هنا ومن هناك بين تلك السهول الأريضة، وتتصل بأطراف العمائر ترصع جوانب البر الفسيح، فلا ترى من جانب البر إلا مثل ما ذكرنا من أدلة الخصب ومشاهد الجمال الطبيعي حتى إذا تحول الطرف إلى الناحية الأخرى رأيت البوسفور العجيب كأنما هو خط من اللجين بين خطين من السندس، وكل هاتيك المناظر البديعة التي عددناها واقعة فوق مجرى الماء تسير من فوقه السفن والباخرات لا عداد لها، وقد قامت من الجانبين قباب القصور والمآذن تشهد بتعاقد الطبيعة والصناعة في ذلك الموضع على إيصاله إلى أعلى درجات الجمال، كل هذا والموضع الذي ترى منه تلك الغرائب ليس فيه جماهير الناس ولا معدات للراحة من مثل الذي تراه في الجبال المجاورة للمدن الأوروبية مع أن هذا الموضع أحق بالالتفات والعناية من كل مكان، ولو أقام الواحد فيه أشهرا وأعواما لما مل النظر إلى تلك المشاهد التي تحدث في النفوس فتنة وتحدث بعظمة الباري الكريم.
ولما عدت في المساء إلى فندقي رأيت ألوف الناس عند جسر غلطه تحتشد أفواجا وهي في حركة كبرى، علمت منها ومن إطلاق المدافع ذلك الحين أن الغد - وهو الجمعة - سيكون موعد الاحتفال بميلاد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ويكون السلاملك حينئذ أفخم منه في بقية الأسابيع وأعظم، فما تأخرت عن الذهاب إليه وسرت على ما تقدم في المرة الماضية إلى باب السلاملك رأسا، حيث قدمت بطاقتي وجاءني سعادة نادر بك أحد الياوران الكرام فأدخلني القصر مرحبا، وقد أوضحت هيئة السلاملك فيما مر فلا لزوم للتكرار، غير أني رأيت في هذه المرة فوق ما رأيت قبلا من توافد العظماء والقواد ووقوفهم في خدمة جلالة السلطان حين وصوله أمام باب الجامع، وكان في صدر المحتفلين حضرات الوزراء الفخام يتقدمهم دولة الصدر الأعظم، فلما ظهر جلالة السلطان طأطئوا الرءوس وانحنوا إلى الأرض إجلالا وتكريما، ثم دخل جلالة السلطان جامعه وأقام فيه ساعة كاملة فلما عاد إلى قصره دار العمال يوزعون على الناس علبا فيها من الحلوى والملبس شيء يسمونه المولدية يأخذونه هدية تذكارا لذلك العيد، وكانت الآستانة يومئذ في عيد عظيم لاسيما في الليل؛ إذ أنيرت جهاتها أنوارا ساطعة وخرجت ربات الخدور في عرباتها المتوالية، فكان لمنظرها فوق ما يوصف من التأثير.
وخرجت بعد حضور هذا الاحتفال قاصدا زيارة المغفور له إسماعيل باشا خديوي مصر الأسبق وصاحب المآثر العظيمة في هذه البلاد، فذهبت في باخرة تركتها في محطة ميركون وفيها قصره المشهور، فلما وصلت القصر استأذنت على يد التشريفاتي بمقابلة سموه؛ فأذن - رحمه الله - بذلك وارتقيت سلما بديعا إلى الطبقة العليا من القصر، حيث وجدت ذلك الأمير العظيم في صدر قاعة فخيمة، وقد ظهرت عليه لوائح الكبر، ولكن هيبة الملوك لم تفارقه، فرحب بي وسألني أين كنت؟ ولما أجبت أني زرت معظم العواصم الأوروبية، قال: إذا أنت زرت أكثر العواصم المشهورة مع زيارتك للولايات المتحدة السابقة، قلت: إني لن أنسى تعطف سموه وثقته بي حين ندبني للنيابة عن حكومته السنية في معرض أميركا سنة 1876، ثم دار الحديث بيننا عن أمور كثيرة، أهمها مصر والنيل، فلما أخبرت سموه أن الفيضان زاد عن حده المعتاد في العام السابق حتى خيف على البلاد من الغرق، قال: إن الزيادة في الفيضان لها دواء، وأما الشح فلا دواء له غير بناء الخزان، فهو إذا بني أفاد مصر فائدة عظيمة، وخرجت من حضرة هذا الأمير الجليل وأنا أفكر في عبر الدهر وتقلب أحواله، كيف أوصل إسماعيل الذي دانت له رقاب الملايين وجمع من المال ما لم يجمعه ملك قبله، ورأى من أشكال العز ما يعز نظيره على أكابر الملوك صار إلى قصر واحد في الآستانة لا يبرحه، وسبحان الذي يغير ولا يتغير!
وقصدت في ذلك النهار قاضي كوي عند رأس البوسفور من جهة آسيا، عدد سكانها نحو عشرين ألفا أكثرهم أروام، ولها موقع بديع يقصدها الناس من أهل بيرا وغلطه لقضاء فصل الصيف ويفضلونها على غيرها؛ لأنها قريبة سهلة الاتصال بقلب الآستانة، وقل أن يوجد هنالك بيت بلا حديقة صغيرة أو كبيرة أمامه، والناس ينتابون هذا المصيف البهي في يوم الأحد من كل أسبوع، فيجتمع فيه من أشكال الساكنين في الآستانة ما ترتاح إلى مشاهدته العيون وتنشرح لمرآه الصدور، وهنالك كنيسة للروم الأرثوذكس بنيت على أطلال كنيسة قديمة اجتمع فيها المجمع الخلكيدوني سنة 451 لتقرير بعض المبادئ الدينية ، فلما فتح البلاد آل عثمان هدموها واستعملت حجارتها في بناء جامع السلطان سليمان. وشوارع قاضي كوي مبلطة بالحجر ، وهي نظيفة منظمة ظللت أتمشى فيها حتى آن وقت الرجوع إلى مقري في بيرا.
على أن هذه المصايف والمتنزهات كلها ليست بالشيء الذي يذكر عند جوهرة المصايف وزينة المتنزهات طرا، أريد بها برنكبو أو جزيرة الأمراء. ولهذه الجزيرة شهرة طائلة في الآفاق؛ فإنها فريدة في الموقع المفرط جماله وفي طيب الهواء والماء وما حوت من أشكال الحسن والبهاء، وهي في بحر مرمرا تبعد عن الآستانة نحو ساعتين فيها قصور الأمراء ومنازل السراة الأغنياء، وفيها يتألب الألوف يوما وراء يوم لرؤية الذي امتازت به هذه الجزيرة من المحاسن الطبيعية والزخارف الصناعية، ولست أذكر أن بين الضواحي الأوروبية ما يزيد عن برنكبو هذه في جمالها وجودة هوائها؛ فإنه إذا كانت ضواحي باريس وبرلين وبطرسبرج وفيينا ولندن معروفة بالمحاسن الكثيرة والإتقان الفائق، فشتان بين بردها وغيمها ومطرها وبين الهواء الرقيق في هذه الجزيرة والسماء الرائقة ووسائل الرغد والهناء المتوفرة في كل جانب.
وبرنكبو إحدى جزر عدة، أولها من ناحية الآستانة جزيرة بيروتي، وتليها جزيرة إنتغوني، وبعدها خالكي وهي مبنية بين جبال صغيرة كثيرة الجمال، وعلى قمة أحدها دير للروم الأرثوذكس على اسم الثالوث الأقدس جعلوه سنة 1844 مدرسة لاهوتية فيها نحو مائة طالب، وقد كان من ضمن المتخرجين في هذه المدرسة سيادة الأرشمندريتي جراسميوس مسره المشهور بمؤلفاته الدينية، وهو الآن مطران بيروت، وآخر هذه الجزر، بل أعظمها وأبهاها وأكبرها، جزيرة برنكبو، هي مجموع غياض وحراج وحدائق وبساتين وقصور صغيرة أو كبيرة وطرق منظمة وفنادق جميلة ومناظر بديعة في كل جانب، يصلها الزائر فينزل إلى شارع فسيح تحف به الأشجار من الجانبين، ويمتد ذلك الشارع حول الجزيرة برمتها، فتارة فيه شجر غرس للتظليل على مثل ما في بقية الشوارع، وطورا يخترق حراجا من شجر الصنوبر البهي تتضوع منه الروائح العطرة أو حدائق وكروما وأغراسا نافعة، وحينا يشرف على البحر أو تحدق به الهضاب والآكام وما فيها من نبت وشجر من كل ناحية، فكأنما المرء في برنكبو يتقلب في نعيم الجنة أو هو في بلاد مسحورة كلها جمال رائع وبدائع في بدائع، هذا غير أن الموسيقى تصدح هنالك والمطاعم كثيرة نظيفة، والقهاوي والحانات والأماكن العمومية - بوجه الإجمال - لا تبقي حاجة في نفس يعقوب، فإن شئت عيشا هنيئا فعليك بجزيرة الأمراء، إنها مركز الجمال والهواء الطيب بلا مراء، ولطالما تغنى الشعراء بمدح هذه البقعة العجيبة وأطال كتاب الشرق والغرب في وصفها مهما أقل في مدحها فإني مقصر لا أفيها بعض حقها، فأكتفي بما تقدم وأقول إني ارتقيت قمة جبل فيها من فوقه دير للقديس جورجيوس وهو للروم الأرثوذكس أيضا، كل طرقه مرصعة بالبطم والآس وهاتيك الأعشاب والأشجار العطرة تعبق روائحها الطيبة في وجوه الزائرين فتزيد المكان حسنا على حسن وغرابة على غرابة. ثم قصدت في اليوم التالي الجبل الآخر من جبال هذه الجزيرة الحسناء، فكنت أحمد الله على روائح الآس والبطم وبخور الأعشاب المختلفة، وعلى الذي اكتحلت عيني بمرآه من غريب المشاهد البرية والبحرية، حتى إذا وصلت قمة الجبل ورأيت دير المخلص وسرحت النظر في هاتيك البدائع المحيطة به برا وبحرا؛ عدت إلى موضعي وكلي إعجاب بجزيرة الأمراء، وقد حدثتني النفس أن أسميها أميرة الجزر أو ملكة الضواحي، وأقمت فيها يومين كنا كطرفة عين، ثم عدت إلى الآستانة لأتمم الذي شرعت به من درس مشاهدها.
ولما انتهيت من أشهر المتنزهات الحديثة في الآستانة على مثل ما رأيت تذكرت تاريخها الأول ومتنزهاتها السابقة، فذهبت إلى حيث كان ملوك الدولة اليونانية قبل الفتح العثماني يسكنون، ورأيت السور الذي قتل من ورائه آخر ملوك القسطنطينية في حربه مع العثمانيين على ما ذكرنا في صدر هذا الفصل، والسور طوله 6671 مترا وعرضه أربعة أمتار، وعليه 64 برجا و71 متراسا، وله أبواب سبعة من الحديد، وهو يحيط بالمدينة القديمة أو القسم المعروف الآن باسم استانبول، أخذه العثمانيون عن لفظ رومي معناه المدينة وهو «ستي بولي»، فمرت بنا العربة في شوارع مهملة داخل هذا السور المتهدم، وما بقي منه غير أجزاء قليلة وخنادق تملأ بالماء حين الحاجة؛ منعا للمتقدم عليها من الوصول، ووقفنا عند باب هليوبولس (اسم مدينة الشمس المصرية واسمه الآن باب مولانا)، فرأيت فوقه رسوما دينية مسيحية وكتابات يونانية، ورأيت بعد ذلك طوب قبو؛ أي باب المدفع، سمي بذلك؛ لأن العثمانيين نصبوا فوقه مدفعا كبيرا وقت فتح الآستانة، وكانت المدافع يومئذ في أول عهدها، وأول من استعملها العثمانيون في حربهم مع إيران أولا ومع ملوك الدولة اليونانية ثانيا. ومما يروى عن طوب قبو هذا أن قسطنطين باليولوغوس آخر ملوك القسطنطينية مات وراءه وهو يحارب مع جنوده، فماتت الدولة بموته وصارت البلاد إلى قبضة محمد الفاتح ومن خلفه.
وخرجت من السور إلى جامع القاهرية الذي كان كنيسة مشهورة قبل الفتح وصار جامعا، ولكن بعض رسومه الدينية في الرواق الخارجي باقية على حالها يقصدها الناس للتأمل بمحاسنها من أبعد الأنحاء حتى إن إمبراطور ألمانيا زار هذا الجامع لمشاهدتها، ومن هذه الصور، رسم السيد المسيح يحيط به الحواريون والرسم كله مصنوع بقطع الفسيفساء النفيسة في سقف الرواق، وصورة العذراء والرسل وصور بعض الملائكة والقديسين والحوادث المذكورة في الإنجيل، مثل قتل الأطفال بأمر هيردوس، وفرار يوسف النجار مع عائلته إلى مصر وقيام إلعازر من الموت، وغير هذا كثير كله باق على حاله الأصلي ولم يزل شيء من رونقه وجماله.
الإمبراطور ثيودوسيوس يقدم الكنيسة إلى المسيح في جامع القاهرية (القعرية).
مريم العذراء وابنها في جامع القاهرية (القعرية).
وعدت من تلك الناحية بطريق قرن الذهب، فاغتنمت تلك الفرصة لمشاهدة حارة الفنار، حيث كان الأشراف يقيمون على عهد الدولة اليونانية، وقد سميت بهذا الاسم؛ لأنها كانت تحصن مدة الحصار في الليل على نور الفنار، وأشهر ما فيها منزل غبطة البطريرك القسطنطيني للروم الأرثوذكس، كان من حسن حظي أني زرته، ولما دخلت الدار رأيت في الدور الأول كنيسة عليها شعار الدولة الروسية حامية حمى الديانة الأرثوذكسية، والمنزل في الدور الأعلى، حيث رأيت غبطة البطريرك يواكيم في غرفة واسعة، وكان ساعة دخولي جالسا إلى كرسي كبير وأمامه منضدة تراكمت فوقها الأوراق، ولديه كاتبان يقدم أحدهما لغبطته المحررات التركية فيختمها بختمه التركي، والآخر يعرض الأوراق اليونانية فيكتب البطريرك اسمه عليها باليونانية، وقد قابلني غبطته بالترحاب، ثم حدثني عن عدة شئون، ولما هممت بالانصراف دعاني لزيارة المدرسة التابعة لذلك المكان فزرتها ورأيت فيها ستمائة تلميذ، وهي تعرف بلونها الأحمر وارتفاع مركزها حتى إنه ليمكن مشاهدتها من معظم نواحي الآستانة.
ويذكر بين مناظر الآستانة حديقة تقسيم في آخر شارع بيرا إلى جهة الشمال، ولهذه الحديقة مركز عظيم؛ لأنها تطل على البوسفور وما يليه، والناس يقصدون هذا المكان عند الغروب للتفرج على انعكاس أشعة الشمس عن زجاج المنازل المحيطة بالبوسفور، وهي تشبه النار المتقدة في شكلها، ولها منظر غريب، ولكن الشجر هنالك قليل والاعتناء ليس على ما يذكر، ولو وجه الاعتناء إلى هذه الحديقة لصيرها من أجمل متنزهات الآستانة.
ومما يذكر أيضا مصادر مياه الآستانة وغابة بلغراد تبعد عن طرابيه ثلاث ساعات ذهابا وإيابا، والطريق إليها من أجمل الطرق يكثر فيها شجر السنديان القديم والصنوبر والحور والصفصاف، وتعد تلك الغابات حدود جبال البلقان المشهورة. وأما مصدر الماء الذي يستقي منه أهل الآستانة فإنه خزان كبير بناه السلطان محمود الأول سنة 1722 وهو قائم على 21 قنطرة متينة، وتحيط بذلك الماء حدائق بهية وأغراس بديعة الأشكال فترى العائلات تقصد هذا الموضع الأنيق، وتقضي فيه نهارا بطوله في نعيم وصفاء، ولا عجب فإن منظره من المناظر التي تستحق الذكر على نوع خاص.
ومن هذا القبيل أيضا سان ستفانو، وهي من أشهر ضواحي الآستانة يقصدها الناس في أيام الآحاد والأعياد كما يقصدون سان ستفانو في الإسكندرية، ولا بد أن يذكر القراء ما لهذا الموضع من الشهرة البعيدة، فإن جنود الدولة الروسية وصلت إليه بعد حرب 1876 وعسكرت فيه، ولم ترجع عنه إلا بعد إبرام معاهدة سميت باسم هذا المكان، وقد أبدلت معاهدة سان ستفانو هذه في السنة التالية بمعاهدة برلين المشهورة، وهي أهم المعاهدات الدولية الحديثة، كل موادها متعلقة ببلاد الدولة العلية وممالك البلقان وكيفية استقلالها وتصرف الدولة في أمورها، ولها شهرة تغني عن التطويل.
ومما يذكر عن الآستانة كثرة كلابها؛ فإنها تكاد لا تعد في كل قسم منها، والناس يرأفون بها ويعدون الشفقة عليها من أكبر الفضائل، حتى إن بعضهم أوقف لها رزقا يوزع عليها من مواضع معينة، والبعض يأخذ بيده الطعام ويلقيه بين جماعة الكلاب من حين إلى حين، وقد ألف أهل الآستانة منظر هذه الكلاب وعواءها، فهم لا ينكرونه، ولكن النزلاء يضيق صدرهم منها ولا سيما من نباحها المتواصل في الليل، ويعد السياح هذا من مميزات العاصمة العثمانية ولهم فيه أحاديث ونكات.
وجملة القول إن الآستانة وضواحيها مجموع محاسن طبيعية وصناعية ليس في الإمكان تصويرها بالكتابة أو الإصابة التامة في وصف جمالها وبدائعها، وقد ذكرت شيئا منها ولم أذكر أشياء أخرى؛ لأن عاصمة الدولة العلية معروفة عند الأكثرين والذين سبقوني إلى الكتابة عنها ليسوا بقليلين، وقد أقمت في هذه العاصمة الزاهرة شهرا حتى إذا حان موعد السفر تركتها وقصدت مدينة بورصة، وهي التي يأتي الكلام عنها في الفصل الآتي.
بروسة (بورصة)
سمعت مرارا عن أهمية بورصة قاعدة ولاية خداوندكار، وعن صناعتها وجمال مناظرها وما لها من الذكر الكثير في تاريخ آل عثمان ومن تقدمهم؛ فعزمت على السفر إليها وهي التي كانت عاصمة الدولة العثمانية، جعلها السلطان أورخان مقر ملكه في القرن الخامس عشر قبل أن تملك العثمانيون مدينة أدرنه (أدريانوبل) ونقلوا إليها مركز قوتهم، ولم تزل مدينة بورصة فيها آثار السلاطين العظام الذين أسسوا هذه الدولة القوية وسكانها ثمانون ألفا، وهي في موقع له شأن قديم في حوادث البشر، فإنها وسط جبال شهيرة اسم أحدها أولمبوس وله ذكر في تاريخ اليونان عظيم ارتفاعه 2600 متر، وعلى مقربة منه كانت مدينة طروادة الشهيرة التي حاربت بلاد اليونان تلك الحرب العظيمة في أيام أشلس وعولس وغيرهم من الأبطال الذين ورد ذكرهم في الإلياذة وفي تواريخ اليونان القدماء. وقد اكتشف العلامة الألماني شليمان آثار طروادة هذه من نحو ثلاثين عاما، ولقي فيها من الآثار والتحف ما طير شهرته في الخافقين، ولا عجب فإن مدينة بورصة وجدت في بقعة رقيت سلم الحضارة حين كانت ممالك اليوم كلها طامسة الذكر وغير معروفة.
والمسافة بين الآستانة وبورصة هذه خمس ساعات، بعضها بالبحر وبعضها بالبر، ركبت باخرة من بواخر الشركة المخصوصة، وسرنا في بحر مرمرا البهي نمر بالضواحي المشهورة مثل جزائر الأمراء وغيرها، ثم تجاوزت السفينة هذه المناظر الفاتنة وأطلت على غيرها لا تقل عنها بهاء وحسنا حتى رست في موادنيه وهي فرضة بورصة وأسكلتها، نزلت إليها مع اثنين من وجهاء الروس: أحدهما الموسيو ماكسيموف الذي كان قنصل دولته الجنرال في مصر، والثاني طبيب السفارة، وكان الرجلان مثلي يقصدان مدينة بورصة وغايتهما من السفر الاستحمام في حماماتها المعدنية؛ لأن هذه المدينة امتازت بأشياء كثيرة كالحمامات المعدنية وصناعة الحرير والطنافس وآثار الذين أسسوا دولة آل عثمان وغير هذا مما تراه في هذا الفصل القصير.
وأما فرضة موادنيه فإنها بلدة صغيرة لا يزيد عدد الساكنين فيها عن خمسة آلاف نفس، وكل أهميتها قائمة في أنها الصلة ما بين بورصة والجهات الأخرى، فمنها تنقل الأبضعة الصادرة والواردة؛ ولهذا أصبحت من المراكز التجارية المعروفة عند تجار الزيت والزيتون والعنب والكستناء والحرير والدخان، ودخل الدولة العلية من جمركها ليس بالشيء القليل، والمسافة بينها وبين بورصة ساعتان ونصف في القطار الحديدي كلها وسط محاسن طبيعية من الطبقة الأولى، فإن البلاد هنا جبلية والقطار يقضي مدة السفر في صعود ونزول وتعرج وتفتل بين هاتيك المسالك كأنما هو الأفعى تنساب في وسط الجبال؛ ولهذا جعلنا نتطال لنمتع الطرف بمناظر الجبل وما حوله حين كان القطار يتسلقه، فنرى بساتين الزيتون وكروم العنب وحقول الزرع والفاكهة، تدل ثمارها الشهية على خصب الأرض وجودة التربة، ثم إذا انحدر القطار دخلنا في واد شهي بهية أرجاؤه ومن ورائه سهول ومروج تنشرح لمرآها الصدور وقد ملئت زرعا، وما زال القطار يخترق هذه المناظر ويقف في محطات صغرى آنا بعد آخر حتى وصل بورصة فتركناه وقصدنا فندق سيدة فرنسوية عند مدخل المدينة في حديقة كثيرة الشجر والفواكه.
ولما كانت بورصة مركز قوة آل عثمان في بدء عهدهم؛ فإن كثيرا من شهرتها ينسب إلى ما فيها من الترب وآثار السلاطين السابقين؛ ولهذا فإني قصدت تربة السلطان عثمان مشيد أركان هذه الدولة القوية وجدها الكريم، والتربة محاطة بسور جميل مرتفع وهي في وسط حديقة غناء فيها برك يتدفق منها الماء تشرف على وادي بورصة الشهير، وقد أقام على بابها حارس أمين فتح لنا الباب حين وصولنا فدخلناها وإذا هي حسنة البناء عريضة الجوانب عالية الأركان لونها أزرق جميل ولها ثمان نوافذ، وفي سقفها ثريا بديعة الصنع مدلاة على شكل بهي، وفي جدرانها مصابيح جميلة والأرض مفروشة بفاخر الطنافس والضريح في الوسط بني من الرخام وغطي بشال كشميري أبيض ثمين حسب العادة التركية، وعند الرأس عمامة كالتي كان يلبسها هذا السلطان العظيم، وقد كتب فوق الضريح تاريخ ولادة السلطان ومدة حياته وتاريخ ارتقائه العرش وتاريخ وفاته. وهنالك مصاحف قديمة وبعض الآثار النبوية، وليس يمكن لزائر هذا الضريح أن يقف أمامه إلا ويخطر في باله أنه واقف أمام أثر الرجل العظيم الذي أسس دولة من أقوى دول الأرض، فيتأثر الواقف لذكره وذكر أمور الدهر الذي لم يقو على طي عظمته.
ويلي هذه التربة مدفن السلطان أورخان ابن السلطان عثمان الأول وفاتح بورصة، وهو يشبه التربة التي ذكرناها في شكلها، وإلى يمين هذا المدفن ضريح السلطان قورقور ابن السلطان بيازيد، وإلى يساره ضريح قاسم جلبي ابن السلطان أورخان، كل هذه الأضرحة النفيسة في وسط حديقة بديعة - كما تقدم القول - غرست على قمة جبل يشرف الواقف فيها على وادي بورصة وما حوله من الجبال والمزارع والوديان، والجداول تخترق هاتيك الحقول والبساتين حيث ينمو ألذ أشكال الفاكهة الكثيرة ومنظرها فاتن الجمال. وهنالك ترى جبل أولمبيا الذي مر ذكره والماء يتدفق من جوانبه البهية، فيسعى في جوانب السهل الممتد من تحته ويروي تلك الأراضي الطيبة، ناهيك عما يتدفق من الينابيع في قاع الوادي فتجري الجداول متشعبة في كل ناحية ما بين الأغراس النضرة والشجر الغضيض ويحلو للمرء أن يقيم أياما في تلك البقعة يتفرج على محاسنها، فذكرني ذلك بمحاسن سويسرا والفرق بين الجهتين في كثرة الذين ينتابونهما، فإن أراضي سويسرا حافلة بالسائحين والمتفرجين يأتونها ألوفا كل حين، وأما بورصة فقليل من يزورها غير أصحاب الحاجة مع أنها أجود تربة وأطيب هواء وأعذب ماء، وفيها غير الجمال الطبيعي تلك الحمامات المعدنية، والمعيشة فيها أرخص وأسهل من المعيشة في مصايف أوروبا؛ فإن أقة العنب تباع في السوق بعشر بارات، والفاكهة فيها كبيرة الحجم لذيذة الطعم رخيصة الثمن، فيا حبذا لو قام من يعني بتسهيل سبل السفر والإقامة في تلك الناحية البهية.
وذهبت بعد ذلك إلى جامع المرادية، بناه السلطان مراد الثاني، سرنا إليه برواق قام على أعمدة من الرخام، وكتب فوق بابه: «يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.» ومحراب الجامع من الخشب الدقيق الصنع، وعلى جدرانه قطع من القيشاني غالية المقدار، وإلى جانب هذا الجامع تربة بانيه في حديقة جميلة، والضريح مبني بالرخام، وقد زرعوا في أعلاه قمحا وفتحوا سقف البناء حتى يسقي الغمام هذا الزرع فينمو فوق عظام السلطان العظيم، وذلك قياما بأمره؛ لأنه أوصى أن يبقى قبره مفتوحا لتمطر عليه السماء من بركاتها، وهو السلطان الذي أوصى قومه بفتح الآستانة وكتب ذلك بيده على لوح حفظ عند ضريحه، وعند الضريح التواريخ المعتادة والشال والعمامة وبعض الآثار النبوية على مثل ما تقدم في وصف غيره من الأضرحة. وفي حديقة التربة أشجار قديمة العهد كبيرة الحجم يبلغ محيط بعضها 40 قدما و46، ومنها واحدة أحرق الغلمان ساقها ليجعلوا داخلها ملعبا لهم يمكن أن تضم عشرة أولاد داخل ساقها.
وقصدت بعد هذا الجامع الأخضر (أشل جامع) سمي بذلك؛ لأن ظاهره بني بالقيشاني الأخضر النفيس، وبعض آثاره باقية إلى الآن، بناه السلطان محمد الأول سنة 1420، وهو في سفح جبل يشرف على وادي بورصة، وقد امتنع لمتانة بنائه على الزلازل ومرور القرون فما تهدم، وله شهرة عظيمة في جهات السلطنة، وداخل الجامع مكسو بالقيشاني الأزرق عليه آيات قرآنية، ولهذا القيشاني ثمن عظيم؛ لأنه قل وجوده وضاع سر صناعته وله جمال كثير لا يمكن وصفه، والأوروبيون إذا عثروا على قطعة منه أحلوها محلا عظيما.
هذا أشهر ما يذكر عن الأضرحة والترب العظيمة في العاصمة الأولى لسلطنة آل عثمان، ولكن شهرة المدينة الحالية قائمة بصناعتها ومتاجرها وبحماماتها المعدنية. فأما الصناعة فأشهرها الحرير؛ فإن لأهل هذه المدينة علما دقيقا بصناعة المناشف الحريرية، وهي مختلفة الأثمان لا يقل ثمن الطاقم منها عن خمسين ليرا إذا كانت من الصنف الأول، وتعد من أفخر المنسوجات الشرقية وأجملها، وللناس هناك عناية بزرع التوت وتربية دود القز لاستخراج الحرير، وقد نزحت عائلات فرنسوية كثيرة إلى هذه المدينة من عدة أعوام لإنماء هذه الصناعة، وهي تسكن في حي النصارى فإن المدينة قسمان: أولهما للمسلمين وهم نحو سبعة أثمان الساكنين، والثاني للنصارى وهم الثمن وأكثرهم أروام وأرمن. وفي بورصة الآن خمسون معملا للحرير أكثر عمالها من البنات لا يقل عددهن عن ثلاثة آلاف بنت، قصدت مرة أحد هذه المعامل فرأيت البنات على غاية من السكينة والاحتشام يتكلمن بصوت منخفض، وقد عكفن على صناعتهن وعلمت من الإحصاء الرسمي أن صادرات الحرير من بورصة تبلغ قيمتها 12 مليون فرنك في السنة، وليس هذا القليل على مدينة مثلها.
وأما متاجر بورصة الأخرى فأهمها بالحاصلات والحبوب والفاكهة الطرية والناشفة. والذي يزور السهول والوديان المحيطة بهذه المدينة لا يعجب من اتساع تجارتها بغلة الأرض؛ لأن ضواحيها في كل جهة ملأى بالمزارع والحقول، وقد ظهرت آثار الاعتناء إلى حد عجيب حتى إن الصخور لم تترك جرداء بل زرع فوقها شيء يستفيد منه الناس، وعلمت أن أكثر الهمة في ذلك لقوم من الجراكسة هجروا بلادهم وأقطعتهم الدولة العلية بعض أرضها هنا كما فعلت في عدة نواحي من سلطنتها الواسعة، وقد صارت تلك الجبال جنات بحسن اجتهادهم واشتهرت غلتها وفاكهتها شهرة زائدة كما اشتهرت زراعة إخوانهم في جنوبي سورية، حيث أقاموا بأمر الحكومة وصيروا البراري جنات فسيحة تشهد لهم بالهمة والاجتهاد.
وأما الحمامات المعدنية في بورصة فهي على مسيرة ثلث ساعة من المدينة قصدتها مع الموسيو ماكسيموف - وقد مر ذكره - فإذا هي سبعة مختلفة الأشكال بعضها ماؤه حديدي والبعض كبريتي يفيد في الأمراض الجلدية، وبعضها بارد الماء نقيه والبعض حار مثل أكثر الحمامات المعدنية، لا تقل في بعض الأحيان حرارته عن 80 درجة بقياس سنتغراد. وقد أتقن بناء هذه الحمامات وأكثرها مبلط بالرخام والخدمة فيه متقنة، ولو أن وسائل الانتقال والإقامة متيسرة في بورصة لأم هذه الحمامات آلاف مؤلفة من السائحين تستدر البلاد منهم مالا وفيرا في كل عام؛ لأن الذين جربوا ماء حمامات بورصة شهدوا بنفعه وجودته وفضلوه على ماء حمامات النمسا، وهي لا يعد المتقاطرون إليها من كل جهات الأرض.
ولما فرغت من رؤية ما في بورصة خرجت إلى ضواحيها على جواد مع ترجمان رافقني نريد الوصول إلى جبل أولمبيا، فمررنا بكثير من الربض والآجام راق لي فرط جمالها، ورأيت بعض الحراج محروقا فعلمت أن الرعاة يفعلون ذلك لينبت عشب في موضع الشجر ترعاه مواشيهم، وكثيرا ما كنت ألتقي بهؤلاء الرعاة وتثور كلابهم علينا مثل الضواري، وهم لا يردونها عنا، وأشرفت من سفح الجبل على عدة أماكن مشهورة في التاريخ القديم والحديث، منها: بحيرة أبولونيا وسهول مسينيا وجبال أيدا وطروادة، وغير هذا مما يذكر المرء بعبر الدهر وحوادث الأيام، حتى إذا انتهيت من ذلك عدت إلى الآستانة في الطريق الذي جئت منه، وبعد أيام رجعت إلى القطر المصري، وقد أقمت في الآستانة وضواحيها شهرا كاملا وقطعت المسافة بين تلك العاصمة وثغر الإسكندرية في باخرة روسية مرت على بيريا وهي أسكلة أثينا، وما نزلنا لنراها بسبب الحجر الصحي، ثم وصلنا ميناء الإسكندرية حيث استقر بي النوى بعد سفر طويل وسياحة عظيمة رأيت فيها من مشاهد أوروبا شيئا كثيرا، فما سطرت منه في هذه الفصول إلا القليل.
سويسرا
خلاصة تاريخية
عرفت هذه البلاد من أيام الرومانيين باسم هلفتيا، واشتهر أهلها من قدم بالبأس والجرأة والتفاني في طلب الحرية والدفاع عن الاستقلال، ولم تزل هذه صفاتهم حتى يومنا ، وهم ما نالوا استقلالهم الحالي إلا بعد حروب كثيرة واقتحام الأهوال مدة القرون الطوال، وكان من أمر هذه البلاد أن برابرة الأوروبيين الأول مثل الغوث والألمان والفرانك وسواهم دخلوا أرضها وعاثوا فيها فسادا بعد انحطاط الدولة الرومانية، فظلت في حوزتهم أجيالا، ولم تزل آثار الرومانيين ظاهرة في القسم الجنوبي من البلاد، وأما القسم الشمالي فألماني اللغة والشرقي فرنسوي، والكل جمهورية واحدة تعد في مقدمة الجمهوريات اعتدالا وانتظاما. ولما قامت مملكة شارلمان كانت سويسرا من أملاكه ثم انفصلت عن فرنسا وصارت من ولايات النمسا أو ألمانيا، وحصلت بين أهلها وبين ملوك النمسا حروب كثيرة في القرون الوسطى، اشتهر فيها رجل اسمه غليوم تل، والمرجح في الأذهان أن قصته وهمية، ولكن الألسن تداولتها في كل بلاد حتى أضحت من أمور التاريخ المشهورة، وخلاصتها: أن هذا الرجل كان من زعماء المحاربين للنمسا طلبا للاستقلال، فظفر به يوما الحاكم النمسوي وأراد تعذيبه بقتل ابنه، وكان غليوم تل من المشهورين بالرماية وله ولد وحيد تعلق على حبه، فقال له الحاكم إنه لا يطلق سراحه إلا إذا رمى تفاحة توضع على رأس ابنه بسهم يصيبها ولا يقتل الولد، وكان في ذلك خطر عظيم على الولد والوالد معا، ولكن غليوم تل أصاب التفاحة ولم يؤذ ابنه، وهي قصة تمثل على المراسح الأوروبية في كل مدينة.
وكان من وراء هذه الحروب أن ملوك النمسا رضوا باستقلال الولايات السويسرية واحدة بعد واحدة مع بقائها تابعة اسما للدولة النمسوية، فقويت هذه الولايات بالاتحاد حتى إنها فازت في الحرب على إمبراطورة النمسا وعلى ملوك فرنسا، وكانت سويسرا بلادا مهابة قوية في بدء القرن السادس عشر، فما اجترأ أحد على العبث باستقلالها من ذلك الحين حتى قام نابوليون بونابارت وغير نظامها كما فعل بغيرها، ولكنها عادت إلى حالها الأول بعد سقوطه، وحدثت من ذلك الحين ثورات وقلاقل كثيرة انتهت بحرب أهلية في سنة 1848 نظمت من بعدها الجمهورية الحالية على مثل ما تراها اليوم وعاصمتها مدينة برن في وسط البلاد، ورئيس الجمهورية ينتخب كل سنة وراتبه لا يزيد عن ستمائة جنيه في السنة، وهو يرأس مجلسا للنواب يقضي مصالح الأمة عامة، وأما مصالح الولايات الخاصة فتقضيها مجالس محلية في كل ولاية. ويقال بوجه الإجمال إن حكومة سويسرا من أنظم الحكومات وأهلها من أرقى أهل الأرض عقلا وأكثرهم علما؛ فإن مدارسهم في الطبقة الأولى من التقدم وصناعتهم متقنة ومشهورة، وهم أهل نشاط وهمة تليق ببلادهم الجبلية التي تكثر فيها العظائم والمحاسن الطبيعية إلى حد يفوق التصديق، ولهم أمانة تضرب بها الأمثال، فقد كان ملوك أوروبا لا يستخدمون لحراستهم الخاصة وحراسة ذويهم غير رجال سويسريين؛ لأنهم اشتهروا بالبسالة والأمانة، وهم من أقل الناس ميلا إلى الحيلة والخديعة وأكثرهم حبا للغريب وصدقا في المقال، فلا عجب إذا كثر السائحون في سويسرا، وهي جنة أوروبا ومنتزه السراة من أهلها، ما دام أن البلاد كلها محاسن بديعة وهذه طباع أهلها المشهورة.
وأما عدد سكان هذه البلاد فقد كان في بدء القرن الحالي 3313000 نفس ومساحتها 15465 ميلا مربعا.
سان غوثار
أما وقد بدأت بذكر ما في سويسرا
1
من عجائب المناظر التي تؤثر في الذهن، فإني أراني مقصرا في القليل الذي سيجيء؛ لأن هذه البلاد كعبة المتفرجين ومثابة السراة الموسرين ومصيف السائحين، وهي فردوس أوروبا وجنتها الفيحاء تجمعت فيها محاسن الجبل والوادي والسهل والبحر والنهر، وتناسقت على شكل يسحر الألباب ويقصر عن وصفه أبرع الكتاب، ولطالما سبقني البارعون إلى تقرير الحقائق عما في هذه البلاد الحسناء من فخيم المناظر وبديع الأمور، فأنا أكتفي هنا بقليل مما رأيت فيها. وقد كنت قصدتها من الإسكندرية في شهر يونيو سنة 1895، ومررت ببعض مدائن الطليان قبل الوصول إليها، مثل برندزي والبندقية وميلان - ترى الكلام عنها في باب إيطاليا - حتى وصلت إلى حدود سويسرا ورأيت جبالا شامخة شاهقة تعلو قممها إلى السحاب هي جبال الألب المشهورة، ليس في أوروبا أرفع منها قمة ولا أوعر مسلكا ولا أفخم منظرا، فلما مدت خطوط الحديد في كل الممالك - وكان لا بد من خط حديدي يمر في تلك الجهة ويربط هذه الممالك بعضها ببعض - تعاونت ألمانيا وإيطاليا وسويسرا على مده في جبال الألب، فأنت إذا ركبت القطار من حدود إيطاليا ترى العجب من كثرة ما يخترقه هذا القطار من الجبال، يدخل في نفق ويخرج من نفق طول الطريق حتى إن عدد السراديب في ذلك الخط لا يقل عن 64، فضلا عما دكوه من الجبال وما فتتوا من الصخور ومهدوا من الطرق مدة تسع سنين، أنفقوا من خلالها 1200000 كيلو من الديناميت؛ لنسف تلك الجبال الهائلة، وأطول نفق في هذا الخط كله النفق المعروف باسم سان غوثار، وهو جبل شاهق طويل عريض نقبوه من جانب إلى جانب، والقطار يمر في جوفه ويظل ثلث ساعة سائرا سيرا حثيثا في بطن الأرض؛ لأن طول هذا النفق نحو مائة كيلومتر، يقضيها المسافر في ظلام دامس ودخان متكاثف، وتعتريه رهبة ودهش غريب متى فكر أنه تحت الأرض يسعى مجدا، ومن فوقه جبال الألب الهائلة، فيصفر عجبا لهمة الرجال وعظمة الإنسان إذا تضافر وأتم الغرائب.
وماذا أقول عن محاسن هاتيك الربوع التي يخترقها القطار في خط سان غوثار، وأنا لو أوتيت مقدرة أعظم الواصفين ما قدرت على عشر معشار الذي يليق بعظمة هذه المناظر الفخيمة، وهي مقصد الطلاب ومطمع الرواد من كل بلاد فإن قوى الطبيعة كلها تضافرت وتعاونت هنالك وعرضت من أنواع الحسن الباهر ما يخلب الألباب ويفتن الأنظار فبين أنت في ذيالك القطر العجيب تسير في سهل دبجته يد الطبيعة بأشهى الأعشاب وأبهى أنواع الزهر والشجر الباسق إذا أنت على ضفة جدول لمائه خرير يلذ للسمع، وقد راق زلاله ورق استرساله ورصعت جوانبه بوشي من الخضرة وأشكال الزهر الغريب، تحملك على الظن أنك في ديار النعيم حتى إذا ضاع فكرك في التأمل ببدائع هذا السهل رأيت أنك فوق جسر عظيم يمتد من جبل إلى جبل، كأنما هو معلق بينهما وتحته الوادي تجري فيه الأنهار، فإذا ما اجتزت ذلك الجسر سرت إلى جانب المجرى سيرا متعوجا متعرجا، كأنما القطار أفعى تنساب بك ما بين تلك المروج البهية والضفاف الشهية، وتقع في حيرة إلى أي الجانبين تحول الأنظار، إلى جانب الوادي وما يليه من خضرة نضرة ومنازل رصعت بها الجوانب ترصيعا، وقد التفت من حولها الأغصان على شكل بديع وماء ينسيك متاعب الدهر وأحواله، أم إلى الجانب الآخر، حيث قام جبل شاهق باسق في قمته سحاب تتساقط منه كرات المطر كأنما هي اللؤلؤة والدر على تلك الأعشاب الندية، ومن دون السحاب ثلج يجلل قمة الجبل ويزيده مهابة وجمالا، ومن دون الثلج صخور بينها شجر تحن النفس إلى ذكر مثله وتصبو إلى التظلل طول العمر بفيئه، لا سيما وقد جرت من بين تلك الصخور والجبال جداول ماء معين يتدفق في هاتيك المسالك البهية تدفقا يروق للناظرين، ويتساقط من سفح الجبل فيريك أعجب ما رأيت من أشكال الجنادل، وهي تغيب آونة وتظهر أخرى ما بين المسالك التي يتعشق القلب ذكرها وتمثل للرائي منتهى العز وحد الإعجاز في الجمال.
لوسرن
وظللت ثمان ساعات في القطار يخترق الأراضي السويسرية، وقد وددت لو تكون ثمانين، حتى وصلت مدينة لوسرن، وهي من أشهر مدن هذه البلاد وأوفرها جمالا بنيت في وسط جبال، بدائعها لا توصف، مثل أكثر مدن سويسرا، وإلى جانبها بحيرة تعرف باسمها اشتهرت أيضا بحسنها الفائق، وطول هذه البحيرة 23 ميلا والعرض يختلف ما بين نصف ميل وميلين وعمقها 700 قدم، ولها مزية على أكثر البحيرات السويسرية في أنها لا تجمد مدة الشتاء، كما أن لوسرن لها مزية باعتدال الهواء وجودته، فلا عجب إذا أضحت كعبة السائحين يفدون إليها ألوفا مؤلفة في كل عام، وينفقون فيها الأموال الطائلة ويجدون ما يسرهم سواء من محاسن الطبيعة التي تصبو إليها النفوس أو من اجتهاد الحكومة والأهالي في تحسين ما عندهم، فإن الفنادق والمخازن كلها متقنة، والمعاملة مع السويسريين ليس فيها شيء من التعقيد ولا خوف على السائح من الغبن وسوء المعاملة، هذا غير أن المجلس البلدي لا يفتر عن إعداد وسائل الراحة للسائحين حتى إنه أنشأ مكتبا خاصا لخدمتهم، فيه المترجمون يتكلمون بكل لسان ويرشدونهم بلا أجرة إلى كل حاجة. وأهل لوسرن مثل أهل سويسرا كلهم يتعلمون الفرنسية والألمانية في مدارسهم؛ لأن البلاد قسم ألماني وقسم فرنسي، فأما القسم الفرنسوي فأهم ما فيه مدينة جنيف، وهي واقعة على ضفة بحيرة جميلة تعرف باسمها، طولها 45 ميلا وعرضها 8، وقد امتازت هذه البحيرة بصفاء مائها وزرقتها، وهي تمخر فيها الباخرات الحسناء بين المدائن الواقعة على شواطئها، مثل أفيان وففيه ولوزان، وكلها من المصايف المشهورة. ويحيط بهذه البحيرة جبال بهية يصطاف بها أكابر البلاد والسائحين، وفي أكثرها قصور لبعض الأغنياء. ولجنيف شهرة بمدارسها الجامعة، يقصدها الطلاب من كل الأنحاء، وفيها معامل كثيرة للساعات والآلات الموسيقية - وسنعود إليها في فصل يجيء - وأما القسم الألماني فأهمه لوسرن التي نحن في شأنها.
وأعظم متنزهات لوسرن البحيرة وما يحيط بها من آكام أو جبال بنيت فوقها القصور، أو طرق زرعت إلى جانبيها الأشجار أو حدائق رصعت ببدائع الأغراس، أو شوارع ملئت بالفنادق والمخازن الكبار، وعلى ضفة البحيرة رصيف طويل فيه شجر من الدلب تطاولت جذوعه وتشبكت فروعه، والناس يحتشدون في جوانب الرصيف ويسمعون شجي الأنغام، ينقلون الطرف من البحيرة إلى ذلك الشجر وما يليه من محاسن المدينة، ولا عجب أن يكون أهل سويسرا أصحاب ذكاء متوقد ومناظر حسنة ما دامت بلادهم هذه حالها وهذه مناظرها. ولقد ركبت مرة إحدى البواخر الكثيرة التي لا تزال طول النهار وبعض الليل بين ذهاب وإياب في جوانب البحيرة الشهية، وكانت الباخرة تقف حينا بعد حين في مواقف ما رأت العين أجمل منها، وتدور بين مروج خضراء وجبال سحيقة شماء لتصل أطرافها بالسماء وحدائق فيحاء غناء، وضياع وعمائر كتب على جبين أهلها الرغد والهناء، وأتقن ما فيها من طريق وبناء، فما ترى أينما سرت إلا مناظر تتلو المناظر وكلها آيات في الحسن بينات، ينفرج أمامك المجال حينا ويضيق بعد حين، فإن الباخرة التي كنت فيها وصلت في سيرها إلى موضع ضيق خيل لنا منه أن السفينة حصرت بين أربعة جبال شاهقة، ولم يبق لها مخرج من ذلك الموقف، فما عتمت أن دارت حول جبل من تلك الجبال الشهية، فإذا نحن في بحيرة أخرى، وقد اتسع المجال ورأينا المرابع والمراتع في كل جانب، والأبقار الضليعة ترعى على مهل يقودها صبيان على أبدانهم دلائل العافية والحبور، وقد رقدوا على العشب الندي يتأملون محاسن ما أوجد الله لهم أو يتغنون ويسمعون أصواتهم للمارة في قطر الحديد والباخرات الطافية على وجه تلك البحيرة الصافية، وقد يبيعون الأزهار البرية للسائحين، وهنالك رجال ونساء لا يعملون في مزارعهم المتقنة بما اشتهر عن أهل هذه البلاد من الاجتهاد، والكل يحرثون الأرض وينقبون، وملابسهم نظيفة ووجوههم طلقة لا ترى عليهم دلائل الهم والقلق؛ فإن حكومتهم عادلة غير جائرة والضرائب المفروضة عليهم يسيرة غير رابية وأسواقهم - حيث تباع حاصلات الأرض - رائجة غير كاسدة، فما عليهم من هم ولا هم يحزنون. وهنالك ترى خطوط الحديد إلى جانب الماء تمر عليها الأرتال وقد أطل المسافرون من كل كوة أو نافذة يسرحون الطرف في تلك المناظر الشهية حتى لا يغيب عنهم جمال شبر من أشبار الأرض، وسكة القطار كلها مرصوصة بالحصى والأرض، يرطبها المطر المتوالي لا ينقطع في الصيف أو في الشتاء، فالسفر هنالك لذة، لا غبار يعمي الأبصار ولا رجرجة تضني الأجسام وتذهب بالاصطبار، ولا مراقبة مستمرة على التذاكر ولا تفتيش في كل حين تتألم منه الأفكار، فلا عجب إذا كان السفر في أرض سويسرا الحسناء لذة، والإقامة فيها نعيما تتوق إليه النفوس.
وقد وقفت بنا الباخرة في محطة غليوم تل - سميت باسم هذا الرجل الذي ذكر في المقدمة التاريخية - فرأينا فيها بنات لابسات الزي السويسري القديم ينشدن النغم الوطني، وسرن في الباخرة إلى آخر البحيرة معنا وهن دائبات على الإنشاد، وعدنا في آخر النهار إلى لوسرن ونحن نسرح الأنظار في تلك الجبال الفخيمة، وهي ما بين مخروطة ومنبسطة ومتشعبة ومستدقة، وكلها تكسوها الأعشاب وحراج الشجر البهي وتتساقط من جوانبها جداول الماء، وفوق بعضها الجسور المعلقة بين طرفين من أطراف الجبل يمر عليها الناس، ومن دونهم ما لا ينسكب بين هاتيك الشعاب الغريبة، وأجمل ما يكون في سويسرا منظر بحيراتها وجبالها المشهورة.
وأما الجبال المحيطة بلوسرن فكثيرة، منها جبل بورجستوك ذهبنا في باخرة إلى محطة في أسفله، وارتقينا قمته في قطار يسير صعدا بسير رويدا وهو يتعرج وينثني بين مسالك الجبل، وقد صنعوا له دواليب مشبكة في وسطه غير الدواليب التي تسيره فوق قضبان الحديد، وفائدة هذه الدواليب المشبكة أن أسنانها ترد القطار عن أن يهوي ويتدحرج إلى الوراء مدة سيره بالصاعدين، وكان في أعلى الجبل آلة بخارية تساعد في جر القطار وقد ربطت إليه بسلسلة من الحديد قوية، ولا حاجة إلى القول إن السفر على هذه الطريقة يسحر الألباب بجماله وغرابته ولا سيما إذا أطل الراكب ورأى ما فوقه وما دونه من عجيب المناظر الطبيعية، وشعر كأنه صاعد في السحاب من بين شقوق الجبل البهي. والجبل منظم الطرق في أعلاه ترش جوانبه بالماء وقد صفت الأغراس فيه صفوفا بهية، وبني محل للتلفون وآخر للتلغراف يوصلان الموضع بلوسرن وبقية الأرض وفيه فنادق والموسيقى تصدح بالأنغام الشجية عصاري كل يوم، فما أحلى التنقل في تلك القمة الشماء وقد ترقرق ماء البحيرة من دونها، وقامت شوامخ الجبال الراسيات وبدائع المحاسن المتناسقات حوله من كل جانب، حتى تمثل لك صورة الهناء والنعيم. ولقد قضيت في ذلك الجبل ساعات ثم انحدرت إلى سفحه وعدت إلى المدينة، فقصدت منها في الغد جبلا آخر أشهر من هذا وأكبر اسمه ريكي، بلغ ارتفاع قمته عن سطح البحر 1800 متر، وفيه كثير من الفنادق المتقنة سواء في أعلاه أو في أسفله أو في الجوانب التي تزينها الحراج الغضة، وقد كان القطار يصعد بنا في هذا الجبل وله آلة بخارية تجره من الأمام وأخرى تدفعه من الوراء، وقد نظمت قمة الجبل وزينت بمليح الطرق والبناء والقرى مثل التي مر ذكرها، فكان أكثر المتفرجين معنا يتسلقون على تلك الأعشاب الندية ويتمرغون، وقد لذ لهم بهاء الموضع وحسنه الباهر وتناسوا هموم الزمان، وبعض الذين تراهم هناك يقضون أشهر الصيف كلها فيما شيد من المنازل الفخيمة في جوانب الجبل، وأصحاب الفنادق هنا جروا على عادة لا تروق لأكثر الشرقيين هي أنهم يوقظون الضيوف كل صباح عند شروق الشمس حتى يروا كيف يكون طلوع الغزالة من وراء الجبال، وهم يدقون لذلك الأجراس عند الفجر وعند المغيب فيهرع الإنكليز وسواهم للتأمل في ذلك المنظر الجميل، ولكن الشرقي الذي لا تغيب الشمس من بلاده مدة النهار بطوله وهو يرى كيف تشرق وكيف تغيب في كل حين لا يهتم للقيام من النوم في ألذ ساعاته حتى يرى هذا المنظر المعروف.
وأعلى من ريكي جبل بيلاطس وهو في ضواحي لوسرن أيضا، علوه 2000 متر، والصعود إليه في قطر البخار يستغرق ساعة ونصف ساعة، وهو لا يقل جمالا عن الجبلين اللذين ذكرناهما، وقد عنيت حكومة لوسرن بتشييد المنازل فيه وتمهيد الطرق البديعة، وهي تأتي كل حيلة ممكنة لاستجلاب السائحين وترغيبهم في الإقامة طويلا فيها كأنما المحاسن الطبيعية التي تجمعت هنالك لا تكفيها، وفي جملة الذي تأتيه الحكومة لهذا الغرض أنها تقيم في كل عام زينة بهية في بحيرة لوسرن فتنار البواخر والجبال بالأنوار الكهربائية وسواها وتخترق الفضاء أسهم نارية تتصاعد على أشكال شتى تروق للناظرين، ويتكون من مجموع هذه الأنوار منظر يزيد المدينة حسنا فوق محاسنها الكثيرة؛ ولهذا يكثر إيراد المدينة من السائحين وهم ألوف كثيرة لا يقل عدد الذين يرتقون جبل بيلاطس منهم عن ثلاثين ألفا في كل عام.
وفي لوسرن فنادق كثيرة بنيت فوق الروابي والآكام المحيطة بها غير هذه الجبال، وهي تنار بالغاز والكهرباء، وإذا جاء الليل سطعت الأنوار منها على البحيرة، فكان لها منظر غريب كثير الجمال. وفي هذه المدينة الحسناء معارض تاريخية وتصويرية وكنائس وأسواق تذكر، وحدائق بديعة الوضع والأشكال، ولكنني اكتفيت بما مر ذكره عنها؛ لأنه أهم ما فيها، وشهرتها قائمة في جمال الموقع وجمال المناظر الطبيعية وجودة الماء والهواء، ولو لم يكن فيها من المحاسن غير الذي أوجده الله لكفاها عزا وهناء.
زورخ:
برحت لوسرن بعد هذا ووجهتي مدينة زورخ، وهي واقعة على بحيرة كبيرة تعرف بهذا الاسم أيضا طولها 25 ميلا وعرضها ميلان ونصف ميل، وقد قامت على ضفافها من كل جانب قصور فاخرة ومنازل كثيرة لكبراء السويسريين وبعض الإنكليز والأميركان والألمان والروس، وغيرهم ممن يصطاف في ربوع سويسرا البهية. والأرض هنالك كلها محاسن مثل التي تقدم ذكرها حتى إنه لو أمكن للمرء أن يدور في البلاد ماشيا على قدميه لما شعر بالتعب من تغيير المناظر المدهشة في كل حين، وقد يحسب أن الولاية كلها بلد واحد؛ لأن البناء متواصل والحركة دائمة في جوانب هذا القطر السعيد. واشتهرت زورخ بمعامل الحرير، وهي عشرة آلاف معمل، وفيها من الحدائق والأبنية والشوارع ما يجعلها في الطبقة الأولى من الأهمية بين مدائن سويسرا، من ذلك ساحة عظيمة فيها بركة وتمثال على اسم أشير مؤسس سكة الحديد في سان غوثار الذي مر ذكره، ويمكن الوصول من هذه الساحة إلى شارع توسط ما بين المحطة والبحيرة، وفيه كثير من الأبنية العمومية، وهي أكبر مدن سويسرا بالنظر إلى عدد السكان.
شافهوسن:
وذهبت بعد هذا إلى مدينة شافهوسن؛ لأرى شلال الرين فيها، وهو أكبر شلالات أوروبا، وقد كان السفر ما بين هاتين الجهتين حلوا شهيا توفرت فيه المناظر المطربة للنفس حتى إذا وصلنا شافهوسن أخذنا غرفة في فندق بني إلى جانب الشلال، ونافذة الغرفة تطل على مياهه المرغية المزبدة ولها تأثير في النفس يفوق التعريف، فإنها كانت تنحط من عل هاوية في الفضاء ولها دوي يصم الآذان كأنما يد القدر تصبها صبا فوق صخور قويت على صدماتها القرون الطوال، وهي إذا ما ماست الصخور لطمتها وصدمتها من كل جانب فترغي وتعج وتموج مضطربة، ثم تدور من حول الصخور وتسرع المسير مرعدة مرغية فيسمع دويها الهائل من بعد باعد، وإذا تأملتها عن كثب كما فعلت تاهت أفكارك وحرت فيما ترى من قوة ذلك المشهد العظيم وتأثيره الشديد. ولقد نزلت غرفة من الزجاج بنيت فوق المياه المتلاطمة المتصادمة، ووقفت في حجرة منحوتة بالجبل، ترى منها منظر الماء من وراء الزجاج الملون غريبا حتى إنك لتظن السيل أحمر أو أخضر أو أزرق حسب لون الزجاج، ونزلنا غرفة أخرى يكاد الواقف في إحدى نوافذها يماس الماء المنحدر، وسرت بعد ذلك في طرق متعرجة بين الصخر والشجر والماء تصطدم أمواجه من دوننا حتى أتينا موقفا كانت الزوارق مستعدة فيه لنقلنا فدخلناها وارتدينا أردية من الجلد فوق ملابسنا حتى تقيها من الماء المتناثر عند الاصطدام بالصخور، فسارت هذه الزوارق في الماء المضطرب تتثنى وتتفتل مجاراة للتيار الشديد حتى وصلت صخرا عظيما شاهق الارتفاع، وارتقينا قمته فإذا هو في وسط غريب المجال تصدمه جيوش الماء وتقلقله، وقد خافت الحكومة عليه من السقوط فقوته ببناء متين، فإذا وقفت في ذلك الموضع البديع ترى الماء من دونك في هياج عظيم والسيل ينحدر منه في عرض 130 مترا ومن علو 40 مترا، فيكون لوقعه اصطدام هائل بتلك الصخور. ولسيره في الوادي بعد ذلك السقوط منظر كثير الغرابة يقصده السائحون من بعيد الجوانب. ولما أرخى الليل سدوله خرجت على جسر بني فوق الشلال فانتهينا إلى حانة منظمة بنيت فوق ذلك السيل الطامي، ورأيت هنالك مناظر يعجز عن وصفها القلم واللسان؛ لأن أصحاب الحانة جعلوا يحولون أشعة النور الكهربائي على ذلك الشلال ويلونونها بالألوان المختلفة، فتارة ترى الماء قناطر خضراء تزري بالسندس وهي تعلو وتهبط وتتناثر فيتكون من اصطدامها وهبوطها وجريها واضطرابها مناظر تخيل لك أنك في أرض مسحورة أو أن الجن جاءوا بمعجزاتهم وهم يعرضونها عليك، وطورا ينقلب لون الماء فيصير أحمر بلون الياقوت أو أصفر أو أزرق أو مختلف الألوان، فكأنما الآلهة تضافرت على إيجاد جبال من الماء الجاري بهذه الألوان البديعة تراها كل لحظة على شكل من الأشكال، ولا سيما إذ ينحدر السيل من ذلك العلو الشاهق، وما أظن أن الذين وصفوا النعيم والفردوس من فلاسفة الأولين فطنوا إلى ما يقرب من هذا العز الفاخر والحسن الباهر، وزاد المشهد جمالا أنهم وضعوا بعض المفرقعات النارية في وسط الصخور تصدمها المياه ثم أوصلوا إليها شرارة كهربائية فالتهبت وتطايرت في الفضاء، هذه تنقض شهابا لامعا وتلك تحلق في السماء نيزكا ساطعا، وهذه تتناثر قطعها الملتهبة تناثر الدر والمرجان، وهذه تشق كبد السماء وقلبها يتوقد نارا حتى إذا بلغت من العلو مكانا فقعت وأضاءت على أشكال تروق للناظرين.
وبرحت هذا الموضع للسياحة في نهر الرين فركبت باخرة من بواخره قامت تمر على تلك الضفاف البهية، وهي تقف مرة في الشمال ومرة في اليمين، وتجتاز ما لا يعد من الحزون الشماء والمروج الخضراء والهضاب الحسناء والعمائر متواصلة البناء. وكان في جملة ما رأيناه محطة ستوكبرن اتسع نطاق النهر عندها حتى صار بحيرة بهية الضفاف وقام من فوقها جبل بني على قمته قصر كان لهورتانس والدة نابوليون الثالث، وهو الآن ملك أرملته الإمبراطورة أوجيني، ورأينا أيضا بلدة كوتلين وفيها قلعة سجن فيها يوحنا هوس المصلح الشهير وجيروم تلميذه؛ لأنهما خالفا العقيدة الكاثوليكية - وسنعود إلى ذكرهما - وظلت الباخرة دائبة في السير متنقلة بين أبهى المناظر وأشهاها مدة ثمان ساعات انتهينا في آخرها من السباحة في سويسرا، ودخلنا بلاد الألمان فزرنا عدة مدائن، منها: «كونستانس» وهي قاعدة إمارة بادن من إمارات ألمانيا، بنيت على ضفة بحيرة عظيمة تعرف باسمها وتعد البحيرة ملكا شائعا؛ لأنها الحد الفاصل بين أملاك سويسرا والنمسا وألمانيا، وهي كبيرة مساحتها 210 أميال مربعة وكل جوانبها آيات في الإتقان والجمال الطبيعي وبلدان تتصل بأطراف النمسا وألمانيا؛ ولهذا ترى بواخر الدول الثلاث تجول في جوانبها وقل أن يمر عام ولا يجيء الملوك والأمراء العظام من الدول الألمانية وسواها إلى هذه البحيرة البديعة، وقد يشتد هبوب الريح في بعض الأحيان فتنقلب هذه البحيرة الصافية إلى بحر عجاج تعلو في جوانبه الأمواج، وفي فصل الشتاء يتجلد من هذه البحيرة قسم كبير فيصير مضمارا على القباقيب.
وقد قصدت البناء الذي عقد فيه مجلس كونستانس لمحاكمة يوحنا هوس السابق ذكره لاتباعه طريقة الإصلاح البروتستانتية ومخالفة الكنيسة اللاتينية سنة 1415ه، وهو مجلس له شهرة في تاريخ أوروبا؛ لأن أفواج الناس تقاطرت لحضوره من كل حدب بعيد، وكان رئيس ذلك المجلس البابا يوحنا الثالث عشر ومن أعضائه الإمبراطور سجسموند و26 أميرا من أمراء الدولة الألمانية و140 كونتا و20 كردينالا من كبراء الكنيسة الكاثوليكية، و90 أسقفا وآخرين من خدمة الدين، فكانت جملة الحاضرين أربعة آلاف رجل، هؤلاء حاكموا الرجل ولم ترق لهم أساليب دفاعه وحكموا بإعدامه؛ لأنه خالف تعاليم الكنيسة البابوية فأحرق الرجل حيا جزاء تصريحه بما يعتقد، وكان الإمبراطور سجسموند يوده وقد ضمن له الحياة ولكنه لم يقو على مخالفة البابا وذلك الجمهور فأسف لما أصابه، وقد قام أنصار هذا المصلح بعدئذ وبنوا له قبرا في ضواحي كونستانس سرنا إليه في طريق جميل يظلله شجر الحور والصفصاف وإلى الجانبين منازل تحيط بها البساتين والحدائق البديعة وقد تدلت الأثمار اللذيذة من الأغصان، وراق ذلك المنظر للعيان حتى إذا انتهينا إلى القبر في الخلاء رأينا حجرا واحدا كبيرا أحيط بسياج من الحديد، وفوق القبر أكاليل من الزهر وضعها بعض أنصار هوس من طائفته، وقد كتب على الحجر من أحد جانبيه «يوحنا هوس سنة 1415»، وعلى الجانب الآخر «جيروم سنة 1416»، وعدت بعد أن شهدت هذا المشهد المؤثر إلى كونستانس مفكرا في فعال الإنسان وأمور هذا الزمان.
وقمت من مدينة كونستانس إلى جهة الشمال فمررت بالغابات السوداء، وهي لها شهرة في أوروبا، وكان القطار مدة سيره يجتاز بنا الجبال مرة في نفق تحت الأرض ومرة يدور ملتفا حول الجبل، وأذكر أني حسبت 25 نفقا دخلها القطار وخرج منها في مدة ساعتين، وهذا قليل مثله في خطوط الحديد الأخرى، والسائح في هذا القطار يرى عشرات من قمم الجبال القريبة لكل منها منظر يختلف عن منظر القمة الأخرى، وما مر في تلك الغابات السوداء أحد إلا وهو معجب بفرط بهائها وغرابة أشكالها، وقد ظللنا سبع ساعات في هذا النعيم حتى بلغنا مدينة: «ستراسبورغ» وهي عاصمة ولاية الألزاس كانت تابعة لألمانيا ثم اغتصبها الفرنسيس وضموها إلى مملكتهم في حرب الثلاثين سنة التي سبقت الإشارة إليها، وكان ذلك سنة 1680، وظلت من أملاك فرنسا حتى حربها الأخيرة مع بروسيا سنة 1870، حيث ضمت إلى ألمانيا وصارت جزءا منها، وكان الألمانيون كل مدة استيلاء الفرنسيس عليها يعدون النفس باسترجاعها حتى إن أحدهم أنبأ في كتاب له بينا كان الفرنسويون يبنون الحصون فيها والقلاع بمجيء يوم تدك المدافع الألمانية تلك الحصون وتعيد المدينة إلى أصلها الألماني فكان الذي قاله. ولما وصلنا المدينة ونزلنا من القطار إلى محطتها الواسعة رأينا في صدر القاعة الكبرى من هذه المحطة صورة القيصر ولهلم الأول جد القيصر الحالي ومن ورائه ولي العهد وأركان الحرب وكبراء الدولة، فذكرنا ذلك بحرب سنة 1870، وهي لا بد لزائر ستراسبورغ من تذكرها أينما سار؛ لأن المدينة ملآنة بالنصب والأبنية والأشكال أقيمت لذكر استرجاعها من فرنسا وانتصار ألمانيا في تلك الحرب العظيمة، حتى إنك لترى صور قواد الجيش الألماني وتماثيلهم منتشرة في أرجاء المدينة غير ما فيها من الثكنات الواسعة والقلاع الحصينة الجديدة، تقيم فيها ألوف الجند المدربة وهي من أكبر مراكز الجيش الألماني، وإني بعد وصولي رأيت عند المحطة ميدانا واسعا كثير الإتقان صفت فيه الأغراس ووضعت المقاعد، فترى الناس ينتابونه شأنهم في كل مكان مثل هذا للتنزه والتفرج بعضهم على بعض.
ولما كانت المدينة من المواضع العسكرية كما مر فإني أخذني الدليل قبل كل شيء إلى حصونها ومحل المعارك التي حدثت فيها مدة الحرب الأخيرة، وقد اشتهر حصار الألمانيين لهذه المدينة؛ فإنهم حصروها مدة 46 يوما قبل أن يفتحوها وطردوا الفرنسويين منها وأطلقوا عليها 193 ألف قنبلة دمرت حصونها وأوقعت الفناء في حاميتها حتى سلم القائد الفرنسي، وانتهت ويلات الحصار بدخول الجيش الألماني ظافرا وكان في جملة الذي غنمه الفاتحون 1200 مدفع و12000 بندقية و1800 حصان وأسروا 18000 رجل من جنود الفرنسيس، وقد هدمت الحصون القديمة وأنشئ مكانها طرق ومتنزهات وقصور، وبنيت حصون حديثة فاتسع ببعدها نطاق المدينة.
وكانت ستراسبورغ يوم زيارتي لها حافلة بآلاف الوافدين عليها من كل صوب؛ لأنه أقيم فيها معرض عام في ذلك العام داخل حديقة واسعة الأطراف متنوعة المحاسن ووضعت فيه أشكال المصنوعات الحديثة متناسقة مقسمة فروعا، فالآلات الميكانيكية للنقل والزراعة والصناعة على أنواعها في قسم، والمنسوجات في قسم والمفروشات في قسم، وكلها أدلة على تقدم البلاد في هذه الصناعات، ووصفها لا يختلف عن وصف غيرها من المعارض فلا أضيع الوقت عليه ، ولكنني أذكر بنوع خاص أني رأيت بناء جامع في ذلك المعرض أحكم الوضع، وبناء آخر يشبه كنيسة القبر المقدس في القدس الشريف بكل ما فيها من التحف والمصابيح الثمينة والملابس المقصبة التي يستعملها خدمة الدين، وغير هذا مما يوهم الواقف هنالك أنه في القدس وليس في ألمانيا. وكانت الأعشاب في بعض أجزاء هذه الحديقة مزروعة على نسق يقرأ منه اسم ولهلم وبسمارك ومولتكي الذين أسسوا الدولة الألمانية الحالية. وأذكر أني حال خروجي من هذا المعرض دخلت موضعا فيه مراء عديدة لا تقل عن خمسمائة صفت قطعا صغيرة بعضها إلى جانب بعض، فإذا وقف المرء أمامها رأى شكله خمسمائة مرة في كل ناحية، وذكرني هذا بمحل مثله في برلين إذا دخله الزائر ورأى صورته في كل جهة عسر عليه أن يعرف من أين يخرج إذا لم يساعده صاحب المحل على ذلك.
وفي ستراسبورغ حدائق وميادين وشوارع كثيرة وافرة الإتقان، أذكر منها ميدان جوتنبرج مخترج الطباعة، فيه تمثال من الرخام الأبيض يشرح معنى الحروف البارزة لجماعة من السائلين، وتمثال كليبر القائد الفرنسوي الذي جاء مصر مع نابوليون وكان وكيله في رئاسة الجيش ثم قتل في الأزبكية على ما هو مشهور، والرجل من أبناء ستراسبورغ ولد فيها سنة 1753 وقتل سنة 1800 كما ترى على أحد جوانب التمثال المقام له في هذا الميدان، وهو من النحاس الأصفر، وكتبوا على الوجه الثاني واقعة المطرية سنة 1800، وهي كان النصر فيها لهذا القائد على جيش الأتراك والمماليك، وعلى الوجه الثالث عبارة قالها كليبر لجنوده عند افتتاح الحرب معناها: «أيها الجنود إن الجواب الوحيد على هذه الإهانة هو الانتصار فدونكم والقتال.» وعلى الوجه الرابع عبارة معناها: «هنا بقايا ابن وطننا.» ومع أن المدينة صارت ألمانية، وكليبر كان من قواد الجند الفرنسوي فلم يتغير من هذا الأثر شيء دليل إكرام الأهالي والحكومة لذكر الأبطال. وفي المدينة ميدان آخر سمي باسم الدوك برولي الوزير الفرنسوي الشهير، فيه أحسن المباني والقصور وفي آخره الملهى الكبير، ويمكن الوصول منه إلى قصر الإمبراطور بناه الأهالي بعد الفتح الألماني على نفقتهم وقدموه هدية لقيصر ألمانيا، زرته ورأيت فيه وفي حديقته من البدائع ما يستحق الذكر ولا سيما الغرفة التي يستقبل الإمبراطور فيها وفود الناس مدة وجوده في ستراسبورغ والقسم المخصص للإمبراطورة. ويقرب من هذا القصر مدرسة جامعة لها شهرة في أوروبا حتى إنها تعد من مباني العلم الأولى في أوروبا كلها، وقد أنفقوا على بنائها 12 مليون مارك وكتبوا على صدرها من الخارج «خدمة للعلم والوطن.»
الجنرال كليبر.
ولا بد أن يكون القراء قد سمعوا بكنيسة ستراسبورغ، وهي من أشهر كنائس الأرض وأغربها، عرفت بساعة فلكية فيها تدق أشكالا وتعرف منها أسماء الأيام والأشهر وتاريخ الشهر والسنة وحالة المطر والهواء ومواقع بعض النجوم، ومن أدوات هذه الساعة تماثيل اثني عشر رسولا تنحني أمام المسيح حين تدق الساعة الثانية عشرة، وديك يصيح بعد ذلك ثلاثا، وغير هذا مما يحتاج إلى شرح طويل.
وأهل ستراسبورغ عرفوا بالجد والنشاط، وأكثرهم ألمان ولكن بعضهم فرنسويون فيكثر الخصام بين الفريقين، ولا يخشى الحزب الفرنسوي من إظهار الميل لفرنسا مع قوة الحكومة وبطشها، وكلهم يتكلمون اللغتين ولهم شهرة بالخطابة ودرس الفنون السياسية تحكي شهرة كنيستهم والثكنات العسكرية الكثيرة في مدينتهم.
ولما انتهيت من مدينة ستراسبورغ برحتها إلى جهة الشمال فمررت بما لا يعد من المدائن العامرة، وكلها بادية عليها أدلة التقدم والنماء ترى معاملها وخطوطها الحديدية في كل جانب، ولو أحصيت خطوط الحديد في الممالك بالنسبة إلى اتساعها لكانت ألمانيا في مقدمتها، هذا غير أن الأهالي بلغوا درجة قصوى من التهذيب وانتشرت مصنوعاتهم في كل قطر فقد مررت في هذا الطريق على مدينة «مانهيم» وهي تعرف في اصطلاح القوم بلفربول الرين؛ لكثرة معاملها ومصنوعاتها التي ترسل إلى هذا القطر وسائر الأقطار، وظللنا نخترق العمائر حتى وصلنا «مايانس» أو مينز بلغة الألمان، وهي من أمهات المدائن الألمانية، لها شهرة ذائعة في حسن موقعها على نهر الرين وجودة الهواء والمناظر ووفرة الحصون والاستحكامات التي قامت إلى كل جانب منها، وأكثرها في جبال تحيط بهذه المدينة إلى جانبي النهر؛ ولذلك كانت هذه المدينة من المواقع العسكرية المشهورة، وفيها حامية كبيرة لا يقل عددها عن اثني عشر ألفا وهم منتشرون في المدينة وضواحيها تراهم كيفما سرت وعلامات الانتظام والتعليم العسكري المشدد ظاهرة عليهم، وقد وصفنا حالة الجندية الألمانية وصعوبتها واستبداد ضباطها بالعساكر، وغير هذا عند الكلام عن برلين، وفي هذه المدينة الجميلة حديقة غناء قائمة على ضفة النهر تشغل مكانا فسيحا فيها، وكلها آيات ومحاسن توجهنا إليها وسرنا منها إلى كنيسة فيها مدافن الأساقفة القدماء الذين نشئوا في مينز ونواحيها، وقد أذهلني أن امرأة هي قندلفتة الكنيسة أو حارستها جاءت لنا بالمفاتيح ودارت معنا ترينا جوانبها، والعادة في كل الأنحاء تقريبا أن تكون هذه الخدمة للرجال لا للنساء.
ورأيت في مايانس ميدان جوتنبرج المشهور مخترع الطباعة ولد في هذه المدينة فأقاموا له هذا التذكار تمثالا في وسط الميدان، وكان الرجل من بسطاء الأهالي ولد في مايانس ونزح إلى ستراسبورغ للارتزاق؛ فحدث أنه كان جالسا تحت ظل شجرة عند ستراسبورغ يوما، وأسند ظهره إلى جذعها زمانا فلما نهض انتزع رداءه ليحمله على يده؛ فرأى في الرداء علامات طبعت عليه، وهي تشبه الكتابة، وكانت تلك العلامات أثر قشور الشجر طبعت على الرداء من استناده إلى الجذع ففكر صاحبنا مدة في هذا الاتفاق المليح، وفطن منه إلى أنه يمكن أن تصنع حروف ناتئة إذا ضغط عليها ظهرت علاماتها على الورق أو القماش؛ فذهب إلى بيته وصنع بعض الحروف من الخشب ثم جعل يصبغها ويضع فوقها قماشا أو ورقا يضغط عليه فترتسم هيئة الحروف على الورق، وانتشر اختراعه، فكان ذلك بدء الطباعة وصيرورة العلم إلى حاله الحالية، وقد عمت المعارف بواسطة هذا الاختراع الجليل إلى درجة لم تخطر على بال المخترع، وكان أول كتاب طبع بهذه الحروف الإنجيل والتوراة باللغة اللاتينية، وأما الاختراع فتم في ستراسبورغ سنة 1440، ولما كان المخترع من أهل مايانس فقد أقيمت له التماثيل في المدينتين. ورأينا في هذه المدينة أيضا تمثال الشاعر شلر في ميدان سمي باسمه، وصعدت حديقة في رأس جبل حصين يشرف على النهر والمدينة، فتأملت الحصون المنيعة ورأيت هنالك طريقا عسكريا قال لي الدليل الذي كان يرشدني إلى هذه المواضع إنه يوصل إلى باريس توا، وكان نابوليون الأول قد أنشأه ليمهد الطرق لجيشه ويخضع ألمانيا عن هذا الطريق، فكانت النتيجة أن الجنود الألمانية جعلته طريقها إلى باريس وأخضعتها في الحرب الأخيرة.
وانتقلت من مدينة مايانس هذه قاصدا «وسبادن»، وهي على مقربة منها، تعد من أشهر مدائن ألمانيا بجمال مناظرها وجودة هوائها وحماماتها المعدنية يقصدها ألوف في كل عام للاستشفاء والاستحمام غير الذين يأتونها لتسريح الطرف بمناظرها البديعة والتمتع بهوائها المنعش. وقد مشيت في شارع كبير من شوارع هذه البلدة يعرف بشارع ولهلم وفيه صفوف من أشجار الكستناء الباسقة إلى الجانبين ومنازل فخيمة وفنادق عظيمة في كل جانب منه، وفي آخره حديقة عمومية عظيمة الترتيب بهيجة الأشكال نصبوا فيها تمثال ولهلم الأول بملابسه الجندية وهو في أيام الكبر، والتمثال كله من الرخام الأبيض الثمين، وعلى مقربة من هذه الحديثة أروقة طويلة قامت على عمد وقناطر عديدة ومن تحتها المخازن والدكاكين فيها كل أنواع الأبضعة الألمانية والأجنبية وفي طرف هذه الأروقة ملهى أو كازينو من الطبقة الأولى في الإتقان والجمال؛ دخلنا قاعة فسيحة فيه للرقص صنعوا قسما علويا منها داخل حواجز من النحاس الأصفر لجماعة العازفين والمغنين وعلق في سقفها 12 ثريا من النحاس الأصفر الذهبي غير المصابيح الأخرى، تنار كلها بالنور الكهربائي ولضوئها جمال غريب، هذا غير ما في الكازينو من الغرف والمحاسن الأخرى التي لا تختلف عما ذكرنا أو ما سنذكر في المدن الأخرى المشهورة بحماماتها. ومتنزهات وسبادن هذه متصلة بعضها ببعض لكثرتها، فما تنتهي من أحدها حتى تصل متنزها يضارعه في النظام والجمال وكثرة الواردين إليه، وفي جبل فوق وسبادن كنيسة روسية بنيت تذكارا لأميرة ناسو ، وهي الغراندوقة إليصابات الروسية ابنة القيصر نقولا الأول، اقترن بها أمير ناسو الألماني وتوفيت سنة 1845؛ فبنيت هذه الكنيسة تخليدا لذكرها، وهي يصعد إليها في طرق ومسالك متعرجة بين مشاهد الجبل البديعة وغياضه القديمة، تتضوع منها الروائح العطرة، ويقيم بعض خدمة الكنيسة الروسية كل يوم قداسا عن نفس الأميرة المذكورة.
وقد صنعوا قبر هذه الأميرة في تلك الكنيسة على شكل بديع ثمين من الرخام الأبيض والناصع، ووضعوا فوق الضريح تمثال الأميرة مستلقية على ظهرها وعينيها ناظرة إلى السماء وألبسوها ثوبا أبيض نقيا، ووضعوا على رأسها إكليلا من الزهر، وكل ذلك من المرمر الناصع الثمين يجعل لهذا الأثر منظرا يؤثر في النفس، ويعيد إلى الصدر ذكر الورع والعفاف، وقد بنيت في ذلك الجبل عدة فنادق ومطاعم وحدائق منظمة بديعة الترتيب، قضينا بينها بعض النهار ثم سافرنا منها إلى «فرانكفورت» وهي من أشهر المدن الألمانية وأعظمها، عدد سكانها نحو مائتين وخمسين ألف نفس، ولها شهرة ذائعة بمدارسها العالية ومتاحفها العظيمة ومصارفها الكبرى ويعد أهلها في الطبقة الأولى من التهذيب؛ لأنه لا يوجد بينهم أمي واحد ولا متسول، وهذا كثير مثله في مدن ألمانيا العامرة، وفرانكفورت مشهورة في التاريخ بالحروب والمعاهدات التي أمضيت بها، وأعظمها ما كان مختصا باتحاد الدول الألمانية؛ ولهذا فإن ولهلم الأول جاءها قبل غيرها من المدن الألمانية بعد انتصاره على فرنسا سنة 1871، وهنالك أمضيت المعاهدة النهائية بين ألمانيا وفرنسا، ومن أشهر ما يذكر عن هذه المدينة بنك روتشلد الكبير له معاملات مع كل المحلات المالية في الأرض، وقد كان آل روتشلد العظام من أهل فرانكفورت، ومنها بدأت عظمتهم بما أظهر جدهم أنسلم روتشلد من الأمانة لأمير فرانكفورت حين هاجمها نابوليون، وكان أنسلم روتشلد هذا مقربا للأمير وقد جمع مالا بالدأب والاجتهاد، فلما خاف الأمير من هجوم نابوليون استدعاه إليه وأودع أمواله كلها عنده ثم فر من المدينة؛ فأخذ روتشلد أموال الأمير وخبأها مع ماله الخاص في بيته، والبيت باق في فرانكفورت إلى اليوم أثرا جليلا شاهدته مدة وجودي فيها، ومن أغرب ما يروى عنه أن نابوليون لما دخل المدينة وفتحها بات ليلة في هذا البيت؛ لأنه كان من أحسن بيوت المدينة، وكانت تلك الأموال مخزونة في السقف فوق رأسه فما درى بها، ولما انتهت الحرب وخرج الفرنسيس من البلاد عاد الناس إلى مساكنهم وعاد روتشلد إلى هذا البيت، فوجد الأموال وأرجعها إلى الأمير كما كانت فسر الأمير بأمانته وساعده على الارتقاء، وظل روتشلد يجمع الأموال حتى صار من أكبر المثرين وورثه خمسة أولاد تفرقوا في عواصم أوروبا، وكان أشهرهم ابنه الثالث ناثان روتشلد توطن في أول أمره مدينة مانشستر، ثم جاء لندن وكان مقاولا للجيش الإنكليزي مدة حروبه الأخيرة مع نابوليون الأول حتى إنه ذهب بنفسه في أواخر الحرب إلى بروكسل؛ ليرى فيما يلزم لهذا الجيش، فحضر موقعة واترلو المشهورة، وعلم أن النصر تم فيها للإنكليز، ومن ثم أسرع في الرجوع إلى لندن في سفينة له خاصة، فبلغها وهو عالم بخبر النصر قبل أن تصل الأخبار إلى البلاد بيوم كامل قضاه كله في مشترى الأوراق المالية، وهي يومئذ في سقوط زائد بسبب خوف الناس من الحرب، وجمع منها مقدارا هائلا، فلما انتشر خبر النصر وفرار نابوليون ارتفعت قيمة الأوراق ارتفاعا عظيما وربح منها روتشلد في يوم واحد عدة ملايين، ومن ذلك العهد صار بيت روتشلد أكبر البيوت المالية في أوروبا، ولم يزل على ذلك إلى الآن.
وبعد أن شاهدت هذا في فرانكفورت عدت إلى مايانس لأتمم السياحة منها في نهر الرين، وهو الأمر الذي جئت هذه البلاد لأجله، وعرض هذا النهر لا يقل عن 600 متر في بعض الجهات. وأنت أينما سرت ترى القلاع القديمة والحديثة على رءوس الجبال وقصور الأغنياء تطل على النهر من تلك الأعالي، وإلى جانب الماء من هنا ومن هنا مروج خضراء وحقول أريضة ينتقل فيها أناس يظهر عليهم النعمة والرواء، وأرتال تمر على خطوط الحديد مرة تقرب من النهر ومرة تفذ في داخل البلاد حتى إن المسافر في النهر ليرى القطرات البخارية في بعض الأحيان خارجة من وسط الجبل على غير انتظار أو سائرة على ضفة الرين فيشهد من ذلك حركة لا تنقطع في النهر والبر، تشهد بعظمة هذه البلاد وتقدمها العجيب، والبواخر التي تسير في نهر الرين كثيرة الجمال والإتقان نزلت في واحدة منها اسمها ولهلم الأول، لها طبقة علوية ممتدة على طول الباخرة، وقاعة الطعام فيها فسيحة يدهش نظامها الأبصار، مدت فيها 12 مائدة عليها الآنية الفضية تسطع وتلمع، ومن حولها الخادمون بأنظف الملابس، وكان الراكبون في هذه الباخرة من الألمان والإنكليز والأميركان وسواهم يتأملون محاسن الرين مثلي ويعجبون، وقد اشتروا رسما لهذا النهر مطبوعا رسمت فيه المدن التي تقف فيها السفن وهي كثيرة لا يمكن لي وصفها، أذكر منها: «بون» وهي مدينة زاهرة عامرة اشتهرت بمدرستها الجامعة التي تلقى الإمبراطور الحالي دروسه فيها، ومنها «كوبلنتز» وهي نقطة عسكرية مشهورة، فيها ألوف من رجال الجند الألماني، وأذكر أننا بعد أن تجاوزنا كوبلنتز رأينا في إحدى الروابي قصرا فوقه راية أميركية حيت السفينة وأطلق من القصر مدفع صغير فضج الأميركيون السائحون معنا استحسانا. وهكذا ظللنا مدة 12 ساعة في نهر الرين نمر على أبهى أنواع الحقول والمدن والكروم تمتد من شاطئ النهر إلى أعلى الجبال، وهي التي يستخرج منها نبيذ الرين المشهور، ولا حاجة إلى القول إن مشاهد وادي الرين تفضل أكثر المشاهد المشهورة في الأرض والسفر فيه من ألذ أشكال السياحة، بقيت أتمتع بمحاسنها كل تلك المدة حتى وصلت مدينة «كولون» المشهورة بماء كولونيا العطر، يصنع في معاملها قناطير مقنطرة ويرسل منها إلى جميع الأقطار.
ولهذه المدينة شهرة بموقعها البديع على نهر الرين وجسرها الحديدي الطويل فوق ذلك النهر العظيم لا يقل عرضه عن خمسمائة متر ما بين هذه المدينة ومايانس، وبكنيستها الكاتدرائية المشهورة، وهي ذات برجين عاليين ارتفاع أكبرهما 650 قدما، وأما نقوش هذه الكنيسة الدقيقة في خارجها وداخلها والرسوم البديعة المنزلة على الزجاج في شبابيكها والعمد المستدقة والحفر الغريب في كل جوانبها فمما يحير الأفكار، ولا عجب فإن كنيسة كولون من أشهر كنائس الأرض طرا ، ويا ليت أن الوقت يسمح لي بالتطويل في وصف بنائها الأنيق، بدءوا ببناء هذه الكنيسة سنة 1327 حين أرسل البابا منشورا يطلب فيه جمع مال بالاكتتاب لبنائها، فما تم صنعها حتى عام 1600، ولكنها تهدمت مرارا وأضرت بها جنود نابوليون سنة 1794؛ إذ جعلتها مستودعا للمهمات وأخذت بعض التماثيل النحاسية منها فصبتها مدافع، فلما طرد الفرنسويون منها أعادوا زخارفها وظلوا إلى عهد قريب جدا يضيفون إليها أغرب غرائب الصناعة الحديثة حتى صارت من أعظم مشاهد الأرض الحالية، وهي قائمة على 56 عمودا كبيرا في طولها و18 عمودا في العرض، وتحت القبة الكبرى عمودان ضخمان بلغ محيط كل منهما 36 خطوة، وفي ذلك من المزية ما لا يخفى حتى إن الذي يقف أمام الكنيسة ويرى تلك العمد البديعة والقباب البهية والنقوش الفاتنة، وكلها من الرخام الأبيض الثمين ليزيد عجبه عن الذي يدخل جوانبها الكبرى ويقف أمام تلك الصور الدينية المنزلة في الزجاج فيخيل له أنه يرى حقيقة لا رسما.
وجملة القول أن كولون من أهم مدائن ألمانيا مناظر وصناعة وتجارة، عدد سكانها نصف مليون نسمة، وقد أقمت فيها أربعة أيام ثم برحتها قاصدا بلاد هولاندا.
هولاندا
خلاصة تاريخية
كانت هولاندا في أول عهدها بالعمران تعد مع البلجيك بلادا واحدة اسمها في أوروبا «نذرلاند» أو البلاد الواطئة، وأطلق عليها العرب اسم الفلمنك نسبة إلى ولاية فيها يتكلم أهلها اللسان الفلمنكي أو الفلاماندي القديم، وهو يقرب من اللسان الألماني، وكان يملك هذه البلاد أمراء برغندي إلى أن مات آخر أمراء هذه العائلة، وانتقل الملك إلى آل هابسبرج الذين يحكمون بلاد النمسا اليوم باقتران الأمير مكسميليان في سنة 1477 بابنة الأمير الأخير من أمراء برغندي، ومكسميليان هذا صار بعد وفاة أبيه إمبراطور النمسا، وانتقل منه الملك إلى كارلوس الأول الذي كان ملك إسبانيا وإمبراطور النمسا في آن واحد، فظلت البلاد تابعة لملوك إسبانيا حين وفاة ملكها كارلوس الثاني سنة 1700 حتى صارت الدول الكبرى تتسابق على امتلاك الفلمنك، وتحاربت فرنسا والنمسا عليها زمانا طويلا فانتهت الحرب بصلح عقد سنة 1714 في راسناد بين كارلوس السادس إمبراطور النمسا ولويس الرابع عشر ملك فرنسا، وكان من مقتضى هذا الصلح أن أكثر البلاد المعروفة باسم البلجيك اليوم أعيدت إلى مملكة النمسا وظلت في قبضتها حتى أيام الثورة الفرنسوية حين ألحقت بأملاك فرنسا.
وكان من أمر هولاندا أنها لقيت من ملوك إسبانيا ظلما كبيرا واضطهادا دينيا لم يسبق له نظير، واشتدت وطأة الظلم عليها في أيام فيليب الثاني، وكان هذا الملك شديد التعصب ساءه أن أهل هولاندا اتبعوا المذهب البروتستانتي فأمر بإعدام كل من لا ينكر هذا المذهب، وأرسل الدوك ألفا من قبله لتنفيذ هذا الحكم الجائر، وكان في جملة المحكوم عليهم الأمير الحاكم على هولاندا من قبل فيليب الثاني، وهو من آل أورانج العائلة الحاكمة حالا على هذه البلاد؛ فجهر الأمير بالعصيان وجند من أهل بلاده جيشا قويا حارب الإسبانيين وانتصر عليهم بعد معارك جسيمة واستقلت هولاندا من ذلك اليوم فصار أمير أورانج حاكما عليها وتوارث آله الإمارة من بعده، وكان ذلك في سنة 1750، وتقدمت بلاد هولاندا في حكم هؤلاء الأمراء تقدما عظيما، واتسعت متاجرها وملكت المستعمرات الكبرى في الهندين الشرقية والغريبة، وظلت على ذلك حتى أيام الثورة الفرنسوية فإن الفرنسويين انتصروا عليها وضموها إلى جمهوريتهم، ثم جعلها بونابارت مملكة لأخيه لويس نابوليون، وانتهزت إنكلترا فرصة اشتغال هولاندا حينئذ بهذه المتاعب فسطت عليها وغنمت بعض مستعمراتها، وأهمها رأس الرجاء الصالح في أفريقيا وجيانا في أميركا الجنوبية.
ولما بدأت قوة فرنسا بالسقوط في أواخر أيام نابوليون الأول قام الهولانديون عليها وتمكنوا من الاستقلال مرة أخرى في سنة 1814 واتحدوا مع بلاد البلجيك فساعدتهم أوروبا على ذلك، وأنشئت مملكة جديدة للبلاد الواطئة دعي وريث آل أورانج للحكم عليها. ولكن الاختلاف بين البلادين في الذوق والطبع كان كبيرا، فلم تمر أعوام كثيرة على هذا الاتحاد، وقام البلجيكيون يطلبون الاستقلال في سنة 1830، فنالوه وساعدتهم أوروبا على نيله وانتخب أمير من آل ساكس كويرج (إمارة في ألمانيا) للحكم على البلجيك، وظلت هولاندا تحت حكم ملوكها من آل أورانج، وهي على هذا الحال إلى اليوم، وقد كان من أمرها أن عائلتها المالكة كادت تنقرض في أواسط هذا القرن ولم يبق منها غير أمير واحد ورث آل أورانج وآل ناسو، وهم حكام إمارة لكسمبرج، فورث الرجل البلادين وحكمها زمانا باسم ولهلم الثالث، وكان له ولدان توفيا في حياته وتوفيت بعدهما زوجته فاضطر الرجل أن يقترن وهو في الثالثة والستين من عمره مرة أخرى؛ ليأتيه من يرث المملكة والإمارة ولم يرزق غير فتاة هي ملكة البلاد الحالية، ولهلمينا ولدت في 31 أوغسطس سنة 1880، وتوفي والدها سنة 1890، فقامت أمها بالوصاية عليها إلى أن بلغت الثامنة عشرة من عمرها، وتوجت ملكة لهولاندا في شهر مايو من سنة 1899، وكان الاحتفال بتتويجها عظيما بديعا كثر فيه فرح أهل البلاد، وهم يحبون هذه الملكة حبا مفرطا لما ظهر لهم من حسن خصالها وتوقد ذهنها، وقد ربيت جلالة الملكة ولهلمينا على يد أمهر الأساتذة والمربيات، وهي الآن تكتب بعدة لغات أوروبية غير لغتها، ولها إلمام باللغات الشرقية التي يتكلم بها سكان الأملاك الهولاندية في الشرق، وضاعت إمارة لكسمبرج من هولاندا في حكم ملكتها الحالية؛ لأنها بحسب نظامها القديم لا يحكمها النساء، واقترنت هذه الملكة بالبرنس هنري الألماني من إمارة مكلنبرج شورين في سنة 1902 فرزقت منه بنتا سنة 1909 هي ولية عهد المملكة الهولاندية، وكان لولادتها رنة فرح في بلاد هولاندا تشبه أفراح القوم يوم تتويج ملكتهم الحالية.
وهولاندا بلاد صغيرة عدد سكانها خمسة ملايين ونصف من النفوس، ولكنها في الطبقة الأولى من طبقات التمدن، ولها مستعمرات عظيمة أكثرها في جزائر المحيط الهندي لا يقل عدد سكانها عن أربعين مليونا، فهي من أكبر دول الاستعمار الحالية، ولها تجارة واسعة وعمارة قوية، ولأهلها شهرة في الجد والإقدام والأمانة العظيمة، وهذا السر في نجاحهم مع قلة العدد.
ولهلمينا ملكة هولاندا.
أمستردام
جئت بلاد هولاندا عن طريق كولون التي تقدم ذكرها في الفصل السابق، وكان أول بلد منها دخلته مدينة سفناخ الواقعة على حدود البلاد من الجنوب، وقفنا فيها ريثما انتقلنا إلى القطار الهولاندي، وفتش العمال حاجاتنا ثم تابعنا المسير حتى أتينا مدينة أمستردام، وكان فيها يومئذ حركة كبرى بسبب معرض عام أقامته حكومتها فتوافد الناس عليها لمشاهدة ما في ذلك المعرض، ومدينة أمستردام جميلة الموقع بهية المناظر بنيت على جزر صغيرة لا تقل عن تسعين عدا، وهي متصلة بعضها ببعض بقناطر جميلة الشكل عددها ثلاثمائة، وفيها من الترع ما لا يعد بسبب ذلك، وأهمها أربعة تحيط بالمدينة من كل جهاتها، طول الواحدة منها من 4 كيلومترات إلى 10 وعرضها نحو 45 مترا، والقناطر فوقها متوالية بعضها وراء بعض على نسق يروق للناظرين.
وأهم الترع في أمستردام واحدة فتحت عام 1862 توصل المدينة بالبحر طولها 25 كيلومترا، وعرضها يختلف ما بين 60 كيلومترا ومائة، فهي من الترع العظيمة تمخر فيها الباخرات الكبرى ذاهبة إلى المستعمرات الهولاندية وراجعة منها، وقد أنفقوا على حفر هذه الترعة نحو 70 مليون فرنك، وهم ينفقون على إدارتها ووقايتها وتطهيرها نحو 2000 فرنك كل يوم. وشوارع هذه المدينة كلها واسعة غرست إلى جوانبها الأشجار وقد أدى اتساع الشوارع إلى امتداد المدينة في مساحتها مسافة 12 ميلا، وفيها الآن من السكان نحو 490 ألف نفس ويشطرها نهر أمستل شطرين، وهو نهر كبير تدخله الباخرات الكبرى التي ترود البحار القاصية، وسنعود إلى الكلام عن تجارتها العظيمة ومينائها المشهور.
وقد مر أن المدينة كانت في حركة كبرى يوم زرناها بسبب المعرض؛ ولهذا قصدناه قبل غيره من المشاهد المذكورة، وكان في حديقة كبرى واسعة الأرجاء شيدت فيها الأبنية العظيمة حسب عادتهم في المعارض، فدخلت القسم العام منه والأقسام الخاصة بالممالك الغربية والشرقية، وفيه من حاصلاتها ومصنوعاتها واختراعاتها ما نضرب صفحا عن وصفه؛ لأنه لا يخرج عن وصف ما في المعارض الأخرى، وقد ذكرنا بعضها في هذه الرحلات والظاهر أن الشرقيين تحولت أنظارهم إلى هذا المعرض أكثر من سواهم، فإنه كان في سوقه العمومية عدة مخازن وحانات ودكاكين لأناس من مصر والآستانة وحلب والقدس ودمشق والإسكندرية وأفراد كثيرين من كل هذه الجهات، وأقيم إلى جانب هذه المخازن منزل عظيم للصور المجسمة والمناظر المشهورة، وعلى بابه اثنان من السودانيين بالملابس المعروفة في هذه البلاد، وفي يد أحدهما بوق ينفخ فيه دعوة للسامعين، وقد رأينا في ذلك المنزل صورا كثيرة، منها صورة الرحالة ستانلي في قلب أفريقيا يخابر أمين باشا في أمر إرجاعه إلى مصر، وأمامها القرية الأفريقية بأكواخها وسكانها السود ونسائها يحملن الأطفال على ظهورهن ومناظر طبيعية أخرى، والناس في شئون شتى، منها ما استلفت الأنظار وهو عقد الإخاء على طريقة أهل أفريقيا الوسطى، وهي أن يقصد كل من المتعاقدين نفسه ويمص الرجل من دم الآخر شيئا، فيعد ذلك دليلا على الرضاء والوفاء، وقد كان ستانلي وغيره من الأوروبيين يلجئون إلى هذه الطريقة في معاملاتهم مع زعماء الإفريقيين مدة السياحات الأولى ليأمنوا شرهم وينالوا مساعدتهم.
ولو شئت أن أعدد غرائب هذا المعرض وملاهيه للزم الشيء الكثير فأقتصر على القليل مما رأيته فيه، مثل باخرة كبرى بحجم البواخر التي تمخر في البحار وضعت في بحيرة داخل حديقة المعرض، وهي كاملة العدد ليس ينقصها غير الآلة البخارية، وقد جعلها أصحابها حانة ومطعما لزائري المعرض مدة وجوده، فكان الناس يدخلونها ويأكلون فيها ويشربون ويخدمهم رجال بملابس النوتية، ويجلس معهم على المائدة ربان يمثل حالة السفن في البواخر العظيمة، وربح أصحاب هذه الباخرة من استخدامها لهذا الغرض مالا وافرا، وفي جملة ذلك منزل بني على شكل الفيل بخرطومه وجسمه وأقيمت فيه قهوة وحانة فكان الناس يصعدون هذا الفيل وأصحابه يجمعون منهم المال، ومن هذا موضع من الخشب بني على الشكل الفلمنكي القديم، وفيه مطاعم وحانات استخدموا لها البنات بالزي الهولاندي القديم وهو جلباب قصير إلى الركبتين، وسترة أكمامها قصيرة أيضا وجوارب بيضاء صنعت باليد وحذاء مكشوف والشعر ملفوف في طاسة نحاسية تعلق في الرأس يقدمن أشكال الطعام والشراب على نغم الموسيقى الوطنية، وغير هذا كثير.
هذا بعض الذي يقال عن معرض أمستردام، وأما مشاهدها الأخرى فكثيرة، منها المتحف الهولاندي على مقربة من حديقة المعرض، وهو يشغل 11 ألف متر من الأرض، وله واجهة فخيمة طليت زخارفها بماء الذهب، وفي داخله تحف وصور جميلة لا تعد ومن أثمنها وأوفرها إتقانا صورة زنوبيا ملكة تدمر بملابسها السورية القديمة، وصور من الكتاب المقدس، وصورة لويس نابوليون ملك هولاندا الذي ذكرناه في الخلاصة التاريخية، وصورة نابوليون بونابارت في معركة واترلو التي قضت على عزه وهو مطرق في الأرض مغضب مما لحق به. وفي الدور الأسفل من هذا المعرض رسوم السفن والبواخر الحربية الهولاندية وقد كتب على كل رسم اسم السفينة وتاريخها والوقائع التي حضرتها، وهنالك أعلام ومدافع قديمة غنموها في الحروب ورسوم السفن الإنكليزية التي غنمها الهولانديون من الإنكليز سنة 1666، ورسوم معركة تشاتم من شواطئ إنكلترا في سنة 1667، وهي التي انتصروا فيها على الإنكليز أيضا، وهم يذكرون ذلك مع الفخر وينظرون إلى هذه الرسوم معجبين.
ومن هذه المشاهد ميدان عظيم (بلين) فيه حدائق بديعة في جوانبه الأربعة، وفي وسطها برك من الرخام الأبيض كثيرة الاتساع يخرج الماء فيها من عيون كثيرة، وتحيط بها الرياحين والأزهار والشجر الباسق ولها منظر كثير الجمال، وإلى جانب هذا الميدان قصر الصناعة الذي كان مركز المعرض السابق في هذه المدينة، دخلناه ورأينا قاعته الكبرى تضم ستة آلاف شخص يجتمعون فيها لسماع الأنغام، وله رواق كبير ذات ثمانية أبواب فتحت فيه المخازن لبيع الحرير وأشكال الأبضعة، وإلى جانبه حديقة غناء تصدح فيها الموسيقى كل يوم بالأنغام فتزيده زهاء وجمالا.
وتوجهت بعد مشاهدة هذه المواقع إلى القصر الملكي، وهو الذي أقام فيه لويس نابوليون مدة ملكه القصير في أول هذا القرن، وتقيم فيه الملكة الحالية حين تزور مدينة أمستردام ولا حاجة إلى القول إنه بناء فخيم، من ضمن قاعاته غرفة كبرى للاستقبال لا يقل ارتفاعها عن 30 مترا وطولها 80 مترا والعرض 33، وجدرانها ملبسة بالرخام الأبيض المطلي بالذهب وأرضها مفروشة بالرياش الفاخر، وفي صدرها منصة وضع عليها عرش الملكة، وهو من القطيفة الحمراء عليه شعار الملك وأسماء الولايات التابعة لهذه المملكة، وفي القصر من أنواع الزخارف والحدائق والقاعات البديعة ما لا يمكن لنا أن نشير إليه بأكثر من هذا الإيجاز.
ومن أشهر مشاهد أمستردام، ميناؤها المشهور وهو محط رحال السفن البخارية والشراعية تؤمه وتسافر منه إلى كل جهة من جهات الأرض؛ لأن هولاندا مشهورة بتجارتها الواسعة مع المستعمرات الباقية في حوزتها وأكثر السفن التجارية الهولاندية تعد ميناء أمستردام مقرها ومركزها؛ لأن هذه المدينة أكبر مدن البلاد وأهمها، ولئن تكن غيرها العاصمة الرسمية فهي في الحقيقة عاصمة الحركة والتجارة بلا مراء، وقد بنوا عند الميناء الطرق المنظمة ومدوا فوقها خطوط الحديد تجري عليها الأرتال حتى إنه ليمكن أن تنقل الأشياء من السفن في البحر على العربات في البر رأسا، وقسموا المينا أحواضا ثلاثة: أحدها لسفن المتاجر الأوروبية، والثاني لسفن التجارة الشرقية في مستعمرات هولاندا، والثالث للسفن الحربية، وبني عند هذه الأحواض مخازن ومستودعات عديدة للطرود التي تعد بمئات الألوف، وقد تمشيت عند خط هذا المينا المشهور بحركته التجارية حتى دخلت قسما من المدينة يكثر فيه الزحام من الذاهبين والآيبين، وفي ذلك القسم المعامل المشهورة لقطع الألماس وصقله، وقد امتاز الهولانديون بهذه الصناعة من زمان قديم حتى إن القطع الكبرى والصغيرة من هذا الجوهر النفيس ترسل من كل جهات أوروبا وأميركا إلى هذه المعامل الهولاندية لتقطع فيها على الشكل البلوري المعروف، وقد كانت هذه الصناعة سرا في عائلة إسرائيلية وصلت من بلاد البورتغال وما علمها أهل أوروبا إلا من نحو 300 عام، وهي الآن صناعة كثيرة الموارد ولها معامل كبيرة في هذه المدينة تدور آلاتها بالكهربائية، وهي إذا دارت لقطع الألماس أو جلائه أحدثت صوتا مثل صوت الحك على الزجاج يتألم السامع منه، وفي هذه المدينة معامل كبرى للسجاير الهولاندية، وهي ذات شهرة واسعة، أيضا منها معمل للحكومة تعمل فيه أربعة آلاف بنت وامرأة، وأرباحه ليست بالشيء القليل، وأهل أمستردام أكثرهم من طائفة البروتستانت وبينهم نحو 50 ألفا من اليهود جلهم سماسرة وتجار بالألماس وعمال في معاملها، فقد قيل إن عمال معامل الألماس في هذه المدينة 10 آلاف، منهم 9 آلاف من الإسرائيليين، ولا تقل قيمة الذي يخرج من أمستردام من هذا الحجر الكريم عن مائة مليون فرنك في السنة.
لاهاي
أقمت زمانا في مدينة أمستردام حتى رأيت كل الذي يرى فيها، ثم برحتها إلى عاصمة المملكة، وهي مدينة لاهاي، قصدتها عن طريق مدينتي هاولم وليدن، ولهما شهرة ومقام؛ فالأولى يبلغ عدد سكانها 50 ألفا ولها شهرة واسعة بتربية الأزهار وإنمائها وبيع بذورها، والثانية عرفت بمعامل القطن وبمدرسة جامعة مشهورة خرج منها الفلاسفة وأصحاب الاكتشافات الكيماوية، وقد طبعت فيها كتب عربية كثيرة، وكنا نمر في أراض فسيحة تخترقها فروع من نهر الرين وتستقي منها الأبقار الغريبة، وهي تمتاز عن نوعها في بقية الجهات في أن نصف جلدها أسود والنصف أبيض، ولتلك البقاع منظر جميل وأدلة الاعتناء والتعب ظاهرة في جميع جوانبها.
ودخلنا مدينة لاهاي عاصمة هذه البلاد سميت بهذا الاسم؛ لأنها بنيت في موضع غابة وتحيط بها الحراج من أكثر الجوانب، ومعنى اسمها في لغة القوم غابة أو حرجة، وهنا قاعدة المملكة ومركز الحكومة الهولاندية، وما يتبعها من الإدارات والمصالح وقصور الملك والسفارات وغير ذلك، وهي من العواصم القليلة التي تقل في الأهمية عن غيرها من مدائن المملكة، فإن سكانها لا يزيدون عن مائتي ألف والحركة التجارية فيها لا تذكر في جنب حركة روتردام وأمستردام، وهما فرضتا التجارة الهولاندية على مقربة منها، وقد امتنعت الحكومة عن وصل هذه العاصمة بالبحر مع قربها منه؛ لأنها آثرت أن تبقي المدينة بمعزل عن الحركة التجارية وتجعلها مثل واشنطن عاصمة الولايات المتحدة مقرا للحركة السياسية فقط. ولما وصلت هذه العاصمة استأجرت رجلا صناعته الترجمة ومرافقة السائحين، فدلني إلى أهم مشاهدها وذهبت معه إلى ميدان «بلين»، فيه أشجار الكستناء الباسقة منسقة تنسيقا بديعا، وقد أقيم في وسطه تمثال لوليم الأول أمير هولاندا الذي أسس المملكة الحالية من آل أورانج ناسو، ويحيط بهذا الميدان وزارات المملكة، لكل منها بناء خاص وفنادق عظيمة ومنازل ذات حسن وبهاء، وهو على مقربة من ميدان آخر أجمل منه وأكبر يعرف باسم فورهوت، ومن حوله صفوف من الشجر الجميل، وفي داخله حدائق صغيرة رصعت بأجمل الأزهار والرياحين، ويتصل به ميدان لانج فورهوت، وهو مثل الذي سبق وصفه فيه تمثال الأمير فريدريك ناسو أول ملوك الدولة الحالية من بعد خروج البلاد عن طاعة الدولة الفرنسوية في سنة 1813، والتمثال قائم على مرتفع من الرخام رسمت عليه صور الولايات الهولاندية وشعار الدولة، وحوله سور من الحديد، وهنالك ميادين أخرى كثيرة الجمال، وهي متقاربة وضعا وشكلا، ولهذه المدينة امتياز بهذه الميادين الفخيمة وبالحراج المحيطة بها، وهي فوق جمال شجرها الطبيعي مرصعة بالزهر على أشكال تتضوع منه الروائح العطرية، وقل أن ترى في المدينة شارعا لا يطل على ميدان أو غابة أو حديقة، فلا بدع إذا سميت باسم هذه الغابات التي تميزها عن سواها.
ولاهاي مثل غيرها من مدائن هولاندا مبنية منازلها بالطوب الأحمر وأرض شوارعها مرصوصة بمثله أيضا، وهي آية في نظافتها؛ لأن الشوارع وجدران المنازل تغسل بالماء النقي من حين إلى حين، وللأهالي تمسك غريب بالنظافة يروى عنهم، وقد برع الهولانديون بالفنون الجميلة، مثل التصوير والحفر والنقش وقام منهم مشاهير عظام تذكر أسماؤهم في متاحف الفنون الجميلة في كل البلاد، مثل فانديك ورمبراند وصورهما موجودة في كل متاحف أوروبا، مثل صور رفائيل الإيطالي، ومنها قسم عظيم في متحف هذه المدينة دخلته ودرت في جوانبه، وذهلت من إتقان ما فيه من الصور البديعة التي يقف المرء أمامها ساعات ولا يمل من النظر إليها، أذكر منها صورة آدم وحواء في الفردوس، وصورة هيردوس والي فلسطين يأمر بذبح الأطفال عند ولادة المسيح، وهي صورة كبيرة تشغل جدارا بأكمله، وصورا أخرى لا محل هنا لذكرها.
وبعد أن رأيت هذا المتحف الجميل ذهبت ومعي الدليل إلى قصر الملكة ودخلته وحدي؛ لأن التراجمة لا يحق لهم مرافقة المتفرجين إلى داخله، كما أنه لا يجوز لأحد الخادمين أن يقبل مالا من أحد الداخلين، ورأيت في ساحة القصر تمثال وليم الأول الذي مر ذكره نصب بأمر ابنه وليم الثاني سنة 1845، وفي القاعة العمومية من قاعات هذا القصر صور جميع الذين حكموا هولاندا من آل أورانج ناسو، في جملتهم الملكة ولهلمينا الحالية والكل بقدهم الطبيعي، وفي هذا القصر قاعات عظيمة غير هذه وضع في إحداها بعض ما أرسل إلى ملوك هولاندا من نفيس التحف وثمين الهدايا، من ذلك أوان من الفخار الصيني البديع صنع معمل سيفر الفرنسوي المشهور، أرسلها الإمبراطور نابوليون الثالث إلى وليم الثالث والد الملكة الحالية، ومنضدة من حجر المالكيت الغالي الثمن من إمبراطور روسيا إسكندر الثاني، ومنضدة أخرى من قداسة البابا بيوس التاسع زينت بالفسيفساء، ورسم قلعة من الرخام قدمها الجنود الهولانديون وفي رأسها العلم الوطني وإلى جوانبها الجنود من فرقة المدفعية بمدافعهم والمشاة ببنادقهم والفرسان بخيلهم وكله حفر على رخام هذه القلعة الصغيرة، ومن ذلك ثريا (نجفة) من الفضة أهدتها بلدية أمستردام للملك وغير هذا كثير. ودخلت أيضا قاعة المكتب، وهي ملبسة جدرانها بخشب الماهوجان الأحمر، فقاعة النوم وجدرانها ملبسة بالحرير الأحمر رسمت عليه عروق وفروع، وهو من النوع المسمى «دمشقي»، ورياش الغرفة من هذا النوع أيضا، والسرير من خشب الماهوجان فوقه ناموسية من الحرير الأبيض، وفي أعلاها التاج الملكي من الذهب.
ومن أهم ما يذكر بين مشاهد هذه المدينة قصر الغاب، بنته أميرة اسمها إملي سنة 1647؛ تذكارا لزوجها الأمير فريدريك هنري من آل أورانج، وأنفقت مالا طائلا على كتابة تاريخ هولاندا بالرسوم في جدرانه، وهذا نسق كما تعلم قليل المثال، فلما ولجته وجدت جوانبه غاصة بالسائحين والمتفرجين، وفيه قاعات كبرى فرشت على النسق الصيني والنسق الهندي وقاعة بديعة واسعة الجوانب رسم على جدرانها وسقفها البرنس فريدريك المذكور بكل أدوار حياته وحروبه واستقلاله من حكم إسبانيا وقتله غدرا بإغراء فيليب الثاني ملك إسبانيا على مثل ما مر في الخلاصة التاريخية. ولهذا القصر منزلة في النفوس كبيرة حتى إنهم لما قر رأي الدول مؤخرا على اجتماع مؤتمر السلام في عاصمة هولاندا أعد لمندوبي الدول يتداولون فيه، وهو من أهم المؤتمرات السياسية التي عقدت في العصور الحديثة.
ومما يذكر أيضا موضع مشهور في كل أوروبا وجد على مقربة من هذه العاصمة واسمه شفنتجن وهو للحمامات العظيمة، يمكن أن يقال إنه لمدينة لاهاي مثل سان ستفانو لمدينة الإسكندرية؛ لأنه محط الرحال ومقصد الجماعات في أيام الصيف يأتيه الناس من كل جهة فلا يقل عدد الزائرين عن خمسة وعشرين ألفا في السنة، ويقرب الموجود منهم كل يوم من خمسة آلاف يأتون عن طريق لاهاي في عربات الترامواي البخارية، وهي تسير بهم في تلك الغابات نحو ثلاث ساعات، هذا غير الذين يأتونها رأسا من إنكلترا في بواخر خاصة لهذا الغرض، والقارئ يعلم أن الحمامات البحرية في كل موضع موصوفة بالجمال، ولكن شفنتجن هذه من أكثرها شهرة وجمالا بنيت في أرض رملية وفيها من المطاعم والفنادق والحانات وأماكن ذوي الفراغ واللهو ما يعد بالعشرات، ويمتد على شاطئ البحر مسافة ثلاثة آلاف متر، ومن أشهر هذه الأبنية حانة كبرى (كازينو) فيها قاعة للموسيقى تضم ثلاثة آلاف سامع وسامعة، ومطعم فيه موضع لخمسمائة شخص وقاعة للرقص رياشها فاخر كله من القطيفة الحمراء المزركشة بالقصب وعليها شعار الدولة الهولاندية، وفي سقفها وجوانبها مصابيح تنار بالكهربائية، وفي هذا الكازينو أيضا قاعة للقراءة والمطالعة وضعوا فيها عشرات من الصحف والمجلات أكثرها هولاندية وبعضها فرنسوية وألمانية وإنكليزية، وفيها مناضد للكتابة وورق وبقية لوازم التحرير وصندوق للبريد ومكتب للتلغراف والتلفون، وغير هذا مما تتوفر معه الراحة ويكثر الهناء، وفيه قاعات للتدخين وللمسامرة ولألعاب الورق على أشكالها، ورحبات فسيحة مزخرفة الجوانب، وفي الدور الأعلى من هذا الكازينو فندق فيه مائتا غرفة، وإلى مقربة منه مرسح لتمثيل الروايات ومضمار لسباق الخيل ومسافات بعيدة من الرمل النقي يتمشى عليها الناس حفاة، ويلعب الصغار برملها وهم يعدون ذلك من أحسن أنواع الرياضة المفيدة للأبدان.
والحمامات هنالك واسعة كثيرة العدد، منها ما يختلط فيه الرجال والنساء، ومنها ما حفظ للرجال وحدهم وللنساء وحدهن، وقد عني أصحاب هذه المحلات بما يلزم للسيدات من أسباب الراحة مع الحمام؛ فصنعوا عربات خاصة تسير بالتي تريد الاستحمام إلى الماء، ولما تنتهي منه تعود بالعربة إلى حيث يمكن لها المسير، وتلبس ملابسها بالعربة، وكل ذلك حتى لا تتحمل مشقة المشي على الرمل إذا أرادت، وهنالك كراسي كبيرة من القش يجلس إليها المرء أو السيدة بعد الاستحمام، ويلذ حينئذ شرب المنعشات أو مطالعة الصحف والروايات، وإلى جانب الحمامات تلك الرمال التي ذكرناها والناس يتفننون في المشي عليها أو اللعب على طرق شتى، وبعضهم يركبون الحمير والخيل وبعضهم يجرون على الأقدام والبعض يتمرغون أو يتكئون، والبعض يقفون، فترى على ذلك الشاطئ البهي نحو خمسة آلاف شخص على كل حالة من الحالات يلعبون ويطربون حتى إذا تم لهم ذلك، دخلوا الكازينو لسماع الأنغام في قاعة الموسيقى أو لتناول الطعام على تلك الموائد الشهية، ويقومون بعد العشاء إما للرقص والمخاصرة في قاعة «البالو»، أو ينفرد الرجال منهم جماعات جماعات في غرفة المقامرة واللعب، فيقضون معظم الليل فيها، وعلى هذا يقضي الناس أوقاتهم هنا، حيث لا يعرف الهم ولا يخطر على البال كدر ولا غم.
روتردام:
ولما فرغنا من مشاهدة لاهاي وضواحيها البهية سرنا إلى مدينة روتردام، وهي تعد أكبر مراكز التجارة في بلاد هولاندا لا تفوقها في ذلك أمستردام، وإن تكن تلك أقل منها في عدد السكان، وهم يبلغون 250 ألفا، وقد بنيت هذه المدينة على ضفاف نهر الموز المشهور ووصلتها بالبحر ترعة عظيمة تسير بها البواخر خمس ساعات من البحر إلى داخل المدينة، ولا يقل عدد البواخر التي تمر بها في السنة عن خمسة آلاف، أكثرها تنقل المتاجر بين هولاندا وأقاصي الشرق في الهند وما يليها والغرب في أميركا. ويتفرع من هذه الترعة ترع أخرى صغيرة تخترق المدينة في أكثر جوانبها، وفي كل موضع سفن صغيرة تسير بالبخار ويتنقل عليها الناس للفرجة والنزهة ومشاهدة حركة تجارتها العظيمة وتلك الركام المتراكمة من الأبضعة المراد نقلها إلى شاسع الأقطار، وكلها تنقل إلى السفن أو منها إلى البر بالآلات البخارية الرافعة؛ تسهيلا للعمل واقتصادا لأجرة العمال الكثيرين. وفي هذه المدينة مخازن عظيمة ملأى بقوالب الجبن الهولاندي المشهور يأتيها من القرى في داخلية البلاد، ويرسل منها إلى جميع الأقطار، وهو يعرف باسمها في كل مكان.
وشوارع هذه المدينة كلها أو جلها واسعة صنعت على نسق واحد بديع المنظر، فإنك ترى في أحد الجانبين صفا من الأبنية النظيفة وأمامه رصيف واسع لمرور الناس عليه، ومن بعده مجال واسع للعربات ومن بعد ذلك صف من الشجر الجميل وبعده الترعة، والترع كما علمت داخلة في أكثر أنحاء المدينة، وفي الجهة الثانية من الترعة شجر فمجال للعربات الذاهبة والآيبة، فرصيف للمارة فمنازل الناس ومخازنهم، بحيث إنك إذا أردت الوصول من طرف أحد الشوارع إلى الطرف الآخر لزم لك العبور فوق القنطرة، وكل ذلك المجال في جانبي الشارع، والنزهة في ترع روتردام ولا سيما الترعة الكبرى فيها من أجمل ما يمكن للسائح أن يمتع به الطرف، فهي تشبه ترعة السويس في أهميتها وجمال السفر فيها شبها كبيرا. وفي المدينة مشاهد كثيرة، منها حديقة بديعة حوت نباتا وزهرا عني أصحاب العلم بنقله من أقصى أنحاء الشرق والغرب ولأشكاله الكثيرة غرابة وجمال.
ولما انتهينا من مشاهدة هذه المناظر عزمنا على مبارحة بلاد هولاندا والسفر إلى بلاد البلجيك، وهي كما علمت متاخمة لها فقمنا منها ومررنا على بلد روزنتال وعلى جسر عظيم بني فوق نهر الموز عند مصبه في البحر الشمالي، ولذلك الجسر شهرة واسعة لأنه يعد من أطول الجسور في الأرض كلها ومن أكثرها جمالا وغرابة، يسير فوقه القطار نحو خمس دقائق، وقد بني على 14 قنطرة يبلغ المجال بين الواحدة منها والثانية مائة متر، وفيه من الحديد ما يزيد وزنه عن أحد عشر مليونا وسبعمائة وتسعين ألف كيلو، لا يقل ثمنه عن اثني عشر مليون فرنك، وكان الركاب جميعهم مدة مرور القطار فوق هذا الجسر يتطالون ويتطلعون حتى لا يفوتهم منظر من أجمل المناظر، واستمر بنا الرتل يقطع المسافات حتى بلغنا بلدة أشن، وهي عند الحدود الفاصلة بين هولاندا وبلجيكا فنزلنا هنالك للتفتيش المعتاد عند الحدود، وانتهينا بهذا من السياحة في هولاندا وهي بلاد الاجتهاد والنشاط الكثير.
البلجيك
خلاصة تاريخية
تقدم معنا أن تاريخ هذه البلاد مرتبط بتاريخ هولاندا التي أتينا على وصف الأهم فيها، ولا بد من القول هنا إن بلاد البلجيك هذه كانت جزءا من بلاد أعظم وأكبر تعرف بهذا الاسم نسبة إلى القبائل القديمة التي عمرت هذه البلاد واسمها «بلجا» امتدت أطرافها إلى نهر الرين من جهة ونهر السين من جهة أخرى، وكان أول ما روى المؤرخون عنها أن يوليوس قيصر القائد الروماني المشهور وصلها في حروبه مع القبائل الشمالية؛ فأخضعها في سنة 52 قبل التاريخ المسيحي، وظلت من ملحقات السلطنة الرومانية نحو أربعمائة عام حتى ضمها كلوفيس إلى أملاكه، وكان كلوفيس هذا أول ملوك فرنسا من الدولة الميروفنجية، وظلت البلاد جزءا من فرنسا إلى ما بعد موت شارلمان المشهور وتجزئة مملكته فانقسمت أجزاء، وكان كل جزء منها قائما بنفسه ثم ألحق بعضها بفرنسا وبعضها بألمانيا، ولكنها حافظت في كل تلك المدة على استقلالها في الشئون الداخلية وتقدمت تقدما يذكر. وفي القرن الخامس عشر صارت هذه البلاد كلها ملكا لملوك فرنسا بحكم الوراثة، ثم انتقلت إلى ملوك النمسا ثم صارت من أملاك إسبانيا وعادت في القرن الثامن عشر فصارت من أملاك النمسا حتى عام 1795 حين ضمت إلى فرنسا على عهد الجمهورية الأولى، ولكنها عادت واستقلت بمساعدة دول أوروبا في سنة 1813 وصارت مع هولاندا مملكة واحدة كما علمت في تاريخ هولاندا، ففصلت عنها سنة 1830 بطلب أهل البلجيك وعين البرنس ليوبولد من آل ساكس كوبرج ملكا عليها، ومن ذلك الحين أقرت أوروبا استقلالها وعزلتها وجعلتها بمثابة الحاجز بين أملاك ألمانيا وفرنسا؛ فزهت البلاد ونمت نماء عجيبا حتى صار فيها نحو سبعة ملايين ونصف مليون مع أنها أرض صغيرة، فهي أكثر بلاد أوروبا خلقا وعمرانا بالنسبة إلى ضيق أرضها، وفي هذا دلالة كافية على تقدمها. وملكها الحالي ليوبولد الثاني تولى إدارة أمورها على الطريقة الدستورية المعروفة وساعدته التقادير على إنشاء سلطنة كبيرة لا يقل عدد سكانها عن عشرين مليونا في بلاد الكونجو بإفريقيا، ففتحت الأبواب لمتاجر البلجيكيين واتسع النطاق لصناعتهم وهم الآن يعدون من أهل الطبقة الأولى في الصناعة والتجارة، ولهم شهرة واسعة في المصانع الحديدية، وفي الهمة والإقدام على الأمور العظيمة لا يجهلها المصريون، وهم يرون من آثارها شركة الترامواي في مصر وإسكندرية وغيرها من الشركات التي تجمع الأرباح الوافرة، والبلجيكيون من نوعين، أكثرهما عددا الفلمنكي والثاني النوع الولوني، والكل يتكلمون الفرنسية وهي لغة البلاد الرسمية، ولكن في معظم القرى الشمالية تعد الفلمنكية لغة أهل البلاد، وأكثر الأهالي من الطائفة الكاثوليكية.
ألبير الأول ملك البلجيك.
أنفرس
لما انتقلنا من هولاندا إلى بلاد البلجيك وصلنا مدينة أنفرس هذه واسمها عند الإنكليز والأميركان أنتورب، وهي أعظم الفرض البلجيكية ولها أهمية في التجارة عظيمة؛ لأن ميناها من أجمل المين تنقل منه وإليه معظم متاجر البلجيكيين على اتساعها، ويحيط البحر بها من الجهات الأربع كلها تقريبا بحيث إن الساكن فيها يرى البواخر تمخر في البحر عن يمينه ويساره ومن أمامه وورائه. وفي هذه المدينة نحو ثلاثمائة ألف نفس، ولها علاقات كبرى بجميع البلدان حتى إن الإنكليز والفرنسيس والأميركان أنشئوا بواخر خاصة تروح وتغدو بين أنفرس ومين بلادهم، وقد بنيت أحواض وأرصفة في هذا المينا عظيمة القدر والقيمة حتى تفي بمراد المتاجرين وأصحاب الشركات والبواخر الكثيرة، فما ترك أهل البلد وسيلة لهذا الغرض إلا وأتوها من أيام نابوليون إلى هذه الأيام حتى إنك إذا زرت هذا المينا العظيم الآن ترى من السكك الحديدية والأرتال والأبضعة الموضوعة ركاما وتلالا. والآلات الرافعة تدار بقوة البخار وتنقل هذه الأبضعة من البواخر إلى المخازن أو بعكس ذلك، وغير هذا مما يدل على عظمة المدينة واجتهاد أهلها وأهمية التجارة البلجيكية التي يعد هذا البلد مركزها ومفتاحها، ويمر على خطوط هذا المينا كل يوم أكثر من 2500 عربة مشحونة بالأبضعة تفرغ في الأحواض المختلفة، وأهمها الحوض الكبير خصص لمتاجر المملكة البلجيكية ومساحته 94000 متر مربع، وهنالك حوض آخر اتساعه 131000 متر مربع خصص لتجارة البلاد مع أوروبا، وحوض ثالث خصص لمتاجر البلاد مع الشرق والديار القاصية، وكنا في غربة ندور حول هذه الأعمال العظيمة فلزم للتفرج عليها كلها ثلاث ساعات.
نزلت في فندق أوروبا وهو في موقع بديع؛ لأنه في طرف ميدان يعرف باسم الميدان الأخضر لكثرة ما فيه من الشجر، وهنالك تصدح الموسيقى في كل يوم بعد الظهر فيتألب الناس جماعات كثيرة؛ لسماع الأنغام تحت ظل الشجر وهم يخطرون بين صفوف الخضرة النضرة على مهل؛ فيرى المتفرج على تلك الجماهير ما يشرح الصدر من اختلاف الأشكال وأدلة الترف، وتوجهت يوم وصولي إلى مرسح واسع تلعب فيه الأفيال والخيل ألعابا مختلفة، منها أن الفيلة ترقص على الأنغام رقصا إفرنجيا من النوع المعروف عندهم بالكادريل، فيكون لها في ذلك منظر غريب، وقد قضى صاحب هذا المحل زمانا طويلا على تعليمها حتى أوصلها إلى هذه الدرجة، وبدأ يجمع من رقصها المال. وفي اليوم الثاني دخلنا كنيسة أنفرس الكبرى، وهي أجمل ما في هذه المدينة من المعابد وأكبر كنائس البلجيك طرا يشبهها القوم بكنيسة باريس المشهورة المعروفة باسم «نوتردام»، وفي هذه الكنيسة رسوم ونقوش وآثار تستحق الذكر؛ أهمها صورتان من رسم روبان الشهير أنجزهما في عامي 1610 و1612، فهما تعدان من أجمل الآثار الباقية من القرن السابع عشر، وقد جعل الصورتين للدلالة على صلب المسيح وارتفاعه عن الصليب فعلقتا في جدار الكنيسة وغطيتا بالحجب لا ترفع عنهما إلا متى انتهى المصلون من عبادتهم وبقي المتفرجون فتنزاح تلك الحجب، ويدور خادم المعبد يتقاضى من كل متفرج فرنكا رسم مشاهدتها وهو يفعل ذلك في كل حين لكثرة الزائرين. ورأينا كنيسة أخرى في هذه المدينة وهي قديمة العهد بنيت سنة 1600، وفيها حفر على الخشب يمثل ملائكة الجنان والقديسين والحواريين، وكل ذلك من صنع الرجال الماهرين.
ولا حاجة إلى القول إن هذه المدينة على اتساعها وكثرة المترددين إليها من الأجانب بسبب مركزها التجاري تحوي شيئا كثيرا من المراسح والملاهي والمشاهد، ولكننا لم نذكر هنا غير المهم منها فنقدم من ذلك إلى ذكر عاصمة البلاد.
بروكسل
قصدنا بعد أنفرس هذه العاصمة البهية، ووجدنا أن الذي قاله الواصفون عن محاسنها لا يزيد عن الحقيقة، وما أخطأ الذين أطلقوا عليها اسم «باريس الصغيرة»، فإن عاصمة البلجيك أكثر مدن الأرض زهاء وبهاء وبهجة بعد مدينة باريس ، وهي تقرب منها في أوضاعها ومناظرها، وبنوع أخص في طباع أهلها وأميالهم وأهوائهم وعوائدهم، وقد بنيت هذه المدينة على مرتفع من الأرض تحته واد غير عميق، فهي بهذا تقسم قسمين: أحدهما علوي والآخر سفلي، وفي كل منهما ما يستحق الذكر والوصف من المشاهد العظيمة، والقسم السفلي من هذه المدينة الزاهرة مركز الحركة التجارية فيها، وهو القديم من قسميها، وفيه البورصة وإدارة البوسطة العامة ومجلس البلدية، وفيه من الشوارع المغروسة فيها الأشجار ما يشبه شوارع باريس الكبرى (البولفار)، وأهمها شارع إسبناخ ثم شارع الشمال ثم شارع هينو، وكلها متصلة بعضها ببعض، وهي ذات سعة وجمال بديع رصعت بالمخازن المزخرفة بأشكال البضائع والحانات المرتبة على أجمل مثال والمطاعم النظيفة وغير هذا مما يكثر وجوده في كل مدينة عظيمة، ومن أعظم ما يرى في هذا القسم من بروكسل سراي المجلس البلدي، وهي كانت قصر الملوك السابقين الذين حكموا بلاد البلجيك بنيت في ساحة كبرى على مقربة من البورصة، وقد عني الصناع الماهرون بزخرفتها ونقشها حتى جعلوها من أجمل المشاهد وطلوا ظاهرها بماء الذهب فزادوها رونقا وبهاء، وفي داخل هذا البناء صور الملوك الذين درجوا، بعضهم هولانديون والبعض نمسويون والبعض فرنسويون، والكل بالملابس التي كانت مستعملة في أيامهم، فالنظر إلى هذه الصور من وجه تاريخي يلذ لطالب الحقيقة؛ لأنه يمثل له حالة أوروبا في العصور المتوسطة على أوضح الأشكال، ويذكره بما فعل أولئك الأقيال، وما حاربوا وما عانوا من هياج الأمة، فإن البلجيكيين قرروا الاستقلال من الحكومة الهولاندية في هذه الدار، وقطعوا رأس 25 كبيرا من كبراء الهيئة الحاكمة في غرفة من غرفها، هذا غير أن الصور المجموعة في هذا القصر تمثل تاريخ البلجيك كله فيمكن لطالب المعرفة أن يدرس تاريخ البلاد من تلك الصور.
وأما القسم العلوي من هذه المدينة - وهو القسم الحديث - فأهم كثيرا من الذي مر ذكره، وفيه مجموع عظمة بروكسل وبهائها الحاليين؛ لأن فيه قصر الملك وندوة النواب والأعيان والأبنية الفخيمة الخاصة بالوزارات ودور الأمراء من الأسرة المالكة في هذه البلاد الآن، وسراي المحكمة وفنادق عظيمة وحوانيت بديعة الصنع ومخازن وافية الترتيب، وغير هذا شيء كثير، وإني قصدت هذا المكان من فندقي صعدا؛ لأنه - كما علمت - مبني فوق أكمة كبيرة ، وبلغت ساحة تعرف باسم الساحة الملوكية أقيم فيها تمثال الأمير البلجيكي جوفروا دي بويون، وهو أمير اشتهر في الحروب الصليبية المعروفة شهرة زائدة، ومثل هنا في حالة الحرب والجهاد، وقد نصب هذا التمثال في سنة 1848 وكتب على قاعدته ما يأتي «جوفروا ده بويون ملك القدس الأول، ولد في مدينة بندي بالبلجيك وتوفي في فلسطين يوم 17 يوليو سنة 1115، وقد نصب هذا التمثال في حكم الملك ليوبولد الأول سنة 1848.» وعلى الجوانب الأربعة ذكر حروب جوفروا هذا وأعماله، وهو في موضع يكثر مرور الناس منه. وفي هذه الساحة فندق فلاندر وهو أعظم فنادق المدينة وأفخمها وإلى جانبه فندق المنظر الجميل (بيل فو) يتصل بقصر الملك ليوبولد، وليس لهذا القصر من الخارج منظر يميزه عن منازل الكبراء والأغنياء، فلا يعرف الغريب أنه للملك إلا إذا أتاه العلم من غيره لا سيما وأن القصر ملاصق لفنادق وأبنية أخرى، ويكثر أن تكون قصور الملوك داخل أسوار وحدائق خاصة بها لا تتصل بسواها، ولم يمكن دخول هذا القصر؛ لأنهم لا يأذنون بذلك في كل حين، ولكن دخول الحديقة التابعة له مباح، فدخلتها مع الداخلين ودرت في جوانبها على صوت الأنغام تصدح بها الموسيقى العسكرية، ويتصل طرف هذه الحديقة بمجلس النواب والشيوخ والنظارات، وقد أقيمت عند مدخل المجلس تماثيل تدل إلى العدل والقوة والحلم والحكمة، وغير هذا مما يعدونه شعارا للحكومة الدستورية.
ولما انتهيت من رؤية هذه المشاهد عدت إلى الساحة الملوكية لأذهب منها إلى المحكمة أو قصر العدلية كما يسمونها، وهي ذلك البناء الفخيم الذائع الصيت في الآفاق يعد من معجزات الإتقان في هذا الزمان إذا عدت الأبنية العظيمة في الأرض كان هو في أولها؛ ولذلك ترى رسومه في كل جهة من جهات الأرض ولطالما قال الناس إن هذا القصر الفخيم كثير على محاكم بروكسل، وإنه لا يجدر بدولة البلجيك الصغيرة أن تقيم أثرا عظيما كهذا في عاصمتها ليس له نظير في أكبر عواصم الأرض وأعظم ممالكها، شرعوا في بناء هذا القصر سنة 1866 فانتهوا من البناء سنة 1883، أعني أنهم اشتغلوا به 17 عاما وأنفقوا عليه أكثر من مليوني جنيه، وهو قائم على طرف القسم العلوي من المدينة ومن دونه القسم الواطئ، فالذي يقف فيه يرى القصور والأبنية الشاهقة في ذلك الوادي مثل الأكواخ الحقيرة أمام منظره الفخيم، يكتفي السائح الذي يقصد بلاد البلجيك أن يدخل هذا القصر ويدور في داخله وخارجه ويتنقل في غرفه وقاعاته وردحاته ودرجاته وقباته وعمده وبقية غرائبه، فإنه إذا لم ير في بروكسل غيره لم تعد زيارته بلا فائدة. ويشغل هذا البناء أرضا مساحتها 24600 متر مربع، طوله 180 مترا وعرضه 170 وعلو قبته 122، وفيه 27 قاعة كبرى يمكن أن يجتمع في كل منها مئات من الناس، و245 غرفة متوسطة الحجم للمداولات والتحريرات وغير هذا، وثمانية ردحات كبيرة تحيط بها القاعات والغرف إحاطة النجوم بالشمس، وأكثر هذا البناء العظيم من الرخام الأبيض المصقول، إذا تأملته من الخارج أو من الداخل وجدت له رونقا وبهاء كثيرا، وقد جمعت فيه علوم المتأخرين الهندسية والصناعية كلها، فما ترك البلجيكيون واسطة حتى أتوها لإتقان هذا القصر، وجعلوه بذلك من مشاهد الدنيا المعدودة، ولعله أجمل محكمة في الوجود. ودخلت بعض الغرف وفي جملتها غرفة الاستقبال كلها رخام بديع الصنع حتى إن جدرانها من الرخام الملون أسفلها أسود لماع وفوقه أحمر قان، ومن فوقه إلى السقف أبيض ناصع، ولهذه الصفوف الثلاثة منظر بديع يؤثر في الناظرين. وقد قامت القاعة كلها على أعمدة من الرخام أيضا كثيرة الزخرف، فإذا جلس المرء في صدر هذه القاعة وتأمل محاسنها شعر بعظمة في نفسه، وأقر بالفضل للذين بنوا هذا الأثر الجليل، ومساحة هذه القاعة 3600 متر مربع، وهي نظرا إلى هذه السعة يرجع فيها صدى الصوت ويرن مدة دقيقة واحدة فيزيدها مهابة ووقارا، ودخلنا قاعات الجلسات للمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، وكلها وضعت على أجمل مثال فيها الكراسي للقضاة من خشب الأبنوس غطيت بالقطيفة الحمراء، وفي صدر القاعات تماثيل العدل والقسطاس وكلها رموز، منها شكل سليمان الحكيم في كرسي القضاء وإلى يمينه ميزان العدل وإلى يساره شكل امرأة تحمل طفلا.
وجملة القول أن الساحة الملوكية في بروكسل تعد من أجمل الساحات لما يحيط بها من المشاهد العظيمة. وعلى مقربة منها متحف الفنون الجميلة مثل النقش والتصوير فيه من الرسوم ما يستغرق الكتب وصفه. ويليه قصر الكونت ده فلاندر عم الملك، وهو رجل طويل القامة طولا ظاهرا، رأيته يتمشى إلى جانب قصره مع أحد القواد العسكريين وقد اضطره الطول إلى الانحناء فلازمه وصار فيه طبعا. ويتفرع من هذه الساحة أجمل شوارع المدينة وأبهاها، غرس إلى جانبيها الشجر الجميل، ولها اتساع يكفي للعربات الذاهبة والآيبة، وأرصفة عريضة للمارة من الناحيتين، فهي تسمى عندهم باسم «الشانزليزه»، وهو المتنزه المعروف في باريس لقربها منه في المناظر، والناس يقصدونها عصاري كل يوم من كل صوب فتراهم زرافات ووحدانا، يتمشى منهم الرجال والنساء أو يسوقون العربات أو يجرون على الدرجات، أو يمتطون صهوة الجياد الصافنات فيكون من مجموعهم مشهد من أجمل المشاهد للمتفرج أو المتنزه. ولما تركت هذه الجهة سرت في الشارع الملوكي إلى حديقة النبات، وهي من الحدائق المشهورة في أوروبا وضعت في منحدر من الأرض، فهي إذا وقف المتفرج في أعلاها رأى من دونه صفوف الخضرة النضرة وأشكال النبات العجيب والشجر البديع من كل نوع تعشقه العين، وقد جمعوا في هذه الحديقة من غرائب النبات ما ينمو بعضه في البلاد الحارة، فغرسوه في حديقتهم داخل بيوت من الزجاج يضرمون النار من تحتها لتوليد الحرارة اللازمة لإنمائه؛ فينمو هنالك كأنه لم ينقل من موضعه في أواسط أفريقيا أو أميركا الجنوبية، وبعد أن سرحنا الطرف مليا في هذه الحديقة الشهية توجهنا إلى القصر الثاني للملك، حيث يقيم أكثر أيام وجوده في بروكسل، وله حديقة من أجمل ما اكتحلت بمرآه العين وطرقات في وسط الأشجار والأزهار وبحيرات من الماء لها جمال غريب، وكان الجرس الملوكي واقفا على باب القصر وهيئة المكان بوجه الإجمال تدل على الملك أكثر من هيئة القصر الآخر الذي مر ذكره، فتأملناه من الخارج؛ لأن الدخول غير مباح للمتفرجين، وقد مر على هذا القصر زمان فإنه بناه أحد الولاة الهولانديين لما كانت البلاد تابعة لتلك المملكة ثم استولى عليه نابوليون الأول، وجعله محل إقامته من سنة 1802 إلى 1814 وفيه أصدر أمره بإشهار الحرب على روسيا في سنة 1812، ويقال إنه ظل بعد ذلك يعد بروكسل وهذا القصر شؤما ويتطير من ذكرهما إلى يوم وفاته؛ لأنه غلب في واترلو، وهي بلدة تقرب من بروكسل - سيأتي ذكرها - وكانت واقعة واترلو هذه الضربة القاضية على عزه، وبدأ نجم سعده بالأفول من بعد الحرب الروسية التي أمر بها في قصر بروكسل هذا، فكانت عاصمة البلجيك وقصرها شؤما عليه ومقدمة هبوطه على ما يزعم، وهو مع اتساع مداركه وعظمته كان كثير التشاؤم راسخ الاعتقاد بمثل هذه الأمور، وعاد هذا القصر بعد خروج البلجيك من قبضة فرنسا إلى أصحاب البلاد في سنة 1815، وتوفي في إحدى غرفه ليوبولد الأول مؤسس الدولة المالكة حالا وكانت وفاته في سنة 1865، فأقيم له تمثال بديع الصنع ونصب على أكمة تسمى أكمة الرعد على مقربة من هذا القصر، وقد بني عليها برج هرمي يصعد إليه من الداخل بسلم مستدير الشكل، إذا رقي المرء أعلاه رأى قسما كبيرا من مدينة بروكسل وبعض أجزائها ترى من ذلك الموضع بكل ما فيها، ويلي هذا البرج كنيسة مشهورة يصلي فيها الملك لقربها من قصره وفي ساحتها مدفن الملوك والأمراء، من ذلك قبر ليوبولد الأول مؤسس الدولة - وقد ذكرناه غير مرة - وولي العهد ابن ليوبولد الثاني توفي سنة 1869، والبرنس بدوين ابن أخي الملك وكان ولي عهده توفي سنة 1891، ووراء هذا المدفن المقبرة العامة تعرف باسم بير لاشيز تشبيها لها بمدفن في باريس يعرف بهذا الاسم أيضا، وهناك من الأضرحة وأشكال النقوش والرموز شيء كثير.
وكان في بروكسل يوم زرتها معرض بديع لشركة من البلجيكيين والإنكليز استأجرت قطعة من الأرض وأقامت معرضا مثلت فيه هيئة مدينة البندقية «فنيس» الكائنة في إيطاليا، وكانت هذه الشركة قد أقامت هذا المعرض في لندن وكأنما هي نقلت مناظر البندقية وترعها وشوارعها وقصورها وجسورها وزوارقها إلى لندن على طريقة غريبة ، فكان الذي يدخل هذا المعرض يظن أنه في البندقية نفسها لا في مدينة أخرى، وتقاطر الناس على ذلك المعرض مدة وجوده وهي ستة أشهر فقط، فربحت الشركة من ذلك أموالا طائلة تزيد خمسة أضعاف عن رأس مالها، والذي دفع من المساهمين ألفا أخذ في نهاية الأشهر الستة خمسة آلاف، فلما رأى رجال الشركة هذا النجاح الباهر؛ نقلوا معرضهم بصوره وأكثر أشكاله إلى مدينة بروكسل، وحفروا الترع وبنوا الجسور والزوارق وجاءوا بالعمال من مدينة البندقية نفسها، فكنت إذا دخلت ذلك المعرض في بروكسل تسمع اللغة الإيطالية ولا ترى غير مناظر مدينة البندقية فتظن أن تلك المدينة العجيبة انتقلت بقوة الآلهة أو بفعل السحر الذي يفوق العقول من موضعها، وفي ذلك من معجزات العلم والهمة ما لا يخفى، وكان رأس مال المعرض المذكور كبيرا جمع بالاكتتاب فربح أصحاب المشروع منه أموالا وفيرة. وهنا يتضح للقارئ مزية التشارك والتعاون على قضاء المهمات الكبرى، فإن كثيرا ما يتوفر منه الربح لا يمكن لفرد واحد، فإذا تعاون عليه أفراد وتشاركوا على إنجازه ربح الكل منه وغنموا ما يملأ الجيوب كما غنمت شركة معرض البندقية في بروكسل وفي لندن من قبلها.
وقد كنت مدة وجودي في هذه المدينة كثير التردد على حرجة بديعة تسمى بوا ده لاكامبر، وهي مثال الغابة الباريزية المعروفة باسم بوا ده بولون، وفي هذا المحل الغريب بحار من الماء وبحيرات تتخلل الخضرة، وجزيرة من أرض الغابة تحيط بها المياه فيصل إليها القاصدون بالزوارق، وهم يسمونها جزيرة روبنصن يأتيها الناس أفواجا كثيرة في كل حين، فيدورون بين تلك الأشجار وينثنون ملتفين حول تلك الجداول وهم يسمعون الأنغام المطربة تصدح بها الموسيقى العسكرية.
هذا، ولا بد للذي يزور بروكسل من التنزه في أطرافها وضواحيها وهي كثيرة العدد وافرة البهاء، متصلة بعضها ببعض من العاصمة إلى جميع أطراف المملكة حتى إن المسافر إذا سار من أول البلجيك إلى آخرها طولا وعرضا لم يسر على قدميه أكثر من نصف ساعة في أرض بلا بناء، فكأن البلاد مدينة واحدة، وهنا الدليل الأظهر على عمران البلاد وتقدمها العظيم وتوفر أسباب العدل والراحة فيها، وأشهر الضواحي لعاصمة البلجيك هي واترلو، حيث حدثت أعظم معارك التاريخ الحديث وأنتجت أعظم النتائج، وكانت بين نابوليون العظيم من جانب وبين جنود الإنكليز وبعض مناصريهم من الجانب الآخر، انتصر فيها الديوك أوف ولنتون القائد الإنكليزي على نابوليون، وأعانه على النصر الجنرال بلوخر البروسي وبعض الجنود الفلمنكية، ولما كانت معركة واترلو - كما قلنا - أعظم معارك الآدميين في التاريخ الحديث، وقد بنيت على نتائجها دول أوروبا الحالية، فلا نرى بدا من شرح يسير عنها إتماما للفائدة فنقول:
كان نابوليون بونابارت - كما يعلم القراء - أكبر قواد زمانه وأوصل فرنسا بحروبه إلى قمة المجد، ولكنه جعل أكثر دول أوروبا من أعدائها ولا سيما دولة الإنكليز التي حاول جهده إرغامها ولم يمكن له ذلك؛ نظرا لقوتها في البحر وتحاربت جنود نابوليون والجنود الإنكليزية مرارا في البر، فكان النصر في أكثر المواقع للإنكليز حتى إذا رأى هذا القائد العظيم ذلك، قصد ملاقاة الديوك أوف ولنتون - وهو أعظم قواد الإنكليز يومئذ - ومحاربته بنفسه، وجعل ذلك في سهول واترلو التي ذكرناها، وكانت إنكلترا قد اتفقت مع البلجيك وبروسيا على أن تعيناها في الحرب لرد غارة نابوليون وإرغامه فاجتمعت العساكر الإنكليزية في تلك السهول يوم 17 يونيو من سنة 1815، وكان معها بعض الجنود البلجيكية، ثم جاءت الجنود الفرنسوية وعسكرت على مقربة منها، وكان يفصل بين الفريقين واد صغير، وفي يوم 18 يونيو بدأ القتال فهجم الجنرال ناي - أحد قواد نابوليون - على صفوف الإنكليز هجوما عنيفا، واخترق من معسكرهم صفوفا، فلما رأى البلجيكيون فعله فروا هاربين وتركوا الإنكليز وحدهم يحاربون الفرنسويين، فثبت الإنكليز على هجمات الفرنسيس، ودارت رحى الحرب من كل جانب، فحصد الرجال من الجانبين ألوفا، وكان كل من نابوليون وولنتون لا يغفل طرفة عين حتى إذا كان آخر النهار؛ وصلت الجنود البروسية التي كانت قادمة لنجدة الإنكليز تحت قيادة الجنرال بلوخر الذي ذكرناه، فدخلت في معامع القتال بلا إمهال، وقضت على آمال الفرنسويين قضاء محتما، وبذلك تم النصر للجانب الإنكليزي في معركة واترلو، وكانت هي أول معركة كبيرة حضرها بونابارت بنفسه وكسر فيها، وأكبر معارك الأوروبيين في العصور الحديثة من حيث شهرة القواد فيها وجسامة نتائجها؛ لأنه لو انتصر بونابارت في تلك المعركة لتغيرت أحوال أوروبا من ذلك اليوم، وكانت بروسيا إلى الآن من الولايات الفرنسوية وإنكلترا دولة صغيرة إذا لم تكن تابعة لفرنسا أيضا، فهي على الأقل بلا أملاك واسعة مثل التي نراها اليوم لهذه الدولة العظيمة.
وكان مع بونابارت في هذه المعركة 71900 جندي منهم 48950 من المشاة و15700 من الفرسان و246 مدفعا، وكان مع الديوك أوف ولنتون القائد الإنكليزي 67600 رجل منهم 49600 مشاة و12400 من الفرسان و150 مدفعا، فلما جاء بلوخر بجنوده البروسيانية بلغت قوة الدول المتحدة ضد نابوليون 75000 رجل و220 مدفعا، وقد قتل في هذه المعركة العظيمة 25000 من جيش فرنسا و13000 من جيش إنكلترا و7000 من جيش بروسيا، واضطر نابوليون بعدها إلى القهقرى والرجوع إلى بلاده، فرأى الهياج كثيرا ورحل عنها إلى إنكلترا حتى سلم نفسه، وتم به الذي تم كما يعلم من تاريخه.
وبعد أن مرت أعوام على هذه المعركة الكبرى اتفقت حكومات إنكلترا وبروسيا والبلجيك على إقامة أثر باق لها في محل حدوثها؛ فأرسل المهندسون وبعض الضباط الذين شهدوا الواقعة إلى قرية واترلو، وعملوا الرسوم اللازمة ثم اتفقت الحكومات الثلاث على أن يبنى تل هرمي الشكل في موضع ترى منه كل جوانب الأرض التي حصل فيها القتال؛ فبنوا ذلك التل من التراب وارتفاعه 45 مترا، وفوق قمته أسد بلجيكي من النحاس والناس يصعدون إليه بسلم عدد درجاته 235 درجة، قصدت واترلو للتفرج على هذه الآثار، فركبت رتل سكة الحديد وسرنا نحو ساعة حتى وصلنا محطة واترلو فرأينا فيها عربات تنتظر القادمين ركبناها وتوجهنا فيها إلى محل الآثار، فلما وصلنا أسفل التل الذي ذكرناه صعدنا مع الصاعدين إلى أعلاه وعددهم لا يقل عن أربعين أكثرهم من الإنكليز ووجدنا هنالك ضابطا من الجيش الإنكليزي درس تاريخ واترلو ومعركتها درسا دقيقا وعينته الحكومة ليشرحها للزائرين، فلما استقر بنا المقام في أعلى تلك الرابية جعل الضابط يشرح الواقعة شرحا مسهبا، وهو كلما ذكر موضعا يشير إليه بيده حتى نزل المتفرجون وهم كأنهم شهدوا موقع واترلو من دقة الوصف.
وقد أشار الضابط المذكور إلى آثار ومشاهد كثيرة، من ذلك عمود أقامته الحكومة الإنكليزية موضع شجرة يبست وأرسل جذعها إلى دار التحف في لندن، وكان الجنرال ولنتون قد وقف تحت تلك الشجرة مدة القتال، ومن ذلك عمد وآثار أخرى وأضرحة عليها كتابات أكثرها أقامها أقارب الضباط الإنكليز الذين قتلوا في هذه المعركة تذكارا لبسالتهم، ولم يزل في سهول واترلو عظام كثيرة من بقايا الذين قتلوا فيها ودفنوا يوم 18 يونيو سنة 1815 حتى إنه إذا هطل المطر في بعض الأعوام غزيرا وكان جارفا يجر معه التراب الكثير؛ ظهر من تحت التراب عظام المقتولين، وذكر الناس بأعظم معارك المتأخرين.
ولما نزلنا من تلك الأكمة دخلنا معرضا صغيرا عند سفحها جمعت فيه السيوف والبنادق والخوذ وبقية الآلات الحربية مما استعمل في هذه المعركة العظيمة، وتباع إلى جانبه رسوم وآثار يأخذها السائحون لتذكر واترلو، فلما انتهينا من هذه الأشياء عدنا إلى بروكسل في قطار مر بين صفوف الزرع وغابات الشجر الكثير ومنازل الأكابر الذين يعملون في العاصمة مدة النهار، وفي آخره يعودون إلى حيث تتم لهم الراحة، ولا يقلقهم دوي العواصم الكبرى وحركتها الدائمة، وأقمنا فيها زمانا وقد راق لنا لطف سكانها وحسن مؤانستهم وكثرة ما في مدينتهم من أسباب الحظ والطرب حتى إذا حان زمان الرحيل عنها فارقناها، ونحن من رأي القائلين إنها باريس الصغرى وإنها من أبهى عواصم أوروبا وأكثرها رونقا وجمالا، وقصدنا الحمامات البحرية المشهورة في مدينة أوستاند.
ولا حاجة إلى الإسهاب هنا في وصف الحمامات البحرية في مدينة أوستاند البلجيكية؛ فإن الذي يقال عنها لا يزيد عما في حمامات هولاندا وغيرها من الحمامات البحرية التي مر ذكرها في هذه الرحلة، إلا أن مدينة أوستاند هذه ذاعت شهرتها في الآفاق وعرفت بطيب هوائها، فكثر ورود القادمين إليها من أنحاء البلجيك ومن البلدان الأخرى، وتسهلت وسائل النقل والمخابرة بينها وبين فرنسا وبلاد الإنكليز؛ نظرا لكثرة الذين يقصدونها من البلادين والمسافة بين أوستاند وإنكلترا في البحر لا تزيد عن عشر ساعات، فهي يأتيها كل يوم ثلاث بواخر إنكليزية ملأى بالزائرين، ويأتيها أيضا ثلاثة قطرات من فرنسا تنقل المتفرجين، فلا يقل عدد الموجودين على ضفة البحر في أوستاند كل يوم عن خمسة آلاف أو ستة، ولا يقل عدد الزائرين مدة فصل الصيف عن خمسين ألفا أو ستين نصفهم من أهل البلاد البلجيكية والنصف إنكليز وأميركان وفرنسويون وأفراد من جميع الجهات، والإنكليز أكثر الأجانب عددا من بين زائري ذلك الموضع، وكثيرا ما يذهب ملك البلجيك بنفسه إلى حمامات أوستاند، ويؤمها أشراف البلجيك وسراتهم وتقصدها العائلات فتقيم فيها الأيام والأسابيع، وتقضي بين الرمل والماء أكثر ساعات النهار لا فرق في ذلك بين الكبار والصغار، وقد بني رصيف طويل عريض على شاطئ البحر هنا طوله 1500 متر وعرضه 18 وعلوه عن سطح البحر ثمانية أمتار، وهنالك يتمشى المتنزهون رجالا ونساء ويرى المتفرج من أشكال الناس ما بين راكب وماش وسابح في الماء ومتمرغ في الرمل ما يرى في أكثر هذه الحمامات البحرية. وقد بني على طول الرصيف المذكور فنادق وحانات ومنازل فخيمة بعضها للعائلات المصطافة وأكثرها معد للأجرة، وفيها كل ما تطلبه النفس من وسائل الراحة. وهنالك حانة كبرى على شكل الكازينو يسمونها «كورسال»، وفيها الموسيقى وغرف اللعب والرقص والمطالعة والمسامرة وغير ذلك مما يوجد في كل محل من هذا القبيل، وهنالك أيضا لسان بني من الخشب والحديد كالجسر فوق البحر يمتد في الماء مسافة 625 مترا، وفيه كل ما يسر الخواطر من معدات الإتقان والراحة للقادمين، وغير هذا مما يعسر عده ويضيق المقام عن وصفه.
فلما انتهينا من هذه المشاهد ولم يبق علينا في بلاد البلجيك ما يمكن رؤيته برحنا تلك البلاد العامرة، وسرنا منها إلى فرنسا وهي مجاورة لها كما تعلم.
فرنسا
خلاصة تاريخية
اشتهرت هذه البلاد ببسالة أهلها في أيام الرومانيين والمعارك الكثيرة التي جرت بينهم وبين قواد رومة، وكانوا يسمونها وقتئذ «غاليا»، ويعرفون الأهالي باسم «فرانك» أي الأحرار؛ نظرا لما عرف عنهم من الميل إلى الحرية والاستقلال، ثم توسع الناس في هذا الاسم فجعلوه عاما لكل الأوروبيين، وأخذه العرب عنهم فجعلوه الإفرنج أو الفرنجة كما تعلم وحرف قليلا بإبدال الكاف سينا فصار «فرانس»، وهو اسم فرنسا اليوم. وليس يعرف عن ملوكها الأقدمين ما يذكر قبل واحد اسمه ميروفيوس أسس الدولة الميروفنجية، وأشهر أفرادها كلوفيس الأول ولي سنة 481 وهو في العشرين من عمره وحارب الرومان وأجزاء فرنسا وألمانيا؛ فانتصر في كل حروبه وجعل باريس قاعدة مملكته واقترن بابنة ملك بورغونيا فعلمته الدين المسيحي وحملته على اعتناقه، فكان من وراء ذلك أن فرنسا كلها تمثلت بملكها الهمام وصارت بلادا مسيحية من ذلك الحين، ومات كلوفيس سنة 591 مسيحية فخلفه أولاد له أربعة وكلهم ضعفاء الرأي بلا تدبير فتضعضعت أحوال المملكة وقلت هيبة الملوك وانتقلت السلطة منهم إلى رؤساء البلاط الملوكي، وكانت وظيفة رئاسة البلاط قد صارت وراثية في عائلة رجل اسمه بين أرسنال، قام من نسله شار مارتل القائد الشهير الذي انتصر على العرب سنة 732 بين مدينتي تور وبواتييه في فرنسا وأرجعهم عن أوروبا، ويعد انتصاره في تلك السنة من أعظم الحوادث التاريخية؛ لأنه غير تاريخ أوروبا وأبقى الغرب للغربيين بدل أن يستولي عليه العرب.
ولما مات شارل مارتل هذا ورث الوظيفة - رئاسة البلاط الملوكي - والقوة ابنه بين القصير، وصار الملك في أيام هذا الوزير بلا مركز يعرف حتى إن البابا وافق الوزير على اختلاس الملك فعزل آخر ملوك الدولة الميروفنجية واسمه شلدرك، وتوج بين القصير ملكا في سنة 751 فكان ذلك بدء الدولة الثانية في فرنسا وتعرف باسم الكارلوفنجية.
ومات بين هذا في سنة 768 بعد أن ملك البلاد 17 سنة فأورث الملك من بعده لابنيه شارل وكارلومان، مات الثاني منهما بعد حين واستبد شارل بالملك وهو الذي اشتهر في التاريخ باسم شارلمان - أي شارل الكبير - أعطي هذا اللقب عن استحقاق؛ لأنه كان مديرا حكيما وقائدا باسلا وملكا عظيما حارب في كل جهة وانتصر على كل الأعداء فوسع دائرة مملكته وجعلها متصلة من آخر حدود فرنسا الغربية إلى حدود الرين والدانوب، وضم جزءا كبيرا من النمسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا إلى مملكته، وكان في أيامه أعظم ملوك الزمان لا يضارعه في الشهرة غير هارون الرشيد سلطان العرب وكان بين الاثنين وداد ومخابرة، وظل هذا الملك العظيم يفتح البلدان ويتقدم حتى توج سنة 800 إمبراطورا على يد البابا في رومة، وكان تتويجه يوم عيد الميلاد من السنة المذكورة ومات شارلمان سنة 814، وهو في الثانية والسبعين من عمره فخلفه ابنه لويس دبوناير وجعل أيكس لاشايل قاعدة مملكته، وما لبث زمانا حتى قسم المملكة على أولاده وهو حي فجعلوا يتخاصمون ويتحاربون بسبب ضعف أبيهم حتى انفصلت إيطاليا وألمانيا عن مملكة فرنسا وضعفت تلك السلطنة، وكان جميع ملوكها بعد شارلمان ضعافا لا يستحقون الذكر إلى أن قام في أيام لويس الخامس المعروف بالكسلان وزير اسمه «هوك كاييت» اختلس الملك من مولاه، وأسس دولة تعرف باسم كاييت في سنة 987.
وقد قام من بيت كاييت فروع ملوكية كثيرة، مثل آل فالوا وأورليان وبوربون وفيليب، ومن هؤلاء فيليب الثاني الملقب بأوغسطس ملك البلاد سنة 1180 واتحد مع ريكاردوس قلب الأسد ملك الإنكليز على تجريد الحملات لمحاربة الترك والعرب في فلسطين مدة الحروب الصليبية المشهورة.
شارلمان.
ونمت البلاد قليلا وتقدمت في حكم فيليب الثالث من ملوك هذه العائلة ما بين سنة 1270 و1284، ولكنها عادت إلى الضعف في أيام فيليب الخامس وحدثت في تلك المدة حروب طويلة بين إنكلترا وفرنسا تعرف بحرب المائة سنة، كان معظم النصر فيها للإنكليز حتى إن هنري الخامس ملك إنكلترا تقدم بجيش صغير على فرنسا وحارب جنودها في معركة أجنكور سنة 1415 فانتصر انتصارا باهرا وتقدم على باريس، ففر منها ملكها الضعيف شارل السادس، وامتلك الإنكليز مملكة فرنسا مدة 9 سنوات حتى إذا مات هنري الخامس ملك إنكلترا، وهو يومئذ أشهر قواد زمانه عاد الفرنسويون إلى السعي في الاستقلال، وتم لهم ذلك سنة 1450 على يد فتاة اسمها جان دارك اعتقدت أنه جاءها وحي بطرد الإنكليز، وألحت على ملك بلادها المعزول وأمرائه أن يسلموها قيادة جيش، فلما نالت بغيتها تقدمت في طليعة الجيش على الإنكليز وحاربتهم فانتصرت عليهم في جميع المواقع وهي عذراء في الثامنة عشرة من عمرها، ولكن جوادها كبا بها في الموقعة الأخيرة فأخذت أسيرة وقتلها الإنكليز حرقا بالنار؛ لأنهم زعموا أنها ساحرة فما أفادهم ذلك؛ لأن انتصار جان دارك أعاد فرنسا إلى أهلها.
ولهذه الفتاة ذكر عظيم في التاريخ وشهرة كبرى في فرنسا، وهي تعد عندهم في جملة القديسين، ولها في باريس تمثال أمام قصر التولري وعدة آثار وتماثيل أخرى في كل جوانب فرنسا.
ولما استقلت فرنسا شرع ملكها شارل السابع في إصلاح شئونها، وكان عاقلا حكيما وخلفه ابنه لويس الحادي عشر فحذا حذو والده واهتم بالطباعة، وكانت يومئذ شيئا حديثا اهتدى إليه جوتنبرج سنة 1450، فنقله الملك إلى باريس ونشط العلم والصناعة بكل قواه، وخلفه ابنه شارل الثاني وكان هماما حارب إيطاليا وملك جزءا كبيرا منها ثم أضاعها ومات في شرخ شبابه؛ فخلفه لويس الثاني عشر الذي أعاد جزءا من شمالي إيطاليا إلى مملكته، ثم خلفه فرانسوا الأول، وهو من أشهر ملوك فرنسا وأقدرهم، حارب في عدة مواقع، ولكن خصمه في أكثر الحروب كان أوسع منه سلطانا وأكثر جنودا وهو كارلوس الخامس ملك إسبانيا وإمبراطور ألمانيا، فكان النصر في أكثر المعارك لكارلوس، ولكن هذا لم ينقص من قدر فرانسوا الذي يعد من أعظم ملوك فرنسا، ومات هذا الملك سنة 1547 فخلفه ابنه هنري الثاني، ولم يكن له ذكر في التاريخ غير أن الخلاف كبر في بلاده بين الكاثوليك والبروتستانت واشتد في أيام ابنه هنري الثالث وحفيده فرانسوا الثاني، وحصلت في تلك المدة حروب كثيرة بين الحزبين، اشتهر فيها البرنس كوندي والبرنس هنري نافار الذي ملك فرنسا بعد ذلك باسم هنري الرابع والأميرال كوليني وكلهم من قواد البروتستانت، وكان من أمر المتحاربين أنهم تصالحوا بعد حروب أهلية طويلة في أيام شارل التاسع ملك فرنسا الذي ملك البلاد في التاسعة من عمره سنة 1560، وكان تحت وصاية أمه كاترين ده مديسي، ولكن الحزازات ظلت تحك في الصدور وساعد على إنمائها تعصب الملك وأمه، فدبر حزب الكاثوليك دسيسة لقتل البروتستانت جميعهم في ليلة واحدة في كل أنحاء فرنسا، واتفقوا على أن يكون اليوم 23 أوغسطس من سنة 1572، وهو يوم عيد القديس برثلماوس، فلما جاء الموعد قام الكاثوليك على إخوانهم البروتستانت وقتلوا منهم ألوفا.
وظلت البلاد في ارتباك إلى آخر حكم هنري الثالث، فلما قتل في سنة 1589 ورثه هنري الرابع الذي ذكرناه وكان حكيما عالما عادلا كثير الذكاء، ولكن مذهبه البروتستانتي أبعد عنه قلوب الكاثوليك من رعاياه؛ فاعتنق مذهبهم، ولما استتب له الملك أصلح ما اختل من أموره وقرر النظامات العادلة وأطلق الحرية للأديان، وكان - بوجه الإجمال - من أعقل ملوك فرنسا وأعظمهم، ولكنه قتل بيد راهب كثير التعصب سنة 1610، وخلفه لويس الثالث عشر ابنه، وكان يومئذ في التاسعة من عمره فجعلت والدته ماري ده مديسي وصية عليه، وكانت امرأة عاقلة استوزرت الكردينال ريشيلو المشهور؛ فأظهر الرجل من معجزات الاقتدار والدهاء ما حير أوروبا، وحارب ألمانيا وإيطاليا وسواهما حروبا طويلة كان النصر في أكثرها لفرنسا، وهي تعرف بحروب الثلاثين سنة من سنة 1618 إلى سنة 1648، وقد أسس ريشيلو هذا مجمع العلوم الفرنسوي المعروف باسم «أكادمي» ورفع فرنسا بحسن تدبيره إلى أرفع الذرى، ولكنه كان حقودا طماعا، واشتغل كل عمره بالفتن والدسائس، ومات لويس الثالث عشر فورثه حفيده لويس الرابع عشر، وهو طفل في الخامسة من عمره، فجعلت أمه ماري هايسبرج وصية عليه حتى إذا بلغ أشده واستلم زمام الملك أظهر اقتدارا عظيما، وكان أعظم ملوك زمانه بلا مراء، وحارب هذا الملك إسبانيا وألمانيا وإيطاليا وإنكلترا وهولاندا وكان النصر في أكثر الحروب له، ولكن الإنكليز انتصروا عليه في عدة معارك أشهرها معركة بلنهيم وقائدهم يومئذ الديوك أوف مارلبرو من بيت تشرتشل المشهور. وكان الكردينال مازارين وزيره في أوائل حكمه، فأصلح له مالية البلاد إصلاحا تاما وسارت فرنسا في سبيل العز مدة هذا الملك حتى عدت أكبر دول أوروبا. ومات لويس الرابع عشر في السنة الثانية والسبعين من عمره بعد أن حكم 65 سنة، وهو أطول حكم في تاريخ ملوك أوروبا وكان موته في سنة 1715، واشتهر حكم هذا الملك العظيم بتقدم العلم والصناعة وقيام الأبطال الكثيرين وبناء القصور الفخيمة، منها قصر ملوك فرنسا في فرسايل من ضواحي باريس، ولكنه اشتهر أيضا بإبطال معاهدة نانت التي أبرمت في أيام هنري الرابع وأعطي الناس فيها حرية الضمير والأديان؛ فنشأ عن رجوعه إلى التعصب أن البروتستانت نزح أكثرهم من فرنسا إلى إنكلترا وبلغ عدد المهاجرين نحو خمسمائة ألف نفس، أكثرهم من أهل الذكاء والصناع الماهرين، فخسرت فرنسا معارفهم وكسبتها إنكلترا، وكان رحيلهم من الحوادث المشهورة في تاريخ لويس الرابع عشر.
وخلفه لويس الخامس عشر، وكان فاتر الهمة كثير الميل إلى اللهو منغمسا في اللذات، جمع في قصره النساء الحسان من كل ناحية، وآثر معاشرتهن على تدبير مهام الملك، وكثر ظلم الحكام في أيامه وزاد تبذير البلاط الملوكي عن الحد المعتاد، فكانت الحكومة تلجأ إلى ابتزاز الأموال اللازمة لذلك التبذير بالعنف والقسوة من الأهالي، وشاعت عن الملك أمور كثيرة نفر منها الناس فكانوا يقرءون كتابات فولتير وغيره من الذين مهدوا السبيل للثورة، وحدث في أيامه أن ولاية اللورين سلخت من ألمانيا وضمت إلى أملاك فرنسا، وأن جزيرة كورسيكا أخذت من إيطاليا وضمت إلى مملكة فرنسا أيضا، ومات لويس الخامس عشر سنة 1774.
جان دارك.
وكان لويس السادس عشر الذي خلفه وحدثت الثورة في أيامه رجلا بسيط البنية سليم القلب محبا لخير رعاياه، إلا أنه كان ضعيف الرأي فلم يقدر على إيقاف تيار الأفكار الذي قاد الأهالي كلهم إلى كره الملوك والأمراء؛ فحاول جهده أن يرضي الأمة وجمع مجلس نواب فتحه بنفسه وعرض على أعضائه كل ما يمكن للملك إعطاؤه للأمة من الحقوق، وتساهل ما أمكن التساهل فلم يهدأ غضب الشعب، وظلوا على الهياج حتى لم يبق للملك سلطة وأحاطوا بقصره يقصدون قتله وقتل أفراد عائلته، وعاث الثائرون في البلاد مفسدين وارتكبوا الأهوال والفظائع، وعمت في البلاد فوضى غريبة وثورة على الأغنياء والأمراء ورؤساء الدين، فلما رأى الملك أنه لا يمكن له استرجاع الملك بعد ذلك الهياج حاول الفرار مع عائلته فعرفه بعضهم في وسط الطريق، وأرجعوا العائلة المالكة إلى باريس ذليلة مهانة، وهنالك أقاموا عليها الحجر وتولى الأمر رجال الثورة وزعيمهم يومئذ رجل لا ذمة عنده ولا إشفاق ولا شعور اسمه روبسبير، فبعد أن طال زمان فظائعهم وقتلوا ألوفا من نبلاء فرنسا، قادوا الملك إلى المحاكمة وأجمعوا على أنه خان المملكة وحكموا عليه بالإعدام؛ فأعدم في ساحة الكونكورد بباريس في صباح 21 يناير من سنة 1793، ولما وقف على آلة الذبح - والفرنسويون يعدمون المجرمين ذبحا لا شنقا بآلة قاطعة يسمونها جيليوتين - خاطب الحاضرين قائلا: «أيها الفرنسويون، إنني أموت بريئا مما اتهمني به هذا الشعب، وأسامح الذين يريدون قتلي، وأطلب إلى الله ألا يحمل فرنسا مسئولية سفك دمي.» ولم تسمع بقية كلامه؛ لأن الطبول قرعت وعلت ضوضاء المنتقمين وأعدم لويس السادس عشر، وهو لم يقم بين ملوك فرنسا أطيب منه قلبا ولا أسلم نية، وزاد رجال الثورة في الهول والفظائع بعد ذلك فاتهموا الملكة ماري أنتوانت - وهي ابنة ماريا تريزا إمبراطورة النمسا المشهورة - بالاشتراك في الخيانة، وحكموا عليها بالإعدام فقادوها إلى الجيليوتين محملة على عربة حقيرة للأبضعة، وقبل أن تسقط الآلة القاتلة على عنقها صرخت: «يا إلهي أسألك أن تسامح قاتلي.» وهكذا سفك دم امرأة لا ذنب لها، وتمت فظائع الثورة الفرنسوية بأن سجن بقية أعضاء العائلة المالكة، ومات ولي العهد وهو صبي معذبا في سجن كثير الظلام.
وتمادت فرنسا في المبادئ الثوروية فهاج شعبها هياجا عظيما، وما أبقوا على كبير ولا أثر للنظام الملوكي ونادوا بالحرية والإخاء والمساواة، وأعلنوا في الأقطار أنهم يساعدون كل أمة على ثل عرش الملوك فيها، ونيل الحرية والاستقلال؛ فأرجف إعلانهم الملوك واهتزت لذلك ممالك أوروبا، وبدأ أصحاب النفس الأمارة بالسوء في بقية الممالك يفكرون في الثورة؛ فاتحد أكثر ملوك أوروبا على محاربة الفرنسويين وإذلالهم قبل أن يستفحل أمرهم وتعم مبادئهم، ولكن شبان فرنسا كانوا قد ثملوا بخمرة الثورة والاستقلال؛ فحاربوا الأعداء حربا شيبت الولدان وأظهروا من البسالة ما حير العقول وانتصروا على جميع الأعداء وردوهم عن حدود فرنسا.
وفي سنة 1793 اجتمع نواب المملكة بعد كل تلك الأهوال وانتخبوا 12 عضوا من رفاقهم لإدارة الأحكام فأداروها على نسق غريب من الفظاعة والشناعة حتى ألقوا الرعب في كل القلوب، وسمي حكمهم «بحكم الرعب»؛ لكثرة ما قتل فيه من الناس، وما حدث من الأمور المغايرة لطبع الإنسان، من ذلك أنهم غيروا أسماء الأشهر وحساب السنة، وسارت فرنسا على نظام جديد جعلت سنة الثورة بدء سنيه، وذبح على الجيليوتين ألوف من الأبرياء حتى نفر الناس من فظائع تلك الحكومة، وقادوا رؤساءها وأشهرهم روبسبير - الذي ذكرناه - ودانتون إلى المجزرة فضربوا أعناقهم وأراحوا البلاد منهم، وقامت على إثر ذلك حكومة جمهورية جديدة اسمها «ديركتوار» أو الإدارة، وهي الجمهورية الفرنسوية الأولى، كانت مركبة من 5 أشخاص يحكمون البلاد برأي مجلسين: أحدهما مركب من 500 نائب والثاني من 250 نائبا ودامت هذه الحكومة إلى سنة 1799 حين أبدلت بحكومة القنصلية.
وبينا البلاد في حرب واضطراب قام فيها شاب غريب الذكاء عجيب الاقتدار كان جنديا بسيطا لا يعرف الناس عنه شيئا حتى إذا شرع الإنكليز والطليان في محاصرة طولون كان هو حاضرا تلك المعركة وأبدى من حسن الرأي والبسالة ما أعاد المدينة إلى قبضة الفرنسويين، وكان ذلك الشاب نابوليون بونابرت المشهور، ولعله أعظم قواد الأرض من يوم ذكر للناس حرب وقيادة، ولا حاجة إلى سرد تاريخ هذا الرجل العظيم هنا، ولكننا نكتفي بالقول إن حكومة الديركتوار اتصل بها ذكاؤه فرقته حتى جعلته قائد جيش، حارب ألمانيا والنمسا وإيطاليا وانتصر في كل المعارك انتصارا باهرا، وضم إيطاليا إلى مملكة فرنسا وسن لها القوانين والنظامات وطرد جنود النمسا منها، ثم عاد إلى باريس فتلقاه الشعب بسرور عظيم واحتفلوا به احتفالا لا مثيل له، وارتفع ذكره بين الناس إلى حد أن حكومة الديركتوار بدأت تحسب لشهرته حسابا، فعرضت عليه قيادة العمارة البحرية لمحاربة إنكلترا وغزو شطوطها، ولكنه آثر أن يغتصب الهند منها أولا وطلب جيشا يسير به إلى مصر والشام ليفتحهما ويتقدم إلى الهند، فجندت له الحكومة 30 ألفا سار بها إلى مصر في تلك الحملة المشهورة، فانتصر ثم خذل في الشام وتحطم أسطوله في أبي قير واضطر إلى الرجوع إلى فرنسا، فلما وصلها قلب الحكومة وجعلها قنصلية يحكمها ثلاثة قناصل هو أولهم، وحارب النمسا وإيطاليا مدة القنصلية فانتصر عليهما ثم رقي إلى رتبة إمبراطور في سنة 1804 فصار أعظم أهل زمانه.
نابوليون الأول.
وقامت أوروبا على بونابرت بعد هذا الارتقاء، فحاربها وانتصر في كل جهة حتى إنه نظم الممالك الجديدة وتصرف بالبلدان، فأنشأ مملكة بافاريا في ألمانيا وجعل صهره مورات ملكا عليها، ونصب أخاه يوسف ملكا على نابولي وإسبانيا، وعين أخاه لويس ملكا لهولاندا، وأخاه جيروم ملكا لوستفاليا في ألمانيا، وقسم ألمانيا تقسيما حتى أضعفها، ولعله نظر بذلك إلى صالح فرنسا وخاف على بلاده من اتحاد الجرمانيين عليها كما حققت الأيام ظنونه، وظل ينصب الملوك ويعزل ويولي حتى دانت أوروبا له بعد انتصاراته الباهرة، ما خلا إنكلترا؛ فإنه حاول عزلها وعقد المحالفات مع الدول على قطع المخابرات معها، فأخلفت روسيا وعدها من هذا القبيل، وقام لمحاربتها فدخل بلادها ووصل موسكو، ولكن اتساع البلاد ومقاومة الأهالي أضنت قواه فعاد من روسيا وقد فشل لأول مرة في حروبه، فلما وصل فرنسا في سنة 1812 جند جيشا جديدا وخرج لمحاربة الدول المتحدة عليه، وهي روسيا وإنكلترا والنمسا وبروسيا، فغلب وتقهقر إلى باريس، ومن ثم دخل ملوك الدول المتحدة عاصمة فرنسا وعزلوا نابوليون وولوا مكانه لويس الثامن عشر، وهو أخو لويس السادس عشر الذي قتل في الثورة، ونفي نابوليون إلى جزيرة ألبا في البحر المتوسط، ولكنه ما عتم أن رأى جنود الدول راحلة عن باريس حتى عاد إليها في سنة 1814، وجند جيشا جديدا قام ليحارب به الدول فكانت آخرته في معركة واترلو التي ذكرناها في تاريخ البلجيك.
وأخذ بونابارت بعد أن سلم نفسه للإنكليز أسيرا ونفي إلى جزيرة القديسة هيلانة في الأوقيانوس الأتلانتيكي عند شطوط أفريقيا الجنوبية، حيث توفي في 5 مايو سنة 1821 ونقلت عظامه بعد ذلك إلى باريس باحتفال عظيم.
وكان لهذا القائد العظيم زوجة اسمها جوزفين عاشت معه إلى أن صار إمبراطورا ولم تلد له نسلا؛ فاضطر إلى الاقتران بغيرها ليولد له من يرث الملك العظيم عنه؛ ولهذا فإنه طلق جوزفين على كره من البابا ورجال الدين، واقترن بالأرشدوكة ماري لويز ابنة مكسميليان إمبراطور النمسا فرزق منها ولدا واحدا سمي يوم ولادته ملك رومة، وأوصى له والده بمملكة فرنسا من بعده، فعرف باسم نابوليون الثاني، ولكنه لم يملك بعد أبيه ومات مسلولا في قصر شونبرن من ضواحي فيينا.
واتفقت دول أوروبا بعد نفي نابوليون على إعطاء الملك ثانية للويس الثامن عشر فعاد وملك إلى يوم موته سنة 1824 وخلفه أخوه شارل العاشر وحصلت في أيامه ثورة؛ لأنه أراد إدخال نظامات لم يوافق الشعب على إدخالها، فتنازل عن الملك وخلفه لويس فيليب من آل أورليان، ودامت دولته إلى سنة 1848، وهي سنة الثورة الفرنسوية الثانية حين سقطت المملكة ونودي بالجمهورية الثانية.
وتقدم لرئاسة الجمهورية لويس نابوليون ابن أخي نابوليون الكبير فانتخب رئيسا في سنة 1848، ثم نادى الرجل بنفسه إمبراطورا سنة 1852 ولقب نابوليون الثالث، وأحسن السياسة حتى صارت فرنسا في أيامه إلى أرفع مراكز العز والشرف، وأصبحت باريس مركز سياسة الأرض، واسم نابوليون عنوان القوة في كل بلاد. وحاربت فرنسا دولة الروس سنة 1854 بالاشتراك مع إنكلترا والدولة العلية في حرب القرم وكان لها النصر، ثم حاربت الصين مع إنكلترا سنة 1860 ونالت الفخر والنصر، وسنة 1859 حدثت الحرب الإيطالية المشهورة وكانت فرنسا معضدة فيها لإيطاليا على النمسا ونالت النصر فاستقلت إيطاليا، وأخذت فرنسا بلاد سافوا ونيس أجرة مساعدتها. وسنة 1862 حاربت المكسيك وانتصرت الجنود الفرنسوية فيها ونصب مكسميليان أخو إمبراطور النمسا الحالي إمبراطورا لها، وما زال السعد مرافقا لنابوليون الثالث وبلاده في عز كبير ومركز منيع إلى أن كانت سنة 1870، وحدثت الحرب المشهورة مع بروسيا؛ فكسرت فرنسا كسرة هائلة وسقطت الإمبراطورية، فعادت البلاد إلى النظام الجمهوري وأسست جمهورية ثالثة كان أول رؤسائها الموسيو تيرس وتلاه المرشال مكماهون ثم الموسيو جريفي ثم الموسيو كارنو ثم الموسيو كازميربريه ثم الموسيو فلكس فور ثم الموسيو لوبيه ثم الموسيو فاليير الرئيس الحالي.
ولا حاجة إلى الإسهاب في تاريخ فرنسا مدة هؤلاء الرؤساء؛ لأن أكثره حديث باق في الأذهان، ولكننا نقول على الجملة إن فرنسا كانت تحاول النهوض من سقطتها على عهد تيرس ومكماهون، فما أحست بثمرة جهادها إلا في أيام جريفي، وهو الذي اضطر إلى الاستقالة بسبب أعمال صهره التي ساءت جمهور الفرنسويين، وكان خلفه كارنو رجلا عاقلا تقدمت البلاد في أيامه، ولكنه اغتاله أحد الفوضويين فخلفه كزمير برييه واستقال بعد ارتقائه بقليل على إثر ظهور مسألة دريفوس المشهورة. وفي أيام فلكس فور تمت المعاهدة بين فرنسا وروسيا فتعزز مركز الجمهورية كثيرا، وفي أيام لوبيه تصالحت إنكلترا وفرنسا واستقرت الجمهورية على شكلها الحالي، وأما الموسيو فاليير رئيسها اليوم فإنه من العقلاء المعتدلين وسياسته ترمي إلى حفظ السلام والمصالحة مع جميع الأمم على السواء.
باريس
هي بإجماع الآراء أول مدائن الأرض زهاء وبهاء، وما رأى الناس من يوم قامت للحضارة قائمة نظيرا لها في جمال شوارعها وميادينها ومتاحفها وحاناتها ومتنزهاتها، ويبلغ عدد سكانها الآن ثلاثة ملايين نسمة، وهي مركز التمدن الحالي ومقصد الطلاب السائحين يؤمونها من كل صوب وحدب، فلا تخلو هذه المدينة العظمى من آلاف مؤلفة تجتمع فيها سواء في الصيف أو في الشتاء، وهي منبع الأزياء ومصدر الكياسة واللباقة وبؤرة اللطف والرشاقة، ينقل عنها الناس في كل جهة ما يستجد من شرائط التمدن، وهي في طليعة المدائن العظمى في العلوم والمعارف، فيها من المعارض والمتاحف ودور العلوم وقاعات الصناعة ما يعجز القلم عن وصفه، ولطالما تغنى المادحون بمدحها وأجاد الواصفون وأفاضوا في تلك المشاهد التي تسحر الناظرين، والمناظر التي يحدث وصفها فتنة في عقول السامعين، على أن شهرة باريس وكثرة ما فيها من المحاسن والأحاسن تحملني على إلقاء دلوي في الدلاء ووصف بعض الشيء مما رأيت فيها، فإني زرتها خمس مرات كنت في كل مرة أرى آيات جديدة من الجمال وبدائع الإتقان ويخيل لي أن المدينة في عيد عظيم؛ لأنها أبدا في جذل وحبور تضحك سماؤها وأرضها، وفي كل جانب منها معدات السرور متوفرة والناس جارون إلى هاتيك المتنزهات الفخيمة حتى إنه ليعسر على الذي يزور باريس - وهذه حالها وهذه آيات جمالها - أن يبدأ في وصفها؛ لأنه لا يدري من أين يكون البدء، وكيف يجيء الختام؛ ولذلك تراني اخترت البدء بهاتيك الشوارع الفسيحة المعروفة عندهم باسم «بولفار»، فإن هذه الشوارع الباريزية محور الجمال والإتقان ينفق عليها مجلس البلدية المبالغ الطائلة في كل عام حتى تبقى على حالة تليق بعظمة المدينة وجمالها، فترى أبهى ما اكتحلت بمرآه العين إلى جانبيك من قصور منيفة لخاصة الناس أو هي لحفظ التحف أو للفائدة العامة، ومخازن جمعت ما تناهى في الحسن وغرابة الصنع من صناعة باريس وسواها رتبت فيها الأبضعة على نسق بديع وجواهر تسطع أنوارها وتتلألأ من وراء ألواح زجاجية نقية، وهي في الليل أوفر بهاء منها في النهار؛ إذ يلقون عليها النور الكهربائي فتزهو فوق زهائها المعهود، ويجذب بريقها المحبوب آلافا من المتفرجين، وفنادق أجهد الصناع قرائحهم في تزيين جهاتها، وحانات يضيع الهم من مجرد النظر إليها، وفوق هذا فإن في كل هذه الشوارع أناسا يخطرون بأبهى الحلل وسيدات يرفلن بنفيس الأطالس وبديع الأزياء ولهن في حركات المسير علم عجيب، فلو أنك زرت باريس ولم تشهد ضواحيها ولم تدخل متاحفها ولم تسمع شيئا في ملاهيها ولم تدرس غرائبها، بل اقتصرت على التجول في هاتيك الشوارع الفيحاء، لكفى بها منظرا ترتاح إليه النفوس، وتشهد بغرابة هذه المدينة التي لم يبن الناس إلى هذا اليوم نظيرا لها في الجمال.
وإذا ضمت هذه الشوارع أو البولفارات بعضها إلى بعض لم يقل طولها عن 4300 متر، نبدأ منها بوصف بولفار سان مارتن فيه عدة مراسح وتياترات وقوس للنصر قديمة أقيمت تذكارا لانتصار لويس الرابع عشر ملك فرنسا في سنة 1674 على الألمان، ويليه بولفار سان دنيس فيه باب اشتهر بهذا الاسم أيضا أقيم تذكارا للملك لويس الرابع عشر المذكور بعد انتصاره على هولاندا في سنة 1682، وبولفار بواسونيير أشهر ما فيه مدرسة لتعليم الموسيقى وفنونها تعطى فيها المكافآت للذين ينالون أحسن شهاداتها ويقصدها الطلاب من كل صقع بعيد. وبولفار مونمارتر فيه معرض يعرف باسم صاحبه جرفلين قل أن يجيء باريس سائح ولا يراه؛ لأن فيه أشكال مشاهير الأرض الحاليين كلهم وبعض المشاهير المتوفين صنعت بالشمع والجبس، وأتقن صنعها إلى حد أن الغريب قد لا يميز الرجل الحي فيها من تمثاله، وهم يضيفون إلى هذا المعرض تماثيل بعض المشهورين والمشهورات في كل عام، وقد صنعوا بعض الأجسام قاعدة ووضعوها على أوضاع مختلفة وإلى جانبها مقاعد خالية يجلس إليها المتفرجون، فإذا كنت دائرا تتفرج على تلك المناظر البهية لم يبعد عليك أن تصل إلى شخص حي ساكن تظنه تمثالا حتى إذا قربت منه وتحرك اضطربت وخجلت كما يحدث للكثيرين.
ويستمر هذا الشارع على خط واحد حتى يبدأ «بولفار الطليان»، وهو بلا خلاف أجمل شوارع باريس وأكثرها زخرفا وأحسنها موقعا وأبعدها شهرة، فيه من الحوانيت والمنازل البديعة ما يقصر الشاعر عن وصفه، وفيه بنك الكريدي ليونه المشهور، وهو بناء فخيم جمع ما بين المتانة والجمال، وفي داخله قاعات فسيحة لراحة القادمين إليه وغرف أخرى للكتابة، فيها المنضدات والأقلام وبقية لوازم الكتابة، فإذا جاء المسافر يريد قبض مال من هذا المصرف العظيم جلس إلى إحدى تلك المناضد ووقع على الورقة بيده علامة وصول المال إليه، فيأخذ الورقة منه كاتب ويعود إليه بالمال المطلوب، وهو لا يتكلف عناء الوقوف والانتظار، وينتهي هذا الشارع في ميدان الأوبرا الكبرى، وسوف نعود إلى ذكرها، ومن بعد ذلك الميدان يستمر الشارع المذكور على خط واحد ويتغير اسمه فيصير شارع «الكبوسين»، وهو أيضا من آيات الجمال في باريس الحسناء، يبتدئ من ميدان الأوبرا التي ذكرناها والغران أوتل أو الفندق الكبير، ولهذا الفندق شهرة ذائعة في أوروبا كلها؛ لأنه في أحسن مواقع باريس وله سعة زائدة؛ إذ يشغل جزءا كبيرا من الأرض، وتحيط به الشوارع المعروفة من كل جانب، وهو كعبة القادمين إلى باريس، وليس هذا الفندق قاصرا على المسافرين الذين يبيتون فيه، بل إن الذين يقصدون حانته (القهوة) ومطعمه من أهل باريس ونزلائها كثيرون غير المقيمين فيه؛ لأنهم يقرءون هناك معظم صحف أوروبا المشهورة، ويجدون داخل الفندق مكتبا للبرق وموضعا للعلم بأسعار البورصة والمسائل المالية، وفيه ناد لأهل السياسة؛ ولذلك اشتهر هذا الفندق شهرته الحالية.
ومن هذا القبيل بولفار (لامادلين) نسبة إلى كنيسة المجدلية في آخره، وهي من أشهر كنائس فرنسا بدءوا في بنائها على عهد لويس الخامس عشر سنة 1764 ولم يتم، ثم شرع نابوليون الأول في إتمامها متبعا في ذلك الرسم الأصلي، أي أن تكون واجهاتها الأربع ذات عمد باسقة على الشكل اليوناني القديم، فتم بناؤها سنة 1842، ومنظرها جميل يسر جميع الناظرين، وعدد العمد المثلمة في جوانبها الأربعمائة عمود. وهي الآن مشهورة بجوق ينشد فيها الألحان الدينية المؤثرة، وفيها تقام الاحتفالات الكبرى في أيام الأعياد، ويعقد الزواج لأكثر أصحاب الشهرة، وبولفار مادلين هذا يتصل بالشارع الملوكي (رويال) إذا سار المرء إلى آخره لقي وزارة البحر الفرنسية، وقد رفع فوقها علم الجمهورية، وذكر ما أصاب الأبنية العظيمة في هذا الموضع دون سواه من ثورة الكومون بعد حرب فرنسا وبروسيا الأخيرة، فإن هؤلاء العتاة جمعوا قواهم في الشارع المذكور وجاءوا بالمضخات والآلات المعدة لإطفاء الحرائق فملأوها زيتا وجعلوا يرشون تلك الأماكن بها، ثم أضرموا النار فيها ففعلت فعلها الفتاك وقتلت كثيرين غير الخسائر الفادحة التي أنتجتها من تدمير المعالم القديمة والأبنية الفخيمة، وهذا آخر الشوارع من نوعه، وهو يتصل في آخره بأشهر مواضع باريس وأجملها، نريد به ساحة الكونكورد المشهورة. وساحة الكونكورد هذه ميدان لا نظير له في الأرض كلها، ولا خلاف في أن البشر لم يصنعوا إلى الآن ساحة عظمى - يرى الناظر في وسطها وإلى جميع جوانبها أبهى المناظر وأفخمها - مثل التي نحن في شأنها، وفي وسطها بحيرات بالغة الإتقان يتدفق الماء من أنابيب فيها صنعت على أشكال بديعة، ومن حولها نصب أقيمت لمدائن فرنسا المشهورة، مثل مرسيليا وبوردو وليون وغيرها ، وبين هذه النصب تمثال مدينة ستراسبورغ التي اغتصبها الألمان بعد حرب 1870، وفوقه إكليل أسود دليل الحداد على فقد ولاية الألزاس، وفي وسط الساحة المسلة المصرية التي أهداها المغفور له محمد علي باشا إلى لويس فيليب ملك فرنسا ونقلت إلى باريس سنة 1836، وهي قائمة على قاعدة بديعة الصنع مذهبة جوانبها، ومن حولها الأرصفة الفسيحة والممرات الواسعة يخطر فيها المتنزهون والمتفرجون، وإذا وقف المتفرج في هذه الساحة رأى بعضا من أفخم مناظر باريس، من ذلك، نهر السين ووراءه مجلس النواب في الجهة الجنوبية، وإلى الغرب متنزه الشان أليزه المشهور - وسيأتي ذكره - وإلى الشرق حديقة التولري وإلى الشمال مخازن وأبنية كثيرة تتصل بحديقة الأليزه وهو قصر رئيس الجمهورية.
وساحة الكونكورد هذه قديمة العهد اشتهرت من قبل أيام الثورة الفرنسوية المشهورة، ولكنها شهدت في أيام تلك الثورة العظيمة ما لم تشهده الساحات والميادين من الأهوال التي تشيب الأطفال، فإن رجال الثورة جعلوها مقر فظائعهم ومظالمهم فأقاموا فيها المشنقة (الجيليوتين)، وضربوا الرقاب في وسطها مئات وألوفا، حتى إن عدد الذين قطعت أعناقهم في ساحة الكونكورد مدة سنتين من سنة 1793 إلى 1795 لم يقلوا عن 2800 شخص من عظماء فرنسا، منهم الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنتوانت وأخته إليصابات وأخوه الدوك دورليان وابن عمه فيليب والد الملك لويس فيليب، ومنهم زعماء حزب الملوك وبعض الأمراء ورؤساء الحزب الديني، ومنهم أيضا بعض زعماء الثورة وأعوانهم، مثل دانيون وروبسبير، هؤلاء كلهم قتلوا في ساحة الكونكورد التي صبغت جوانبها بدماء المقتولين في مدة الثورة، وصار ذكرها يرجف الأبدان ويهول الرجال، فسبحان الذي يشقي ويسعد! كيف تغير حال هذه البقعة بتغير الأحوال وموت الرجال، وأضحت الآن مقر الأنس ومركز البهاء والعز بعد كل ذلك الهول؟!
ويتصل بهذه الساحة العظيمة متنزه الشان أليزه، والحق يقال إنه وما يليه إلى جميع الجوانب زهرة ما في مدينة باريس، ونخبة مناظر المدائن المشهورة. والشان أليزه هذا عبارة عن طرق كثيرة ما بين غابات صغرى من الأشجار وصفوف منها بديعة الشكل وفي وسطها طريق عظيم كثير الاتساع تسير فيه العربات كل يوم مئات وألوفا، وفيه المطاعم والقهاوي والمقاعد ومواضع النزهة ومواقع الطرب، وبعض فنادقه فخيمة جدا غالية أثمانها لا يأتيها غير الأمراء والكبراء، ولمجموع ذلك المتنزه بهاء عجيب، فهو مقصد المتنزهين في باريس، إذا سار إليه المرء بعد الظهر من أي يوم أراد - ولا سيما من يوم الأحد - رأى من أشكال الناس وأزيائهم وجماعاتهم ما تطرب له النفس، وتحسب أن السعادة كلها حصرت في ذلك المتنزه العظيم؛ فإنك كيفما سرت فيه رأيت شيئا يروق لك حتى إن وصف المكان يعسر على الكاتبين، وليس يفيد فيه غير الخبر والعيان. وفي آخر المتنزه الفسيح قنطرة كبرى شاهقة البنيان عظيمة الأركان، هي قوس نصر شرع نابوليون الأول في بنائها تذكارا لانتصاره على جيوش أوروبا، وأتمها من بعده لويس فيليب، وفيها رسوم المعارك العظيمة التي أحرزت فيها الجنود الفرنسية نصرا على الأعداء على جدرانها الأربعة، هي أكبر قوس للنصر في الأرض كلها، لها أربعة أبواب متقابلة وتعرف هذه القنطرة باسم قنطرة الكوكب، وفي ذلك مطابقة وتشبيه بديع؛ لأن الكوكب تشع منه الأنوار في كل جانب، وقنطرة النصر هذه تمتد منها الطرق وتتفرع الدروب في كل جانب، وأهمها عشرة تعرف بأسماء: كارنو وماكماهون وهوش وإينا وفردلند وكليبر وهوجو ودرامه وأليزه وبولون، وكلها من أجمل الطرق وأنظفها توصلك إلى داخل المدينة وخارجها، وقد زينت كلها بالأشجار والأزهار والقصور الباذخة والمصايف اللطيفة، ومن أهمها الشارع الذي يوصل إلى غابات بولون، وهي مجموع دروب عريضة وحراج غضة في أرض أريضة طارت شهرتها في الآفاق إلى حد أنها صارت مجتمع أهل الترف والبزة ومثابة جماعة الحظ واليسار، يأتونها من سحيق الأقطار ليمتعوا بمحاسنها الطرف ويشهدوا بأنها جذابة للنفوس ساحرة للأنظار، فيجتمع فيها كل يوم من أهل المدينة ونزلائها عدد عديد يزري بعضهم ببعض في تعدد الأزياء وفي غرابة الجمال وحسن الرواء، يسيرون أكثرهم في عربات نظيفة والأزاهر من هنا والرياحين من هنا والشجر الباسق الأنيق إلى كل جانب وماء البحيرات الصناعية يتدفق من أنابيبها ويزري بالزلال في نقائه، فكأنما السائر هنالك في أرض مسحورة جمعت فيها المحاسن بعضها إلى بعض وليس فيها غير كل شهي بهي، ولا عجب بعد هذا الحسن الوفير إذا توافد الناس على هذا المتنزه بخيلهم ورجلهم إلى حد أن المسير يتعذر عليهم في أيام الآحاد، فتضطر صفوف العربات أن تسير الهوينا، وليس يسوء ذلك قوما إذا وقفوا في غابات بولونيا متعوا الطرف بأزهى المناظر الشهية.
وقد بلغت مساحة هذه الحراج الفيحاء 873 هكتارا من الأرض، خططت بها الطرق المنسقة، ومن ورائها حقول ومتنزهات أخرى تعرف باسم لونشان، وحديقة «أكلمتاسيون» مساحتها نحو 20 هكتارا، وهي تعد قسما من الغابة، وفي داخلها معرض للحيوانات البرية والطيور والزحافات وأشكال المخلوقات الحية جمعت من أطرف الأرض، وبينها كل منظر غريب وفي جملتها سباع ضوار أخرى ربيت وعلمت طرائق كثيرة، فكان المربي يضع يده في فمها ورأسه على رأسها، وهي مطيعة لأمره ولا تكشر عن ناب ولا تتعمد الأذى، وجملة القول أن هذه الجهة من باريس هي نقطة الجمال فيها وأكبر متنزهاتها، لم أر إلى الآن بين ضواحي المدن الكبيرة ما يقرب منها في فرط الجمال وغرابة الوضع وحسن الانتظام.
وقد زرت بين المشاهد العظيمة في مدينة باريس الزاهرة قصر آل بوربون الذي مر ذكره، وهو مجلس نواب الأمة الفرنسية الآن تلقى فيه الخطب السياسية العظيمة التي يرن ذكرها في الآفاق، وتدار هنالك حركة السياسة للجمهورية الفرنسية. ولهذا القصر الفخيم منظر غاية في الجمال؛ فإنه بني على ضفة السين وأمامه ساحة الكونكورد البديعة التي تقدم وصفها، وقد أنفق عليها آل بوربون ألوفا مؤلفة حتى إن البرنس كونده وحده من أمراء تلك العائلة أنفق على زخرف هذا القصر عشرين مليون فرنك. دخلنا هذا القصر العظيم ومعنا واحد من عماله، واجباته تنحصر في مقابلة الزائرين ومرافقة المتفرجين، ورأينا قاعة الاجتماع، وهي قائمة على عشرين عمودا فيها التماثيل المتقنة الصنع تمثل القوة والحربة والأمن ومنصة الرئيس ويليها منصة أخرى يقف عليها الأعضاء حين يقومون للخطابة، ومقاعد للأعضاء لكل منهم مقعد خاص به، ومنضدة صغيرة توضع فوقها المذكرات، وأماكن خصت بالزائرين وبأصحاب الجرائد وبالسفراء، وغير هذا مما يراه المسافر في كل مجلس لنواب الممالك المنظمة. وأكثر أصحاب الذوق والعلم الذين يزورون باريس يحضرون جلسة أو أكثر من جلسات هذا المجلس العظيم بدعوة أو إذن من أحد الأعضاء، حيث يتدفق سيل الفصاحة من فم الفطاحل في السياسة وأرباب الخطابة وقادة الأفكار. وعلى مقربة من هذا المجلس منزل أنيق لرئيسه، ودار رحيبة فيها الآن وزارة الخارجية، وكلها تطل على شارع عظيم يعرف باسم الإنفاليد، وهو اسم قصر عظيم الشهرة في باريس أنشأه لويس الرابع عشر ملك فرنسا للعجزة والمقعدين من جنوده، وجعله واسع الجوانب يضم خمسة آلاف من هؤلاء العاجزين، وفيه الآن معرض كبير القدر والقيمة للسلاح على أشكاله من قديم وحديث، ولا سيما الذي استعمل منه في الحروب الفرنسية، والذي غنمته جنود فرنسا في حروبها العديدة من المدافع والسيوف وغير هذا كثير، وفيه من هذا القبيل أيضا 1500 راية غنمتها جنود فرنسا في معارك نابوليون الأول، وهي كلها محفوظة في ذلك القصر الفخيم، وسلسلة من الحديد متينة طولها 180 مترا استعملها العثمانيون في نهر الدانوب عند حصار فيينا في سنة 1683. وهنالك خزانات تحوي من أشكال الملابس القديمة لملوك فرنسا وفرسانها وأسلحة أبطالها ما يملأ وصفه المجلدات. وأهم ما في دار العجزة هذه عظام نابوليون الأول بطل فرنسا المشهور وأكبر قواد الأرض طرا في العصور الحديثة، نقلت من جزيرة القديسة هيلانه، حيت توفي هذا الرجل الكبير وبنيت فوقها قبة عالية مذهبة جوانبها ترى من عدة أماكن في باريس، وعليها بلاطة حمراء كتبت فيها أشهر وقائع هذا البطل، والناس يقصدون سراي الإنفاليد من كل صوب لرؤية قبر نابوليون، قل أن يأتي باريس فرد من الناس ولا يرى هذا الأثر العظيم، وهو منظر يشعر الواقف أمامه بعظمة الأثر الموجود فيه ويذكر عبر الدهر وغير الزمان.
ومن ذلك القصر سرت إلى «شان ده مارس»، وهو متسع من الأرض اشتهر في الأعوام الأخيرة؛ لأن المعارض العمومية أقيمت فيه، ومعظم استعراضات الحامية الباريزية تتم في بعض جوانبه، هنالك كان نابوليون الأول يستعرض جنوده حتى إنهم أطلقوا عليه إلى حين اسم ميدان نابوليون، ولما صار لويس فيليب ملكا لفرنسا بعد سقوط نابوليون حلف يمين الأمانة للدستور هو والوزراء وقواد الجيش والأساطيل ونواب الأمة في ذلك الميدان أيضا، فجروا بذلك على خطة قدماء الفرنسيس الذين كانوا يجتمعون من بعد أيام كلوفيس في هذا الموضع لسن الشرائع وتقرير الأمور العظيمة، وقد حدث في الشان ده مارس كثير غير هذا من الحوادث التاريخية يضيق المقام عن سردها.
ولما كانت المعارض قد أقيمت في شان ده مارس هذا كما تقدم، فإن أثر المعرض الأخير باق فيه إلى الآن، وأجل ما يذكر من هذه الآثار برج إيفل المشهور الذي يعد الآن من غرائب الصناعة، وأجمل آثار التمدن الحالي بني سنة 1888 و1889 للمعرض العام - كما علمت - برأي مهندس مشهور اسمه جورج إيفل، نال من حكومة بلاده وسام اللجيون دونور حين نجز العمل ونصب علم فرنسا على قمة هذا البرج الشاهق، وقد جعلوا علوه 300 مترا وألف قدم، وهو أعلى بناء في الأرض، يليه في العلو كنيسة كولون، وهي لا تزيد عن 159 مترا، والهرم الكبير وعلوه الآن 146 مترا وأكثره من الحديد، فإذا وزن حديده لم يقل ثقله عن 7 ملايين كيلو، وفيه 25 مليونا من المسامير وهو يشغل من الأرض عند قاعدته 16700 متر مربع، وقد جعل ثلاث طبقات يصعد إليها بدرج كثير أو بالآلة الرافعة، وهي المعول عليها عند الأكثرين، يمكن أن ينقل بواسطتها إلى الطبقة الأولى 2350 شخصا في الساعة، ومثلها للطبقة الثانية، و750 للطبقة الثالثة، ويمكن لعشرة آلاف نفس أن تجتمع في جوانب هذا البرج في آن واحد، ويستغرق الصعود والنزول بهذه الآلة 7 دقائق ما بين أسفل البرج وأعلاه، وفي رأسه نور كهربائي يظهر على بعد شاسع من جميع الجوانب، والرجل إذا وقف في الطبقة العليا منه رأى باريس وضواحيها تحت يده ولها منظر يسحر العقول. والبرج مبني على شكل هرمي، بمعنى أنه كثير الاتساع عند قاعدته ضيق عند رأسه، وفي كل طبقة من طبقاته غرف وقاعات واسعة للمطاعم والقهاوي التي يعد القعود فيها من أجمل أنواع النزهة. وهنالك أيضا محل للبريد ومخازن صغيرة تباع فيها الأشياء الجميلة تذكارا لزيارة البرج، وقد كانت جريدة الفيغارو المشهورة تطبع بعض أعدادها في الدور الأول من هذا البرج في سنة المعرض. وهو - بوجه الإجمال - من أجمل ما جادت به قرائح المهندسين، لا ريب أنه أكثر مشاهد هذا الزمان غرابة، وقد أقامته شركة نالت به امتيازا لمدة 21 سنة فجمعت نفقاته مدة المعرض، وكل إيراده في المدة الباقية ربح لها خالص؛ فإن عدد الذين صعدوا الطبقة الأولى منه في تلك المدة 1968287 والثانية 128323 والثالثة 579384، فمجموع ذلك أكثر من أربعة ملايين شخص في مدة ستة أشهر، وفي هذا من الإقبال العظيم ما لا يخفى.
وتجاه برج إيفل قصر بديع هو قصر تروكاديرو، سمي باسم قلعة في مدينة قادس ببلاد إسبانيا ملكها الفرنسويون سنة 1823، وقد بني هذا القصر لمعرض 1878 على شكل يقرب من المستدير ونسق شرقي فيه قاعة فسيحة يمكن أن يجتمع فيها ستة آلاف نفس، ولها قبة قطرها 58 مترا، ومتحف عظيم القيمة للحفر والنقش، جمعوا فيه من أبواب الكنائس والجوامع ومن أمثلة الحجارة المنقوشة ما يعسر عده، وقد نقلوا رسم أكثر النقوش المشهورة بالجص ووضعوا شكلها في هذا المتحف حتى إن زيارته تعد عند أهل النظر من أهم ما يجب على الزائر فعله في باريس. إلى هنا ينتهي بنا الكلام عن مشاهد باريس التي ترى في الطريق الذي اتبعناه، ولا يضيع معها الوقت، وقد اختصرنا في ذكرها كل الاختصار؛ نظرا إلى شهرتها الذائعة، وعدم افتقار الأكثرين إلى الإيضاح عنها؛ وعلى ذلك فنحن نتقدم الآن إلى وصف المشاهد الأخرى الكائنة في داخل المدينة.
وأحسن ما يكون للمتفرج على مشاهد باريس التي لم نذكرها بعد أن يبدأ من ميدان الأوبرا الكبرى؛ لأنها واقعة في مركز القسم الأهم من المدينة، وهي بناء فخيم عظيم اتفق الواصفون على أنه أحسن بناء للتمثيل والموسيقى في الأرض كلها، وأنه لو عدت الأبنية التي تؤثر في نفس الناظر إليها من خارجها وداخلها فوق تأثير الأبنية الأخرى لقال هي ثلاثة: الأوبرا في باريس والكنيسة المشهورة في ميلان وقصر المحاكم في بروكسل، وقد بنيت هذه الأوبرا الباريزية في وسط الشوارع الكبرى، وملتقى الدروب الشهيرة فهي نقطتها ومركز بهائها وعظمتها، بدءوا بها سنة 1867 فتم البناء سنة 1874، ولا حاجة إلى القول إن كل الذي يمثل بها من نوع الأوبرا المعروف، وهم ينتقون لها أكبر الممثلين والممثلات والمغنين والمغنيات، ولها من الحكومة الفرنسية إعانة من المال سنوية، فهي تحت مراقبة الحكومة إلى حد معلوم، ويعسر على القلم أن يصف جمال هذا البناء العظيم وآيات حسنه الغريبة، ولكن الذي يعلو عن غيره فيها قدرا وقيمة قاعتها الوسطى؛ حيث يتم التمثيل، وهي كلها أعمدة مذهبة ونقوش دقيقة ومقاعد فاخرة وسقوف تلمع وجدران تسطع، وأشياء بلغت الغاية القصوى من الإتقان والجمال، في كل موضع يصعد إليها الصاعدون على سلم غريب الوضع، صنعت درجاته من المرمر الأبيض، وفوقها سياج بديع من الرخام الأحمر وجدران من الرخام الأسود والأخضر والأزرق، فإذا ما صعد الداخل هذه الذرى رأى من كل جانب أناسا يصعدون وينزلون في الفروع الباقية من هذا السلم العجيب حتى إنه ليظن نفسه في بلاد الجن لا يدري لها جانبا من جانب، ويزيده ذهولا فخامة ذلك الموقع المذهب رخامه الساطع زجاجه، وفيه نخبة الرجال والنساء بأفخر الحلل وأنفس الملابس وأثمن الجواهر، ترى في النور الكهربائي فوق ذلك السلم البديع على شكل من الجمال يفتن القلوب، فيتمنى المرء لو تقضى أيامه في مثل ذلك الموضع العجيب، والناس يخرجون من قاعة التمثيل بين الفصل والفصل للتمشي في رواق ما وصف مثله الواصفون، كله رخام صقيل وبلور نضيد وذهب وضاح وأطلس نفيس ونقوش بلغت حد الإعجاز في عرف أهل الصناعة، وهو طويل متسع المجال تتفتل فيه القدود في تلك الفترات وتتورد الخدود وتكثر النظرات وتتهادى ربات الدلال بعجيب الأزياء، وبينهن الآيات البينات فينسى المرء في ذلك الرواق ماضي الحادثات ويقول سلام لباريس وما فيها من عجائب الكائنات.
فإذا ما انتهى الزائر من التمتع بنعمة النظر إلى هذه الأوبرا داخلها وخارجها، فما عليه إلا السير في طريق فخيم تجاهها يعرف باسمها (أفنو ده لوبرا)، وهو من أهم شوارع باريس، فيه من المخازن العظيمة والأبنية الجميلة عدد كبير، وفي آخره القصر الملوكي بناه الكاردينال ريشيليو الذي ورد ذكره في الخلاصة التاريخية سنة 1636، وأهداه إلى الملك لويس الثالث عشر، وكان الملك فيليب يقضي أكثر أيامه فيه بالإسراف والتبذير حتى إنه لما كثرت حاجته إلى المال بنى في القسم الأرضي من هذا القصر مخازن ودكاكين أجرها للتجار حتى يستفيد من أجرتها، ولم تزل هذه المخازن في جانب من القصر الملوكي إلى الآن، وهي أو أكثرها لباعة الحلي والجواهر، وقد كان من أمر هذه الدكاكين أن الرجل كاميل دي مولين الذي جهر بالعصيان ونادى بالثورة العظيمة قبل غيره كان من أصحابها، اشتد به العوز وهو يرى من فوقه إسراف الملك وذويه؛ فتبعه جماهير الناس إلى الباستيل - وهي قلعة قديمة كان أصحاب الذنوب السياسية يسجنون فيها بلا محاكمة - واستولوا عليها بعد جهاد عنيف، وكان ذلك يوم 14 يوليو من سنة 1789 فعد ذلك النهار بدء سقوط الاستبداد وقيام الحرية، وهو عيد الجمهورية الفرنسية إلى هذا اليوم، وعبث أهل الثورة بجزء من هذا القصر الملوكي في أيام ثورتهم ثم رد إلى حاله على عهد نابوليون الأول، وفي أيام لويس فيليب عادت إليه أبهة الملك؛ لأن الرجل جعله مقره مثل من تقدمه من آل بوربون، ولما ثار الفرنسيس ثورتهم الثانية في سنة 1848 دخلوا هذا القصر مرة أخرى ودمروا بعضه، ثم أعيد إلى حاله وأقام فيه البرنس نابوليون ابن عم نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا حتى إذا عاد الناس إلى الثورة بعد حرب 1870 دخل جماعة الكومون الثائرين هذا القصر وأحرقوا منه جانبا كبيرا، ومن ذلك الحين قلت أهميته.
وإذا سار المرء من هذا القصر توا إلى ناحية النهر وصل شارعا كبيرا من أهم شوارع باريس هو شارع ريفولي، أطلق عليه هذا الاسم تذكارا لمعركة ريفولي التي سحق فيها نابوليون الأول قوات النمسا في سنة 1797، بدءوا بناءه سنة 1802 على عهد نابوليون فما تم إلا في سنة 1865 على عهد ابن أخيه الذي صار إمبراطورا باسم نابوليون الثالث، وطوله الآن ثلاثة آلاف متر، كله قناطر بديعة الصنع من أحد الجانبين، وتحت القناطر طريق عريض للمارة ومخازن متنوعة الأشكال ومكاتب لأصحاب الأعمال الخطيرة، وإلى الجانب الآخر حدائق التولري، وغير هذا من مشاهد باريس المعروفة، وهنالك وزارة المالية وهي بناء واسع الجوانب كثير الأقسام، ومخازن اللوفر المشهورة يعرف اسمها كل من اشترى بضاعة فرنسية، وفيها جميع ما تطلبه النفس حتى إن عدد الموظفين من عمال هذه المخازن لقبض الأثمان من المشترين ثلاثون رجلا، ومن هذا يتضح أهمية هذه المخازن وجسامتها للقارئ الكريم.
ويقرب من هذه المناظر متحف اللوفر المشهور، يلزم لوصفه كتب ومجلدات ضخمة ولا يمكن رؤية كل ما فيه إلا بقضاء زمن طويل؛ لأن البناء واسع عظيم يضيع الخبير في جوانبه وله طبقات ثلاث، في كل منها ما يحير العقل من أنواع التحف والآثار والنقوش والرسوم، ولو أردت استقصاء النظر البسيط في بعض ما تقع عينك عليه لزم لك على الأقل أسبوعان، ولطالما أحس المتفرجون على هاتيك الرسوم البديعة بتعب في أعناقهم من كثرة التطلع إلى المشاهد التي لا عد لها في هذا المتحف، ولا يمكن لنا الكلام عنه هنا إلا بمثل هذا الإجمال؛ لأن الإسهاب يملأ كتبا برمتها ولكننا نكتفي بالقول إن هذا القصر العظيم كان في أوله مسكنا لملوك فرنسا بدءوا في بنائه سنة 1541 ووسعوه جيلا بعد جيل، وكان آخر ملك زاده حسنا الإمبراطور نابوليون الثالث؛ فإنه وصله بقصر التولري الذي أعده لسكنه حتى بلغت مساحة القصرين في عهده 195000 متر مربع، وخرب جزء من التولري في ثورة الكومون بعد انكسار الإمبراطور في الحرب ، فلم تهتم الحكومة الجمهورية لإصلاح القصر، ولكنها أبقت بعض محاسنه أثرا جليلا واهتمت للحديقة فجعلتها من متنزهات باريس المشهورة تنتابها العائلات في وقت الفراغ، ويضرب المثل بما فيها من الحسن والإتقان، وهي تمتد من عند القصر المذكور فشارع رفولي حتى ساحة الاتحاد، ولمنظر أزهارها وبركها تأثير في النفس شديد قلما يرى السائح نظيرا لها في قلب العواصم الكبرى، ولكن في الباريزيين من لم يدخلها؛ لأن المدينة ملأى بالملاهي ومجلبات السرور.
والقسم الأسفل من متحف اللوفر أكثره للآثار القديمة، وفيه القسم الشرقي بكل غرائبه وهو أقسام، منها ما هو للآثار المصرية، ومنها بعض للآثار الرومية أو الرومانية أو الفارسية أو الآشورية أو غيرها من الممالك القديمة يصل المتفرج من بعضها إلى بعض بطرق متعرجة تدله إليها كتابات رقمت فوقها. وهنالك التماثيل البديعة من صنع القدماء أجملها تماثيل آلهة اليونان من مثل منرف إلهة الجمال عندهم، وهو أجمل ما وجد إلى الآن من رسم هذه الآلهة وجد في جزيرة ميلو الرومية، واشترته حكومة فرنسا بستة آلاف فرنك من أحد الفلاحين، وفي هذا القسم ما يمثل تاريخ الرومانيين برسوم مشاهيرهم ومواقعهم، ويعيد إلى الذهن ذكر قوة الآشوريين وعظمة المصريين قبل أيامنا بآلاف من السنين بما يرى المتفرج من تماثيل ملوكهم وتحف صناعاتهم وجميل نقوشهم وثمين كتاباتهم على الحجر وأجسام كبرائهم المحنطة، وغير هذا شيء يدركه كل من دخل متحفا للآثار القديمة، ولا يقاس به متحف الجيزة المصري؛ لأنه قاصر على الآثار المصرية، وأما اللوفر وما كان على شكله من متاحف أوروبا فإن آثاره تشمل جميع الممالك المعروفة قديما وحديثا.
وفي الدور الأعلى قسم الرسوم البديعة، وهي تزيد عن ثلاثة آلاف رسم، بعضها تقدر قيمته بعشرين ألف جنيه أو ما يزيد عن هذا الثمن، وفي متحف اللوفر هذا صور شتى لمهرة المصورين الفرنسويين وغيرهم، بينها كثير لروفائيل المشهور، ومنها صور للمصور ميسونيه الفرنسوي الذي توفي من عهد قريب، ثمن الصورة الواحدة منها عشرة آلاف جنيه أو أكثر. ومن هذا يعلم مقدار ما في هذا المتحف من النفائس التي تقدر قيمتها بالملايين. من هذه الرسوم صورة يوم القيامة وصورة ابنة فرعون تنشل موسى من ضفة النيل وصورة كليوباترا ملكة مصر المشهورة، وصور دينية تمثل حوادث الإنجيل والتوراة أو ترسم خيالات المصورين على أشكال فائقة الجمال شديدة التأثير، هذا غير صور المعارك والحوادث التاريخية في البر والبحر، وهي كثيرة العدد وافرة الإتقان. وهنالك رواق عظيم القدر والقيمة اسمه رواق أبولون وضعت فيه نفائس التحف وغوالي الجواهر التي جمعها ملوك فرنسا القدماء، واستولت عليها الحكومة الجمهورية بعد سقوطهم فباعت مقدارا كبيرا منها في سنة 1887، وأبقت هذا البعض في متحف اللوفر أثرا من الآثار التاريخية الجميلة، وبينها حجارة ثمينة وحلي باهرة، وسيف لنابوليون الأول مرصع بحجارة من الألماس لا يقل ثمنها عن مليوني فرنك، وغير هذا شيء كثير.
وليس ببعيد كثيرا عن اللوفر ساحة فاندوم، فيها عمود بهذا الاسم، والاسم بالأصل خص بالبرنس فاندوم ابن الملك هنري الرابع بنى فيه هذا الملك قصرا لابنه المذكور، وفي محل القصر اليوم فنادق عظيمة، وقد نصب فيه نابوليون الأول العمود المذكور وارتفاعه 43 مترا على قواعد من النحاس والبرونز أصلها 1200 مدفع غنمها نابوليون في حروبه العديدة، وكتب على جوانب العمود وقاعدته تاريخ بعض المعارك ورسومها.
ولا بد للزائر في باريس من مشاهدة حديقة النبات العظيمة، وهي للنبات والحيوان معا، فيها من غرائب التاريخ الطبيعي لهذه الموجودات الحية ما تزيد لذة التفرج عليه عن كل لذة؛ لأن هذه النباتات والحيوانات والطيور والزحافات والأشكال الحية الأخرى جمعت في تلك الحديقة من جميع جهات الأرض، وأنفق على جمعها المال الكثير، وفيها بناء لتعليم التاريخ الطبيعي يضم 200 شخص يتلقون الدروس، وهي تشغل من الأرض ثلاثين هكتارا، ولها شهرة ذائعة في كل أوروبا.
ومن هذه الغرائب أيضا معمل جوبلين للطنافس النفيسة وهو ملك للحكومة الفرنسية يعمل به مهرة الصناع الذين تلقوا عن آبائهم سر الصناعة بالإرث ولا يعرفه سواهم، ويخرج من ذلك المعمل طنافس وبسط كثيرة الجمال عجيبة الصنع يباع البساط منها بخمسين ألف فرنك وستين ومائة ألف، وأكثر ما يصنع هنالك يشتريه الأغنياء أو تبتاعه الحكومات، ويهدى إلى الملوك والأمراء والمتاحف العظيمة، ومن أجمل الطنافس التي رأيتها من صنع هذا المحل واحد رسمت عليه صورة كارنو رئيس الجمهورية الأسبق، وقد وضع في البانتيون، والبانتيون هذا كنيسة قديمة لها قبة عالية ترى من أنحاء كثيرة في باريس، ولها 22 عمودا فخيما تحيط بخارجها، وقد خصت في هذه الأيام الأخيرة بمدافن القواد والعظماء لا بد لكل من يزور باريس أن يقصدها ويتفرج على آثار الذين شادوا للدولة الفرنسية فيها آثار العز والفخر، وأكثرهم من قواد الجمهورية الحالية والجمهورية الأولى، ورأينا بينهم اسم كارنو الأول وكارنو الثاني الذي ذكرناه ومكماهون وروسو وفولتير والفتاة جان دارك، وغير هؤلاء من أركان الدولة الفرنسوية في كل زمان.
ثم إنك إذا عدت إلى ميدان الأوبرا الذي جعلناه مركزا عاما للمتفرج وسرت إلى ناحية الشمال الغربي في شارع 4 سبتمبر وصلت موضعا كثير الشهرة في باريس هو البورصة أو نقطة الحركة المالية في هذه العاصمة ومحل الاتصال بمتاجر الأرض ومصارفها وأموالها، حيث يجس الماليون نبض الممالك وتجري الألاعيب المالية الكبرى التي تقود الوزراء إلى انتهاج النهج الموافق لأصحاب المال، فصار المال الآن عقدة السياسات الأوروبية، والماليون هم أصحاب الحل والعقد في أكثر الأمور الخطيرة. ولا يعجبن القارئ إذا قلنا له إن بورصة باريس وبنك إنكلترا في لندن هما أهم مراكز السياسة ومقر الحركة التي تدير أعمال الممالك، فإن في بورصة باريس وحدها تباع أسهم الدين الفرنسي وتشرى، وهي تزيد عن 32 مليار فرنك أو نحو ألف ومائتين وخمسين مليونا من الليرات الإنكليزية، وعندهم أسهم من ديون الممالك الأخرى بمثل هذا المقدار أو ما يقرب منه، وأسهم السكك الحديدية والمجلس البلدي وغير هذا مما تقرب قيمته أيضا من مجموع الديون على الحكومة الفرنسية، فهم يقبلون بين أيديهم أوراقا وقراطيس بألوف الألوف، ولا عجب إذا أرادوا سياسة الممالك بإصعاد هذه القراطيس وإنزالها، ولا غرابة في القول إن الأرض لأصحاب المال يديرون شئونها على ما يوافق مصلحتها.
ومما يذكر كنيسة نوتردام، وهي أكبر كنائس فرنسا وأشهرها، فيها من الرسوم المنزلة على الزجاج ما تقدر قيمته بعشرات الألوف ومئاتها، والناس يقصدونها من كل جانب للتفرج على غرائب بنائها ونفيس تحفها، وليس بعيدا عنها إلى الجهة الأخرى من النهر قصر كلوني، كان في سابق الزمن مقرا لبعض الملوك، وفيه الآن متحف للآثار الثمينة أكثرها من الذهب والفضة، وبينها عدد كبير مرصع بالجواهر الغالية وصوان غريبة ومفروشات فاخرة وأحذية مزركشة وأجواخ مقصبة وأزياء قديمة يعمد إليها أرباب الزي في بعض الأحايين وينقلون عنها رسوما يذيعونها في بعض المدائن ويدعون أنها زي حديث فيتهافت الناس على استعماله.
ولا بد من القول هنا إن استيفاء الوصف يتعب القارئ؛ فإن في باريس شيئا كثيرا لم نذكره بعد، مثل قصر لكسمبرج، وهو بني في أيام فرانسوا الأول، وصار الآن ندوة لمجلس الشيوخ، ومجلس البلدية على مقربة من السين، وهو قصر عظيم قديم العهد من داخله، ولكن أكثر جوانبه الخارجية جددت على النسق الحديث، وله شهرة كبرى في تاريخ الثورات الفرنسية؛ فإنه كان مقرا للأحزاب الجمهورية في أكثرها، ومنها قصر الإليزه؛ حيث يقيم رئيس الجمهورية حالا، وبابه في شارع سانت أونوريه وهو من المنازل العظيمة، ولكنه ليس على شيء من جمال المنازل التي شادها ملوك فرنسا القدماء في ضواحي باريس. ومن الأبنية التي تستحق الذكر بعض الفنادق الكبرى، وذكرنا بعضها والمخازن العظيمة، مثل مخازن اللوفر التي وصفناها، ومخازن بون مارشيه ومخازن البرنتان وغيرها، والمراسح وأشهرها الأوبرا والتياترو الفرنسوي، وقد ذكرناهما، ومنها مرسح الفودفيل والأوديون والجمناز والأوبرا كوميك، وغير هذا مما لا يدخل تحت حصر.
هذا بعض ما تلزم رؤيته في داخل باريس، وأما الضواحي فلا يخفى عن القارئ أنه ليس في الأرض عاصمة تفردت بكثرة الضواحي البهية مثل فرنسا، وأشهر هذه الضواحي: «فرسايل» وهي مدينة صغيرة لا يزيد عدد سكانها عن ستين ألف نفس، بدأت شهرتها على عهد الملك لويس الرابع عشر الذي جعلها مقره الرسمي مدة الصيف، وبنى فيها هو وبعض الذين خلفوه في الملك قصورا لم تزل إلى الآن أفخم ما شاد الملوك الأوروبيون وأكثرها بهجة وغرابة، فإن القصر العظيم الذي يقصده السياح من كل جانب يبلغ طوله 415 مترا، وفي حديقته الواسعة 600 بحيرة وبركة يتدفق منها عشرة آلاف متر مكعب من الماء يرد إليها بالآلات البخارية من مواضع بعيدة، ولا تقل نفقة إخراج الماء من هذه الأنابيب كل مرة عن ثمانية آلاف فرنك أو عشرة، فهم يعلنون عن موعد تدفق المياه في حديقة فرسايل في جرائد باريس، ويكثر أن يكون ذلك في الشهر مرتين فيتقاطر الناس أفواجا لمشاهدة ذلك المنظر البديع، وقد صرف على هذا القصر وحديقته الموصوفة ملايين واشتغل في البناء 26000 شخص، وأجهد الصناع قرائحهم في زخرفه وتحسينه حتى إنك إذا دخلت قاعاته الواسعة شعرت في الحال بعظمة الذين شادوه، ولطالما رأت هذه القاعات فخرا وعزا - ولا سيما على عهد الملك لويس الرابع عشر - ولكنها صارت مرسحا للخلاعة والفسق على عهد لويس الخامس عشر، وهو الذي جمع فيها حظياته، مثل مدام بومبادور وسواها، ومهد بتهتكه السبيل للثورة العظيمة التي هب الناس لها في عهد خلفه لويس السادس عشر المنكود الحظ.
ولما كان هذا القصر الآن مشهدا عاما جمعت فيه الأدلة على فخر فرنسا وقوتها السابقة، فلا بد أن يحزن المتفرج إذا فطن إلى أن البروسيين اجتمعوا بكل قوتهم في هذا المكان، وتوجوا ملكهم ولهلم الأول إمبراطورا لألمانيا كلها في قصر ملوك فرنسا سنة 1871، فهناك الرسوم العديدة تدل إلى انتصار فرنسا على الألمانيين وسواهم ولا سيما في عهد البطل نابوليون الأول، ويمكن للمتفرج اللبيب أن يدرس تاريخ فرنسا كله من الرسوم المجموعة في قاعة الحروب بقصر فرسايل هذا؛ فإنها تمثل حالة فرنسا وحروبها من أيام شارلمان إلى عهد نابوليون، وقد قسمت هذه الرسوم حسب تاريخها ومواضيعها في غرف خاصة بها، فإن صور الحروب الصليبية مثلا وضعت في قسم خاص بها، وصور حرب القرم كذلك، ومعارك نابوليون المشهورة في قسم آخر وحرب الجزائر، وغير هذا مما يمكن أن يقف الواحد أمام الصورة منه ساعة أو ساعتين وهو يتأمل ما فيها وما تشير إليه من الحادثات الكبرى، فالناس الذين يتقاطرون على فرسايل لمشاهدة حديقتها وقصرها وهذه الرسوم يعدون بعشرات الألوف. ومما يذكر بين غرائب هذا القصر قاعة الزجاج لها 17 نافذة كبرى، بين كل نافذة ونافذة مرآة كبيرة تنعكس عليها صور المتفرجين والرسوم الجميلة في سقف القاعة، ومنظر بعض الحديقة فيتكون من مجموع هذه المناظر ما يعسر على الواصف وصفه ولا سيما إذا كانت المياه تتدفق من البركة الكبرى، وهي تصعد على ألف شكل وشكل، بعضها يتموج وبعضها يتعرج وبعضها يشق الفضاء شقا، وبعضه يخرج على مهل وبعضه ضيق الدائرة وبعضه واسعها، وفي بعض الأحايين يلونون الماء بألوان تسحر الناظرين في الليل، فإذا تمشى الزائر بين أزاهر الحديقة وخضرتها النضرة وكانت المياه على ما وصفنا والناس على اختلاف الأجناس يتمشون أمامه، زال على قلبه الهم ونسي كل ما يوجب الفكر والغم.
وعلى مقربة من هذا القصر العظيم في فرسايل قصران آخران، يعرف أحدهما باسم قصر تريانون الكبير والثاني باسم تريانون الصغير، فأما الأول فإنه بناه لويس الرابع عشر لإحدى حظياته، وأشهر ما فيه الآن عربات قديمة فاخرة استعملها ملوك فرنسا الأول في الحفلات الرسمية، وأكثرها من أيام بونابارت، وعربات أخرى كثيرة الزخرف استعملها الأمراء والسفراء في أيام نابوليون الثالث، وهي من الآثار الجميلة، وأما التريانون الصغير فبناه لويس الخامس عشر، وكان مقرا لبعض أفراد العائلة المالكة، وله حديقة جميلة تفتح كل يوم ويقصدها المتفرجون. وفي القصرين رسوم وآثار تدل على الحوادث الماضية في تاريخ فرنسا نكتفي بالإشارة إليها هنا؛ لأن وصفها لا يزيد عن وصف الذي تقدم ذكره من أمثالها.
ويذكر بين هذه الضواحي البهية سان جرمين، وهي أيضا كانت من مصايف ملوك فرنسا في زمان عزهم، تبعد 18 كيلومترا عن باريس، ويسار إليها بالترامواي البخاري من ميدان الكوكب الذي مر وصفه، فيمر المسافر بأشهى الحقول وأجمل المناظر في طريقه، منها منظر السين وغابات الكستناء إلى جانبه، ومنها بلدة نولي اشتهرت بكنيسة لها على اسم القديس فردنان، وقد بنيت موضع سقط الدوك دورليان (وكان اسمه فردنان) ابن الملك لويس فيليب من عربته، وقضي الأمر بوفاته سنة 1842، وهنالك مساكن كثيرة لبعض الكبراء من سكان باريس. وفي هذا الطريق بلدة مالميزون، وهي التي لجأت إليها جوزفين قرينة بونابارت الأولى بعد أن طلقت من زوجها، وقضت نحبها في قصر أعد لها سنة 1814، وكان من أمر نابوليون أنه لما سقط من شاهق عزه بعد معركة واترلو قصد هذا القصر قبل سواه وأطال الفكر في أيام اقترانه بجوزفين وحبها له، ثم سافر منه إلى إنكلترا؛ حيث سلم نفسه لدولة الإنكليز وكان من أمره ما كان، وفي سان جرمين متحف للآثار المعدنية من النحاس والحديد والفضة والذهب، وهي تزيد عن ثلاثين ألف قطعة مرتبة في خزائن ورفوف جميلة من داخل الزجاج، وفيها خلاصة تاريخ فرنسا على هذه النقود والآثار. والذين ينتابون هذا المعرض كثار، في جملتهم عدد يذكر من السيدات الأميركيات تدور فيه الواحدة منهن متأملة قطعة وبيدها كتاب تدرس فيه حكاية كل ما تراه، وهذا شأن أكثر السائحات من الإنكليز والأميركان.
ومن هذه الضواحي سان كلو، ولها أيضا شهرة ذائعة يوصل إليها بالترامواي الكهربائي من عند متحف اللوفر ويمر القطار في أحسن البقاع وأبهى الضياع، وفيه سان كلو قصر فخيم كان الإمبراطور نابوليون الثالث يقضي بعض الصيف فيه، وقد أصاب القصر المذكور ضرر كثير من مدافع الجيش البروسي في حرب سنة 1870، وفي سان كلو أيضا مناظر فائقة الجمال ومنازل للأغنياء من سكان باريس أو من الذين يعملون فيها مدة النهار ويستريحون بقية يومهم في هذه المساكن البديعة، وكثيرا ما يصل إليها الرجال والنساء مشيا على الأقدام من باريس بقصد التنزه أو جريا على ذات العجلتين المعروفة باسم بيسكل أو في العربات؛ لأن منظر هذا الموقع من أحسن ما يمكن أن تكتحل بمرآه العين، ويمكن الرجوع في نهر السين عن طريق سيفر، وهي على مقربة من سان كلو واقعة إلى ضفة السين، وفيها معمل الفخار الصيني الفاخر المعروف باسم سيفر، يزوره الناس كثيرا لشهرته، ويباع بعض الذي يصنع فيه بألوف من الفرنكات ثمن كل قطعة، ولباريس غير هذه من الضواحي الجميلة ما نرى أن الاقتصار عن ذكره أولى لكثرته، لا سيما وأننا قد أسهبنا في وصفها، وذكرنا عنها أهم ما يجب ذكره فنتركها الآن ونتقدم إلى سواها.
بوردو
لما انتهيت من الإقامة في باريس العظيمة قصدت السفر إلى بلاد البورتوغال، وعرجت في طريقي على مدينة بوردو الشهيرة، وهي من أهم المدائن الفرنسوية، عدد سكانها ثلاثمائة ألف نفس، وهي واقعة على ضفة نهر غارون تبعد نحو 58 ميلا عن مصبه في الأوقيانوس الأتلانتيكي، وقد كانت من المدن التي استولى عليها الرومانيون في عهدها القديم، ثم ملكها العرب وسموها بردال وفتحها الإنكليز سنة 1152 فعادت إلى فرنسا في سنة 1451، ومن ذلك العهد جعلت تتقدم وتنمو حتى صارت إلى درجتها الحاضرة من الأهمية والعظمة، وهي لها مينا عظيم واسع ترسو به الباخرات الكبرى وتنقل إلى شاسع الأقطار مصنوعات بوردو من الورق والمنسوجات والأسماك المقددة، وأشهر من هذا كله خمر بوردو المعروفة، وهي من ألذ الخمور وأفخرها، لا يعرف الناس طريقة صنعها إلا في ثلاثة معامل في مدينة بوردو هذه، ويصدر من معاملها نبيذ بقيمة 12 مليون جنيه في السنة.
وكان في بوردو يوم دخلناها معرض مثل معرض أمستردام الذي ذكرناه فدخلناه، وكان محافظ مدينة لندن قد عول في ذلك اليوم على دخول المعرض أيضا، والناس يستعدون لقدومه وملاقاته، وصعدنا في المعرض أعلى برج جميل وضع في رأسه النور الكهربائي فيرى الناظر من أعلاه مدينة بوردو بكل أجزائها، ولها منظر يذكر وحركة تجارية أهم من منظرها وأشهر.
وكانت بوردو هذه آخر مدائن فرنسا العظيمة التي زرناها في هذه السياحة فتركتها قاصدا إتمام السفر إلى بلاد البورتوغال على مثل ما تقدم، وسوف ترى الكلام عن غير هذا من مدائن فرنسا في فصل قادم من فصول هذا الكتاب.
البورتوغال
خلاصة تاريخية
إن بلاد البورتوغال تعد من حيث موقعها الطبيعي جزءا من إسبانيا، كانت مملكة واحدة معها مدة من الزمان، واختلط تاريخ الأمتين إلى أن استقلت بلاد البورتوغال، وصارت مملكة ذات شأن في أواسط القرن السابع عشر؛ ولهذا فإن كثيرا مما يذكر عن تاريخ هذه البلاد تراه في الفصل القادم عن مملكة إسبانيا المجاورة لها، هذا غير أن الأمتين من أصل واحد وأميال واحدة، وأن العرب استولوا عليهما في زمن واحد فالأسماء العربية تكثر في البلادين كما ترى بعد.
ولقد كان الرومان أول من دخل بلاد البورتوغال وفتحها، وهم الذين أطلقوا عليها اسم لوزتانيا، ولقوا من أهلها عنادا وبسالة في الدفاع عن استقلالهم، وكان أهل فينيقية وقرطاجنة قد وصلوا البورتوغال ونقلوا إليها الأبضعة من قبل الفتح الروماني، إلا أن ذلك لم يؤثر في حالتها كثيرا، وظلت هذه البلاد خاضعة لمملكة رومة من سنة 140 قبل التاريخ المسيحي على حين سقوط المملكة الرومانية، فتوالت على لوزتانيا - أو هي بلاد البورتوغال - هجمات القبائل المتبربرة التي كثر شرها في تلك الأجيال، وظلت في حرب مستمرة معها ومع من يجاورها حتى جاءها العرب وأخضعوها مع أكثر الولايات الإسبانية في القرن الثامن، وسيأتي ذكر العرب في الأندلس عند الكلام على إسبانيا.
على أن أهالي إسبانيا لم يسكتوا عن محاربة العرب من بعد هذا الفتح؛ فإنهم ظلوا يناوشونهم ويسترجعون منهم الأراضي شيئا بعد شيء، وكانت بلاد البورتوغال الحالية في جملة الأراضي التي أعيدت إلى قبضة الملوك المسيحيين من أهل كاستيل وليون، وهم لم يخضعوا للعرب خضوعا تاما في زمن من الأزمان، حتى إن ألفونسو السابع ملك ليون وكاستيل وهب في سنة 1095 الأراضي الواقعة بين نهري تاج ومنهو لقريبه هنري أمير بورغونيا ووهبه أيضا مدينة بورتو، فجعل هنري هذا قصبة حكمه في بورتو المذكورة، ومن ذلك العهد أطلق على البلاد اسم بورتوغال - أي بلد بورتو - ولما مات هنري البورغوني وخلفه ابنه ألفونسو استبد بالملك، وصار ملكا مستقلا للبورتوغال، فكان ذلك بدء إنشاء المملكة.
وظل آل بورغونيا حاكمين في بلاد البورتوغال من سنة 1139 مسيحية إلى 1385، وكانوا في تلك المدة أكبر أعداء العرب، حاربوهم في عدة مواقع مشهورة وردوا غاراتهم المتوالية، ثم أضافوا إلى مملكتهم شرقا وغربا حتى أوصلوها إلى حدود البورتوغال، وتقدمت تقدما عظيما ولا سيما في المتاجر والأسفار البعيدة، ولم يقم بين أمم أوروبا بعد أمة صغيرة مثل الأمة البورتوغالية، لها فضل على العالم المتمدن بما فعل رجالها من السفر إلى أبعد الأقطار واكتشاف الممالك العظيمة والمجاهل العديدة في أفريقيا وآسيا والبحر المحيط؛ فإن الأوروبيين كانوا يعتقدون أن المنطقة الحارة من أفريقيا لا يسكنها البشر من بعد الدرجة 39 شمالا، فلما نهض البورتوغاليون في أيام الملك يوحنا في بدء القرن الخامس عشر، دارت سفنهم في البحار تحت قيادة الأمير هنري ابن الملك المذكور؛ فاكتشفت شطوط أفريقيا الشرقية وجزيرة مديرا التي يصدر منها الخمر المعروف باسمها، وهي كثيرة الشهرة، وكان البرنس هنري هذا أول من زرع الكرم القبرسي فيها وعمرها بقومه البورتوغاليين، وتلا هذا الأمير كثار من أهل الإقدام ودخلوا بلاد جينيا المشهورة بتبرها والعاج، وتجاوزوا حدود الأولين، حتى قام المستكشف المشهور فاسكو دي جاما سنة 1497 ووصل بسفائنه رأس الرجاء الصالح، وهو الذي أطلق عليه هذا الاسم، ثم دار من حوله وزار بعض شطوط أفريقيا الشرقية وخليج فارس، وسار من هنالك إلى بلاد الهند فوصل مدينة كلكتا، فكان هو أول أوروبي رأى تلك الديار، ولما عاد إلى بلاده ومعه من الهند وأفريقيا وشطوط العرب والعجم دلائل الغنى والحاصلات الثمينة، اندفع البورتوغاليون إلى الاكتشاف والاستعمار اندفاعا لا مثيل له، وملكوا قسم ملابار من بلاد الهند، وجعلوا مدينة جوا قاعدة أملاكهم الهندية، ثم توسعوا في ذلك فملكوا جزيرة سيلان وبعض سيام وملقا وتقدموا إلى الصين، وكان أهل أوروبا لا يعرفون عنها شيئا إلى ذلك الحين لولا حكاية رجل من أهل البندقية اسمه ماركو بولو، وصل في أسفاره إليها وروى عنها بعض الغرائب، فأسس البورتوغاليون مستعمرة في ماكاو ببلاد الصين، ومنها وصلوا اليابان، وكانوا أول أمة أوروبية خالطت هذه البلاد الشرقية العظيمة ونقلت منها وإليها المتاجر، ونالت الامتيازات التي جمعت من ورائها مالا كثيرا.
ذلك زمان العز ما رأت بلاد البورتوغال مثله؛ فإنها بعد أن تمتعت به وكانت تعد أولى الدول الأوروبية زاحمها الهولانديون وكسروا شوكتها بتغلبهم على سفنها في البحر واغتصاب الكثير من أملاكها، ثم تقدم عليها ملوك إسبانيا وضموها إلى مملكتهم فضاع مجد هذه الأمة من بعد ذلك العز، وظلت البورتوغال خاضعة لملوك إسبانيا إلى سنة 1640 حين قام أمير براغانسا وأعاد الاستقلال للبلاد وصار ملكا عليها ومؤسس دولة براغانسا المشهورة، وكان له وزير عاقل اسمه بومبال ساعده على إنماء ثروة البلاد وإرجاع أملاكها القديمة، فأعيدت برازيل في أميركا الجنوبية والمستعمرات الأفريقية إلى حوزة البورتوغال في أيامه.
مانويل ملك البورتوغال.
وتوالى الملوك من آل براغانسا بعد ذلك فلم يحدث ما يستحق الذكر في أيامهم حتى أوائل هذا القرن حين قام نابوليون الكبير، واشترط على البلاد أن تجافي إنكلترا وتمتنع عن قبول البضائع من التجار الإنكليز، وكان ذلك بعض سياسته في قهر إنكلترا وإخضاعها فأبى ملك البورتوغال أن يجيب هذه المطالب؛ ولذلك أرسل عليه نابوليون جيشا جرارا تحت قيادة المارشال جونو لم يقو على رده؛ فاضطر إلى الفرار مع عائلته ونجا إلى بلاد برازيل، وهي يومئذ من أملاك البورتوغال، ولكن الجيش الفرنسوي لم يملك هذه البلاد طويلا، فإن إنكلترا أرسلت وراءه جيشا تحت قيادة ولنتون القائد المشهور انتصر على الفرنسويين وطردهم من البلاد وألف جيشا وطنيا ضباطه إنكليز، حتى إذا جاءت سنة 1821 عاد الملك يوحنا واستلم مهام الملك في بلاده على حين كثرت متاعبها والقلاقل، وانتهزت بلاد برازيل هذه الفرصة فنادت بالاستقلال، وأقامت الأمير بدرو ابن الملك يوحنا المذكور إمبراطورا عليها، وظلت على ذلك إلى عهد قريب حين صارت جمهورية مثل كل دول أميركا الشمالية والجنوبية، وعند وفاة الملك يوحنا استدعي ابنه إمبراطور البرازيل للملك على البورتوغال؛ فآثر البقاء في مملكته الجديدة، ونصب ابنته الدونا ماريا ملكة، ومن ذلك الحين كثرت القلاقل في المملكة ووقفت حركة الأعمال، ولكن المستعمرات التي بقيت في حوزتها لم تضع منها وهي باقية لها إلى الآن، بعضها في الهند - وهو لا يذكر - والبعض في أفريقيا الجنوبية عند أملاك الإنكليز.
ولما مات الملك بدرو الخامس سنة 1861 كانت المملكة قد عادت إلى حالها الأول من حيث الهدوء وانتظام الأعمال وعقدت محالفة مع إنكلترا جعلت النفوذ الإنكليزي في لسبون وتوابعها فوق كل نفوذ وخلف بدرو ابنه لويس الأول في السنة المذكورة، وكان رجلا حازما عاقلا كثير الميل إلى الخير والإصلاح فوطد أركان دولته، وعرض عليه تاج إسبانيا فرفضه؛ لما يعلم من تقلب الإسبانيين وكثرة الثورات في بلادهم. ومات الملك لويس سنة 1889، فخلفه ابنه كارلوس الأول اقترن بكريمة الكونت دي باري وارث ملوك فرنسا القدماء، وهي الملكة إملي المشهورة بالمحاسن والفضائل فرزق الملك منها ولدين، أصغرهما هو الملك مانويل الحالي والكبير قتل مع أبيه في حادثة لسبون الشهيرة، وتفصيلها كما سيجيء: كان الملك والملكة وولداهما راجعين من نزهة في يوم 2 فبراير من سنة 1908، فلما بلغت بهما العربة ميدانا يعرف باسم ساحة التجارة، تقدم أحد الواقفين وجعل يعدو وراء العربة الملوكية ويطلق الرصاص عليها، فأصاب الملك برصاصتين أودت إحداهما به في الحال، وعند ذلك هبت الملكة إملي وصاحت صيحة عظيمة ورمت القاتل بباقة من الزهر كانت في يدها، ووقفت أمام أولادها؛ لأن الرجل كان مصرا على قتلهم جميعا لولا أن بادره أحد الجنود بضربة من سيفه قضت عليه في الحال، وعند ذلك تقدم رجل آخر وتبع العربة برصاصه وساعده في ذلك كثيرون من الذين كانوا واقفين هنالك بالمرصاد لهذه الغاية؛ فأصيب ولي العهد أيضا برصاصات قاتلة، وأصيب أخوه الأصغر بجراح غير خطرة، ولولا تكاثر الحراس لقتلت عائلة الملك كارلوس عن آخرها، ثم نقل الجرحى في الحال إلى الترسانة وهي أقرب موضع يمكن التداوي به من مكان الحادثة، ولكن الملك مات قبل وصوله وولي العهد بقي نحو ساعتين في حالة النزع ثم مات أيضا، والملكة بين الاثنين في حالة من الحزن تفتت الأكباد ويعسر وصفها على الكاتبين، وعقد في الغد مجلس النظار فنودي بالملك مانويل بعد أعمال إدارية وحكمة لولاها لانقلبت الحكومة وضاع الملك من آل براغانسا؛ لأن حزب الجمهورية قوي في بلاد البورتوغال، وكان لحادثة لسبون هذه تأثير شديد جدا في سائر الأقطار، وكان حزن الملوك والكبراء وعامة الناس على كارلوس وابنه بالغا وعطفهم على الملك الحالي ووالدته عظيما إلى النهاية، وكان سن الملك مانويل يوم ورث أباه 19 سنة، وهو يعد بالغا سن الرشد في قانون البورتوغال.
لسبون
هي عاصمة البورتوغال، واسمها عند العرب لشبونة، جئتها من بلاد فرنسا على ما علمت في فصل تقدم، هذا وكان سفري في باخرة كبيرة من بواخر الأتلانتيك تمر على شطوط البورتوغال وتذهب منها إلى عكره، وهي أسكلة السنغال، وإلى جهات أميركا مثل المكسيك والبرازيل وغيرها، وكان في الباخرة ركاب كثيرون، أهمهم سفير دولة فرنسا في لسبون عائدا إلى مركزه. ووصلنا في اليوم التالي خليج بسكي المشهور بأمواجه واضطراب مياهه، وهو شديد الخطر على السفن والبواخر غرقت فيه السفن مرارا، ولكنه كان يوم وصولنا على ما يرام من الهدوء والسكينة، وقد ملأت جوانبه سفن شتى، هذه ذاهبة وهذه آيبة ما بين جوانب أوروبا وآسيا وأميركا وأفريقيا، فهو يقرب في ذلك من ترعة السويس التي لا تخلو من باخرة أو عدة بواخر تمر منها في كل حين. ولما جاء اليوم الثالث على سفرنا أطلت باخرتنا على جبال البورتوغال، وما زلنا نتقدم حتى صارت عاصمة البلاد على مرأى منا ودخلنا جونا من البحر ما بين سلسلتي جبال ظللنا نسير فيه ثلاث ساعات حتى انتهينا إلى المدينة، فذكرنا ذلك بمنظر البوسفور وضفافه.
والذي يصل لسبون من ناحية البحر يظنها لأول وهلة من المدائن الشرقية؛ لأن أكثر ما فيها من البناء مطلي باللون الأبيض في ظاهره على ما نرى في بلاد الشرق، وهي متوالية الارتفاع من سطح البحر إلى تلك الجبال المجاورة لها، فكأنما أرضها طبقات شيدت فيها المنازل بعضها فوق بعض، وهي في هذا تشبه مدينة بيروت بعض الشبه، والمدينة واقعة على نهر تاجوس أو التاج كما سماه العرب، يبلغ سكانها أربعمائة ألف نفس وتعرف في كتب العرب باسم لشبونة، وهي قديمة العهد وصل إليها تجار صيدا وصور في أسفارهم الغربية، وأطلقوا عليها اسم أليس أو بواي الخليج اللطيف، وحرف الاسم بعد هذا فصار لسبون كما ترى، وتاريخها مرتبط بتاريخ البلاد العام الذي تقدم ذكره، فهي رأت أحسن أيام العز في القرن الخامس عشر والسادس عشر، ولكنها تهدمت مرارا بفعل الزلازل ولم تزل آثار الزلزال العظيم في سنة 1755 باقية فيها، ولم يقل عدد القتلى عن أربعين ألفا في تلك المصيبة.
وقد تم هذا والناس في الكنائس في يوم عيد، هذا غير الذين كانوا في الأديرة والسجون والمستشفيات وغيرها من المواضع العمومية، حيث احتشد الناس ونكبوا ألوفا، وكان من زيادة البلوى أن بعض الفارين من الزلزال لجئوا إلى شاطئ البحر فثارت موجة شديدة علوها 40 قدما، وتقدمت على هؤلاء المساكين فأغرقت منهم عددا كبيرا، ثم إن الحرائق توالت بعد تلك الزلزلة على المدينة، فدمرت كثيرا مما سلم وعممت البلوى فرأت لسبون في تلك المدة هولا لم تره من قبل، وهم إلى الآن يذكرون هذه المصائب وما كان من اجتهاد الملك ووزيره بومبال في تخفيف المصاب والتعويض على الأهالي عن بعض ما فقدوا، وكان الملك يومئذ في الضواحي مع وزيره المذكور فلما بلغه الأمر استشار الوزير في ماذا يفعل، فقال له بومبال أن يا مولاي لندفن الموتى أولا ثم نعيد بناء المدينة. بعد وصولي بيوم واحد أخذت رجلا من القوم يدلني إلى ما فيها وسرت في أول الأمر إلى ميدان التجارة أقيم فيه تمثال الملك يوسف الأول، وهو مستدير الشكل يشرف من أحد جوانبه على البحر، وقد أقيمت في الجوانب الأخرى منه أهم الأبنية والمصالح الأميرية في هذه العاصمة، مثل الوزارات والبريد والبورصة والجمرك والتلغراف وإدارة بواخر الهند والمحاكم وغير هذا، وكلها أبنية ليست على شيء خاص من الفخامة والجمال، ولكنها ليست حقيرة، فهي لا تستحق الإطالة في الوصف لا سيما وأن داخلها جعل على نسق غيرها من الإدارات الأوروبية، وقد تقدم لنا وصفها عند الكتابة عن الممالك الأخرى، ويتفرع من هذا الميدان شارعان هما أهم ما في المدينة من الشوارع، أولهما إلى اليمين اسمه شارع أوجستا سمي باسم إحدى ملكات البورتوغال، وفي أوله قبة نصر نصب من فوقها تمثال الوزير بومبال الذي مر ذكره، وثانيهما شارع الذهب، ويلاصق هذين الشارعين ميدان يعرف باسم بدرو الرابع أحد ملوك البلاد، فيه تمثال هذا الملك، ومن حوله المخازن في أعلاها دور للسكن وفي آخر هذا الميدان الفندق الذي نزلت فيه ومنه يبتدئ ميدان أفنيدا، وهو أجمل فسحات لسبون برمتها وأوسعها مجالا، فيه من غرس وشجر شيء يستحق الذكر والإعجاب، والناس ينتابونه للتنزه في طرقاته المبلطة بالأسمنت، وجوانبه المزينة بالزهر والخضرة، وقد يجتمعون هنالك في بعض الأحيان فترى نخبة أهل الطبقة الوسطى والعليا في هذا الميدان، وقد نظمت طرق هذا الميدان للناس والعربات تنظيما لطيفا، وأقيم في طرفه نصب تذكارا لاستقلال البورتوغال وانفصالها عن إسبانيا في سنة 1640. وقد وجد هذا الميدان ما بين جبلين، أحدهما إلى يمينه والثاني إلى يساره ومنظره يزيد بذلك رونقا وجمالا، والناس يصعدون تلك الجبال من هذا الميدان، إما في الترامواي البخاري بأجرة قليلة أو في آلات رافعة (أسنسور) تحاكي التي يستعملونها للصعود والنزول، وهي كثيرة هنالك وأجرة استعمالها قليلة لا تذكر، فلما رأيت القوم يفعلون ذلك ارتقيت الجبل الأيسر في الترامواي البخاري، ورأيت في أعلاه حديقة عمومية جميلة عني القوم بغرس ما فيها وتنسيقه، واستجلبوا لها غريب الزهر والنبات من أقاصي برازيل والهند ومنظرها يستحق الذكر، وهنالك أشجار من النخل عظيمة الساق لم أر في القطر المصري على شاكلتها في الغلظ، ولكن النخل الذي يزيد عنها في الطول هنا كثير وأشجار برازيلية لا ورق لها، وكلها أغصان دقيقة تتدلى وتشتبك بعضها ببعض، وقد كونوا من بعض الأغصان خيمة يجلس تحتها المتفرجون ومنظرها جميل، هذا أهم ما في الجبل الأيسر لما فرغت من مشاهدته هبطت الوادي إلى ذلك الميدان، ثم ارتقيت القمة اليمنى في الترامواي البخاري أيضا، وأشرفت منها على قرى عديدة ومزارع كثيرة وبعض الضياع والعمائر والمروج زرعت زرعا جميلا، ومنظرها من أحسن ما يراه السائح في هذه العاصمة.
ومن أهم ما يذكر في هذه المدينة قصور الملك وأفراد عائلته الكريمة، قصدت منها قصر نسسدادس الذي يقيم فيه الملك، وهو في طرف المدينة بني على رابية منفصلة عن غيرها تحكي في ذلك تلال الآستانة، دخلت غرفه الواسعة وتأملت زمانا في رياشها الفاخر وبنائها المتقن، وقليل نظيرها في هذه البلاد، هذا غير أن فيها بعض التحف التي جمعها ملوك البورتوغال السابقون، منها 46 عربة كانت تقل هؤلاء الأقيال في الأزمان الغابرة وأكثرها مذهبة كثيرة للزخرف متقنة الصنع، ومن هذا القبيل قصر أوجودا وقصر بيليم، وهما من المنازل الفخيمة لا يسمح لنا المقام بالتطويل في وصفهما، ولكن الذي يستحق الذكر من هذا القبيل ويقصده كل قادم إلى بلاد البورتوغال جهة من الضواحي تعرف باسم «سنترا» لها شهرة في أوروبا كبيرة، وهي واقعة في جبال صخرية صوانية بديعة الجمال حتى إنهم يسمونها سويسرا البورتوغالية؛ لفرط حسنها الذي يحكي حسن الجبال السويسرية، سرت إلى هذه الجهة في قطار الحديد والمسافة من العاصمة إليها 28 كيلومترا، وقد بني قصر الملك وغيره من القصور في وسط تلك الجبال البهية فإذا أراد أحد الناس الوصول إليها تحتم عليه المسير في عسير المسالك بين المشاهد الطبيعية التي يؤثر منظرها في النفوس ولا سيما أنك ترى وأنت تتقدم صعدا في تلك المسالك من كل جهة منظرا يختلف عن الذي قبله ويلذ لك المسير، وقد كان هذا الذي فعلته مع غيري، وكنا في عربة كبيرة أوصلتنا إلى باب القصر الملوكي، فلما نزلنا منها علمنا أن جلالة الملك مقيم وقتئذ في القصر، فالدخول إليه غير مباح، والقصر بني على أطلال قصر عربي قديم، فدخلنا الحديقة وهي في رأس جبل ولمنظرها بهجة خاصة؛ لأنها باقية على الحالة الطبيعية، وفيها الصخور المتناثرة المتراكمة والدروب والمسالك قضينا نحو ساعتين ما بين صعود ونزول في جوانبها، ورأينا هنالك نبعا من الماء الحديدي باردا وتمثالا للمستكشف فاسكو دي غاما - الذي مر ذكره في الخلاصة التاريخية - وسبيلا عربيا يتدفق منه الماء الزلال لم يزل على حاله من أيام الدولة العربية، وبأعلاه كتابات عربية محت بعضها الأيام ، وقرأت البعض الآخر وهو: «هذا السبيل المبارك على اسم حضرة السلطان عمر والأراضي التي وجدها.» والذي يدور في جوانب البورتوغال وإسبانيا يرى من هذه الآثار العربية شيئا كثيرا. ولسوف ترى في الفصل القادم شيئا عن بلاد إسبانيا هذه؛ فإني برحت البورتوغال قاصدا ربوعها بعد أن أقمت هنا أياما ورأيت أهم ما يستحق الذكر من مشاهدها، وسكة الحديد التي توصل من لسبون إلى إسبانيا تبتدئ من جبل، فمحطتها يصعد إليها بالآلات الرافعة أو بسلم كثير الدرجات، وأما المسافة بين العاصمتين فلا تقل عن 24 ساعة في القطار وبينهما 62 محطة ترى الكلام عن بعضها في الفصل القادم.
إسبانيا
خلاصة تاريخية
إن إسبانيا أول بلاد أوروبية بعد بلاد الروم ورد ذكرها في الكتابات القديمة؛ فقد جاء في التوراة ذكر ترشيش حيث كان تجار الفينيقيين وتجار اليهود في زمان الحكيم سليمان يترددون لجلب الغنائم. و«ترشيش» في اصطلاح الأقدمين القسم الجنوبي من إسبانيا، وهو الذي له ذكر في تاريخ البلاد أكثر من سواه، وقد كان تجار صور وصيدا يعرفون شطوط إسبانيا وينقلون منها الأشياء الثمينة قبل التاريخ المسيحي بأكثر من ألفين وثلاثمائة سنة، ومن المؤكد أنهم عمروا بعض أراضيها وبنوا فيها المدائن، مثل قادش وملاغة وكوردوبا (ولكل من هذه المدن أسماء عربية سيجيء بيانها فيما يلي) في القرن السادس عشر والخامس عشر قبل التاريخ المسيحي.
وقد ظل الفينيقيون مستأثرين بخير إسبانيا زمانا حتى انتبه اليونان إليها في القرن التاسع قبل التاريخ المسيحي، وجاء بعض التجار والمخاطرين من أهل رودس إليها فأسسوا مستعمرة روديا، وهي روزاس الحالية في ولاية كتلونيا، وتلاهم غيرهم من اليونان أيضا؛ فتراجع الفينيقيون أمامهم حتى كانت سنة 480 قبل المسيح واشتبك أكثر اليونان في حروبهم مع الفرس فجاء أهل قرطاجة - وهم من أصل فينيقي - وملكوا أراضي الأندلس وبلنسية وكتلونيا، وأسسوا مدينة قرطاجة الجديدة، فكثرت أرباحهم وزادت متاجرهم حتى إذا قويت شوكة الرومانيين وكبر سلطانهم تطلعوا إلى هذه البلاد الغنية وحسدوا القرطاجيين على ما يربحون منها، فبدءوا بالتداخل في سنة 232 قبل المسيح، ومن ذلك العهد بدأ التنافس بين الدولتين فلم ينته إلا بعد حروب هائلة سحقت فيها قرطاجة سحقا، وفاز الرومانيون في بدء القرن الثاني قبل الميلاد بالاستيلاء على إسبانيا، ولكنهم ظلوا نحو مائتي عام يحاربون أهلها الأشداء ولا يقدرون على إخضاعهم إخضاعا تاما حتى انتهى الأمر بالفوز التام لدولة الرومانيين في عهد الإمبراطور أوغسطس قيصر سنة 19 قبل الميلاد، وما أنفقت دولة رومة مالا ورجالا على فتح بلاد مثل ما أنفقت على فتح إسبانيا في تلك السنين الطوال، ولكنها شعرت بالربح بعد الاستيلاء عليها وعلمت أنها لم تضع تلك النفقات سدى، وصارت إسبانيا بعد ذلك أهم ممالك الرومانيين استوطنها كثيرون منهم وولد فيها بعض من أشهر قياصرتهم وأعظمهم، مثل تراجانوس وأدريانوس وماركوس أوريليوس، وكذلك قام من أهل قرطاجنة مدة زهائها أعظم القواد في إسبانيا وأشهرهم أسدروبال وهنبال القائد الإفريقي العظيم الذي لم يذكر التاريخ أبرع منه في قيادة الجنود وتدبير المواقع.
وكان أهل إسبانيا على عهد الدولة الرومانية مثل غيرهم من عبدة الأصنام، وهم أهل خشونة وشدة، فما دخلت الديانة المسيحية بينهم إلا بعد انتشارها في الشرق، وأهل البلاد يزعمون أن ملر يعقوب أحد الرسل وصلها وبشر الأهالي بالإنجيل فيها، ولكنها ما لبثت أن اعتنق أهلها هذا الدين بعد اضطهاد القياصرة الرومانيين حتى صارت من أشهر مراكزه، وكان لأسقفها هوسيوس كرسي الرئاسة في المجمع النيقاوي المشهور الذي عقد سنة 325 في نيقية، وبقيت على حال واحدة من الخمول والتأخر حتى انقراض الدولة الرومانية وتسلط الأقوام المتبربرة على أراضي تلك الدولة المشهورة، وكانت إسبانيا مطمع هؤلاء الفاتحين لما اشتهر عن خصب أرضها وجودة هوائها، فلما جاءت قبائل الغوث في سنة 410 بعد المسيح لمحاربة الرومانيين أخذت إسبانيا قبل غيرها، واستولى الأمير أتولفوس عليها فصار ملكا لدولة كبيرة حكمت هذه البلاد ثلاثمائة سنة، ولم يكن لهذه الدولة الغوثية شهرة في شيء سوى الخمول والمظالم، وكان أول من ملك إسبانيا كلها من هؤلاء الملوك رشلان سنة 438، وخلفه كثيرون أشهرهم أورك، وهو الذي استولى على جنوبي فرنسا سنة 466، وورثها من بعده الملوك حتى إذا بدأ القرن الثامن بعد المسيح صارت الدولة إلى حالة الضعف من جبن ملكها رودريك وكثرة المضادين له والساعين في دس الدسائس، وكان من أمر هؤلاء المضادين أنهم لما أعيتهم الحيل في خلع الملك رودريك استعانوا بالعرب من أصحاب الغرب الأقصى فلبى العرب الدعوى وأرسلوا على إسبانيا جيشا صغيرا تحت قيادة الأمير طارق بن زياد، وكان هذا الجيش لا يزيد عن 1500 محارب دخلوا إسبانيا من عند جبل كالب الذي سمي بعد ذلك جبل طارق باسم هذا الفاتح في آخر شهر أبريل من سنة 711 مسيحية، وكان في ذلك سقوط الدولة الغوثية وقيام الدولة العربية.
وقد كنت أتمنى لو يمكن التطويل في سرد وقائع العرب وتاريخ الأندلس الشهي لولا أن المقام ليس للتاريخ، والمراد لمحة يفهم منها القارئ خلاصة ما مر على البلاد التي نريد وصف مشاهدها. وعلى هذا فأذكر أن نجاح الأمير طارق في أول الأمر جرأ الأمير موسى نائب الوليد - وهو يومئذ الخليفة الأموي - على إرسال جيش آخر قاده بنفسه والتوغل في البلاد، فلما رأى الملك رودريك ذلك قام لمحاربة الهاجمين بجيش جرار قاده بنفسه، وعدد أفراده تسعون ألفا ودارت رحى الحرب عند قرية زيرس وهي تقرب من موقع قادس المشهور ثلاثة أيام متوالية، كسر بعدها الإسبانيون كسرا تاما وتفرقوا في جوانب الأرض، فوقعت البلاد برمتها في قبضة العرب لا سيما وأن الملك رودريك نفسه قتل في تلك المعركة ولم يخلفه على الملك أحد، وكان جيش العرب في معركة زيرس لا يزيد عن 18 ألفا تحت قيادة موسى بن نصير الذي ذكرناه، وكان طارق بن زياد قد أخضع عدة مدائن قبل وصول الأمير موسى في جملتها ملاغة (مالقة) وكوردوبا (قرطبة) وطوليدو (طليطلة)، فلما انتهى موسى من زيرس تقدم على بقية المدائن، مثل سقيل (إشبيلية) وبيجا ومرتولا وغيرها وملكها على عجل، فما مر زمان على موسى وطارق حتى أخضعا كل إسبانيا ما خلا البلاد الجبلية الواقعة في الشمال، وهي بلاد كاستيل وأستوريا ظلت مستقلة كل مدة الدولة العربية، ونشأ منها بعد ذلك الملوك الذين طردوا العرب من البلاد على ما يجيء، وكان أهل هذه البلاد الجبلية في كل زمان أصحاب البأس الشديد في محاربة الأعداء لم يقو عليهم فاتح في زمن من الأزمان، وما زالوا من أول عهدهم أصحاب اليد الطولى في استقلال إسبانيا وتوحيد كلمتها، حاول العرب في أول الأمر إخضاعهم فرأوا من صعوبة مراسهم ما ردهم عنهم، واستمرت مملكة العرب نامية في إسبانيا ومملكة أستوريا هذه إلى جانبها والعرب لا يقربونها حتى أيام المنصور، وذلك بعد الفتح بنحو مائتي عام وهو أيضا أخفق سعيا مع هؤلاء القوم البواسل.
وما زال الزعماء من العرب يتوالون الإمارة في إسبانيا من قبل الخليفة الأموي حتى عام 755 حين جاء البلاد الأمير عبد الرحمن الأموي فارا من وجه العباسيين بعد انقراض الدولة الأموية؛ فنال لحسن حظه واتساع مداركه تعضيد الأكابر وصار ملكا لإسبانيا كلها وأسس دولة العرب العظيمة وفصلها عن الخلافة العباسية، فكان ذلك بدء عصر مجيد لإسبانيا لم تر نظيره فيما مر من تاريخها؛ لأن عبد الرحمن كان رجلا عالما محبا للخير، ساعيا في ترقية بلاده وتهذيب الأفكار، مقربا لرجال العلم والأدب جوادا على الكتاب والشعراء، شاد العمائر وأقام للعلم صروحا كثيرة، ولما دنا أجله جمع من حوله الولاة والقواد وأوصاهم بالخضوع لابنه هاشم من بعده، وكان ذلك في سنة 787 مسيحية.
وكان هاشم مثل أبيه عادلا عاقلا فاقتفى خطواته فزهت المملكة في أيامه وتقدمت تقدما عظيما، ولكنه أصابه ما لم يصب أباه من هجوم أهل الشمال على بعض أملاكه وارتداد جنوده عنها، وبدأ أمراء الإسبان من ذلك العهد يستعيدون سابق عزهم والعرب يتقهقرون ويخسرون بعض الإمارات مدة هاشم والحاكم ومن تلاهما من الملوك حتى قام عبد الرحمن الثالث سنة 912، وكان ملكا عظيما واسع العقل كبير الدراسة؛ فأعاد إلى مملكة العرب عزها الشامخ واسترجع الصولة المفقودة، وهو الذي بنى قصر الزهراء عند قرطبة وسيجيء ذكره، يعد أعظم ملوك العرب في إسبانيا وأيامه أحسن أيام هذه الدولة الزاهرة، وخلفه ابنه الحاكم الثاني سنة 961، وكان أشهر أمراء العرب في حب العلم وتقريب العلماء، رأت البلاد على عهده عزا كثيرا، فلما مات خلفه ابنه هاشم الثاني وهو صبي في الحادية عشرة من عمره، فتولى الوصاية الأمير محمد بن عبد الله الملقب بالمنصور، وهو أعظم قواد العرب في أيام تلك الدولة الكبيرة، قاد الجيوش إلى ساحات النصر، وكان أكبر ضربات الزمان على أهل إسبانيا الذين لم يرضخوا لحكم الدولة الإسلامية؛ فإنه ظل 25 سنة يرسل عليهم كل سنة مرتين جيشا قويا يقوده بنفسه فيذيقهم البلاء الأكبر ويخرب معاقلهم ويقتل الألوف من رجالهم وينهب خير بلادهم حتى لم يبق في حوزتهم غير جبال أستورياس الوعرة. ولما جاءت سنة 1000، استعد استعدادا عظيما لاستئصال شأفة المعادين، وإخضاع البلاد كلها للدولة الإسلامية، فكان في تلك الشدة وذلك الاستعداد الهائل أصل البلاء على الدولة الإسلامية؛ لأن الإسبانيين شعروا بضيق كبير وهالهم قصد المنصور وفعاله الماضية، فاتحدوا بعد الانقسام وتعاهدوا على الدفاع ومحاربة العرب بلا انقطاع حتى اجتمع لديهم قوة عظيمة، أقسم أفرادها على التفاني في محاربة العرب فلاقاهم المنصور عند قلعة النصر وأصلاهم حربا عنيفة هائلة لم يتم فيها النصر لأحد الجانبين، ولكنها انتهت بالخذلان لجيش العرب؛ لأنهم رجعوا عن البلاد غير غانمين وتقوت شوكة الأمراء المتحدين، فما أطاق المنصور صبرا على هذا الخذلان ومات كمدا سنة 1002، فكان موته آخرة العز والسؤدد للدولة العربية في إسبانيا ولم تقم لها قائمة بعد ذلك.
ولما شعر أمراء إسبانيا بالقوة بعد هذا زادوا جرأة وكان من أمرهم أن فرناندو الأول ملك كاستيل ضم بلاد ليون إلى مملكته سنة 1037؛ إذ اقترن بصاحبة تلك البلاد، ومن ثم نشأت دولة إسبانيا قوية هي أساس الدولة الحاضرة، وتقدم فرناندو هذا على بلاد مدريد وطليطلة وضرب الجزية على أهلها من العرب، وملكها ابنه ألفونسو من بعده في سنة 1083 فعادت إلى قبضة الملوك المسيحيين بعد أن ملكها العرب 374 سنة، وكان من سوء حظ العرب وقتئذ أنه كثر التحزب والانقسام بينهم، فصار ملوك كاستيل يأخذون البلاد منهم ولاية بعد ولاية حتى إن ألفونسو الثاني لقب نفسه سنة 1135 ملك إسبانيا كلها؛ لأنه لم يبق للعرب غير القسم الجنوبي منها، ولما جاءت سنة 1238 رحل كل العرب عن إسبانيا وأموا ولاية جرنادا (غرناطة)، حيث أسسوا دولة جديدة دامت بعد سقوط دولة الأندلس العظيمة 250 سنة، ولكنها كانت دولة ضعيفة عاشت بانقسام أمراء إسبانيا وتضاغنهم، وكانت في أكثر مدة وجودها تدفع جزية إلى ملوك كاستيل.
وكان أول ملوك غرناطة محمد الأول عاقلا محبا للعلم مثل الذين أسسوا دولة الأندلس، وهو الذي بدأ ببناء قصر الحمراء المشهور - سيجيء ذكره - وخلفه سنة 1273 ابنه محمد الثاني فسار على خطته، وأتم بناء الحمراء وعضد رجال العلم، ثم تلاه ملوك آخرون لم يشتهروا بشيء يذكر، وكانت دولتهم تزيد ضعفا وتقهقرا حتى قام فرناندو الثاني ملك أراجون واقترن بإيزابلا ملكة كاستيل فضم المملكتين وصيرهما دولة واحدة قوية في سنة 1469، وكان ذلك بدء عصر جديد لإسبانيا ومجد عظيم لم يخطر على البال؛ فإن هذا الملك اكتشفت أميركا في أيامه، وكانت إسبانيا السابقة إلى الاكتشاف وامتلاك القارة الواسعة، ثم جعل فرناندو همه طرد العرب من إسبانيا كلها حتى لا يبقى فيها ملك سواه، وكانت امرأته الملكة إيزابلا نشيطة مثله وافقته على رأيه؛ فأثار على مملكة غرناطة حربا شديدة وأصلاها نارا حامية، وكان ملكها يومئذ - واسمه أبو عبد الله - رجلا ضعيفا لم يقو على خصمه الشديد فسلم البلاد له سنة 1492، ورحل مع قومه إلى شطوط أفريقيا وبذلك انتهت أيام العرب في إسبانيا.
ولما مات فرناندو بعد امرأته في سنة 1516 كانت إسبانيا دولة واحدة قوية، وليس فيها من العرب غير بعض الآثار وكانت أميركا برمتها أو ما عرف منها إلى ذلك الحين في قبضة هذه الدولة، وقد هاجت الخواطر من اكتشاف تلك القارة وبدأ الذهب يرد منها إلى إسبانيا والهمم تتحرك ونفض الناس غبار الخمول، وقامت أوروبا بعد ذلك الظلام الدامس تحاول التقدم فكانت إسبانيا في طليعة هذه الممالك العظيمة، ولما ولي الملك كارلوس الأول ابن فرناندو هذا كان صاحب أعظم الممالك ثم انتخب إمبراطورا لألمانيا بحق الوراثة؛ لأن أمه كانت صاحبة الحق في تلك المملكة؛ فصار كارلوس الأول ملك إسبانيا وهو شارل الخامس إمبراطور ألمانيا أعظم ملوك الزمان في أيامه لم تغب الشمس عن أملاكه ولم تر إسبانيا عزا مثل عز دولته؛ فإن الذهب تدفقت ميازيبه على إسبانيا مدة حكمه من أميركا وصولته عمت البلدان؛ لأنه قهر فرانسوا الأول ملك فرنسا والسلطان سليمان، وأذل الأمراء المعاندين له وبقية تاريخه ذكرت في تاريخ النمسا وألمانيا. وتنازل هذا الملك العظيم في سنة 1556 عن الملك فخلفه في إسبانيا ابنه فيليب الثاني وكانت البلاد يومئذ في أوج عزها ومعظم ثروتها، واقترن فيليب هذا بماري ملكة إنكلترا، فلما ماتت حاول الاقتران بأختها إليصابات التي خلفتها على الملك وغضب من إبائها، فصمم النية على قهرها وإخضاع بلادها، وأرسل على إنكلترا أسطولا عظيما يعرف باسم الأرمادا الكبيرة، كانت قطعها 135 وفي ظن الملك فيليب أن مثل هذه القوة البحرية لا تغلب، ولكن الأقدار عاندته فحطمت سفن الإنكليز هذا الأسطول بقيادة أمير البحر درابك وعاد فيليب عن بلاد الإنكليز بالخسران، وكان المذهب البروتستانتي قد نشأ في ألمانيا على عهد كارلوس الأول، فلما صار فيليب ملكا ورأى تقدم البروتستانت ساقته الغيرة على دينه الكاثوليكي إلى تعذيب البروتستانت واضطهادهم في كل ممالكه، وهو الذي ثارت هولاندا عليه على مثل ما تقدم في تاريخها، وكان فعل القوم في إسبانيا على منتهى القسوة والشدة حتى لم يعد أحد الأهالي يجسر على ذكر المذهب البروتستانتي؛ فامحى من ذلك اليوم ولم تزل إسبانيا كلها كاثوليكية قحة إلى هذا النهار.
ومات فيليب سنة 1598 معذبا من أشد الأمراض آلاما فخلفه ابنه فيليب الثالث، وتلاه فيليب الرابع وهو الذي سلخت البورتوغال عن إسبانيا في أيامه سنة 1640. وخلفه كارلوس الثاني، فلما مات سنة 1700 حدثت ثورة وحرب انتهت بانتخاب أمير من آل بوربون - وهم ملوك فرنسا - للحكم باسم فيليب الخامس، وكان هذا الملك الجديد ابن إحدى الأميرات الإسبانيات، ويعد من أعقل ملوك إسبانيا هو والذين تلوه من آل بوربون، فقد كانوا جميعا أهل حزم وتعقل ظلوا حاكمين من تلك السنة إلى 1788 حين مات كارلوس الثالث، وهو آخر ملوك الدولة البوربونية، فحدثت حروب وثورات كثيرة لا محل لذكرها انتهت بعد تولية عدة ملوك وملكات بأن كارلوس الرابع تخاصم مع ابنه على الملك وحكما نابوليون الأول في أمرهما سنة 1808، فحكم بعزل الاثنين وجعل أخاه يوسف ملكا للبلاد، وكان يوسف عادلا متأنيا ولكنه لم يملك طويلا؛ لأن البلاد قامت عليه وجاءت جنود إنكلترا فطردته وقائدها يومئذ الديوك أوف ولنتون الشهير الذي سحق قوة نابوليون في واترلو، وبعد خروج الجنود الإنكليزية عادت الحروب والقلاقل واستقلت ولايات أميركا الجنوبية كلها سنة 1820، فصارت جمهوريات معلوم أمرها، وقد كان أكثرها للدولة الإسبانية ما خلا بلاد البرازيل؛ فإنها كانت تابعة لمملكة البورتوغال، وما زال أهل أميركا الجنوبية إلى هذا اليوم يعرفون بأصلهم الإسباني ولغتهم إسبانية أيضا، وظل أهل إسبانيا كل يوم ينصبون ملكا أو ملكة وهم لا يقر لهم قرار حتى قر رأيهم على تمليك الأميرة إيزابلا سنة 1843، ولكنهم عادوا وانقلبوا عليها وهم في ثورات وحروب أهلية إلى سنة 1870 حين انتخبوا أماديو الأول ابن ملك إيطاليا فكتور عمانوئيل، وما ملك غير ثلاث سنين ثم تنازل عن الملك سنة 1873، فانتخب الأهالي أميرا من آل بوربون هو ألفونس الثاني عشر والد الملك الحالي، كان ذكيا مقداما أسكن ثائر الأهالي وأعاد الطمأنينة إلى البلاد، واقترن بأميرة من آل هابسبرج هي والدة الملك الحالي، ومات هذا الملك الطيب بالهواء الأصفر سنة 1886 وامرأته يومئذ حامل، فحكمت مكانه وصية للملك حتى ولد ابنها ألفونس الثالث عشر وهو الملك الحالي، وقد عنيت الملكة كرستينا بتربيته تربية تساعده على إدارة مهام الملك، واستعانت بأمهر الأساتذة والمربيات.
وفي 17 مايو سنة 1892 احتفل الإسبانيون بتتويج ملكهم احتفالا قامت فيه أشكال السرور من جميع الناس بارتقاء جلالة الملك ألفونسو الثالث عشر عرش آبائه وأجداده بين مظاهر الطرب والحماس الشديد، وكان يوم التتويج صافي الأديم معتل النسيم خرجت فيه مدينة مدريد عن بكرة أبيها مع القادمين إليها من بعيد الأقطار؛ لتشهد الموكب العظيم وترى أبهة الملك، وكان كل المتفرجين بأحلى الحلي وأثمن الأطالس والحلي زاد عددهم في الشوارع الكائنة بين قصر الملك وقصر مجلس الأمة عن ثلاثمائة ألف نفس، وكانت قاعات المجلس قد ملئت بالمدعوين العظام من نواب إسبانيا وأشرافها وقوادها ورؤساء دينها ووزرائها وحكامها وقضاتها والسفراء والأمراء الأجانب الذين جاءوا وفودا من قبل الدول المتعددة ليشاركوا الدولة الإسبانية في الاحتفال بذلك اليوم، أحاطوا بعرش الملك والمقاعد المعدة لأقاربه حين يجيء ليقسم يمين الأمانة. وبينا هم ينتظرون سمعوا هتاف الجماهير من خارج القاعة وتعالت أصوات الناس وتصفيقهم وضج الفضاء بأنغام الطرب تزيد وضوحا لحظة بعد لحظة حتى إذا قرب الملك وموكبه من باب المجلس صار الصراخ شديدا يصم الآذان، ودخل جلالته باسما تظهر على محياه علامات السرور والشكر للحاضرين، فجعل يلتفت ذات اليمين وذات اليسار يحيي أولئك الكبراء وقد وقفوا حال دخوله القاعة، ثم جلس فوق العرش وجلس الباقون، وتقدم رئيس مجلس الأمة فوقف أمام الملك ووقف الملك، ثم تناول منه ورقة كتب عليها صورة القسم فتلاه بصوت جهير وتعريبه كما يجيء:
أقسم بالله العظيم وبهذا الإنجيل الطاهر، أني أحافظ على نظام البلاد وقوانينها، فإذا فعلت فليجزني الله بما يشاء وإن لم أفعل فليدعني الله للحساب.
ولما انتهى الملك من تلاوة هذا القسم ضج الحاضرون هتافا ودعاء وهم يقولون: ليحيا الملك مرة بعد مرة، وعند ذلك تقدمت الملكة كرستينا إلى ابنها فقبلته وهنأته وهنأه بقية الحاضرين من العظماء والكبراء، وألقى رئيس بلدية مدريد خطابا موجزا بين يديه؛ فانتهى بذلك احتفال الإسبانيين بارتقاء ملكهم عرش البلاد ودار الملك بعد ذلك بين العظماء الحاضرين يحدث هذا، ويلاطف ذاك حتى خرج من قاعة المجلس والكل من ورائه ثم ركب الجميع عرباتهم وساروا إلى الكنيسة الكبرى حيث تليت صلاة التتويج، وكانت الشوارع المؤدية إلى تلك الكنيسة غاصة بألوف الخلق ومئات الألوف وآيات الزينة في جانبي كل شارع مر به الموكب تبهر الأنظار، وملابس الإسبانيين رجالهم ونساؤهم ظاهرة الجمال كثيرة التزويق والألوان، وبلغت الزينات أجمل أشكالها حول الكنيسة؛ لأن خدمة الدين أنفقوا ألوفا مؤلفة على إعدادها باعتبار أنهم خدمة دولته الكاثوليكية وأعوان ملكه من قدم، وكان في الكنيسة من هؤلاء الرؤساء وكيل قداسة البابا وكاردينال سانتياغو وكاردينال برشلونة وثلاثون مطرانا وأسقفا وقفوا جميعهم في مدخل الكنيسة؛ ليرحبوا بجلالة الملك حين وصوله، وكانت الصلاة مؤثرة جدا ولا سيما الأنغام الروحية التي غناها أفراد مدربون استعدوا لها أياما طويلة من قبل التتويج.
ولما عاد الملك إلى قصره بموكبه العظيم وردت عليه التهاني من كل الأقطار ومن نواحي مملكته ألوفا، وكان أحسن ما قال الملك في الرد عليها جوابه المنشور على الأمة الإسبانية، وفيه ما يجيء:
إني وقد استلمت زمام الحكومة من يدي والدتي العزيزة أرسل إلى أفراد أمتي الإسبانية خالص تحياتي وحبي، وإني عالم بمقدار المسئولية الكبرى التي وقعت علي الآن، عازم بإذن الله العلي أن أقوم بأعبائها، باذلا في سبيل ذلك كل قواي، ولست بجاهل أني ينقصني الاختبار والعلم الذي أناله على ممر الأيام، ولكنني أؤمل من أمتي أن تسمح لي بالوقت الذي يلزم لهذا الاختبار، فإذا ساعدتني العناية الإلهية وإذا سمح الشعب الإسباني بتعضيدي كما عضدوا والدتي من قبلي في مدة وصايتها علي، فإن الأمة الإسبانية ستعلم أني لست أول أفرادها في الرتبة فقط، ولكنني أول أبنائها العاملين على ترقية شئونها والمجدين في المحافظة على سلامتها وعظمتها، ولي أمل أن الشعب يساعدني على يوم بلوغ هذا القصد الشريف.
وفي تلك الليلة أقيمت حفلة رقص في قصر الملك - وهو من أجمل قصور أوروبا كما سيجيء الكلام عنه - حضرها أربعة آلاف نفس من الأمراء والسفراء الأجانب ورجال الحكومة العظام من عسكرية وبحرية وأشراف إسبانيا، وفيهم العدد العديد من رؤساء العشائر القديمة التي لها شأن عظيم في تاريخ إسبانيا، وكان الكل بملابسهم الرسمية ونياشينهم، وكان الملك يلاطف المدعوين باسما ضاحكا، وعلى صدره نحو عشرين وساما وردت لجلالته من القياصرة والملوك أثناء تتويجه.
وفي الغد - أي يوم 18 في الشهر المذكور - استعرض الملك جيشه وخطب في الجنود خطبة حماسية وطنية، ثم استعرض طلبة المدارس، وفي مساء هذا اليوم أقيمت حفلة رقص كانت خاتمة الحفلات في زمان التتويج.
وزار ملك إسبانيا عدة عواصم في أوروبا فتعرف بالقياصرة والملوك وأسرهم، وكان ينوي في هذه السياحات أن ينتخب له قرينة فاختار البرنسيس أوجيني فكتوريا بنت البرنس هنري باتنبرج الألماني وأمها البرنسيس بياترس أخت جلالة ملك إنكلترا الحالي، وكان والد الفتاة قد حضر حرب الأشانتي في شرق أفريقيا سنة 1896 وبينا هو راجع منها إلى إنكلترا أصابته الحمى قبل أن يبلغ تلك البلاد فمات بها وأولاده يومئذ صغار؛ ولذلك عنيت جدتهم الملكة فكتوريا وأمهم بتربيتهم واهتمت البرنسيس بياترس للفتاة على نوع أخص حتى إنها شبت على أحسن المبادئ، واشتهرت بعد ذلك بجمالها الباهر حتى إن الملك ألفونسو فضلها على كل بنات حواء وخطبها من أمها وخالها فقبل طلبه، وعين يوم 31 مايو من سنة 1906 موعدا للاقتران في مدريد عاصمة إسبانيا، وكان الملك قبل الاقتران يتردد على لندن لزيارة خطيبته وترتيب معدات العرس ومقدماته وهي كثيرة ما بين السراة والملوك لا سيما، وأن البرنسيس كانت على المذهب البروتستانتي والملك على المذهب الكاثوليكي، وقد تمت الرسوم اللازمة لذلك، وأهمها أن الأميرة غيرت مذهبها واعتنقت مذهب الكاثوليك؛ ففي يوم الجمعة الموافق 25 مايو سنة 1906 - أعني قبل الاقتران بأسبوع - قامت البرنسيس من قصرها بجوار لندن مع والدتها وإخوتها وحاشيتها إلى محطة فكتوريا التي كانت غاصة بأفراد الأسرة المالكة الإنكليزية والوزراء واللوردات، وفي مقدمتهم ملك إنكلترا خالها، وكان فيها من الهدايا التي قدمها أهلها وكبار القوم في إنكلترا وألمانيا وغيرهما ما يقدر بمليوني جنيه، من ذلك تاج ألماس أهدته إليها الإمبراطورة أوجيني أرملة نابوليون الثالث وهي عرابتها - أي إنها كانت وصيتها ساعة الولادة - وهي - أي الإمبراطورة - صديقة أم الفتاة وجدتها، يقال إنها أوصت لها ببعض مالها نظرا إلى هذه العلاقة وإلى كون الإمبراطورة أوجيني من أصل إسباني واسم ملكة إسبانيا أوجيني فكتوريا كما تقدم على اسم هذه الإمبراطورة واسم الملكة فكتوريا أيضا.
ولما قامت الأميرة إلى مدريد ذهب الملك ألفونسو إلى مدينة إيرون في حدود بلاده ومعه رجال دولته لمقابلتها فتمت المقابلة بكل وداد، وسار بهم القطار بعد المقابلة سيرا بطيئا حتى يمكن للأهالي في المدن والقرى الإسبانية التي يمر فيها أن يروا ملكتهم الجديدة، وكان في محطة العاصمة الأمراء والسفراء وكبار القوم، وفي مقدمتهم والدة الملك لما رأت البرنسيس فرحت بها وعانقتها مرارا وأملت أن تراها خير قرينة لولدها وملكة عظيمة لإسبانيا، فركبت والدة الملك مع العروس في عربة تجرها أربعة بغال، وكان الملك راكبا جوادا ولابسا كسوة قائد يسير على اليمين إلى قصر ألباردو الذي أعد مؤقتا للبرنسيس قبل دخولها القصر الملكي، وكانت الشوارع مزدحمة بجماهير الناس جاءوا ليحيوا الملكة الجديدة خصوصا في شرفات المنازل، وكان بعض السيدات يطلقن الحمام على عربة العروس من الشرفات. وفي الغد الذي هو يوم السبت الموافق 26 من الشهر المذكور أتت والدة الملك إلى قصر ألباردو وأخذت معها العروس إلى القصر الملكي، وطافت بها في القاعات والغرف ثم عادت معها إلى قصر ألباردو، وبعد الظهر من ذلك اليوم أتى الملك وركب مع البرنسيس في عربة من جنس الأوتوموبيل فدار معها في ضواحي العاصمة القريبة. وفي يوم الأحد الموافق 27 من الشهر المذكور أقيم قداس في ساحة مكشوفة في القصر بالدور الأعلى أعدت لذلك، وكان قسم من الشعب يصلي في ساحة القصر الخارجية في الوقت نفسه، وفي يوم الإثنين سار موكب مكون من مئات من عربات الأوتوموبيل ركب فيها أعيان العاصمة وزينت بالأزهار والأعلام ومرت أمام القصر لتراها البرنسيس. وفي اليوم المذكور أيضا تشرف رئيس وأعضاء مجلس النواب بمقابلة البرنسيس في قصر ألباردو، فتلا الرئيس خطاب ترحيب مضمونه أن الشعب الإسباني إذا أراد أن يختار ملكة له فهي الملكة، وما دام قلب ملكهم قد اختارها فاختياره هذا جاء مطابقا لرأي الشعب، وأنها سترى من المحبة والإكرام في وطنها الجديد ما ينسيها الأسف على مبارحة الوطن القديم، وفي يوم الثلاثاء قابلها رئيس وأعضاء مجلس الشيوخ ورفعوا لها خطابا آخر مثل الخطاب الأول. وفي يوم الأربعاء حضر وفد من إقليم قطالونية ومعه تاج مرصع بحجار الألماس قدمه هدية لها. وفي اليوم المذكور مساء أتت فرقة من المتطوعين الإسبانيين مكونة من 900 ضابط و1900 عسكري بالملابس التي كانت الضباط والجنود تلبسها في القرن السابع عشر ومعهم الطبول والزمور والنقير فحيوا البرنسيس فسرت كثيرا لمنظر هذا الموكب العديم المثال، وفي هذا اليوم ورد تلغراف إلى البرنسيس من أهالي قرية براجوز يتوسلون إليها أن تطلب من الملك العفو عن رجل حكم عليه بالإعدام وقرر شنقه في الغد، بينا أن البلاد كلها مشتركة في حفلات الاقتران فقرأته البرنسيس ودفعته إلى الملك سائلة عفوه فعفا عنه، وصدر أمره بإرسال تلغراف إلى حاكم تلك القرية بذلك، وكان فرح الأهالي عظيما لما علموا بالعفو.
وفي يوم الخميس الموافق 31 مايو سنة 1906 - وهو اليوم المعين للاقتران - كانت العاصمة مزدانة بالأعلام والرياحين وغاصة بالمتفرجين، حضروا من أطراف إسبانيا وجوانبها حتى كان عددهم يزيد عن مائتي ألف ومظاهر الزينة والأنوار باهرة في الميادين والشوارع والمنازل والبنايات العمومية، وكان المنزل يؤجر بمبلغ جسيم في شارع مايور الذي مر منه الموكب. وفي الساعة الثامنة صباحا ذهبت البرنسيس من قصر ألباردو إلى القصر الملوكي وجرت رسوم العقد، ثم تركته في الساعة العاشرة بموكب حافل كان مؤلفا من عدة عربات، جلست في الأولى منها العروس مع والدتها وجلست والدة الملك مع زوجة ولي عهد إنكلترا في الثانية، وكان في بقية العربات عدد كبير من الأمراء والأميرات، وكان الملك قد سار من القصر الملوكي من جهة أخرى في منتصف الساعة العاشرة بموكب كثير الأبهة في مقدمته فارس من كبار أعوانه وفرقة من الفرسان ثم 22 موكبا من أعيان إسبانيا بعرباتهم، وأعيان إسبانيا مشهورون من قدم في أوروبا بالمجد الأثيل والشرف الباذخ وعلو الجاه بنقش شعارهم على عرباتهم وأبواب منازلهم وأمتعتهم، وتبع موكب الأعيان مندوبو الدول، وهم ولي عهد إنكلترا عن ملك إنكلترا والكران دوك فلاديمير عن إمبراطور روسيا والبرنس هنري فريدريك عن إمبراطور ألمانيا والأرش دوك فردناند عن إمبراطور النمسا ودوك جنوا عن ملك إيطاليا والبرنس ألبرت ليوبولد عن ملك البلجيك والبرنس أدولف عن ملك السويد، وجميعهم بالحلل الرسمية تتلألأ والوسامات الفاخرة على صدورهم، ركبوا في عربات بلاط إسبانيا القديمة المذهبة وهي معروفة بضخامتها وفخامتها، ترجع في قدمها إلى القرن الثامن عشر وتحفظ لمثل هذه الحفلات، قل أن يوجد نظيرها إلا في موسكو، ثم ظهرت عربة فارغة نوافذها مذهبة وتسمى عربة اللياقة أو الدليل، ووراءها عربة الملك سوداء محلاة بالذهب وعليها تاج إسبانيا، وكان الملك لابسا كسوة جنرال، وكان النهار جميلا والألوف المؤلفة من الناس إلى جانبي الطريق وفي شرفات المنازل، فالتقى الموكبان في ساحة كنيسة جيرومنيو الخارجية، ولما دخل الملك إلى الكنيسة صدحت الموسيقى بالنغم الوطني الإسباني، ثم دخلت العروس إلى يمينها والدتها وإلى اليسار أم الملك، فصدحت الموسيقى بالنغم الإنكليزي الوطني، وسارت وأمامها الصليب حتى وقفت أمام الملك استعدادا للإكليل، وإذ ذاك ركع الملك برهة قصيرة ثم نهض ومشى من وراء عروسه لعند والدته فركع أمامها وقبل يدها وعاد إلى محله، ثم إن العروس سارت إلى والدتها فعانقتها وعادت إلى جانب الملك، وإذ ذاك بدأت حفلة الاقتران قام بها رئيس أساقفة طوليدو بمساعدة رئيس أساقفة الكاثوليك في توتنهام بأرلاندة، وكان أهم ما يستلفت النظر في الاحتفال الديني لف الشرائط من الكهنة حول أكتاف العروسين إشارة إلى ارتباطهما بالدين الكاثوليكي.
وكانت الكنيسة ترفل بحلة من زهر البرتقال، وقد ضاءت بالأنوار الساطعة تقع أشعتها على الوسامات والحلل المذهبة ومجوهرات السيدات فتزيد الحفلة رونقا وبهاء، وبعد الصلاة خرج الجمع من الكنيسة في منتصف الساعة الأولى بعد الظهر، وكان الموكب الذي بلغ طوله أكثر من كيلومترين يسير في غابة البهاء والرواء والملك يسلم بيده على الجماهير والملكة تحني رأسها والشعب يهتف لهما وهما في غاية الفرح والابتهاج. وبينا هم سائرون على هذه الحالة إذ بقنبلة رماها فوضوي من منزل بالدور الرابع في شارع مايور وقعت بين الخيل ومركبة الملك والملكة فحطمت المركبة، وقتل في هذه الحادثة المشئومة 16 نفسا، منهم الماركيز دي سوتو مايور رئيس الحجاب وثلاثة ضباط وسبعة جنود من ألاي واد راي وخمسة من المتفرجين وجرح نحو المائة منهم الجنرال ويلر، فنهض الملك حالما انفجرت القنبلة كأنه يريد أن يحمي الملكة، ولكن الله سلم الرجل وزوجته من الأذى، وكان تأثير هذه الحادثة مؤلما وشديدا في جميع النفوس، وكان قسم من الموكب قد وصل القصر الملوكي فأسرع أحد الفرسان وأخبر حاشية الملك والملكة بما حصل، وعند ذلك علا النحيب والبكاء في القصر، وانتقل الملك والملكة من عربتهما ساعة هذا المصاب إلى عربة أخرى فمرا بين جثث المقتولين وهما يسمعان أنين المجروحين وذهبا إلى القصر الملوكي يذرفان الدمع، وقد تلوث ثوب الملكة بدم المقتولين الأبرياء، ولكن الشعب حين علم بنجاة الملك والملكة جعل يهتف هتافا عظيما دليل الفرح بهذه النجاة، وكان الحزن والضوضاء شديدين حين نقلت جثث القتلى والجرحى من محل الحادثة، فإن النساء والأولاد كانوا يتراكضون وراء عربات النقل الذاهبة إلى المستشفى هذه تبكي زوجها وتلك ولدها أو أخاها، والمنظر ساعتئذ هائل يفتت الأكباد، وكان عدد الذين ماتوا في هذه الحادثة 24، منهم الماركيزة دي تولوزا وعمرها لا يتجاوز 32 سنة أصابتها شذرة من القنبلة وهي واقفة في إحدى النوافذ، وكان زوجها راكبا في موكب الملك ينظر إليها ساعة مروره النظرة الأخيرة، وقد قتل عدة أشخاص في نفس المنزل الذي ألقيت منه القنبلة؛ لأنها انفجرت في الهواء فحدث فيه ضغط أودى بالكثيرين، ولما بلغت الأرض زاد تفرقعها وقتلت عددا من الذين كانوا حول عربة الملك، ومن الفحص الطبي رأوا أن الجاني كان قد سم القنبلة تعمدا فدب الفساد في دم كثير من الجرحى وماتوا، وأن شذرات تلك القنبلة الجهنمية أصابت أقواس النصر المنصوبة وبعض الجدران على مسافة 90 مترا، وأنها كانت محشوة بنحو 200 غرام من الديناميت، وفي اليوم المذكور وردت تلغرافات تهنئة من القياصرة والملوك إلى الملك والملكة على نجاتهما، وأقيمت صلوات في الكنائس الكاثوليكية في أكثر جهات الأرض وفي كنيسة قصر ملك إنكلترا وأرسل رداء الملك المذكور الذي تلوث بالدم إلى الكنيسة ليخزن فيها علامة الشكر لله تعالى على النجاة. وفي اليوم المذكور مساء أطل الملك والملكة من شرفة القصر على جماهير العالم الواقفة أمام القصر فهتفت لهما هتافا عظيما، وكان الجاني ينوي إلقاء القنبلة على الملك بداخل الكنيسة، وقد سعى أن ينال ورقة دخول بصفته مكاتب جريدة ألمانية ودفع 300 فرنك لقاء ذلك، ولكنه لم يتمكن من الحصول على الورقة، فلو أنه دخل الكنيسة ورمى فيها تلك القنبلة لهبطت الكنيسة على الملك والملكة وبقية الحاضرين، وكانت مصيبة من أكبر مصائب العالم.
وأما الجاني فإنه فر بعد فعلته الشنعاء وأراد السفر، ولكنه التقى في اليوم التالي بأحد جنود البوليس في ضواحي مدريد وسأله عن الطريق إلى برشلونة فاشتبه الجندي به، ولما حاول أن يقبض عليه أطلق الجاني رصاصا على الجندي فقتله ثم أطلق على نفسه رصاصة أخرى فمات في الحال.
ويقال على الجملة إن ملك إسبانيا الحالي وملكتها من أحسن الحاكمين حالا وخصالا، وقد رزقهما الله حتى صدور هذا الكتاب ولدين وبنتا، وزادت قوة إسبانيا ونمت متاجرها كثيرا وتحسن مركزها السياسي في العهد الأخير. والملك ألفونسو يتكلم عدة لغات أوروبية، وله إلمام بمبادئ الفنون العسكرية والبحرية، وقد لقي أولياء الأمر عناء كبيرا في المحافظة على جلالته ورد مكايد الأعداء عنه من يوم ولادته؛ لأنهم كانوا يتآمرون على خطفه أو قتله في كل حين، فسلمه الله من مكايدهم.
ألفونس الثالث عشر ملك إسبانيا.
مدريد
هي عاصمة إسبانيا من أيام فيليب الثاني، وسكانها الآن ثمانمائة ألف نفس، فيها كثير مما يستحق الذكر، ومن أهم ذلك ميدان الشمس سمي بهذا الاسم؛ لأن الإسبانيين يقفون فيه تحت أشعة الشمس، ويلذ لهم الوقوف، وهو مثابة الخلق الكثير من عامة الإسبانيين. وللقوم ولع بالتدخين؛ فقل أن ترى إسبانيا بدون سيجارة في فمه أو في يده، حتى إن العامل الحقير يؤدي عمله طول النهار وهو يدخن، والتاجر يكلمك وينجز الأعمال وهو يدخن أيضا، والحوذي يسوق العربة والسيجارة في فمه، فهي عادة متسلطة على كل فئات الإسبانيين. واسم مدريد عند العرب مجريط، محرف عن الاسم الأصلي مثل كل الأسماء التي تداولوها مدة امتلاكهم هذه البلاد.
قلنا إن ميدان الشمس هذا موضع مهم في مدينة مدريد؛ فإنه يحيط به وزارة الداخلية وإدارة البرق والبريد وأحسن الفنادق والمخازن، وهو يعد أوسط المدينة وقلبها، تتفرع منه الشوارع الكبيرة أو تنتهي إليه، وأشهر هذه الطرق شارع «الكالا» أو القامة سمي بذلك؛ لأنه كان ينتهي في زمن العرب عند قلعة بني موضعها الآن منازل حديثة الوضع. وفي هذا الشارع حوانيت وحانات متقنة ونادي العسكرية ومرسح أبولو ومجلس الوزراء ووزارة المالية، وهي بناء ضخم ذات أبواب ثلاثة واسعة، ووزارة الحرب داخل حديقة جميلة، وينتهي في ميدان آخر أقيم به قوس نصر تذكارا لدخول الملك كارلوس الثالث مدريد، يتفرع منه ثلاثة شوارع: الأول يوصل إلى مرسح الثيران، وله أهمية عظمى هنا سنعود إلى بيانها، والثاني شمالا لحارة سلمنكه، والثالث يمينا إلى ميدان برادو، وهو أهم مواقع هذه المدينة وأجملها، يكنس ويرش مرتين في اليوم؛ لأن الخلق تحتشد فيه للتمشي وسماع الأنغام، وتقرب منه الحديقة العمومية دخلناها فإذا هي واسعة الأطراف، مليحة الترتيب، يزيد بهجتها بحيرة من الماء في وسطها وضعوا فيها زورقا بخاريا صغيرا يسير عليه الأولاد متنزهين فوق الماء، وأغراس هذه الحديقة جميلة زاهرة، ولكن أشكالها مألوفة كلها وليس فيها شيء غريب من مستعمرات إسبانيا القاصية.
وتحولت من هذه الحديقة إلى معرض مدريد المشهور للصور وتحف الصناعة الدقيقة، وهو بلا خلاف من أحسن معارض الدنيا في شيء واحد هو أن الصور الموجودة في غرفه من عمل المصورين العظام تزيد قيمة وثمنا عما في غيره، صحيح أن اللوفر الباريزي والناشيونال جالري في لندن فيهما صور أكثر من هذا المعرض، ولكن أهل إسبانيا جمعوا أثمن ما صور المصورون الكبار في كل البلاد ووضعوه في هذا المعرض، وكان ملوكهم يجودون من مال الدولة بسخاء كثير على ابتياع الصور الثمينة له، وأهمها من صنع رفائيل وفان ديك وموريلو، وهو أشهر من قام في إسبانيا بالتصوير الزيتي، لا يمكن أن يخلو معرض في أوروبا من بعض رسومه البديعة، وقد جمع مديرو هذا المعرض أثمن ما عندهم من الصور ووضعوها في الدور الأسفل من البناء حتى يمكن نقلها في الحال إذا حدث حريق في المكان، وهذا يخالف نظام المعارض الأخرى حيث توضع الصور العظيمة في الدور الثاني من البناء.
هذا كله تراه في الجهة اليمنى من ميدان الشمس وإلى ناحية شارع القلعة، وأما الجهة اليسرى من هذا الميدان فيتفرع منها شارع عظيم مقابل لشارع القلعة المذكور يعرف باسم مايور، وهو يؤدي إلى بعض ما في مدريد من المشاهد المأثورة مثل دار السلاح، وهي معرض كبير للأسلحة لا تقل القطع فيه عن 12000 قطعة، ومن أهمها ملابس ملوك إسبانيا القدماء وأسلحتهم، وهم بهيئة الفرسان غرقوا بالزرد فما ظهر منهم غير العيون، وهنالك سروج عربية مزخرفة بالفضة والذهب، وسيوف من حديد طليطلة الذي اشتهر في الأرض شهرة السيوف الدمشقية، وآثار أخرى عليها كتابات عربية، مثل: «نصر من الله وفتح قريب» على شفار السيوف أو «بسم الله الرحمن الرحيم» على الملابس، وغير هذا مما هو مألوف في هذه البلاد.
ويلي دار السلاح هذه قصر الملك بني سنة 1764، وبلغت نفقاته نحو ثمانين مليون فرنك؛ لأنه جعل حصينا متينا وقصرا فخيما في آن واحد، فيه ثمانمائة غرفة وأمامه عدة حدائق متقنة الوضع، فمساحته مع الحدائق 80 فدانا، وقد جعلوا الدور الأسفل منه لوزارة الخارجية ووضعوا في ساحته تماثيل القياصرة الرومانيين الذين نشئوا في إسبانيا وذكرناهم في المقدمة التاريخية، وفي هذا الدور عربات الملوك القديمة تستعمل في الحفلات الرسمية، ولها بغال عظيمة لجرها يتفاخر بها الإسبانيون تفاخر غيرهم بالجياد الصافنات، وأما الدور الأعلى فمنه قسم خص بالملك، وقسم آخر للمقابلات الرسمية والتشريفات، وهو لا يقل عن ثلاثين غرفة واسعة متقنة الترتيب ثمينة الرياش تليق بأبهة الملك وذوق الإسبانيين، وهم أهل إعجاب بوطنهم وصلف وكبرياء كما تقدم. وقد رأيت غرفة السفراء في هذا القصر وهي قاعة فسيحة فخيمة ملبسة جدرانها بالقطيفة النفيسة، ولها برواز من القصب وفيها 12 ثريا كبيرة تتدلى منها المصابيح العديدة، وفي صدرها كرسي الملك ما بين أربعة سباع من النحاس المذهب وتماثيل تشير إلى الحكمة والعدالة، وصورة الدولة الإسبانية حانية رأسها أمام الكنيسة وهي علامة التدين وتمسك إسبانيا بالمذهب الكاثوليكي، وفي هذا القصر كنيسة صغيرة ولكنها بديعة الصنع قامت على عمد من الرخام الأبيض، وفيها من نفيس الصور وجميل التذهيب والزخارف ما يستحق الإعجاب، وفي الدور الأسفل من هذا القصر موضع للعربات التي أقلت ملوك إسبانيا السابقين وأكثرها بني على الطرز الشرقي ولبعضها جمال كثير، هذا أهم ما يذكر في عاصمة الإسبان غير مرسح الثيران وبيانه في الفصل التالي.
قتال الثيران
أفردت لهذه العادة الغريبة فصلا خاصا بها؛ لأنها أهم ما يروى عن إسبانيا وأشهره؛ ولأن الأهالي لهم بها شغف يقرب من الهوس والجنون، وهي عادة منكرة قاصرة على أهل إسبانيا لا تليق بتمدن الأيام الحديثة، ولا تزيد هذه العادة عن مجزرة للخيل والثيران، وفيها خطر عظيم لبعض الأفراد يلذ للإسبانيين التفرج عليها إلى حد يفوق التصديق، فإنهم يأتون بثيران كبيرة قوية القرون يعلفونها ويحضرونها للقتال في مراسح واسعة، ثم إذا جاء موعد الفرجة هيجوها وحرشوها ودفعوها إلى ذلك المرسح، فتجد أمامها رجالا يهيجونها بالشالات الحمراء والوخز بالحراب الدقيقة حتى إذا اشتد هياجها؛ جاءها فرسان يقاتلونها بالحراب فتهيج هذه الثيران وتهجم على الفارس والفرس فتبقر بطن الفرس وتلقي الرجل في الخطر، وإذا انتهت من فعلها هذا قتلوها وجروها من المرسح مع الخيل المقتولة، فالفرجة كلها على هذه الحيوانات كيف تقتل. كل هذا يراه المتفرجون رجالا ونساء ولا يتأثرون، بل هم إذا اشتد الهول وكثرت فظاعة المنظر ورأوا دماء هذه الحيوانات المعذبة تسيل طربوا وفرحوا وصفقوا لها كثيرا، وقد ماتت عواطف الحنان والشفقة منهم بفعل تلك العادة.
قصدت مرسح الثيران في مدريد يوم الأحد، فما قدرت على ابتياع التذكرة لدخوله إلا بعد عناء كثير تكبده صاحب الفندق؛ لأن الإقبال على تلك الفرجة كان فوق ما تتصوره العقول. ومرسح مدريد أعظم مراسح الثيران في إسبانيا كلها، وفي صدره أماكن للأسرة المالكة، ومع أنه يضم خمسة عشر ألفا فما بقي فيه موضع خاليا، وكان الوصول في ذلك النهار إلى المرسح عسرا جدا من كثرة الزحام ووفود القاصدين ومنظر الناس فيه وهم 15 ألفا غريبا؛ لأنهم قعدوا طبقات طبقات تتدرج من أرض المكان إلى سقفه، وفي الأسفل ساحة كبيرة للمصارعة يحيط بها حاجز من الخشب غير مرتفع ولكنه متين، وهو يفصل الساحة عن مقاعد المتفرجين، وفي إحدى الجهات من تلك الساحة أبواب من الخشب تفتح وتقفل من الوراء ليدخل منها المبارزون والوحوش، وكان الناس ينتظرون بدء القتال بذاهب الصبر حتى إذا فتح أحد الأبواب وبدأ الفصل الأول صفقوا كلهم طربين معجبين، ودخل ثور كبير جعل يركض في عرض الساحة كأنما هو يقول هل من مبارز، هل من مناجز، فعندئذ دخل الساحة رجلان يلبسان الجوخ الأحمر المقصب، ومع كل منهما شال أحمر يحرش الثور ويهيجه فجعلا يغضبانه بإبراز الشال حتى هاج وغضب ففرا إلى ما وراء الحاجز الخشبي الذي ذكرناه.
قتال الثيران في إسبانيا.
ثم دخل رجلان آخران على شاكلة من ذكرنا ومعهما باليد اليسرى شال أحمر وباليمنى حراب، طول الواحدة نحو متر ونصف ملبسة بالقماش الأحمر ويتدلى منها شرائط حمراء، فجعلا يقاتلان الثور بهذه الحراب وهما كلما تقدم عليهما عرضا له الشال الأحمر فينطحه تشفيا منه وغيظا، وبعض هذه الحراب المذكورة تغرز في رقبة الثور وبعضها لا يعلق بها بل يسقط إلى الأرض ويوجب سقوطها ازدراء الحاضرين، كما أنهم يصفقون استحسانا إذا غرزت الحربة في رقبة الثور، فلما سال دم هذا الثور واشتد هياجه دخل ثلاثة فرسان على الخيل معهم حراب طويلة جعلوا يطعنونه كل في دوره، فعند ذلك هجم الثور على الحصان الأول ووضع رأسه تحت بطنه فبقره وألقاه شطرين ثم هجم على الحصانين الآخرين وفعل بهما كالأول حتى وقعت الأفراس الثلاثة تتخبط بدمائها، وأما الفرسان فإنهم سقطوا إلى الأرض لما قتلت خيلهم، وفي الحال فروا من وراء الحاجز ما عدا أحدهم أغمي عليه فبادروا إلى إعانته وانتشاله حينما كان الثور يدوس جثث الخيل وينظر إلى الحاضرين نظر الفائز المنتصر.
وبعد هذا دخل محارب يسمونه ثوريرو - أي الرجل الثوري - ومعه الشال الأحمر والحربة، فجد في محاربة الثور إلى حد أن وقف الاثنان ينظر أحدهما إلى الآخر غيظا، فحينئذ طعن الرجل الثور بحربة في رقبته فأخرجها من الجانب الآخر فلما وقع هذا الثور المسكين قتيلا هاج المتفرجون طربا وصفقوا استحسانا، وصدحت الموسيقى فرحا بتلك المذبحة، ثم دخلت عربات ورجال جرت الجثث إلى الخارج. هذا هو الفصل الأول من صراع الثيران يتبعه فصلان آخران لا يختلفان عنه كثيرا، غير أنه يدخل في الدور الثاني بنات على ظهور الخيل بيدهن الحراب فيحاربن الثور، ولا يعرضن أنفسهن ولا خيلهن للخطر بل يلتزمن الفرار كلما هجم الثور عليهن.
وقد تأثرت من هذا المنظر وأذهلني فقد الشفقة من صدور القوم، حتى إني عند خروجي من هذا المرسح سألت رجلا منهم رأيه في ذلك، فأجابني بما يفهم منه أنهم يعدون ذلك القتال براعة وجرأة، وأما الخطر الذي يلحق بالرجال المحاربين فلا يعتدون به؛ لأنهم يعدون ذلك من أشكال الإقدام ولا بد في رأيهم من قاتل ومقتول في كل معركة، وقد زادني عجبا أن فقد الشعور إلى هذا الحد غير قاصر على الرجال بل هو يشمل النساء والأولاد والبنات، وهم جميعا كانوا يصفقون طربا لتلك المناظر الفظيعة.
وفي كل مدينة إسبانية تذكر مرسح لقتال الثيران تنشر إعلاناته في الجرائد؛ فتأتيه الناس خاصة في السكك الحديدية من الأماكن والقرى البعيدة؛ لما اشتهر عنهم من الولع بهذه المناظر، وقد حاول بعض الفرنسويين أن يدخلوا هذه العادة إلى فرنسا، وأنشئوا لذلك محلا في غاب بولونيا في باريس؛ فعارضتهم الحكومة واضطروا إلى إبطاله، ولا عجب في هذا، فإن أكثر الأمم المتمدنة لا تخلو من عادات وحشية تلام عليها، من ذلك عادة الملاكمة عند الإنكليز ولها مراسح خاصة يتلاكم بها الرجال الأقوياء ويسيل الدم من وجوههم على مرأى من الألوف وهم يفرحون لبلواهم ويطربون ويصفقون للفائز من المتلاكمين.
الأندلس
كان جل مرادي من السياحة في إسبانيا أن أرى بلاد الأندلس البهية، حيث شاد العرب مملكتهم الزاهرة المشهورة؛ ولهذا فإني قمت من مدريد في قطار الحديد قاصدا هذه الولاية، ومررت في أرض كثيرة المزارع والربى والآجام يزرع فيها الرمان والبرتقال والعنب والتين، وغير هذا من أشكال الفاكهة اللذيذة والبقول الخضلة التي تكثر في إسبانيا كلها، وفي هذا الإقليم بنوع أخص وهو يرويه نهر سماه العرب باسم الجدول الكبير واسمه الإسباني «جواد الكفير»، وبعد سفر 12 ساعة في القطار وصلت مدينة «كوردوفا» واسمها عند العرب قرطبة، وهي مدينة قديمة العهد في تاريخ إسبانيا، كانت مقرا لمتاجر الفينيقيين الذين أنشئوا فيها معاصر للزيت وانتقاها الرومانيون من بعدهم فجعلوها نخبة المدائن الإسبانية، حتى إن بعض قياصرتهم ولدوا فيها، مثل تراجانوس وأدريانوس، كل هذا وهي ما رأت عزا عظيما مثل عز الدولة العربية حين جعلها عبد الرحمن الأموي قاعدة مملكة الأندلس، وصارت مقرا للعلم والصناعة تضاهي بغداد في ذلك على عهد الدولة العباسية، حتى إن عدد الجوامع في قرطبة على عهد عبد الرحمن بلغ 700 جامع غير المدارس والحدائق والمتنزهات الكثيرة.
وحيث وصولي قرطبة نزلت في فندق أوريان بني في ميدان يعرف باسم قبطان باشا، وقد تميز هذا الميدان بأغراس من البرتقال والنخل جعلت صفوفا متبادلة؛ أي إنهم زرعوا نخلة تليها شجرة برتقال في طول تلك الصفوف، وهم يقصدون من ذلك تمثيل الذوق العربي. وخرجت من هذا الفندق مارا بالميدان المذكور، فقصدت آثار جامع عظيم بناه الأمير عبد الرحمن الأول صاحب الأندلس، وقصد من بنائه أن يجعله ندا للجامع الأموي في دمشق؛ ولهذا الجامع شهرة ذائعة، فلطالما بالغ كتاب الإفرنج في شرح محاسنه حتى إنه ليعد من معجزات الصناعة وأفخر ما ترك الأولون للآخرين، بني على عمد من الرخام بعضها أحمر وبعضها أخضر والبعض أبيض أو لها ألوان أخرى، وعدة العمد كلها من داخل الجامع 750، فكأنما هي حقل زرع عمدا شهية، وقد نصبت صفوفها الحسناء تلي بعضها البعض على نسق يمثل للناظر الجمال والفخامة والعظمة في لحظة واحدة. وطول هذا المعبد من داخله 167 مترا والعرض 119، وصفوف الأعمدة العظيمة فيه لا تقل عن 36 صفا، لها مهابة يقصر عن وصفها الشرح الطويل، وله مئذنة عريضة يمكن للرجل أن يرتقيها على ظهر الجواد وعلوها 93 مترا، ومحراب وقفت أمامه زمانا أتأمل تلك المحاسن البديعة، وهو قطعة واحدة من الرخام الأبيض زخرف بالفسيفساء النادرة الإتقان، وفوقه مصباح من الذهب الوهاج، ولذلك منظر لا يمحى من الأذهان، وله أيضا مقصورة صنعت من خشب الأبنوس والند حفرت فيها رسوم وآيات كاملة الجمال قد لا يأتي بمثلها مهرة الصناع في هذا الزمان. وقد كان هذا الجامع ينار بمصابيح عددها 7425، ولا عجب في أن الإسبان لما جعلوه كنيسة لم يغيروا شيئا من وضعه اللطيف؛ فقد قيل إن أحد الأساقفة أراد تغيير شيء منه على عهد شارل الثالث، ولكن المجلس البلدي خالفه في الرأي فبقي الجامع على حاله، وحدث أن هذا الملك زار الجامع بعد ثلاث سنين فقال لمن حوله من خدمة الدين: «بحقكم، ألا تغيروا شيئا في هذا المعبد العظيم، فإن الذي تريدون إحداثه لا يمكن وجود مثله في كل يوم، وأما هذا فلا نظير له في الوجود.» وهذه شهادة بعظمة هذا البناء الفاخر الذي يفتخر بمثله الأوائل على الأواخر.
وليس في قرطبة الآن شيء يستحق الذكر غير هذا الأثر العظيم وأطلال دراسة وآثار عفت ما بقي منها غير الموضع، من ذلك ناحية على مقربة من المدينة اسمها فيجا بنى فيها عبد الرحمن الثالث قصر الزهراء المشهور في تاريخ الأندلس بطلب من زوجته الزهراء؛ إذ رجته أن يبني لها قصرا تقضي فيه آخر أيام اللذات؛ فأحضر المهندسين والبنائين من بغداد والشام وبلاد الروم وجهات إسبانيا، وجاء بالخشب من الشام وأفريقيا وبالمرمر من بعيد الأقطار، وأشغل في البناء عشرة آلاف عامل وثمانمائة بهيم، ثم أنفق مالا على زخرفه ورياشه، ووضع فيه الأدوات المرصعة بالحجارة الكريمة بعضه شري بالمال وبعضه جاءه هدية من الملوك المعاصرين، وكان من قاعات هذا القصر غرفة زوجته التي بني القصر لها زركشت مفروشاتها باللؤلؤ وجدرانها بالفسيفساء، ومن أدواتها سرير لها، قام على عمد من البلور وطشت وإبريق من الذهب مرصعان بالجواهر. ويتبع ذلك مواضع للخادمين والأعوان، ومنهم 600 جارية وحراس خارج القصر لا يقلون عن 4000 راجل و8000 فارس، وقد كان عبد الرحمن ينفق إيراد الدولة على بناء هذا القصر مدة 25 سنة، ويقال - بوجه الإجمال - إن النفقات بلغت مبلغا هائلا، وما بقي لهذا القصر العظيم إلى الآن أثر، بل إن في مكانه بساتين وأغراسا، فسبحان الذي يغير ولا يتغير!
سفيل:
واسمها العربي إشبيلية، قصدتها بعد قرطبة، وهي التي كانت مقر ملوك إسبانيا على عهد الدولة الغوثية، ومنها نشأت الفتنة التي أدت إلى قدوم العرب وخضوع البلاد لهم، وهي الآن مدينة جميلة يخترقها نهر جميل، وتكثر فيها البساتين والحدائق الغناء كانت في أيام العرب معروفة بعلومها وآثارها، وعدد سكانها الآن نحو 150 ألفا، يذكر عن هذه المدينة أنها شرقية في منظرها عامة وخاصة؛ فإن كثرة البساتين والفاكهة ونظام البيوت والشوارع يخيل لك أنك في بلاد شامية؛ لأن البيوت هنا شرقية الوضع لها في مدخلها فسحة صغيرة يجلس فيها رب الدار ويقضي أعماله مع زائريه، ويليها حاجز من الشعرية، وراءه فسحة كبيرة مبلطة بالرخام الأبيض تزرع فيها الأزهار والأغراس من برتقال وورد وزنبق ومنثور، وفي وسطها بركة من الماء يجلس حولها أهل البيت وفوقهم القبة الزرقاء، ومن حولها الغرف، أرضها بلاط أبيض فكل ذلك يحكي ما في دمشق الشام من نظام المنازل.
وإني حال وصولي هذه المدينة قصدت بناء شهيرا يسمونه الكازار محرفا عن القصر، وقد صارت هذه الكلمة ذات شهرة في أوروبا مثل الهمبرا المحرفة عن الحمراء، يسمون بها الحانات والملاهي والمراسح في أكثر العواصم الأوروبية، وذهبت إلى الألكازار، وهو قصر الأمير عبد العزيز من أمراء الدولة العربية قام على عمد وركائز من الرخام الأبيض، وقاعاته كلها مزينة بالفسيفساء المذهبة، وهي نادرة المثال عظيمة المجال، والسقوف ألواح سميكة من الخشب حفرت عليها رسوم وآيات جميلة على النسق العربي المشهور، والشبابيك فيه واطئة عريضة أكثرها لا يخلو من رسوم عربية، ودخلت الحمام الكائن في هذا القصر، فإذا هو آية من آيات الإتقان الشرقي كأن بانيه يرتاح إلى الجلوس على مصاطبه لا سيما وروائح الند والعود تتضوع من جوانبها، وله في أعلاه كشك كانت الغيد الحسان تسمع الأمير منها شجي الألحان، وهو راقد فوق وثير الفراش وقد نسي متاعب الزمان، هذا هو الحمام الشتوي، وأما الصيفي فوضع داخل قسم النساء من وراء الحديقة يشبه بمنظره فسقية شبرا المشهورة، وله طريق مبلطة أرضها بالطوب الأحمر ينفذ الماء من أنابيب فيها لا تظهر للعين، فإذا فتح لها مفتاح تدفق الماء على نسق بديع من تلك العيون الخفية. وحديقة الحرم مشهورة بجمالها أيضا تمشينا فيها بين شهي الأغراس وأشجار المانلا تفوح منها الروائح العطرية، وأشجار نخل وبرتقال وتفاح وغير هذا مما يذكر المتفرج بالهناء الشرقي والحياة الخالية من الهم، وأعجبني نوع من البرتقال تظهر الفصوص في ثمره من قبل أن يقشر وطعمه شهي لذيذ.
ومما يذكر في هذه المدينة كنيسة جيرالدا، هي أعظم كنائس إسبانيا وأشهرها، بدأ كارلوس الأول ببنائها وأتمها الملوك من بعده، وكانت بغيتهم جعلها أحسن الكنائس فوسعوا نطاقها، واشتروا لها من التحف والمثمنات ما يقرب من تحف كنيسة مار بطرس في رومة، وكنائس روسيا المشهورة، وفي هذه الكنيسة مدفن ابن خرستوفوروس كولومبوس مكتشف القارة الأميركية. وفي هذه المدينة معمل للسجاير للحكومة تعمل به أربعة آلاف ابنة وامرأة، وسجايره مشهورة باسم سفيل، وضواحي المدينة بديعة الجمال نامية الشجر والأغراس الشهية، قضيت نهارا أدور في جوانبها وراق لي حسنها الباهر وعدت في السهرة فرأيت رقص البنات الإسبانيات وهن يلبسن جلبابا قصيرا إلى حد الركبة ويمسكن بالدفوف ينقرن عليها ساعة الرقص، وعلى رأسهن منديل مثل بنات العرب ومنظرهن كثير الجمال، وهذا جل الذي يذكر عن إشبيلية برحتها قاصدا غرناطة والمسافة 11 ساعة في قطار الحديد.
جرنادا:
سكانها تسعون ألف نسمة واسمها العربي غرناطة، لم يعرف عنها شيء قبل دخول الإسلام إلى إسبانيا، فهي مدينة عربية محضة، ولم تزل كل محاسنها إلى هذا النهار آثارا عربية، ووضعها عربي يروق للناظرين، وقد أصبحت بلدة لا يزيد عدد سكانها عن سبعين ألفا، على حين أن منازلها كانت تزيد عن هذا العدد في أيام عزها السالف حتى إنه ليس فيها شيء يذكر غير هذه الآثار العربية المبنية على قمة جبل شيدت فوقه الفنادق العظيمة يقصدها السائحون، وقد كانت غرناطة عاصمة الدولة العربية الثانية التي أسسها محمد ابن الأحمر المعروف باسم محمد الأول الغالب سمي بذلك؛ لانتصاره في كثير من المواقع ولما سمع الناس يقولون له ذلك يوما أجابهم أن «لا غالب إلا الله»، وقد اشتهرت هذه العبارة عنه ونقشت على كل جوانب القصر العظيم الذي بناه ويعرف باسم الحمراء أو الهمبرا، وهو من عجائب الآثار الجليلة ولعله أعظم آثار القرون الوسطى في البلاد الأوروبية، واسم الهمبرا متداول في أوروبا يسمون به المراسح والحانات، وهذا بعض ما يستحق الذكر عنه.
إني جعلت همي الأول بعد وصولي مدينة غرناطة التفرج على الحمراء هذه، وكنت قد قرأت عنها في كتب الفرنجة أشعارا وفصولا نفيسة حتى إني رأيت في كتابة بواتو الرحالة الفرنسوي ما يزيد عن المبالغات الشرقية في وصف عظمة هذا القصر وغرائبه، وهو - والحق يقال - يمثل قوة الإدراك والخيال وبراعة التنظيم والهندسة والإتقان إلى حد يوجب كل هذا الإعجاب، وما كذب الذي قال إن باني هذا القصر جمع كل ما وصلت إليه علوم البشر من أنواع الزخارف، وأضاف إليها فنون الجن وقصورهم الفخيمة على ما جاء في حكايات الأولين، فكانت النتيجة بناء يسحر الألباب ويذهل العقول وجمالا ما له في آثار الغربيين مثيل.
ولقد مررت بأغراس وصفوف من الشجر البديع في طريقي من الفندق إلى الحمراء وخرير الماء بين صفوف الصنوبر والحور والصفصاف يزيد بهجة المكان ويعد الفكر للتلذذ بمرأى تلك الدار الغريبة، حتى إذا وصلتها دخلت من باب العدل نقش فوقه مفتاح ويد مبسوطة إلى ناحية السماء، ورأيت من بعد الباب ساحة كبرى توسع للفكر المجال اسمها حوش القاضي، ويليها حوش الآس زرع به من أغراس الآس شيء كثير، وهو على ما تعلم من أجمل أشكال النبات وأطيبه نفحا. وسرت بعد ذلك في رواق مستطيل قام على 148 عمودا من الرخام الأبيض مكللة رءوسها بالنقوش البديعة، وقد وضعت أربعة أربعة وثلاثة ثلاثة، وهي طويلة مستدقة لها جمال رائق، وفي أكثرها آثار التذهيب من أيام بنائها، وأرض هذا الرواق مبلطة بالرخام الأبيض، وجدرانه مكسوة بتراب الرخام وقد نقشت كلها نقشا دقيقا حتى صار منظرها يقرب من منظر الخرج المشغول بالإبر لدقة زخارفه ورقة نقوشه، والواقف في هذا الرواق يتأمل منظر عمده الباسقة وجدرانه المتناسقة لا يملك النفس عن إظهار الطرب والإعجاب بذكاء الذين نظموا تلك المحاسن على هذا الشكل المليح.
قصر الحمراء.
ودخلت بعد هذا قاعة السفراء، وهي من غرائب هذا القصر، بني سقفها مثل سقوف الجوامع، وكسيت جدرانها لحد مترين بالقيشاني الأزرق يشبه الفيروز، وفوق هذا القيشاني الثمين في جميع الجدران نقوش دقيقة رقيقة مثل التي مر ذكرها وعبارة «لا غالب إلا الله» في كل الجوانب، وهنالك عبارات أخرى أيضا، مثل «الفتح والنصر المبين لمولانا أبي عبد الله أمير المسلمين.» ولهذه القاعة شبابيك واطئة كثيرة الاتساع يمكن الجلوس عليها لعدة أفراد، وهي تطل على واد بهي وراء غرناطة، واتساع القاعة مع ما فيها من تلك الزخارف يشرح الصدور، وأعظم منها حوش السباع سمي بذلك؛ لأن في وسطه بحيرة يتدفق الماء من أنابيب جميلة فيها، وقد قامت على سباع عدة كلها من الرخام. ولهذه البركة ذكر في التاريخ؛ لأنه قتل فوقها 36 أميرا من بني سراج أصحاب الدولة العربية في ذلك الحين بدسيسة من آل زقل، ومن حول تلك البحيرة مجال واسع مبلطة أرضه بالرخام أيضا وصفوف من العمد المستدقة ذات النقوش الفاخرة والتيجان المجللة بأحسن الزخارف، وقد ارتفعت من فوق هذه العمد قبة شاهقة تزيد بهاء هذه القاعة، فإذا ما وقف المتفرج في وسط هذه القاعة الكبرى يسمع خرير الماء ويرى من حوله هاتيك العمد كالعرائس تسطع وتلمع من كل جانب خيل له أنه في جنة الخلد، وزاد إعجابه بمقدرة الذين بنوا هذا الأثر العظيم.
ودخلت بعد ذلك الحمام الصيفي والحمام الشتوي، وهما على شاكلة الذي تقدم وصفه من حمامات العرب الأخرى ، وتأملت تلك السقوف في غرف القصر كلها، وهي مصنوعة من ألواح خشبية سميكة عليها حفر وترصيع بالذهب والعاج وعرق اللؤلؤ، وأكثر الخشب في السقوف من الأبنوس الثمين، وليس في البناء كله سقف أو جدار يخلو من نقوش عربية وآيات قرآنية محبوكة أطرافها مشتبكة فروعها، كنت أقصدها للتأمل في محاسنها يوما بعد يوم لئلا يفوتني شيء منها، وهي كما تعلم كبيرة طولها 726 مترا وعرضها 197، وقد بنيت على أحد جبال ثلاثة غرست فيها أشجار الصنوبر والسنديان من قدم، والماء يتدفق من جوانبها، فما اجتمعت محاسن الطبيعة والصناعة في مكان أكثر من اجتماعها في ذلك المكان البديع.
وفي غرناطة وضواحيها عدة آثار عربية، منها قصران على مقربة من الحمراء وهما يشبهانها بعض الشبه في النقوش والزخارف، كانا مسكنا لقواد العساكر، وفي الضواحي قصر آخر يسير إليه المتفرج بين حراج من الزيتون والرمان والبرتقال والجوز، وهو أيضا على شاكلة الحمراء بناه محمد الثاني، وكتب على جدرانه قول سلفه: «لا غالب إلا الله» مرارا. وقد أعجبني منظر الرمان في هذه الجهة، وهو مشهور بلذته حتى إن الإفرنج يسمونه باسم غرناطة (بومجراناد)، ومعنى اسمه عندهم تفاح غرناطة. وقد زاد في حسن هذا القصر أنهم أدخلوا إلى حديقته الغناء فرعا من النهر، فالذي يرتقي الأكمة المبني عليها القصر بين صفوف الشجر وبحيرات الماء وجداوله لا يملك نفسه عن إبداء الطرب والعجب، وفي داخل القصر هذا أيضا جامع فخيم مبلط بالرخام وجدرانه مملوءة بالقيشاني وخشبه منزل بالذهب والعاج، وفيه رسوم كثيرة الجمال وآيات دينية مختلفة الأشكال.
وأما جرنادا أو غرناطة الحالية فليس فيها شيء يذكر غير أني شهدت احتفالا دينيا يجلون قدره هنا كثيرا؛ فإنهم في عيد العذراء كل عام - وهو يقع يوم 23 سبتمبر - يسيرون بموكب حافل في طرق المدينة، ويشترك في هذا الموكب رجال الحكومة والدين والأهالي كلهم، وأصحاب الحرف والصنائع ويتكون من ذلك مشهد عظيم يستحق الذكر، يبدأ بجوق من رجال الموسيقى جميل الملابس تتبعه شرذمة من الجنود ثم جوق آخر وشرذمة أخرى من الجنود أيضا يتبع أثرها رئيس المجلس البلدي وأعضاؤه والتجار وأرباب الحرف، ومع كل فئة علم كتب عليه اسم الحرفة، ويلي هؤلاء محافظ المدينة بملابسه الرسمية والنياشين، ثم رجال الدين يرفع أحدهم صليبا قديم العهد فوق عصا من الفضة، ثم تمثال العذراء من الجبس لابسة فاخر اللباس المزركش، وعلى رأسها إكليل من الألماس والملابس كلها مرصعة بنفيس الجواهر، ويرفع هذا التمثال أكبر سراة المدينة وأعيانها فيمرون به في الشوارع الكبرى على هذا الشكل المهيب، ولا يتم الاحتفال قبل ساعتين أو ثلاث ساعات.
مدائن أخرى
وإسبانيا كثيرة المدائن التي لها ذكر في التاريخ فإني لما فرغت من مشاهدة ما في غرناطة برحتها قاصدا «ملاغة»، واسمها العربي مالقة، من الثغور الإسبانية المعروفة وصلتها من أرض تختلف ما بين سهل وجبل، فجعل القطار يخترق الأرض ويدخل نفقا بعد نفق وعدتها عشرون في مسافة 6500 متر، ثم يخرج إلى سهول زرعت فاكهة وعنبا يستخرج منه نبيذ ملاغة المشهور بحلاوته، والأرض هنالك حمراء يختلط ترابها بماء نهر يسمونه «جواد الهوارس» واسمه العربي جدول الحرث، فيحمر ماؤه حتى يخيل لك أنه سيل من الدماء. وأما ملاغة هذه فسكانها لا يزيدون عن 120 ألفا، وهي من أقدم المدائن الإسبانية، انتابها الفينيقيون وجعلها الرومان من المراكز المشهورة، وعرفت في أيام العرب بمقاومة عبد الرحمن مؤسس الدولة العربية وعدم الاعتراف له بالخلافة، ولهذه المدينة شهرة الآن باعتدال الهواء؛ لأنها واقعة على ضفة البحر فلا يشتد حرها في الصيف ولا بردها في الشتاء، ونساؤها جميلات يلبسن المنديل على الرءوس بدل القبعة المعروفة، وأهم ما فيها متنزه يسمونه ألميدا، وهو اسم يطلق على كثير من متنزهات إسبانيا، ولعل المراد منه الميدان محرفة. وفي ألميدا هذه أشجار ومقاعد هي مثابة المتنزهين، وفي هذه المدينة معامل للخمر المشهورة زرنا أحدها وكان مديره مرافقا لنا يشرح لنا كيفية صنعها. وفيها أيضا سوق تعرف باسم سوق العرب باقية على حالها من أيام العرب، وعلى بابها باللغة العربية عبارة «الله الغني»، ومنها اتجهنا إلى معمل الليمون، أريد به محلا يصدر منه الليمون المعروف إلى الخارج، تلف كل ليمونة في ورقة وتشحن، ويقوم بهذا العمل فتيات من سكان المدينة.
ألميرا:
واسمها العربي الميرية، وهي على مسيرة 6 ساعات بحرا من ملاغة، اشتهرت بما تصدر من معادن إسبانيا؛ ولذلك ترى بواخر الإنكليز وسواهم كثيرة في ميناها ولم تزل بها بقايا الاستحكامات العربية في الجبل الملاصق لها، وسكان ألميرا لا يزيدون عن خمسين ألفا، ولها متنزهات، أهمها ميدان الأمير، فيه تماثيل شهداء الحرية الذين قتلوا بسبب ميلهم إلى الحرية في ثورة سنة 1824.
قرطاجنة:
وذهبت بعد هذا إلى قرطاجنة في حين كثرت الأنواء واضطربت مياه البحر بسبب ريح تعرف عندهم باسم مسترال تهب من شطوط إسبانيا، وهم يخشون في مرسيليا شرها؛ لأنها توجد الخطر في البحر وقد تضر بالمزروعات في البر؛ ولذلك عقدنا النية على إتمام السفر برا بسكة الحديد مع طول المسافة، وهي لا تقل عن 80 ساعة فلما وصلنا قرطاجنة رأينا في الميناء عدة بواخر إنكليزية لنقل الأبضعة، فإنه يشحن من هنا إلى الخارج خمر كثير غير معادن الحديد والرصاص التي يستخرج منها قناطير مقنطرة كل عام. وفي الجبل المحدق بهذه المدينة آثار حصون عربية تشهد بأهميتها الماضية في تاريخ إسبانيا.
فالنسيا:
عدد سكانها مائة وثمانون ألف نسمة، واسمها العربي بلنسية، تبعد عن قرطاجنة بقطار البخار عشرين ساعة، والأرض بينهما أريضة رصعت بيانع الخضرة، ومن أجمل مناظرها غابات من شجر البرتقال ظل القطار البخاري يسير بينها مدة 4 ساعات متوالية، وقليل مثل هذا بين المزارع في اتساعه حتى إنه متى جاء موسم الزهر تكثر رائحته في هذه الغابات إلى حد أن المسافرين في القطار يضطرون إلى إقفال نوافذه من شدة هذه الرائحة، ووصلناها بعد أن مررنا بمدن عديدة، مثل المنارة ومرسي والشي، وهي كثيرة الشبه بالجيزة لما فيها من شجر النخيل. وبلنسية ثالثة مدن إسبانيا في الأهمية، ولتجارتها أهمية كبرى. والمدينة قسمان: القسم العربي القديم والقسم الإسباني الحديث، فأما العربي فطرقه ضيقة عوجاء، وأهمه مواقع حصون وقلاع وفيه قصر قديم عربي جعلوه الآن مقرا لمجلس التجارة ، ولم تزل محاسنه العربية على حالها، وجوانبه المذهبة تسطع كأنها هي من صنع الأمس. وأما القسم الجديد فأكثر من الأول نظاما وتكثر فيه منازل الأغنياء والسراء شادوها على النسق العربي، وفيه متنزه اسمه ألميدا يكثر تردد الخلق إليه نساء ورجالا. ولهذه المدينة شهرة بالجمال وحسن الموقع، وهي من أكثر مدن إسبانيا حركة وعملا.
برشلونة:
ولكن أجمل مدن إسبانيا بلا خلاف هي برشلونة، ليس يستثنى من ذلك مدريد، ولو تكون هي العاصمة فإن برشلونة هذه قريبة من فرنسا فأهلها يتخلقون بأخلاق الفرنسيس في حب الزخارف وفي الاجتهاد والسعي. وقد كان سيرنا إلى برشلونة في إقليم من الأرض لا مثيل له في جودة التراب وطيب الهواء والماء، وأرضه تسقى من أقنية فخارية صنعت من أيام العرب، وما طرأ عليها اختلال إلى هذا اليوم، والسفر في هذه الجهة من إسبانيا الجنوبية كثير اللذة بديع المناظر من ناحية البر وناحية البحر؛ فإن هيئة إسبانيا هنا مشهورة بجمالها وبدائعها الكثيرة.
وعدد سكان برشلونة ستمائة ألف نسمة، وهي وافرة الإتقان وافية التنظيم خلافا لأكثر مدائن إسبانيا، ولأهلها أخلاق الفرنسيس وهمتهم - كما ذكرنا - وهم ينددون بالحكومة لاتخاذها مدريد عاصمة لها بدل مدينتهم الزاهرة، وأهل برشلونة أقل سمرة من بقية الإسبانيين وأكثرهم نعمة وترفا، ترى الرجال والنساء منهم دائما يتزينون بالأزياء الفرنسية، وهم أهل بذخ ورواء ظاهرين. ولقد كانوا فيما مر أهل بأس في الحروب ردوا الأعداء عن بلادهم مرارا ولهم تاريخ مشهور. وبرشلونة حافلة بالملاهي والمراسح والميادين والمتنزهات في كل جانب، ولأهلها ولع بالقصف والطرف، فهي مجموع قصور بين غياض الشجر وبرك الماء البديعة، وشوارعها تحكي الحراج الغضيضة في تناسق أشجارها ونضرتها، وأهم هذه المواضع ميدان راميلان واسمه العربي رملة، طوله 1200 متر وعرضه 450، وهو حافل بالشجر الباسق تشامخت أغصانه، وأهل المدينة يؤمونه عصاري كل نهار؛ لاستنشاق الهواء النقي وسماع الأنغام، فيلذ للغريب انتياب هذا الموضع؛ لأنه يرى فيه من المناظر الحسنة والوجوه النقية الطلقة ما لا يراه في موضع آخر من إسبانيا.
وينتهي هذا الميدان عند البحر ، حيث أقيم تمثال خرستفوروس كولمبوس مكتشف أميركا، ويتصل بميدان آخر اسمه ميدان العمود طوله 600 متر، وهذا يتصل بميدان الملكة إليصابات طوله 700 متر، ويليه ميدان رابع اسمه ميدان الملكة طوله 500 متر، وإلى جانبه ميدان خامس يعرف باسم سان جوان طوله نحو 500 متر، فطول هذه الميادين جميعها لا يقل عن 3500 متر، وقد كنت أمر في شوارع هذه المدينة البهية فلا أنتهي من ميدان حتى أدخل ميدانا آخر مثله في الرونق والبهاء وكلها معارض لجميل الشجر وشهي الزهر، والأبنية المتقنة تحيط بها من كل جانب، فيها المنازل المشيدة والمخازن الكبيرة والحانات المزخرفة والبرك الواسعة تتدفق منها المياه العذبة، فكان لمنظر برشلونة هذه تأثير نفسي. وإلى يمين الميدان الأخير حديقة عمومية دخلتها فألفيتها روضة غناء من ضمن محاسنها تمثال الظفر، وهو عبارة عن جسم امرأة في مركبة تجرها جياد أربعة، والتمثال كله مذهب فوقه شلال ماء ينحدر منه الماء الزلال على صخور صناعية، ويصب في غدير تروى منه جوانب الحديقة، فإذا وقفت في طرف الرواق وتأملت هذه المناظر كلها لم يزل رسمها من ذهنك ولو طال عليها الزمان، هذا غير ما في المدينة من معارض الصور ومرابض الوحوش البرية مما أعدل عن وصفه مطولا؛ لأنه لا يختلف عما ذكرت من نوعه في المدائن الأخرى.
ومما يذكر في برشلونة أيضا كنيستها الكاتدرائية زرتها وأعجبت بجمالها وإتقان ما فيها، ورأيت هنالك وفي كل جهة من تعبد الإسبانيين شيئا كثيرا، فهم أشد الكاثوليك تمسكا بدينهم، وقد كنت أراهم يقبلون جدران الكنائس وإذا رأوا في القطار قسيسا مسافرا دنوا منه وقبلوا يديه، وعلاقة حكومة إسبانيا بالحضرة البابوية مشهورة من عهد بعيد، وقد نشأ في هذه البلاد طغمة الآباء اليسوعيين، وهم من أركان المذهب البابوي - كما لا يخفى - فإن أغناتيوس لويولا مؤسس هذه العشيرة كان إسبانيا.
ومن أجمل ما يذكر عن برشلونة إحدى ضواحيها نريد بها جبل مونسرات المشهور في الأرض لا يخلو معرض للصور في أوروبا من رسم له، وهو عبارة عن عدة آكام تشبه قوالب السكر في شكلها تجمعت هنالك على نسق غريب، وقد بنى الرهبان ديرا فوق ذلك الجبل له شهرة ذائعة وذكر في الحروب كثير، وفيه صورة للسيدة العذراء يزعمون أنها من صنع لوقا الإنجيلي ويحتفظون بها احتفاظا كثيرا، فلطالما أخفوها في لحف الجبل وفي المنازل مدة الحروب، ولم يبالوا بغيرها من تحف الدير، ثم أعادوها إليه بعد الحرب باحتفال كبير، وأكثر ما تم ذلك مدة الحروب الأهلية الأخيرة وحرب فرنسا وإسبانيا على عهد نابوليون؛ فقد كان الفلاحون والرهبان يظهرون بسالة وحماسة غريبتين في الدفاع عن هذه الصورة وحفظها، ولا عجب فإن اعتبارها عند القوم قديم حتى إن أكبر رجالهم كانوا يجلون قدرها ويحترمون الدير احتراما كبيرا، ومن الذين زاروا هذا الدير البابا بنوا والملك كارلوس الرابع مع زوجته والملك فردناند السابع سنة 1827 وهو الذي وهبه 130 ألف فرنك، والدير غني بأوقافه ونذوره واسع الجوانب، يمكن أن يضم ألفي شخص، وزواره لا يقلون عن سبعين ألفا في السنة. وقد زرته فرأيت منظر المدينة والبحر والجبل والسهول المحيطة من قيمة مونسرات، فإذا هي من أهم مناظر الأرض وأكثرها جمالا.
وعلى هذا، فإني سحت في إسبانيا سياحة طويلة بدأت من بلاد البورتوغال عند شطوط الأقيانوس الأتلانتيكي، وسرت من الغرب إلى الشرق ومن الشرق إلى الجنوب متبعا ضفاف هذه البلاد حتى انتهيت من أهم مناظرها ومدائنها المعروفة، وكانت جملة ساعات السفر في أرتال إسبانيا والأندلس 124 ساعة، ثم عولت على الرحيل وقد رأيت من جمال هذه البلاد وخصبها وبديع مواقعها شيئا كثيرا. ولما كانت برشلونة - وهي آخر ما ذكرت من مدن إسبانيا - قريبة من حدود فرنسا - كما مر بك - فإني قمت منها قاصدا مدينة مرسيليا، والمسافة بين المدينتين 15 ساعة أكثرها مناظر فائقة الجمال، سواء في أرض إسبانيا أو في أرض فرنسا، ورأيت في مرسيليا عدة من المعارف عائدين إلى هذا القطر السعيد، وكان من حسن حظنا أن سيد المحامد والفضائل سمو البرنس محمد علي باشا شقيق الحضرة الخديوية الفخيمة كان معنا عائدا إلى مصر، فكان هذا الأمير الكريم يلاطف كل مسافر ويعمل بكرم خلقه وطيب أصله وفرعه حتى وصلنا ثغر الإسكندرية وألقينا عصا الترحال فيها بعد تلك السياحات المطولة، والحمد لله على كل حال.
طريق إنكلترا
وفيه وصف بعض مشاهد فرنسا
يذكر القارئون أن الأمة الإنكليزية احتفلت في شهر يونيو من سنة 1897 بمرور 60 عاما على حكم جلالة الملكة فكتوريا، وأطلق على ذلك العيد العظيم اسم اليوبيل، وهو من حوادث الدهر المشهورة، لم يسبق له نظير في تاريخ الأرض، وقد لا يمر على الناس حادث مثله؛ ولهذا فإني قصدت إنكلترا في ذلك العام للسياحة فيها ولحضور هذا الاحتفال الغريب، وقد نشأ عن ذلك أني جعلت كلامي عن هذه البلاد العظيمة أقساما لا بد منها: أولها وصف الذي مررت به من مدائن فرنسا وغيرها قبل وصولي إنكلترا، والثاني تاريخ موجز لدولة الإنكليز لا غنى للقارئ عنه، وهو على شاكلة ما تقدم من الخلاصات التاريخية، والثالث وصف لمدينة لندن عاصمة هذه البلاد، والرابع وصف الاحتفال العظيم الذي تقدم ذكره ويتقدمه كلام عن جلالة الملكة فكتوريا صاحبة هذا العيد، وهذا الفصل من ألذ فصول الكتاب، والقسم الخامس وصف لبعض مدائن المملكة الإنكليزية المشهورة على مثل ما تم لنا في الممالك الأخرى، وعلى هذا فنحن نبدأ بالكلام على مدائن ليست من إنكلترا، ولكنها كانت في طريقنا، وإليك البيان: برحت الإسكندرية يوم الجمعة الموافق 4 يونيو من سنة 1897 في إحدى بواخر الشركة الفرنسوية المعروفة باسم مساجري ماريتيم، في يوم راقت سماؤه ورق هواؤه، وكانت وجهتنا الأولى مدينة مرسيليا، فكنا في الطريق نسرح الطرف في أطراف البحر الواسعة ونتأمل عظمة الفضاء حتى ظهرت جبال إيطاليا في اليوم الثالث، وقربت الباخرة من مدينة مسينا حتى إننا كنا نرى شوارعها ونحن سائرون في البحر. وفي اليوم التالي سرنا ما بين جبال كورسكا إلى اليمين وجبال سردينيا إلى الشمال حتى إذا كان اليوم الخامس ظهرت مدينة «مرسيليا»، وأوضح ما فيها عن بعد كنيسة «نوتردام ده لاجارد»؛ أي السيدة الحارسة. وقد بنيت هذه الكنيسة على مرتفع من الأرض كثير الجمال، وسنعود إلى ذكرها.
مرسيليا:
هي مدينة قديمة يغلب على الظن أن الفينيقيين أول من بناها وأوصل الأبضعة الصورية إليها، وهي الآن من أمهات المدن الفرنسية وأعظم الثغور التجارية في جنوبي أوروبا، كان لها فعال كبيرة في تاريخ فرنسا القديم والحديث ولا سيما في أيام الثورة المشهورة، وقد كان جل تقدمها من بعد أيام هذه الثورة؛ فإن أهلها عكفوا على المتاجر وجمعوا المال الكثير، ولما صار نابوليون الثالث إمبراطورا وجه إليها عناية خاصة ورقى شئونها، ثم فتحت ترعة السويس فصارت هي الصلة الكبرى بين الشرق والغرب في نقل المتاجر؛ لتوسط مركزها بين القارتين؛ ولذلك بنيت بها المرافئ الوسيعة والحياض الفسيحة والشوارع الكبرى والساحات والحدائق على أشكالها، وكثرت الدور والمنازل وأصبح سكانها لا يقلون عن سبعمائة ألف نفس ترى بينهم خليطا من كل جنس وملة يقصدونها للمتاجرة. وفي أكثر شوارعها حركة وضجيج دائمان يشهدان بكثرة الأعمال وأهمية المركز التجاري؛ فهي لا يزيد عنها في هذه الحركة غير مدن قليلة في أوروبا وأميركا.
وأهم الشوارع التي تستحق الذكر في مرسيليا شارع الكنابيير يضرب المثل بجماله ورونقه حتى إنهم جرى على لسانهم قول معناه: أنه لو كان في باريس مثل شارع الكنابيير لما وجد لها نظير. وهو في وسط المدينة يشطرها شطرين متساويين تقريبا، ويمتد من المرفأ وفيه من الأبنية العمومية والخصوصية ما يعسر عده، من ذلك بناء البورصة، وهو فخيم المنظر، قام على عمد متينة، وفي صدره نقوش تشير إلى الملاحة والصناعة والتجارة، وفي داخله يعقد مجلس التجارة جلساته، وتجاهه في هذا الشارع الحانات والمطاعم على أشكالها يقعد الناس فيها، وأكثرهم يشربون الإبسنت الذي أصبح مسكرا عاما لجماعة الفرنسيس يتعاطونه في كل حين، ويقول بعض المدققين إنه مسكر كثير الضرر بالأجسام والعقول تقرب نتيجة استعماله من نتائج الأفيون والمخدرات السامة، ولكن للفرنسيس ولعا به مشهورا.
وفي طرف الكنابيير هذا شارع نوايل، بني عن يمينه فندق نوايل من أحسن فنادق المدينة، وعن شماله فندق لابيه، وفي نهايته ميدان ملهان غرست به الأشجار الجميلة صفوفا صفوفا، ومهدت طرقه تمهيدا لطيفا، وفيه نصب للجنود الذين قتلوا في حرب 1870، فهو مثابة المرسيليين ومجتمع أفرادهم يؤمونه في كل عصر لسماع الأنغام والتفرج بعضهم على بعض على عادة الناس في مثل هذه المواضع. ويقرب من هذا الميدان أو هو يحده قصر الماء المشهور «شاتودو»، وهو أشهر ما في مرسيليا من المناظر التي يذكرها الغريب، إذا قصدته رأيت قبل كل شيء ماء يتدفق سيلا مدرارا ويتساقط من رابية كأنما هو شلال عظيم فينصب على صخور أقيمت في طريقه ويتحول منها إلى سلم من الحجر فيجري الماء على الدرج واحدة بعد واحدة، وله خرير ومنظر جميل، فوقفت أتأمل ذلك المنظر زمانا ثم ارتقيت الدور الأول من القصر له، سلمان مستديران واحد إلى يمين الشلال والثاني إلى شماله. وفي غرف القصر متحف تاريخي، أذكر من بين آثاره تمثال جندي مصارع من المرمر يستعد للقتال وقد أتقن صنعه، وظهرت جميع عضلاته، وتمثال كليوباترا يلسعها الثعبان، وغير هذا من المشاهد التاريخية. وفي الدور الأعلى متحف للصور، أكثرها من صنع المصورين المرسيليين وقليل بينها مشترى من الخارج، وقد صارت الأرض التي تلي هذا القصر حديقة عمومية لها شهرة بتنسيق أغراسها وأشجارها وما حوت من الزهر الغريب، بعضه منقول من أقاصي الأرض، هذا غير أن فيها مجموع طيور من أطراف المعمورة، وقد لا يوجد مثل بعض الطيور المجموعة هنا في حدائق لندن وباريس المشهورة، ولبعضها جمال غريب، منها ما يشبه ريشه الفضة، ومنها ما يقرب من الذهب، ومنها ما له الألوان الزاهية الكثيرة العدد، فهي من الأشياء التي يجب على الغريب في مرسيليا زيارتها مرة على الأقل.
وذهبت من هنالك إلى متنزه برادو المشهور غرست أشجار الدلب البهية إلى جانبيه صفوفا كثيرة على مسافة طويلة وقد نمت نموا عظيما، وأحاطت بها حدائق كثيرة لأهل اليسار من داخلها فخيم المنازل وبديع القصور. ويتصل بهذا المتنزه حديقة بوريلي وهي مشهورة باتساعها حتى إنهم ليقيمون سباق الخيل فيها كل سنة، ومنها يبتدئ متنزه الكورنيش العظيم، وهو محاذ لشاطئ البحر طوله خمسة كيلومترات ومنظره فائق الجمال؛ لأنه يحده البحر المتوسط عن شماله وإلى يمينه منظر المدينة بحدائقها ومنازلها وبقية ما ذكرنا من مشاهدها. ويتصل آخر هذه المتنزه بالمينا القديم الذي بدأنا بوصف المدينة منه، ويحده من أحد أطرافه شارع فيريول ترى أن ازدحام الناس في جوانبه شديد متواصل؛ لأنه أهم أماكن البيع والشراء في هذا البلد التجاري. وإذا استمر المرء سائرا إلى اليمين من هذا الشارع وصل ميدان بيير بوجه، وفي طرف الميدان تل مرتفع يمكن ارتقاء قمته بطرق متعرجة والنظر منها إلى هذه المدينة إجمالا، والمنظر هنالك غير جميل؛ لأن الرائي لا يلقى غير رءوس المداخن وسطوح المنازل بنيت بالآجر، سوده الدخان المتصاعد من المعامل والمنازل الكثيرة، وهذا منظر لا يروق لشرقي تعود النظر إلى سطوح نظيفة منبسطة يمكن أن تكون مثابة لأصحاب البيت في أواخر النهار.
وذهبت في مساء يومي هذا إلى مرسح البلور، حيث تمثل الروايات المفيدة وقد سمي المرسح بهذا الاسم؛ لاكتساء جدرانه كلها بمراء البلور تعكس للناظرين هيئاتهم، وأذكر أن التمثيل في تلك الليلة كان كله مفيدا دالا على براعة الفرنسويين في الانتقاد وإظهار الخلل المراد إصلاحه؛ فإنهم شخصوا حالة النواب في المجلس البلدي كيف يتذللون في أول الأمر لصعاليك الناس ويتملقونهم ويعدونهم المواعيد الكبيرة حتى إذا صدق الناس وعدهم وانتخبوهم للنيابة في المجالس؛ قصروا همهم على ما يفيد أنفسهم، وجعلوا يزيدون الضرائب ويسعون في ترقية أحوالهم الخاصة فأضحك ذلك الحاضرين كثيرا، ومثلوا بعد ذلك قواد الجيش فأظهروا أن كلا منهم يستخدم ثلاثة رجال من الجنود أو أربعة لقضاء حوائجه الخاصة، ثم انتقلوا إلى أصحاب الأملاك وأظهروا مطامعهم مع المستأجرين، ثم مثلوا حالة المضاربين بالبورصة وتلاعبهم بأموال صغار الناس وغير هذا من ضروب التمثيل المفيد التي ترسم للناس صورة العادات أو الأمور المستهجنة وتبالغ في تقبيحها حتى تنفر العامة منها وتضطر إلى طلب تغييرها. وهذا خير ما يمثل على المراسح في جميع الأنحاء، فيا ليت أن الأجواق العربية تجري عندنا على هذا المثال. وسرت بعد مرسيليا إلى مدينة «ليون»، وهي من أعظم مدن فرنسا أيضا، ولعلها أجمل المدن الداخلية موقعا ومنظرا؛ لأنها يدخلها نهر الرون ونهر السون فيتكون منها جزيرة بهية حافلة بالعمائر والمشاهد الحسناء، سواء في وسط المدينة أو في الجانبين اللذين تتكون منهما مدينة ليون المشهورة، وقد زاد جمال المدينة؛ لأن القوم غرسوا صفوف الشجر على ضفاف النهرين، وأقاموا المتنزهات العديدة وبنوا الجسور الجميلة توصل أجزاء المدينة بعضها ببعض، فترى الحركة فوق هذه الجسور وتحتها وإلى جوانبها كثيرة؛ لأن ليون مدينة تجارية معروفة بمعامل الحرير، وفيها مدارس كلية ذائعة الصيت بعضها للعلوم وبعضها للطب أو للهندسة أو للحقوق، ولمدرسة الطب في ليون فرع في بيروت، وهم يرسلون في كل عام طبيبا من هذه المدرسة إلى بيروت؛ لامتحان تلامذتها بدل تكليفهم الذهاب إليها، فيا ليت مدرسة الحقوق الفرنسية في مصر تفعل مثل هذا وتوفر على تلامذتها عناء السفر ونفقاته إلى فرنسا لطلب الشهادة. ولمدرسة الطب هذه شهرة بعيدة ومقام كبير فإن كثيرين يفضلونها على مدارس باريس الطبية لخلو ليون من دواعي الخلاعة والملاهي الكثيرة التي تفتن الشباب في عاصمة الفرنسويين.
وقد زرت البورصة في ليون فرأيت في الدور الأعلى منها معرضا للأقمشة الحريرية من صنع هذه المدينة، وهي كثيرة الأشكال وافرة الإتقان والجمال، وقد وضعوا إلى جانبها جداول وكتبا فيها إحصاء الصادر من مصنوعات ليون الحريرية إلى أقصاء الأرض سنة بعد سنة وأكثر الأطالس الفرنسية وأنواع القطيفة تصنع في معامل ليون.
وزرت في هذه المدينة قصر المجلس البلدي، وهو بناء فخيم في موضع فسيح من البلد، يليه الملهى العام ووراءه متحف مشهور دخلته فرأيت في أوله تماثيل بعض القياصرة الرومانيين وغيرهم، وأذكر من تلك الآثار جثة حيوان كبير الخلقة نادر الشكل يسميه علماء التاريخ الطبيعي باسم «ماموث»، وهو من الحيوانات الكبرى التي عاشت وانقرضت قبل زمان التاريخ الحالي، وما بقى منها غير بعض الهياكل، وهي تشبه الفيل شكلا ولكنها أكبر من الفيل جسما، وأذكر أني رأيت في ذلك المعرض حجرا بسيطا كتب عليه بالعربية: «توكلت على الله» وجدوه في البحر عند بيروت، وفي ذلك دليل اعتناء القوم بالآثار الشرقية، ورأيت أخرى لا تزيد في وصفها عما يراه السائح في كل معرض للآثار التاريخية، ولا موضع للكلام هنا عنها.
ويحد نهر الرون حديقة عمومية مشهورة في ليون يتوافد إليها جماعات الساكنين في كل حين، وأما نهر الرون ففي طرفه تل فوربيير بني من فوقه كنيسة جديدة على أطلال كنيسة سابقة بنيت في القرن التاسع، وقد كان الداعي إلى بناء هذه الكنيسة الجديدة أن رئيس الأساقفة فيها نذر أن يشيدها إذا لم تمر الجنود الألمانية في مدينته عام 1870، فتحققت أمنيته ولم تمر جنود الأعداء في ليون؛ فما عتم الناس أن استراحوا من تلك الحرب حتى اكتتبوا بالألوف لبناء هذه الكنيسة، وهي من جملة الآثار الدالة على تدين أهل هذه المدينة المعروفة باسم «ليون الكاثوليكية»، وعلى مقربة من هذه الكنيسة نحو 50 مخزنا فيها أشكال الشمع والكئوس والصلبان والمباخر، وغير هذا مما رسم عليه شكل الكنيسة يباع تذكارا للزائرين. وقد ارتقيت قمة برج بني عند تلك الكنيسة وتأملت منظر المدينة منه وفي وسطها النهران والحدائق والأغراس لا تعد، فكان لذلك المنظر في الذهن تأثير حسن نزلت بعده حتى أستعد للسفر من هذه المدينة إلى باريس في طريقي إلى بلاد الإنكليز.
وأما مدينة باريس فقد سبق الكلام عنها، ولا أعيد ما قيل هنا غير أني وصلتها في يوم أحد مشهود كان القوم يحتفلون فيه بسباق للخيل في سهول لونشان من ضواحي باريس، وسباق الخيل عند الأوروبيين أمر عظيم الأهمية ولا سيما الإنكليز، منهم فإنهم ينفقون عليه الألوف المؤلفة ويقضون الأيام في الاستعداد له، حتى بلغ الأمر من بعضهم في إنكلترا ومستعمراتها أنهم يجعلون يوم السباق يوم عيد تقفل فيه المخازن وتبطل الأعمال، وتزيد أهمية السباق عندهم من التراهن الكثير وانتقال الأموال من جيب إلى جيب، فإن الذي يرهن المال على سبق الجواد السابق قد يربح ما يغنيه طول العمر في ذلك اليوم أو قد يفقد ثروة برمتها. واشتهر بين الناس أن لوردة الإنكليز مغرمون بهذا السباق وما يتبعه من التراهن، حتى إن اللورد دربي أحد سراة الإنكليز خسر 250 ألف جنيه في بضعة أعوام على مثل هذه الأمور، وقد نال اللورد روزبري - الوزير الحر المشهور - بعض مكانته من الفوز في سباق الخيل في دربي ونيل الجائزة الأولى وقدرها 20000 جنيه، ومما يروى عن هذا الوزير العظيم أنه سئل يوم كان صغيرا عما يتمنى قال: أن أكون مثريا تعد أموالي بالملايين، وأن أصير رئيس الوزارة الإنكليزية، وأن أنال الجائزة الأولى في سباق دربي الذي يقام للخيل مرة في كل عام؛ فتحققت كل آماله وعد عند القوم فوزه في ميدان السباق مثل فوزه في ميدان السياسة.
هذه أهمية السباق عند الأوروبيين، وعلى ذلك فإني حين وصلت باريس ذهبت إلى لونشان مارا بميدان الكونكورد البديع والشان إليزه البهي، وكانت العربات ألوفا وراء ألوف تقل جماهير الذاهبين إلى ذلك الموضع غير الماشين، وحضر هذا السباق المرحوم فلكس فور وهو يومئذ رئيس الجمهورية الفرنسية ووزراء الدولة وقوادها وأصحاب المقام المعروف فيها، وكان من غرائب هذا الاحتفال أن الجرائد جعلت تنشر نتيجة السباق عند نهاية كل شوط وتبيع ملحقاتها للواقفين يقرءون فيها خبر ما يرون بعد حدوثه بربع ساعة؛ وذلك لأن المكاتبين كانوا يرسلون الخبر بالتلفون إلى الجريدة، وهي تطبعه وترسله مع باعة يسرعون على الدراجات إلى محل السباق، وفي ذلك من أدلة الارتقاء في الصحافة ما لا يحتاج إلى زيادة في الإيضاح. ومن الغرائب أيضا أني لما عدت إلى الفندق وقرأت صحف ذلك اليوم علمت أن بعض الأشقياء المعتوهين حاول قتل الموسيو فور رئيس الجمهورية، ولكنه لم يمسه بضر فتواردت رسائل التهاني من ملوك الأرض وأقطابها على جناب الرئيس في الحال، وما شعر بتلك المكيدة من الذين حضروا السباق غير قليل، ورأيت الرئيس في ذلك اليوم ذاهبا إلى السباق بأبهة وموكب حافل، ولكنه عاد في عربة بسيطة لا يحف به جند ولا يحرسه أحد، وكان يحيي الجماهير التي تعلقت قلوبها على حبه بكل لطف ووقار، والقصد من رجوعه بهذه الصفة إظهار ثقته بالجمهور وعدم خوفه من أصحاب النفوس الأمارة بالشر، وكان الرجل محبا للناس ومحبوبا منهم في جميع أدوار حياته.
وبرحت باريس قاصدا مدينة لندن؛ لأن حضور احتفال اليوبيل كان بغيتي من هذه السياحة، وجعلت طريقي من كاليه، وهي مدينة صغيرة في طرف فرنسا الشمالي ظلت سنين عديدة في يد الإنكليز في القرون الخالية، وتجاهها في بلاد الإنكليز مدينة دوفر يفصل بينهما خليج المانش، وهو مضيق من الماء شديد الاضطراب تتعالى أمواجه وتجعل السفر فيه من أعسر الأمور؛ لأن التيار فيه شديد وعرضه قليل، فإذا جاءت الأمواج من البحر الواسع قبله طفيفة ودخلته؛ انحصرت فيه بسبب ضيقه المذكور وعلت فسببت الاضطراب الذي يذكر في ذلك المضيق، ومع أن المسافة بين هاتين المدينتين لا تزيد عن 21 ميلا تقطعها البواخر في 80 دقيقة فإن عناء السفر في ذلك الخليج لا يوصف ودوار البحر فيه ضربة عامة تصيب كل المسافرين، ولكن إتقان البواخر والمعدات جعل السير منظما، فقل أن تتأخر البواخر هنالك عن مواعيدها مهما علت الأمواج، ويندر الغرق مع أن الراكب يظن في كل حين أن السفينة على وشك النزول إلى قعر البحر من كثرة صعودها وهبوطها مدة هذا السفر القصير، ولطالما عرضت الشركات التجارية أن تبني جسرا عظيما طوله 22 ميلا فوق هذا الخليج أو نفقا تحت البحر يوصل إنكلترا بفرنسا فلم تقبل الحكومة الإنكليزية بذلك؛ لأنه يفقد إنكلترا مزية كونها جزيرة تحميها البوارج القوية، ولعلهم يرضون به بعد حين ويتم عمل هو - بلا ريب - من أعظم ما شرع به الآدميون إلى الآن، وقد عرض أصحاب الهمم غير مرة أيضا أن يبنوا نفقا تحت البحر بين البلادين، وصادقت حكومة فرنسا على هذا الرأي، ولكن الحكومة الإنكليزية رفضته بتاتا مع أن بين سراتها عددا كبيرا يميل إلى إنجاز هذا العمل الخطير، وفي جملتهم جلالة الملك إدورد السابع، يروى أنه كان إذا قصد باريس في أيام صباه وأصابه الدوار قال إن المانش مطهر لا بد منه للذي يذهب من باريس إلى لندن حتى يكفر عن آثامه، وأكثر الذين لا تهمهم السرعة في عبور المانش يؤثرون السفر من دييب في فرنسا إلى نيوهافن في إنكلترا، حيث الموج أقل والمسافة 4 ساعات، ولكن طالبي السرعة في هذه الأيام كثار وما زال الطريق من كاليه إلى دوفر أشهر من سواه، وفي القطرين رجال يسعون إلى الآن في وصل أحدهما بالآخر على طريقة تسهل السفر وتقلل متاعب المانش.
إنكلترا
خلاصة تاريخية
كانت بلاد الإنكليز في أوائل التاريخ المسيحي مثل غيرها من بلدان أوروبا غير معروفة للسوى، يقطنها قوم تقرب عوائدهم وطرائقهم مما تراه الآن بين المتوحشين حتى امتدت مملكة الرومانيين وأخضعت هذه الممالك؛ فعرفنا بعض أمورها من تواريخ الرومانيين. وأول ما ذكرت بلاد الإنكليز في تاريخ رومة على عهد قائدها المشهور يوليوس قيصر، فإنه هاجم هذه الجزيرة وأخضعها سنة 55 قبل التاريخ المسيحي، ولكن الحرب ظلت مستمرة بين جنود الرومانيين وأهل البلاد نحو مائة سنة حتى خضعت إنكلترا لهم خضوعا تاما، ثم ضعفت دولة الرومانيين فعادت المناوشات والحروب وتقوى عزم الأهالي شيئا بعد شيء، فما أتت سنة 420 مسيحية حتى انتهى حكم الدولة الرومانية في إنكلترا.
ومعلوم أن بلاد الإنكليز ثلاثة أقسام: هي إنكلترا واسكوتلاندا وأرلاندا، القسمان الأولان جزيرة واحدة والقسم الثالث جزيرة منفصلة عن جارتها. وكان الرومانيون قد اكتفوا بإخضاع إنكلترا ولم يقووا على اسكوتلاندا؛ لأنها بلاد جبلية وأهلها أشداء، فلما تقلص ظلهم وخرجوا من البلاد كان أهل إنكلترا قد تعودوا الذل وبعض الخمول، فهاجمهم أهل اسكوتلاندا وغنموا أرزاقهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة حتى إنهم استغاثوا بأهل سكسونيا، وهم قبائل ألمانية اشتهرت بالبأس في الحروب فجاءوا إنكلترا لإعانة أهلها على جيرانهم الجبليين، وتمكنوا من طرد المعتدين، ولكنهم لما أرادوا امتلاك إنكلترا قاومهم أهلها وطالت الحروب بين الفريقين، فما أخضعوا هذه البلاد إلا بعد 150 سنة، ومن ذلك الحين قامت في إنكلترا سبع دول سكسونية واختلط الدخلاء بالأهالي فصاروا بعد مرور الأجيال أمة واحدة تعرف إلى اليوم باسم أنجلو ساكسون، وهم الأمة الإنكليزية، وما نشأ منها في أميركا والمستعمرات البريطانية الكثيرة .
وليس في تاريخ الدول السكسونية السبع ما يستحق الذكر غير أنها ضمت وصارت مملكة واحدة بعد تشكيلها بأربعمائة سنة، فإن أجبرت - وهو ملك إحدى هذه الدول - ورث بعضها واغتصب البعض الآخر؛ فصار ملكا عاما لبلاد الإنكليز سنة 827، ولكن البلاد لم يهدأ لها بال بعد هذا الاتحاد، فإن أهل الشمال من الأوروبيين - وهم سكان الدنمارك وأسوج ونروج - أكثروا من الغزو والسطو على ما علمت في الشذرات التاريخية السابقة، وأقلقوا راحة الإنكليز زمانا حتى إنهم ملكوا البلاد في أيام الملك ألفرد الكبير، وهو من أعظم ملوك إنكلترا اختفى زمانا بعد أن كسر الشماليون جنوده حتى لم شعثه وعرف مواقع الضعف في أعدائه فحاربهم وانتصر عليهم وطردهم، ولكنهم عادوا إلى إنكلترا بعد موته سنة 901 وملكوا البلاد زمانا، وكان ملكهم سوين وابنه كانوت أشهر ملوك ذلك الزمان في القوة. وثار الأهالي على حكومة أهل الشمال سنة 1041 فاستقلوا وحكموا عليهم أميرا من ورثة الملوك السكسونيين الأول، وكان من أمر الملك إدورد آخر هؤلاء الملوك أنه رأى من بعض أشراف دولته ميلا إلى اختلاس العرش من بعده؛ فأوصى بالملك من بعده إلى أمير نورمانديا - إحدى إمارات فرنسا الشمالية - وكان هذا الأمير من أقاربه، وهو الذي سمي بعد ذلك وليم الظافر؛ فإنه لما مات إدورد هذا سنة 1066؛ جاء بجيش قوي إلى إنكلترا وحارب أميرها هارولد الذي خاصمه على الملك فانتصر عليه انتصارا تاما وملك البلاد وأسس دولة جديدة قوية هي التي شكلت إنكلترا بشكلها الحالي، ولم تزل الدولة المالكة الآن من سلالة وليم الظافر وبعض النظامات والأسماء على مثل ما وضعت في أيام هذا الملك.
وورث مملكة إنكلترا أمراء من أبناء وليم الظافر وحفدته كثار اشتهر منهم رتشرد الأول، وهو المعروف بريكاردوس قلب الأسد، كان بطلا مغوارا ملك سنة 1189، وجاء مع غيره من ملوك أوروبا وأمرائها لمحاربة الدول الإسلامية في الحروب الصليبية، فكان هو أعظم من حارب العرب، وله مع السلطان صلاح الدين حكايات مشهورة، وورث الملك عن قلب الأسد أخوه يوحنا سنة 1199، وكان ضعيف العقل سفيه الرأي، فحدث في أيامه ثورة في الخواطر بسبب جوره وسوء تدبيره واتحد الأشراف على طلب الحقوق منه لهم وللأهالي؛ فأصدر أمرا عاليا يمنح فيه الرعايا حق الاشتراك مع الملوك في الأحكام، وكان ذلك بدء نظام الإنكليز الدستوري، وهم يذكرون هذه الحادثة مع أعظم الحوادث التاريخية؛ لأنها أساس حريتهم وعظمتهم. وقام بعده ملوك آخرون اشتهر منهم إدورد الأول ملك سنة 1273؛ لأنه أخضع إمارة ويلس، وهي جزء من إنكلترا في الشمال الغربي عرف أهلها بالبسالة، وهم بقية الإنكليز الذين نجوا من حكم الرومانيين وسواهم وامتنعوا في أرضهم، ولهم إلى الآن لغتهم خاصة بهم، وعوائد معروفة لا شبه بينها وبين لغة الإنكليز وعوائدهم، فحاربهم إدورد حروبا طويلة وأخضعهم وقتل أمراءهم وجعل بلادهم جزءا من أجزاء مملكته في سنة 1283. وحاول إدورد الأول أن يخضع اسكوتلاندا وهي التي كان أهلها يسطون على بلاده من زمان طويل ولكنه لم يقدر على ذلك؛ لأنها كانت مملكة منظمة مثل مملكته ولها جيش وأعوان، وكانت الحروب من ذلك العهد مستمرة بين المملكتين والمنافسة دائمة حتى صارتا دولة واحدة على مثل ما يجيء.
ولم يحدث بعد هذا ما يذكر في تاريخ الإنكليز حتى سنة 1348 حين ادعى ملك إنكلترا إدورد الثالث أن مملكة فرنسا إرث له بسبب قرابة له مع ملوك تلك البلاد، وكان ملوك إنكلترا إلى ذلك الحين أمراء نورمانديا في شمالي فرنسا، فلما اشتهرت هذه الدعوى قام ملك فرنسا فيليب لمحاربة خصمه وجمع مائة ألف محارب فقابله ابن ملك الإنكليز، وهو المعروف باسم الأمير الأسود بثلاثين ألفا وهزمه شر هزيمة في معركة كرسي، وأول ما استعمل الإنكليز المدافع في الحروب كان في هذه المعركة وكانت البنادق معروفة قليلا فإنها لم تستعمل إلا سنة 1340. ومات فيليب ملك فرنسا بعد انكساره بقليل، فخلفه ابنه جان وقصد محاربة الإنكليز ولكنه كسر مثل أبيه، وجاء به الأمير الأسود أسيرا إلى إنكلترا، وكان الملك إدورد الثالث يحارب اسكوتلاندا حين حارب ابنه فرنسا، فانتصر هو أيضا على أعدائه وأسر ملكهم إدورد الثاني وجاء به أسيرا إلى لندن، فالتقى فيها حينئذ ملكان في الأسر وعظم شأن الدولة الإنكليزية كثيرا، ولكن إنكلترا لم تستفد من هذه الانتصارات شيئا سوى امتلاك مدينة كاليه في شمالي فرنسا؛ فإن اسكوتلاندا وفرنسا عادتا إلى الاستقلال حالا وضعفت إنكلترا بعد موت ملكها إدورد الثالث وابنه الأمير الأسود الباسل، لا سيما وأن الذي ورث إدورد الثالث وهو حفيده رتشرد الثاني كان ضعيفا فجعل أقاربه يتخاصمون ويتنافسون في الدسائس، وأشهرهم اثنان هم الديوك أوف يورك والديوك أوف لانكاستر اختلس الثاني الملك من ابن أخيه واضطره إلى الاستقلال ثم قام الديوك أوف يورك يطالب بالملك، وحدثت حروب أهلية مشهورة في تاريخ البلاد تعرف بحرب الوردتين؛ لأن حزب يورك اتخذ شعاره الوردة البيضاء وحزب لانكاستر الوردة الحمراء، فما انتهت تلك الحروب إلا بعد أن ولي ملوك وعزل ملوك، وقام في ذلك العهد ملك عظيم هو هنري الخامس ملك سنة 1413 وهو شاب في أول العمر فسمع باضطراب فرنسا وضعف ملكها وعزم على إخضاعها؛ فهاجمها بثلاثين ألف جندي يقودهم بنفسه، وانتصر في كل معركة حارب الفرنسيس بها ولا سيما معركة أجنكور سنة 1415، فهرب ملك فرنسا من وجهه، ودخل هنري مدينة باريس فتوج بها ملكا على فرنسا، وما زال ملوك الإنكليز يسمون أنفسهم ملوك فرنسا إلى عهد قريب، وحدث بعد هذا أن هنري الخامس مات فطمع الفرنسويون بالاستقلال وعادوا إلى محاربة الإنكليز فساعدهم القدر بوجود الفتاة جان دارك التي مر الكلام عنها في تاريخ فرنسا، واسترجع الفرنسويون مملكتهم.
وظلت الحرب الأهلية في اشتغال حتى قام هنري السابع وملك البلاد وهو سليل آل بورك اقترن بفتاة من بيت لانكاستر؛ فبطلت الحرب وأسس هذا الملك دولة جديدة قوية تعرف باسم تيودر، قام منها أعظم الملوك ومنهم ابنه هنري الثامن كان معاصرا لفرنسيس الأول وكارلوس الخامس، واشتهر بكثرة زوجاته اقترن بهن الواحدة بعد الأخرى، وكانت أول زوجاته كاترين أخت كارلوس الخامس ملك إسبانيا والنمسا وأرملة أخيه المتوفى، فلما أحب هنري الثامن إحدى خادماتها، وهي حنة يولن والدة الملكة إليصابات - التي سيأتي ذكرها - أراد أن يطلق كاترين امرأته فعارضه البابا في الأمر، وحدث بين الاثنين خلاف أدى إلى انتقاض ملك إنكلترا على رئيس الكنيسة الكاثوليكية، مع أن هنري الثامن كان غيورا على الدين وألف كتابا في الرد على مارتينوس لوثيروس المصلح الإنجيلي المشهور الذي نشأ في ألمانيا على عهده ولقبه البابا بحامي الدين، وهو لقب ملوك إنكلترا إلى هذا العهد يكتب على نقودهم وأوراقهم الرسمية، فلما حدث هذا الخصام بين البابا وملك إنكلترا انفصلت الكنيسة الإنكليزية عن كنيسة رومة الكاثوليكية، واتبع أكثر الإنكليز الطريقة البروتستانتية من ذلك الحين، ولم تزل إنكلترا إلى الآن أقوى الدول البروتستانتية وأشهرها.
ومات هنري الثامن هذا سنة 1547 وهو من أكبر ملوك الإنكليز، فخلفه ابنه إدورد السادس ومات بلا عقب فخلفته أخته ماري، وماتت بلا عقب فخلفتها أختها إليصابات وهي من أعظم ملوك الأرض طرا وأشهرهم بلا مراء، ملكت من 1558 إلى 1603 أي 44 سنة، حدثت في خلالها الأمور العظيمة، وبدأت إنكلترا تتوسع في امتلاك الأراضي في أميركا وغيرها وصارت مملكة اسكوتلاندا رهينة أمرها بدون حرب ولا قتال؛ لأنها عرفت كيف تدس الدسائس لقريبتها ماري ستيورت ملكة اسكوتلاندا حتى إن تلك الملكة المسكينة طردت من بلادها وجاءت إنكلترا فألقيت في السجن 19 سنة، وفي آخر تلك المدة حكم عليها بالإعدام بدعوى أنها اشتركت في مؤامرة ضد إليصابات، وكان من حوادث هذا العهد العظيمة أن فيليب الثاني ملك إسبانيا وهو يومئذ يعد أكبر ملوك الزمان طلب الاقتران بإليصابات فرفضته بتاتا فعول على قهرها وإخضاع مملكتها، وأرسل عليها أسطولا عظيما حطمه الإنكليز تحطيما، وساعدتهم الأرياح على تكسيره؛ فنجت إنكلترا من خطر جسيم، وهم إلى الآن يذكرون تحطيم الأسطول الإسباني ويعدون يومه من الأعياد الكبرى. وقام في عهد إليصابات رجال عظام في الحرب والسياسة، واشتهر شاكسبير الشاعر العظيم في أيامها أيضا، ونمت دولة الإنكليز نماء عجيبا.
ولم تتزوج هذه الملكة العجيبة، فلما توفيت أشارت بإعطاء الملك من بعدها إلى جيمس ملك اسكوتلاندا، وهو يومئذ أقرب أقاربها فجاء جيمس هذا وحكم زمانا لم يشتهر بشيء سوى امتداد نفوذ إنكلترا في أميركا، ومات سنة 1625 فورثه ابنه تشارلس الأول، وكان لسوء حظه ميالا إلى الاستبداد، والشعب قد ترقى وطلب الحقوق والامتيازات، فحدثت بينه وبين نواب الأمة أنواع كثيرة من الخصام انتهت بحرب بين الحزبين انتصر فيها نواب الأمة على الملك ، وكان قائد جنودهم بطلا عظيما اسمه كرومويل، هذا استبد بالأمر بعد عزل الملك وأمر بمحاكمته فحاكموه وحكموا عليه بالإعدام، وهو أول ملك قتل في أوروبا بمثل هذه الطريقة، ثم استبد كرومويل بالحكم زمانا وأورثه لابنه من بعده، ولكن الأهالي نفروا من قتل الملك وأثرة الجمهوريين فأعادوا ابن ملكهم إلى عرشه وهو تشارلس الثاني ملك سنة 1660، وكان مضادا للأمة في آرائه وأمياله فتحمله القوم بالصبر حتى إذا مات ورثه أخوه جيمس الثاني، وكان كاثوليكيا قحا يريد قلب النظام البروتستانتي وكل أمياله فرنسوية، فاشتد الخلاف بينه وبين الأهالي حتى إنهم قاموا عليه في آخر الأمر وطردوه وأعطوا الملك لابنته ماري وزوجها وليم أمير أورانج وصاحب هولندا، فجاء هذا الأمير بجيش صغير إلى لندن وطرد عمه منها وساعده الأهالي على طرد جيمس فرحين، فانقلبت بذلك دولة آل ستورت، وسمي هذا الانقلاب بالثورة الإنكليزية تاريخها سنة 1688، وهو تاريخ الاستقرار على نظام الشورى وآخر عهد إنكلترا باستبداد الملوك.
وحدث في أيام وليم الثالث هذا عدة حروب بين إنكلترا وفرنسا لم يستفد منها الإنكليز شيئا، فلما مات وليم وامرأته ماري ورثت المملكة عنهما حنة أخت ماري، وكانت حنة من الملكات المشهورات ملكت من سنة 1702 إلى 1714 وأصلحت الكنيسة الإنكليزية في أيامها، وسن لها النظام المعمول به إلى الآن، وحدثت حروب هائلة بين إنكلترا وفرنسا في أيام هذه الملكة بسبب مطامع لويس الرابع عشر ملك فرنسا المشهور، فانتصر الإنكليز في عدة مواقع بحسن تدبير قائد من أعظم قواد الزمان اسمه الجنرال تشرتشل الذي صار بعد انتصاره على الفرنسيس الديوك أوف مارلبرو وسلالته من أشراف الإنكليز إلى هذا العهد، ومن أشهر الحوادث في عهد هذه الملكة أن إنكلترا واسكوتلاندا انضمت إحداهما إلى الأخرى وصارتا مملكة واحدة بعد أن كانتا مملكتين مستقلتين يحكمهما ملك واحد من أيام جيمس الأول الذي ذكرناه، وكان ذلك سنة 1707.
وتوفيت الملكة حنة بلا عقب، وكانت أقرب قريباتها زوجة ملك هانوفر فآلت المملكة بعدها إلى جورج الأول ملك هانوفر الألماني سنة 1714، ولم يحدث في أيامه غير بعض القلاقل بسبب محاولة آل ستورت استرجاع الملك ومساعدة فرنسا لهم فلم يمكن ذلك. ومات جورج سنة 1727 فخلفه ابنه جورج الثاني وحدثت في أيامه حروب كثيرة مع فرنسا كان النصر فيها أكثره للفرنسويين في أوروبا وللإنكليز في أميركا حين أخذوا بلاد كندا من الفرنسويين وهي لهم إلى الآن، وبدأ الإنكليز في ذلك العهد باكتشاف جزر المحيط والامتلاك في الشرق، فكان أساس سلطنتهم الهندية على عهد جورج الأول والثاني.
ومات جورج الثاني سنة 1760 فخلفه جورج الثالث، وهو الذي ملك البلاد 59 سنة وحدث في أيامه أعظم الثورات، نريد بها ثورة فرنسا المشهورة وثورة أهل أميركا حين استقلوا وصاروا دولة الولايات المتحدة المعروفة بسبب إهمال من حكومة لندن وكان ذلك سنة 1782. وفي سنة 1788 بدأ الإنكليز باستعمار جزر أوستراليا وجعلوا يرسلون إليها المنفيين وأهل الجرائم ثم بطلت هذه العادة، وأوستراليا الآن من المستعمرات الإنكليزية العظيمة، وكانت الحرب دائمة تقريبا بين فرنسا وإنكلترا في كل تلك المدة لا سيما إذ قام نابوليون وكسر الإنكليز أساطيله في أبي قير وترافلجار وغيرها من المواقع العظيمة في البحر، وأخرجوه من مصر والشام وإسبانيا والبورتوغال حتى إذا جاء عام 1815 كسروه في واترلو الكسرة الأخيرة على مثل ما جاء في تاريخ فرنسا. ومن حسن حظ الإنكليز أنهم رزقوا في تلك المدة رجالا هم نوابغ وجبابرة في الاقتدار، منهم نلسون أمير البحر، وولنتون قائد الجيوش في البر، وبت الوزير المشهور في السياسة، استعملوا مواهبهم كلها لإرغام نابوليون ومحاربته فكانوا هم الفائزين.
وخرف جورج الثالث في آخر أيامه، ولكن أيامه كانت أيام عز ونصر للإنكليز، ولولا ضياع الولايات المتحدة لعدت مدته أحسن المدات في تاريخ هذه الأمة العظيمة، وكانت نتيجة الانتصارات العديدة أن نفوذ إنكلترا اتسع وامتد وأملاكها زادت ومالها كثر وتجارتها فاقت الحدود حتى إذا ولي الملك جورج الرابع سنة 1820 كانت الدولة الإنكليزية في طليعة دول الأرض قوة واقتدارا وثروة وعلما ولم تزل على هذا إلى يومنا الحاضر. ومن أعظم الحوادث التاريخية في ملك جورج الثالث اتحاد أرلاندا مع إنكلترا واسكوتلاندا وصيرورة الكل مملكة واحدة تعرف باسم بريطانيا العظمى وأرلاندا في سنة 1801، وكانت أرلاندا إلى ذلك الحين خاضعة لإنكلترا تدير شئونها الداخلية على حدة فصارت جزءا من أجزاء المملكة الإنكليزية من ذلك الحين.
وكان جورج الرابع فاتر الهمة فلم يحدث في أيامه ما يستحق الذكر؛ لأن الدولة استراحت من الحروب وترقت في المعارف والصنائع وتوسعت في الامتلاك والاستعمار توسعا هائلا حتى صارت أكبر دول الأرض وأوسعها نفوذا وملكا. ومات جورج الرابع فخلفه وليم الرابع ملكا على بريطانيا العظمى فحكم سبع سنين وتوفي بلا عقب، وكانت وفاته بعد نصف الليل في قصر وستمنستر فاضطر رئيس أساقفة كانتربري أن يذهب في الحال حسب الأصول القديمة ليبلغ البرنسيس فكتوريا صيرورتها ملكة البلاد، ولما قامت الملكة من سريرها وعرفت الخبر بكت حزنا على عمها ثم سألت رئيس الأساقفة أن يصلي معها بطلب العون من الله فركع الاثنان وصليا، وكانت فكتوريا يومئذ في الثامنة عشرة من عمرها، وهي بنت الديوك أوف كنت شقيق وليم الرابع، وأمها من أميرات ألمانيا هي شقيقة ليوبولد الأول ملك البلجيك، عنيت بتربية فتاتها على أشرف المبادئ حتى إذا رقيت عرش إنكلترا كانت كل خصالها ممدوحة وفرحت بها الأمة فرحا كبيرا.
ملكة الإنكليز في صباها.
ولا حاجة إلى الإسهاب في تاريخ الملكة فكتوريا؛ فإن معظم حوادثه لم يبرح من أذهان الناس، ولكننا نقول إنها ولدت في 24 مايو سنة 1819 وهو يوم عيد السلطنة الإنكليزية، تحتفل به هذه الأمة في ممالكها ومستعمراتها كل سنة احتفالا عظيما، وصعدت العرش في شهر يونيو من سنة 1837، وكان تتويجها في تلك السنة من حوادث التاريخ الحديث التي تذكر إلى آخر الزمان، وقد اقترنت بابن عمها البرنس ألبرت صاحب إمارتي ساكس كوبرج وغوثا في ألمانيا سنة 1840، فعاشت معه 21 سنة رزقت في خلالها عدة بنات وبنين، فلما مات سنة 1861 حزنت عليه حزنا مفرطا تضرب به الأمثال وظلت على رثائه إلى آخر عمرها الطويل، وقد زوجت بنتها الكبيرة لإمبراطور ألمانيا السابق وابنها الثاني لعمة قيصر روسيا الحالي، واقترن بناتها وأولادها الآخرون ورزقوا الأولاد فأصبحت علاقات القربى رابطة لإنكلترا بمعظم دول أوروبا في أيامها، وحدث على عهدها من الحروب شيء كثير، من ذلك حرب القرم سنة 1854 اشتركت إنكلترا فيها مع دول أخرى لمحاربة روسيا وحرب ثورة الهند الكبرى سنة 1857 وحروب في الهند وإيران وأفغانستان والصين وأفريقيا الجنوبية والوسطى ومصر والسودان والحبشة وغيرها، انتهت كلها بفوز الأمة الإنكليزية واتساع سلطانها حتى قيل إن الشمس لم تغرب عن أملاك فكتوريا، وبلغ عدد الخاضعين لرايتها نحو 400 مليون نفس أو هم ربع سكان الأرض، ومساحة هذه السلطنة لا تقل عن 11 مليون ميل مربع، فهي أعظم السلطنات الحديثة والقديمة على الإطلاق.
ألبرت زوج ملكة الإنكليز.
ونمت إنكلترا في قواتها البرية والبحرية وفي متاجرها وصنائعها نماء عجيبا مدة حكم الملكة فكتوريا، وتحسن حال عمالها وفقرائها بما سن من النظامات المتوالية، وضمت الهند على عهدها إلى أملاك السلطنة وكانت قبلا ملك إحدى الشركات التجارية فلقبت على إثر ذلك بإمبراطورة الهند، وكانت حياة الملكة في داخل قصورها وأعمالها بين الناس مثال العفة والكمال والشرف والوطنية وحب الإنسانية فتعلق الناس على حبها تعلقا لا نظير له في تاريخ إنكلترا، حتى إنهم أقاموا الحفلات الكبرى سنة 1887؛ أي عام بلوغها سنة الخمسين من حكمها، وهو عام اليوبيل الذهبي، وأم لندن يومئذ ملوك وأمراء ونواب أمم ووفود لا تعد، ثم بلغت السنة الستين من حكمها بعد 10 سنوات، فأقاموا يوبيلا آخر أهم من السابق وأكبر، وظلوا في حفلاته الباهرة عدة أيام، وقد عمرت هذه الملكة ورأت من باذخ العز وآيات النصر وباهرات الحظ وإكرام الأنام ما لم ير الأولون والآخرون، وماتت في 22 يناير سنة 1901 بداء الانحلال الطبيعي فلبست أوروبا كلها الحداد عليها وأثرت وفاتها في الإنكليز تأثيرا شديدا، وخلفها في الملك جلالة نجلها الأكبر، وهو إدورد السابع ملك إنكلترا وإمبراطور الهند الحالي.
ولد في 9 نوفمبر من سنة 1841 ولا حاجة إلى القول إنه ربي أحسن تربية وشب على أشرف المبادئ، واقترن يوم 10 مارس من سنة 1863 بكريمة ملك الدنمارك السابق، وهي الملكة ألكساندرا صاحبة الشهرة الذائعة بالمحاسن وآيات الكمال الباهر، ورزق ثلاثة أولاد وثلاث بنات، فمات اثنان من الأولاد وما بقي غير ولي العهد الحالي، وهو الآن في الثالثة والأربعين من عمره، وله بنت وأربعة أولاد ذكور، وأما بنات الملك فكلهن في قيد الحياة، إحداهن زوجة الديوك أوف فيف من سراة إنكلترا والثانية بلا زواج والثالثة قرينة ملك نروج الحالي.
ارتقى الملك إدورد عرش أجداده في 22 يناير سنة 1901، وكان ذلك في خلال حرب البويز المشهورة، وقد حدث على عهده انقلاب في سياسة أوروبا تم أكثره بسعيه لصالح دولته، واشتهر من حوادث ملكه في الأوائل حادثة التتويج، أفردنا لها فصلا هنا نظرا إلى أهميتها وغرابة أدوارها وما في وصف مشاهدها من الفائدة للقارئين.
حادثة التتويج
لما رقى جلالة الملك إدورد السابع عرش إنكلترا عين يوم 26 يونيو من سنة ارتقائه موعدا لتتويجه، ودعا الملوك والأمراء ووفود الأمم لحضور حفلات التتويج المذكور من سائر الأقطار، وكان الوفد من قبل مصر يومئذ دولة البرنس محمد علي باشا نائبا عن سمو أخيه الخديوي وعطوفة مصطفى باشا فهمي رئيس الوزارة السابق نائبا عن الحكومة المصرية، وبدأت الألوف تتوارد على لندن من كل صوب والناس تستعد للتتويج وتنفق على الزينات، ولكن الأخبار جعلت تتوالى من 20 يونيو المذكور بأن جلالة الملك في حاجة إلى النزهة واستبدال الهواء، وكان جلالته ملازما لغرفته، خرج مرة في عربة مقفلة والناس يتلقون هذه الأخبار ولا يفقهون لها معنى حتى أعلن رسميا أن صحة الملك تستدعي عملية جراحية، وأنه لا بد من تأخير موعد التتويج إلى ما شاء الله، فكان لهذا الخبر دوي عظيم في أنحاء الأرض وخصوصا مدينة لندن؛ حيث أنفقت الأموال الطائلة في إعداد الأماكن اللازمة لرؤية موكب التتويج، هذا غير المنصات والمواضع التي أعدت للفرجة وبيع منها ألوف دفعت أجرها مقدما، على أن ذلك كله لم يحدث تأثيرا سيئا بل زاد القوم تعلقا بالملك، فكانوا يتهافتون لقراءة النشرة اليومية عن صحته في الصباح وفي المساء. ولما تم الشفاء للملك بعد هذه الحادثة المؤلمة عين يوم 30 يونيو سنة 1902 موعدا لتتويجه في كنيسة وستمنستر القديمة حيث يتوج الملوك القدماء فتم ذلك على النسق الآتي:
قام الملك من قصره بموكب حافل إلى الكنيسة، فلما وصلها بدءوا بالصلاة، فوقف رئيس الأساقفة والأساقفة وبقية الكهنة بالحلل الرسمية على باب كنيسة وستمنستر حتى إذا قرب موكب الملك دخلوا وأعدوا الزيت المقدس المعد لمسح الملك والملكة، فلما دخلا نهض الشعب وجعل ينشد بعض المزامير، ثم تقدم رئيس الأساقفة مواجها للشعب، وخاطبه الخطاب الآتي:
أيها السادة، إني أقدم إليكم الملك إدورد صاحب هذه المملكة بلا خلاف، فبما أنكم جئتم هذا المكان لإظهار ولائكم له فهل أنتم فاعلون ذلك؟
فأجاب الحاضرون كلهم بالهتاف والضجيج قائلين: «الله يحفظ الملك إدورد»، وعند ذلك جاء اللوردات الحاملون أدوات التتويج كل في دوره، ووضع ما معه من سيف أو تاج أو صولجان أو غير ذلك، فلما انتهوا من هذا اشترك الجمهور في صلاة ختمها رئيس الأساقفة بدعاء عقبه عظة ألقاها أحد الأساقفة حتى إذا انتهوا من ذلك وقف رئيس الأساقفة وسأل الملك أن هل تريد أن تتلو القسم يا أيها المولى؟
فأجاب الملك: نعم، أريد ذلك.
س:
وهل تقسم رسميا وتعد صريحا أنك تحكم أهل مملكة بريطانيا العظمى وأرلاندا وما يتبعهما من الممالك والملحقات حسب اللوائح التي سنها مجلس الأمة وحسب شرائع هذه الأمم وعوائدها المقررة؟
ج:
أعد رسميا أني أفعل كل ذلك.
س:
وهل تأمر بإجراء العدل والقانون مع الرحمة في جميع ممالكك بقدر ما تستطيع؟
ج:
نعم، أفعل ذلك.
س:
وهل تعد بالمحافظة على شرائع الله ودين الإنجيل الصحيح والمذهب البروتستانتي المقرر في قانون البلاد؟ وهل تحافظ على اعتبار الكنيسة الأسقفية كنيسة إنكلترا الرسمية وتمنع كل عبث بها ومس لشئونها وتسير على تعاليمها ونواميسها ونظامها؟
ج :
إني أعد بفعل هذا كله.
فعند ذلك وقف الملك وكشف رأسه وتقدم إلى مذبح الكنيسة ومن حوله رؤساء التشريفات والحجاب وحملة السيف والتاج وبقية الأشياء من كبار اللوردة كلهم بالحلل الرسمية، وأتى رئيس الأساقفة بالكتاب المقدس فوضع الملك يمينه على الكتاب، ثم جثا على ذروة العرش وأقسم كما يجيء: «إني أفعل الأشياء التي وعدت بها الآن وأحافظ عليها بأكملها فأعني يا ألله.»
ثم قبل الكتاب المقدس ووضعه على رأسه ونهض ووضع إمضاءه على ورقة كتبت فيها صورة القسم المذكور.
وتلا ذلك رسوم شتى وأدعية متوالية انتهى بها التتويج، وجاء من بعد ذلك الأمراء ولوردة المملكة كل فئة في دورها، الديوكات أولا ثم أصحاب رتبة ماركيز ثم أصحاب رتبة أرل ثم أصحاب رتبة فيكونت ثم أصحاب رتبة بارون، فأقسموا يمين الطاعة للملك ووارثي عرشه، وكلما انتهت فئة من القسم يتقدم أكبرها ويقبل الملك بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن أقرانه، فلما انتهت هذه الأقسام والرسوم أنشد المغنون نشيدا مفرحا، وتلا النشيد هتاف الأبواق وصراخ الحاضرين جميعهم هكذا:
الله يحفظ الملك إدورد،
الله يطيل عمر الملك إدورد،
ليحيا الملك إلى الأبد.
وبهذا تم تتويج الملك إدورد على الطرق التي اتبعها الإنكليز في تتويج ملوكهم السابقين.
وأما ولي عهد إنكلترا فقد أعطي هذا اللقب في حفلة رسمية جرى عليها جلالة والده الملك مجرى غيره من الملوك القدماء، فقلد ولي عهده سيفا وألبسه تاجا بسيطا، ووضع في يده خاتما وعصا من الذهب ثم أعلن أنه جعله أمير ويلس، وانتهى بذلك الاحتفال في حضرة الوزراء ومشيري الدولة وكبراء البلاط، وهذا كله كما قلنا من العوائد القديمة ورثها الإنكليز عن الأجداد واحتفظوا بها وهم أشهر أمم أوروبا في المحافظة على المبدأ القديم.
إدورد السابع ملك الإنكليز.
ولا ريب أن بين القراء عددا كبيرا لا يعرف معنى تلقيب ولي العهد في إنكلترا بهذا اللقب، وحقيقة الأمر أن ويلس بلاد في الشمال الغربي من إنكلترا كانت في الزمان السابق إمارة مستقلة ولها أمير مستقل وبأس في الحروب مشهور، فحاربها إدورد الأول ملك الإنكليز وانتصر عليها وضمها إلى ملكه وقتل أمراءها فما بقي منهم واحد، ولكنه رأى من أهلها عنادا وميلا عن الخضوع لوال إنكليزي، فجمع إليه مشايخ ويلس وكبارها وقال لهم: إني أريد معاملتكم بالحسنى، فهل إذا عينت لكم أميرا لم يشب شرفه عيب، وهو لا يعرف من الإنكليزية كلمة واحدة تقبلونه؟ قالوا: نعم، قبلنا وعلى هذا الشرط خضعنا، فلما استوثق الملك منهم أرسل في الحال وراء قرينته الملكة وهي حامل وأقام معها في قلعة كارنارفون في ويلس فولدت غلاما فرح به الملك ثم دعا كبراء الإمارات مرة أخرى، ولما اجتمعوا جاء لهم بالطفل وقال لهم: قد جعلت لكم أميرا لم يشب شرفه عيب ولا يعرف من لغة الإنكليز كلمة، وهو ابني هذا فما قولكم فيه؟ فرأى القوم أن الملك لم يخلف الوعد وأن وصفه ينطبق على الطفل، فأذعنوا ولقب ابن الملك بأمير ويلس، ومن ذلك الحين صار أكثر أمراء إنكلترا الذين ولدوا ليرثوا العرش يعرفون باسم برنس أوف ويلس.
وأما وارثو التيجان في الممالك الأخرى فبعضهم يعرف بالاسم المعين، والبعض الآخر له أسماء أو ألقاب ترد إلى مواضع معلومة ويرثها عنهم أمير بعد أمير، من هذا القبيل ولي عهد البورتوغال اسمه في جميع الأوقات أمير القنطرة، وولي عهد إيطاليا اسمه أمير نابولي، وولي عهد اليونان أمير سبارطة، وولي عهد إسبانيا أمير أستورياس كلها مواضع في بلاد القوم معروفة.
وأما الباقون فيعرفون بأسمائهم الصحيحة أو بأسماء وظيفتهم، فإن ولي عهد روسيا اسمه تساروتش أو ابن النسار، وهو لفظ مسكوبي معناه الإمبراطور، وولي عهد النمسا يعرف باسمه الصحيح وهو اليوم الأرشدوق فردناند، والباقون مثل ولي عهد ألمانيا والدنمارك والسويد وهولاندا والبلجيك يعرفون باسم ولي العهد أو الاسم الصحيح، وكل ذلك تتبع فيه العوائد القديمة؛ لأن الملوك والأمراء في هذا الزمان يرون كل الفخر والشرف في البقاء على عوائد الأجداد الكرام، ولا عجب فإنهم ورثوا عن أجدادهم أثمن ما في الوجود، فليس يكثر عليهم أن يفخروا بعوائد أولئك الأجداد.
لندن
وصلت مدينة لندن بعد سفر سبع ساعات ونصف من باريس عن طريق كاليه ودوفر، وحالما وطئت أرض الإنكليز في دوفر شعرت كما يشعر كل مسافر غيري يلاحظ الأمور أنني في أرض رقتها الحضارة، وبين قوم صاروا إلى أعلى درجات العز؛ فإن الأشياء تجري هنالك على نظام ودقة غريبين معهما وقار وترفع كثير، فالمحطة حافلة بمئات المسافرين والخدمة في كل الجوانب واقفون، ولكن كثرة الزمان وتعدد القطر لا توجب اضطرابا ولا تسبب ضجة ولغطا، فلا صفارة تنبئ عن قيام القطار ولا حارس يصيح في الناس أن ارفع رجلك أو «المسافر يركب»، ولا جرس يطن ولا راكب يزن أو يدن، والكل يسيرون من باب المحطة إلى نافذة التذاكر يبتاعون منها أوراق السفر ويبرحونها إلى عربات القطار بكل احتشام ووقار، حتى إذا دنت لحظة المسير قام القطار يسير حثيثا بين سهول تظهر عليها آثار الاجتهاد ومزارع صيرتها يد الإنسان جنات تجري من تحتها الأنهار بعد أن كانت بركا للماء الآسن أو ركاما قاحلة لا يستفيد منها الإنسان، وقد رصعت الأرض إلى الجانبين بحصى تمنع عن الناس الغبار وقامت إلى جانب الخط من هنا ومن هنا أبنية ومساكن ومعامل ومغازل لا عداد لها، وشقت الوهاد والنجاد في كل موضع قضبان الحديد تسير عليها الأرتال في الطول والعرض، فبينا أنت راكب في قطارك تسير بسرعة تخطف الأبصار ترى قطارا يلي قطارا قادما من الجهة المقابلة على خط محاذ للخط الذي أنت فيه، وترى قطرا أخرى تعترض الخطوط من كل جهة فلا يكاد القطار الذي أنت فيه يجتاز نقطة من الأرض حتى تمر فوقها القطر الأخرى، وإذا تأخر لحظة عن موعده اصطدم بغيره لكثرة القطر الناشئة عن الحركة التجارية الهائلة في هذه البلاد العظيمة، ويتفق أحيانا أنك تأتي موضعا تمر فيه فوق جسر من الحديد عظيم فترى من تحت الجسر قطرا أخرى سائرة سير قطارك وقطرا غيرها آتية من كل الجوانب متقابلة متعارضة فتعتريك حيرة من بلوغ الحركة التجارية هذا المبلغ العظيم إذا كنت لم تشهد مثلها من قبل. وفوق هذا فإن الوقت الثمين في بلاد الإنكليز لا يضيع منه لحظة والزمان عندهم ذهب على ما جاء في بعض أقوالهم المتعارفة، فهم إذا جاءت الباخرة بمن فيها من الخارج وألقت رحلها في ميناء دوفر على مثل ما ذكرنا؛ قام الركاب في القطار على عجل ولم يكن لعمال البريد في مدينة دوفر أن يرتبوا الكتب والرسالات الأخرى ترتيبا يسهل معه توزيعها، وليس يجوز أن يترك البريد على حاله حتى يرتب ويوزع في مكاتب لندن؛ لأن أشغال البريد فيها تفوق الحصر والتصديق بسبب الملايين الكثيرة التي تقطنها، وهي أعظم مدائن الأرض طرا وأكثرها حركة وعلاقات بالبلاد الأخرى؛ فلذلك ترى في القطار عربات طويلة خصت بعمال البريد يرتبون الرسالات فيها، والقطار سائر في سبيله فإذا وصل لندن كانت رسائل البريد حاضرة للتوزيع بلا إمهال، وفي هذا من التسهيل على أصحاب الأعمال وإتقان العمل ما لا يخفى على البصير، وهم يأتونه في كل الخطوط الإنكليزية المشهورة.
ولما انقضى زمان السفر ودخل القطار مدينة لندن العظيمة جعلت أتأمل هاتيك الجبال الراسية من البناء تمتد أميالا إلى كل جانب، أو هي بحار لا حد لها من الشوارع والفنادق والمخازن والحوانيت والمساكن شوه الدخان الكثير ظاهرها فاشتد سوادها، وما ترك لها من الجمال شيئا إلا في قليل من المواضع الكثيرة التي تراها العين مدة سير القطار بين أحياء لندن، والجهة التي يراها المسافر القادم من الخارج قبل سواها أقل جهات لندن زخرفا وجمالا، لولا أن المسافر يعلم من اتساع المدينة وطولها البالغ وأبنيتها التي لا تعد أنه في لندن؛ لظن أنه لم يصلها بعد، أو هو في مدينة أخرى صناعية أحقر من عاصمة المملكة الإنكليزية الواسعة ومركز تجارة الأرض ومالها ومقر المالكين ربع هذه الدنيا ونقطة الارتقاء العصري والاقتدار.
ولما بلغت محطة تشارن كروس في لندن لقيت فيها من الخلق الكثير ما يعسر عده، حتى إنه لم يمكن لي أن ألقى عربة أسير فيها إلى الفندق؛ لأن المدينة كانت يومئذ حافلة بالملايين فوق طاقتها بسبب عيد اليوبيل العظيم فوضعت أمتعتي في مخازن المحطة وخرجت ماشيا أخترق الصفوف وأصطدم بالمئات والألوف، وقد قامت للناس ضجة ما سمع بمثلها السامعون واحتشد الربوات والملايين في تلك الشوارع الكبرى احتشادا يكسف محافل الأولين والآخرين، ولا عجب ففي لندن وضواحيها من السكان سبعة ملايين نفس وهو عدد يزيد عن عدد الساكنين في بعض الممالك برمتها وزاد عليهم من أمها في ذلك الحين وهم نحو مليوني نفس أخرى جاءت لتشهد حفلات اليوبيل التي ترى وصف بعضها في الفصل التالي.
وأما الذي أقول عن أعظم مدائن الأرض وأفخمها وأكبرها وأهمها، فإني لو خصصت هذا الكتاب برمته لوصف عشر معشار الذي يستحق الذكر فيها لانتهيت وبيني وبين الإشباع بعد باعد؛ لأن لندن هذه مملكة أو بلاد عظيمة مساحتها 118 ميلا مربعا، وقد قامت على ضفتي نهر التمز، وامتدت إلى كل جانب حتى أضحت كأنما هي بلا آخر، تتصل أطرافها بالعمائر والمدائن الأخرى، فلا تعلم أين تبدأ المدينة وأين تنتهي، ولو جمعت شوارعها العديدة بعضها إلى بعض لبلغ طولها ثلاثة آلاف ميل أو أكثر، وهي مسافة تزيد عن البعد ما بين مصر ولندن، أو لو أحصي سكانها طائفة طائفة لوجدت أن فيها من أهل اسكوتلاندا أكثر مما في عاصمة تلك البلاد ومن الكاثوليك أكثر مما في رومة - وهي عاصمة العالم الكاثوليكي - ومن اليهود أكثر مما في القدس، ومن الألمان أكثر مما في مدينة ألمانية من مدن الطبقة الثانية، هذا غير أن أهل الأرض كلهم يجدون فيها من المواطنين عددا عديدا، وقد يوجد في لندن آلاف من بلاد واحدة لا يجتمعون بعضهم على بعض إلا في حفلات نادرة، أو قد يعيش المرء عمرا كاملا فيها وله صديق في ناحية أخرى منها لا يلتقي به لاتساع هذه المدينة وكثرة أحيائها واحتشاد الملايين في كل جوانبها، وأما إذا شئت أن تحصي ما يرد إليها من بضاعة وتجارة، وما يودع فيها من كتب البريد ورسائل البرق وما ينفق فيها من المال على هذه الحاجة وذلك الشيء؛ فإنك ترى أرقاما يمكن لك قراءتها ولا يمكن إدراكها، فهي مثل أبعاد الكواكب وأجرام السماء ألوف فوق ألوف لا تدرك أهميتها العقول، يكفي أن يقال إن بعض مخازنها العظمى تبيع بنحو خمسة ملايين جنيه في السنة، والعمال في بعض مصارفها ومعاملها عشرات آلاف يتناولون الرواتب الطيبة، وفيها 216 ميدانا كبيرا غير الميادين الصغرى و565 محلا للأنغام الموسيقية والتمثيل، وحوالي ثلاثمائة معرض ومتحف من جميع الأشكال، وأكثر من عشرة آلاف أثر أو تمثال في حدائقها وشوارعها والميادين، وفوق مليون مصباح تنير جوانبها الواسعة بعضها كهربائي والباقي أكثره غاز مثل نور المدائن المصرية. وفي شوارعها ازدحام لا تفهمه العقول من الوصف، ولا بد لإدراكه من المشاهدة؛ فإن الناس والمركبات والعربات والأرتال والخيل وسواها سلسلة متصلة الحلقات إلى الجانبين لا تنقطع طول النهار، حتى إنك لو وقفت عند بنك إنكلترا مدة النهار من أوله إلى آخره تريد أن تجتاز الطريق من جانب إلى جانب لما لقيت فرصة تناسب مرادك، ولا أمكن لك العبور إلا إذا وقفت العربات قليلا من هنا ومن هنا، بإشارة من رجل البوليس الواقف أمامك، وهنا لا بد من القول إن بوليس لندن من أعظم قوات الأرض انتظاما، وقد لا يكون في الممالك المنظمة بوليس مثله في حسن المنظر والترتيب؛ فإن رجاله ينتقون من ذوي القامات الطويلة والمناظر الحسنة، ويشترط فيهم أن يكونوا ذوي معارف وخبرة بأحوال البلاد، فهم يرشدون الناس إلى كل أمر بلطف لا مزيد عليه، ويسوقون أهل الجرائم إلى المحاكم، فتكفي شهادتهم لإدانته، ولا يلزم لذلك مرافعة أو نيابة، ويخلون الشوارع من الزحام على كثرة الوافدين والمحتشدين ولا يظهر عليهم ملل أو عناء، وإن تسلهم عن مطعم أو نزل أو معرض تريد أن تذهب إليه أجابوك بوقار ورقة أن سر إلى الجهة الفلانية خطوات معدودة، ثم تحول إلى يمينك أو يسارك ثم انتقل ثم سر أمتارا يعدونها لك بوجه التقريب، فتصل إلى حيث تريد ولهم في معرفة الأماكن علم عجيب. وأما إشارتهم للعربات بالوقوف فمن أجمل الحركات فيها الإشارة إلى مقدرتهم واحترام جماهير الإنكليز للقانون والسلطة الشرعية؛ لأن هذه العربات كما قلنا تعد آلافا في كل شارع بعضها يلي بعضا، فإذا اجتمع المارة في نقطة يريدون العبور منها إلى الجهة المقابلة أشار رجل البوليس الواقف في منتصف الطريق برفع يديه قليلا وعند ذلك تبطل كل حركة وتقف الحوافل والعربات كلها من الجانبين كأنما يد الرجل آلة تتصل بعجلات المركبات، فإذا رفعت هذه الآلة أوقفت مسير العجلات، وعند ذلك يمكن للمارة الانتقال حتى إذا تم هذا رفع الرجل يده مرة أخرى فتعود سلسلة المركبات إلى المسير، ولا يخالف الأمر حوذي ولو يكون سائق عربة الملك بنفسه، ولطالما رأيت العربة وأنا راكب فيها تقف حينا بعد حين في مسيرها، وأتطلع فلا أجد بوليسا يوقفها حيث أكون، وعلمت أن الأمر جاء من موضع في آخر الشارع فوقفت كل عربة وأوقفت التي وراءها حتى وصل الدور إلى عربتي، ووقفت ثم عادت إلى المسير والذي يوقفها ويسيرها رجل لا تراه، وفي هذا من بدائع النظام ما يسر العقول.
وقد كانت مدينة لندن صغيرة في أول أمرها لا تزيد مساحتها عن ميل مربع إلى ضفتي التمز، ثم اتسع نطاقها وامتدت فروعها حتى صارت أوسع مدائن الأرض وأكبرها، ومساحة أرضها خمسة أضعاف مساحة باريس؛ لأن منازلها فيما سوى القسم المتوسط منها غير مزدحمة وشوارعها رحيبة وحدائقها كثيرة وميادينها عديدة، وأما البقعة الأصلية التي كانت فيها لندن الأولى فتعرف باسم «ستي» أو المدينة، وهي قسم خاص من أقسام لندن له أهمية كبرى؛ لأنه خص بالتجار والمصارف والأعمال المالية الخطيرة، وفيه بنك إنكلترا العظيم والبنوك الأخرى وإدارات الشركات التجارية والجرائد اليومية ومقر محافظ لندن ومحكمة خاصة بأعمال «الستي» هذه، وهي بالإجمال مركز الحركة ونسبتها إلى بقية لندن نسبة القلب على جسم الإنسان؛ لأن الدم يدور في الجسم متفرعا من القلب، وحركة المال والأعمال تدور في كل لندن ومرجعها إلى «الستي»؛ ولذلك نجد أجرة المخازن والوكالات فيها عظيمة، وثمن الأرض فوق التصديق لا يقل عن خمسين جنيها عن كل قدم مربعة وقد يزيد، ولو بيعت بعض الأراضي المجاورة لبنك إنكلترا بالفدان لزاد ثمن الفدان الواحد عن مليوني جنيه، وفي هذا ما يكفي للدلالة على عظمة المدينة واتساع نطاق الحركة التجارية فيها.
وللستي أو المدينة قوانين خاصة بها وعوائد قديمة لم تتغير عما كانت عليه في أيام الملوك الأول إلا قليلا، ولها محكمة تجارية خاصة بها وبأعمال تجارها في قصر مشهور يعرف باسم جلدهول، وهو دار البلدية تولم فيه بعض الولائم الرسمية يقيمها حاكم مدينة لندن أو اللورد مايور وهو ينتخب من بين أعضاء مجلس يدير شئون هذا القسم العظيم من أقسام لندن ويسمى لوردا مدة تولي الوظيفة، ويعطى راتبا سنويا مقداره عشرة آلاف جنيه، ولا تزيد مدة ولايته عن سنة واحدة، وهم في كل يوم تاسع من شهر نوفمبر ينتخبون حاكما جديدا ويحتفلون بتعيينه احتفالا لا مثيل له عن الإنكليز في الأبهة والفخامة، حتى إن يوم اللورد مايور ليعد بينهم من الأعياد الكبرى، ويتطلع إليه الصغار والكبار في كل حين. فأما صغار الناس؛ فلأن الكتاب والعمال منهم يستريحون يومئذ من عناء الأعمال ويتفرجون على موكب اللورد مايور حين يدور في أهم شوارع المدينة، وأما الكبار فإنهم يدعون إلى وليمة فاخرة مساء ذلك اليوم في قاعة جلدهول التي ذكرناها، ومن شروط هذه الوليمة أن يدعى إليها كل كبير وذي مقام، وفي الجملة وزراء الدولة الذين اعتادوا الحضور وإلقاء الخطب الرنانة تعرب عن سياسة المملكة في تلك الليلة، حتى إن وزراء الخارجية إذا أرادوا التصريح بأمر ذي بال أبقوه إلى ليلة اللورد مايور، والذين يهمهم معرفة خطة الحكومة في مسألة من المسائل يقرءون الخطب التي تتلى في تلك القاعة البديعة، وفي كل سنة تنقل الأسلاك البرقية أقوال هؤلاء الوزراء العظام إلى جهات الأرض في 9 نوفمبر على ما يذكر القارئون. وهم في مثل هذه الأحوال يبدءون بالطعام ويتلوه الشراب الفاخر ثم يقف اللورد مايور مرحبا بالضيوف وفي يده كأس من الخمر يشربه في سر جلالة الملك فيشاركه الحاضرون مظهرين آيات الإكرام، ويقوم بعد هذا الوزراء للخطابة ثم يشرب رئيس الوزراء نخب اللورد مايور، ويشكره على إعداد تلك الحفلة متمنيا له عاما سعيدا في الختام، وبهذا يتم الاحتفال الذي تدوي الأرض بأخباره في كل عام.
ولما كان اتساع لندن الهائل وكثرة الأعمال فيها توجب تسهيل طرق المواصلة ، فقد بنوا فيها من محطات سكك الحديد شيئا كثيرا، من ذلك 14 محطة كبيرة لشركات مختلفة توصل لندن بجهات البلاد وأطرافها، وكلها واسعة فخيمة البناء تنار بالكهربائية، وفوق أكثرها فنادق عظيمة مشهورة تديرها شركات سكك الحديد، وأكبرها مساحة محطة واترلو فيها 16 رصيفا، تقوم القطر منها، وينتقل الناس من رصيف إلى رصيف على جسور جميلة فإذا ذهب الرجل إلى هذه المحطة للسفر أو لغيره وجب عليه أن يسأل العمال الواقفين في مدخلها عن الرصيف الذي تسير منه القطرات إلى الجهة التي يريدها، ولا بد أن يجد المسافرون في كل محطة رجالا يخبرونهم عن المواعيد وكل ما يلزم لراحتهم، وبعضهم لا يبطل الكلام جوابا على السؤالات التي يوجهها القادمون إليه مدة النهار بطوله. وفي لندن غير هذه المحطات ست وعشرون محطة أخرى خصت بهذه العاصمة، وقد بنيت كلها تحت الأرض وأنفقت الشركة على حفر السراديب لها وعملها مبالغ طائلة، وهي تخترق لندن في جميع جهاتها، فلو رأيت رسم هذه العاصمة تحت الأرض لعجبت من كثرة الطرق والسراديب ينتقل فيها الألوف ومئات الألوف كل يوم، فإنه يقوم كل يوم أكثر من ألفي قطر تسير تحت الأرض من جهة في لندن إلى جهة، وكلها ملأى بالركاب والمتنقلين، فيبلغ عددهم مليونا ونصفا من الخلق في كل أسبوع أو نحو 77 مليونا في السنة، وأغرب من هذا أن القطر التي تسير على الأرض وتحت الأرض لم تكف للمطلوب، فعندهم قطر حديدية تسير فوق الماء وتحت الماء، فأما فوق الماء فإنهم بنوا لها جسورا عديدة متينة فوق نهر التمز ترى الأرتال دائمة المرور عليها، وأعظمها جسر البرج عند برج لندن - الذي سيجيء الكلام عليه - بني حديثا على نسق بديع وجعل طبقات، واحدة منها لسكة الحديد وواحدة فوقها للمشاة يصعدونها على سلم في أولها وينزلون من سلم في آخرها، ويقرب منه في الجمال جسر لندن طوله 928 قدما وعرضه 54، وهو قائم على عمد ضخمة وقناطر عظيمة تمر من تحتها السفن والمراكب السائرة في نهر التمز، وقد أنفقوا على بنائه مليوني جنيه ، وحسبوا أنه يمر فوقه 20 عربة في الدقيقة أو 15 ألفا في كل يوم، وأما تحت النهر فإن في لندن خطين تسير عليهما القطر في سراديب عظيمة تحت بطن النهر، سقوفها بالحديد وبنوا لها محطة في كل جانب من جانبي النهر، والمسافر ينزل المحطة في آلة رافعة وخافضة، أو على سلم كثير الدرجات حتى إذا وصلها رأى الأرض تعج بالخلق تحت ماء النهر والمحطة الفسيحة منارة بالكهربائية فيركب العربة ويسير به القطار في ذلك النفق، يجري الماء من فوقه حتى يصل الضفة الأخرى ويعود إلى وجه الأرض.
وكل هذه الخطوط وهذه السكك لم تكف أيضا حتى إنهم أنشئوا من البواخر تسير في نهر التمز ما لا يعد، وهي طول النهار في رواح ومجيء بين أطراف المدينة، هذا غير ما في عاصمة الإنكليز من الترامواي والأمنبوس والحوافل والعواجل والعربات على أشكالها، وعدد العربات الصغيرة للأجرة من نوع الهانسم الذي يركب سائقه في أعلى العربة من الوراء 30 ألفا، فاحسب عدد العربات الأخرى للأجرة ولأصحابها العديدين وتصور مقدار الحركة الهائلة في هذه المدينة العظيمة. ومن أجمل ما يمكن للغريب أن يراه ويعرف منه أهمية لندن أن يصعد الطبقة العليا من جسر البرج الذي مر ذكره فيرى تحته قطر الحديد والعربات على أشكالها سائرة مجدة من الجانبين، وتحتها سفن البخار والزوارق والقوارب لا تعد سائرة فوق الماء، وتحتها أرتال عظيمة سائرة بالألوف في سراديب تحت الماء، ومن حولها إلى الجانبين قطر وعربات سائرة على وجه الأرض في كل جهة، فإذا رأى الغريب كل هذا صفر عجبا لعظمة الإنكليز ومقدار اشتغالهم واتساع نطاق أعمالهم وعظمت عاصمتهم الكبرى في عينيه فوق عظمتها المعروفة.
وأحسن ما يكون لمشاهدة ما في لندن من المتاحف والمعارض والآثار العظيمة أن يبدأ المتفرج من ساحة ترافلجار؛ لأنها نقطة الفصل بين أقسام لندن الأربعة - أي الشمال والجنوب والشرق والغرب - بدأت من هذه الساحة، فدخلت شارع ستراند، وهو من أعظم شوارع إنكلترا أهمية وازدحاما، فيه التجارة والبنوك وشركات التأمين والبوسطة العمومية والتلغراف والبورصة ودار البلدية وبنك إنكلترا، وهناك الازدحام الشديد والحركة التي لا تحدها العقول، وكل هذه في الجهة الشرقية من ساحة ترافلجارز وأول شيء يلتفت إليه الغريب كنيسة مار بولس تعد أعظم كنائس الإنكليز، وتقام فيها أكثر الاحتفالات العظيمة مثل احتفال اليوبيل الذي سنذكره، طولها 500 قدم وعرضها 118 ولها قبة عظيمة تعد من غرائب البناء الجديد، محيطها من الداخل 225 قدما وعلوها 365، فهي من أعلى أبنية الأرض. وفي ساحة هذه الكنيسة من الخارج تمثال الملكة حنة التي نظمت في أيامها قوانين الكنيسة الإنكليزية - على ما تقدم في فصل التاريخ - وتماثيل الرسولين بطرس وبولس، وفي داخلها قبور وتماثيل لكثيرين من عظماء الدولة الإنكليزية الذين شادوا لها صروح الفخار في هذا العصر وسابق الأعصار، مثل أمير البحر نلسون وقائد الجيوش ولنتون وهما اللذان حاربا نابوليون وكسراه، ومثل اللورد ملبورن أول وزراء الملكة فكتوريا وغوردون الذي قتل في الخرطوم وغيرهم كثير، ولقبة هذه الكنيسة - كما قلنا - شهرة ذائعة، قضوا أعواما كثيرة يشتغلون بتذهيبها وزخرفتها، وقد أنفقوا على ذلك الأموال الطائلة، ويمكن ارتقاء البرج على سلم كثير الدرجات عددها 616، والتفرج على مدينة لندن من ذلك العلو الشاهق إذا سمحت أحوال الجو بذلك فإن جو لندن متلبد بالغيوم في الصيف والشتاء، وإذا أشرقت الشمس فإن كثرة البخار والضباب والدخان في الهواء لا تساعد على النظر إلى البعيد من المشاهد.
لما انتهيت من مشاهدة هذه الكنيسة سرت في روستريت، وهو شارع عظيم فيه تمثال روبرت بيل الوزير المشهور توفي سنة 1850، وعلى مقربة منه إدارة البوسطة العامة وأعمالها تحير البصر؛ لأنها أكبر إدارة لأكبر عاصمة ولأكثر الناس حركة وأعمالا، ومثلها إدارة التلغراف العمومية، وهي تجاهها يكفي أن يقال في وصفها إن مئات من آلات التلغراف ترسل كل سنة عدة ملايين من الإشارات، والعمال فيها لا يرفعون رءوسهم من العمل مدة النهار بطوله أو مدة نوبتهم، وبينهم كثار من البنات في كل فروع البوسطة والتلغراف، وإيراد الدولة لا يقل عن 16 مليون جنيه كل سنة من هذه المصلحة بعد كل نفقاتها الهائلة، وقد سرت من تلك النقطة إلى موضع، هو مركز مدينة لندن حيث قام قصر حاكم لندن أو المانشن هوس، يقيم فيه العميد مدة توظفه سنة مع عائلته، وهو من القصور المنيفة فيه أحسن الرياش والخدمة بالملابس المقصبة برواتب من البلدية، والعميد يدخل هذا القصر كل سنة باحتفال رسمي، ويسلمه لخلفه بحفلة أخرى عند تجديد الانتخاب السنوي.
وتجاه المانشن هوس قصر البلدية أو جلدهول، بدءوا ببنائه سنة 1411 وانتهوا سنة 1431، وقد احترق وأعيد بناؤه سنة 1866 وزيدت زخارفه حتى صار من المشاهد المعدودة في أوروبا. وفي هذا القصر تولم الولائم لضيوف لندن من الملوك والكبراء، وتقام الحفلات السنوية، وأهمها حفلة 9 نوفمبر من كل سنة حين يدعو العميد وزراء إنكلترا للعشاء ويدعو معهم كل ذي مقام خطير، فتلقى في تلك الحفلة خطب تعرب عن سياسة الدولة وقد تقدمت الإشارة إليها، طول القاعة العمومية هنا 152 قدما وعرضها 49 ومنظر شبابيكها القديمة من أحلى ما يفتخر به الإنكليز، وفي هذه القاعة تماثيل الرجال العظام الذين شيدوا ملك إنكلترا الواسع مثل القواد والوزراء. وقد بني هذا القصر وقصر المحافظ وبنك لندن في ساحة واحدة على شكل مثلث هو على وجه الجملة أهم موضع في عاصمة الإنكليز.
أما بنك إنكلترا فإنه في ملتقى شوارع كثيرة، بني من دور واحد بناء متينا فاخرا ومساحة أرضه 16800 متر تحرسه فرقة من الجنود، وفيه ثلاثة آلاف عامل وله مدير ينتخب من بين التجار المساهمين كل 5 سنوات مرة ومجلس إدارة. وهو أقدم بنك في إنكلترا أسس سنة 1694 وظل يرتقي حتى صار مستودع أموال الأمة والحكومة وأشهر مصارف الأرض طرا، يدخل إليه من المال ويخرج منه كل يوم نحو مليون جنيه، وفيه من النقود على الدوام نحو 20 مليونا، ومن الأوراق المالية نحو 25 مليونا، وأوراقه شائعة في كل البلاد، تعد أحسن من النقود قيمة، وهو على الجملة مركز مال الأرض وأكبر البيوت المالية فيها. وأما البورصة تجاهه فجل ما يعلم العامة عنها أنها بناء عظيم يتضارب فيها الموسرون بالألوف والملايين، وقد نقش فوق أعمدتها الضخمة من الخارج صور الحاصلات التي يتجر بها الإنكليز في جميع الأقطار، وفي صدر الساحة تمثال الملكة فكتوريا، وأما الدخول إلى البورصة فغير مباح لغير المشتركين، وأعمالها سرية محضة خلافا لمعظم البورصات الأوروبية، فالذي يريد التأمل بعظمة لندن عليه بهذه النقطة والشوارع المحدقة بها ولا سيما شارع ثردنيدل وهو القائم به تمثال مستر بيبودي المحسن الأميركي المشهور، وقد كان من أمر هذا الخير الكريم أنه اتجر في بلاد الإنكليز وأثرى ورأى شقاء فقرائهم؛ فجاد بنصف مليون جنيه لتبنى بها بيوت صحية لهؤلاء الفقراء بدل أكواخهم العفنة، ولم يجد كريم في الأيام الحديثة بهبة كبرى كهذه؛ فعظم قدر الرجل عند الإنكليز، وأرادت الملكة أن ترقيه إلى رتبة سر وتجعله من النبلاء، ولكنه وهو أميركي لا يعرف للألقاب قيمة اعتذر عن قبول هذا الشرف، فأرسلت إليه جلالتها كتابا بخط يدها تشكره على مروءته، وأرفقت بالكتاب رسمها الكريم، ولما مات هذا المحسن جمع الإنكليز مالا بالاكتتاب وأقاموا هذا التمثال له وبنوا بماله بيوتا للعمال تضم الآن عشرين ألف نفس، وتقدر قيمتها بنحو مليوني جنيه، وقد كان إحسانه في وطنه بالولايات المتحدة أكثر من إحسانه في لندن، رحمه الله رحمة واسعة، وأكثر من أمثاله بين الناس.
وبعد هذا اتجهت في اليوم التالي إلى الرصيف المعروف باسم الملكة فكتوريا بني على ضفة التمز من الجهة الغربية، وطوله 2300 متر، وعرضه 94 مترا، وهو من أعظم شوارع لندن اتساعا وأكثرها جمالا؛ لأنه يشرف على النهر، وقد زرعت إلى جانبيه الأغراس وأنواع الشجر ورصع الجانب الآخر بأفخر أنواع البناء، مثل نادي الأحرار وفندق سافوي وفندق سسل، وهما من أهم فنادق لندن، وقد جعلوا أوسط هذا الرصيف للعربات بعرض 64 مترا، وإلى كل من الجانبين طريق للمشاة، فترى الناس يتمشون هنا ألوفا في أوقات الصحو ويتنقلون في الحدائق الصغيرة الملاصقة لهذا الممر العظيم، ويتأملون ما في النهر من ماء وسفينة، وقد أنفقوا مليوني جنيه على هذا الرصيف وهم الآن شارعون في تطويله، وهناك المسلة المصرية التي نقلها الإنكليز بعد عناء وافر من الإسكندرية ووضعوها حيث يمكن أن ترى من جهات عديدة كما وضعت المسلات المصرية الأخرى في باريس ونيويورك، وهي من مشاهد لندن المذكورة، ولهذه المسلة تاريخ مفيد؛ فإنها على ما يظهر من كتابات قديمة عليها صنعت في أيام تحوتمس الثالث في سنة 1500 قبل المسيح ونقلت على عهد أوغسطس قيصر إلى الإسكندرية في بدء التاريخ المسيحي فظلت بها إلى أن ملك البلاد محمد علي باشا خديويها الأول وقدمها هدية لحكومة إنكلترا فقبلتها، ولكنها لم تهتم بنقلها حتى إذا جاءت سنة 1877 تبرع أحد رجالها واسمه ولسون بعشرة آلاف جنيه لنقلها إلى لندن فنقلت على صندل من الخشب جرته باخرة كبيرة، ولكنها غرقت في الطريق بسبب نوء أصابها في خليج بسكي فأخرجوها في السنة التالية ووضعوها في الرصيف المذكور، وكتبوا على بعض جوانبها ما يشير إلى خلاصة تاريخها الذي ذكرناه.
وقد ركبت سفينة بحرية من إحدى نقط الرصيف هذا، وذهبت إلى برج لندن المشهور، وهو الآن متحف للسلاح والجواهر له حراس من الجنود الطاعنين في السن يلبسون ملابس الحراس القديمة، وفي مدخله مدفع جميل منقوش نقشا تركيا أهدي من السلطان عبد المجيد إلى الدولة الإنكليزية؛ جزاء اشتراك جنودها في حرب القرم مع جنود الدولة العلية، وقد قام هذا البرج على ضفة النهر وأحاطت به خنادق حفرت أيام كان يلزم البرج للحرب والحصار، فإنه بناه وليم الظافر واستعمل بعد ذلك لحبس الكبراء وتعذيب الناس من أعداء الملك كما استعمل الباستيل في باريس، ولطالما حدثت في هذا البرج من أهوال وفظائع لم تزل آثار بعضها باقية إلى الآن، من ذلك خنق الولدين البريئين أبناء الملك إدورد الرابع بأمر عمهما الطاغية رتشرد الثالث، وكان ذلك في أيام حروب الوردتين، وقد وجدت عظامهما تحت سلم قاعة الاجتماع، وهنا سجنت الملكة إليصابات بأمر أختها الملكة ماري، وأغرق الديوك أوف كلارنس أخو الملك إدورد الرابع وقتل هنري السادس، وهنا أيضا قطع رأس الملكة حنة بولن والدة الملكة إليصابات ولم يزل موضع قتلها معروفا يراه كل داخل إلى هذا البرج القديم، وفيه قتلت الكونتس سولسبري سنة 1542 واللورد سيمور الأميرال سنة 1549، وهنا أيضا سجن الملوك الأجانب الذين أسرهم الإنكليز، مثل دافد بروس ملك اسكوتلاندا، ويوحنا ملك فرنسا، وقد مر ذكرهما في فصل التاريخ. وهنا حدثت حوادث كثيرة يتذكرها المرء معتبرا بنوائب الدهر لا محل لسردها الآن.
فأنت ترى من هذا أن اسم برج لندن كان يرجف الأبدان في سابق الزمان، وأما الآن - وهو متحف بديع إلى جانب النهر، ومن ورائه جسر عظيم سبقت الإشارة إليه - فقد صار من المتنزهات وأماكن الفرجة؛ فإنه متحف للسلاح من قديم وحديث وشرقي وغربي على جميع الأشكال، وضعوه في غرف شتى مرتبا ترتيبا تسهل معه المطالعة، والذي يدخله يرى هيئة المحاربين الأول من أهل أوروبا بخوذهم ودروعهم وملابسهم وخيلهم وسلاحهم كله، ويلزم للفرجة على هذه الملابس والأسلحة زمان طويل لا سيما إذا عرف المتفرج أن هذا السيف كان في يد الملك هنري يوم أخضع فرنسا، وهذا الرمح جاء به ريكاردوس إلى فلسطين أيام الحروب الصليبية، وهذا الخنجر كان في يد ملك اسكوتلاندا حين أسره، وغير ذلك من الآثار العظيمة لا محل لذكرها. ومن أغرب الآثار هنا الرايات القديمة غنمها الإنكليز في بعض الحروب، وملابس الملوك القدماء من بعد سنة 1272 وغير هذا من آثار الأقيال الإنكليز ودلائل حروبهم الماضية.
وفي البرج قسم هو في منتهى الجمال، تؤمه الألوف كل يوم أريد به القسم الذي أودعت فيه جواهر المملكة الإنكليزية في علب الزجاج أحيطت بقضبان من الحديد والنحاس، وهي تبهر الأنظار بأنوارها الساطعة وجمالها الفائق، منها تاج الملك تشارلس الثاني ظل الملوك يستعملونه إلى أيام الملكة السابقة، وقد سرق مرة سنة 1671 وأعيد من سارقيه بعد عناء كبير، وللملكة فكتوريا تاج آخر صنعته في بدء حكمها وهو عظيم القيمة فيه 2783 ألماسة غير الجواهر الأخرى، وفي تلك الخزائن أيضا غير هذين التاجين صولجان الملك من الذهب الخالص مرصعة قبضته بأنفس الجواهر، وتاج ولي العهد وتاج قرينته ومجوهرات ملوك إنكلترا وملكاته السابقين تبلغ قيمتها نحو ثلاثة ملايين جنيه، وإلى جانب هذه المجوهرات النفيسة أمثلة من الوسامات الإنكليزية والأوروبية فرشت على قطيفة حمراء ولها شكل بهي، وقطعة من الزجاج تمثل الألماسة المشهورة كوه النور التي مر ذكرها.
وقد ورد في هذا الكتاب ذكر كثير من جواهر الملوك، فرأيت أن أسرد معظمها هنا إتماما للفائدة.
في خزنة الفاتيكان في رومية حجر ألماس وزنه 279 قيراطا، وتليه ألماسة أورلوف في القصر الشتوي في بطرسبورغ وزنها 194 قيراطا، وحجر آخر فيه وزنه 124 قيراطا، وفي خزينة اللوفر في باريس حجر وزنه 139، وعند إمبراطور النمسا حجر وزنه 136، وعند شاه إيران حجر وزنه 95 قيراطا، وعند البرنس داميدوف الروسي حجر وزنه 53 قيراطا، وعند الإمبراطورة أوجيني حجر وزنه 51 قيراطا، وفي تاج قيصر روسيا حجر وزنه 40 قيراطا.
وأكبر هذه الحجارة ألماسة كلنان المشهورة، وجدت في 20 يناير سنة 1905 في منجم كلنان بالترانسفال، فكان ثلثها لحكومة الترانسفال والثلثان للشركة، ولكن الحكومة اشترته وقدمته هدية للملك إدورد جزاء ميله إلى التساهل مع البوير في شروط الحرب التي انتهت على أيامه، وفي تقرير مبدأ الاستقلال الداخلي للترانسفال؛ وعلى ذلك ذهب وفد من قبل حكومة الترانسفال واغتنم فرصة عيد مولد الملك في 9 نوفمبر سنة 1907، فقدم هذا الحجر إلى الملك ووزنه 3024 قيراطا، وطوله 10 سنتمترات وعلوه 6 سنتميترات وربع السنتميتر، وسمكه 3 سنتمترات وربع، وقد قطع وصقل في مدينة أمستردام بهولاندا، وهو الآن موجود في خزينة الملك.
وقد مر بك أن هذه العاصمة الكبرى مشهورة بكثرة ميادينها البهية، وأشهر هذه الميادين - بلا مراء - ساحة ترافلجار سميت بهذا الاسم تخليدا لذكر نلسون ومعركة ترافلجار البحرية التي جرت عند شطوط إسبانيا على مقربة من جبل طارق سنة 1805، وقد أقيم في وسطها عمود رفيع باسق، وفي أعلاه تمثال نلسون والقاعدة من نحاس المدافع الفرنسوية التي غنمها الإنكليز في حروبهم البحرية، لها 4 جوانب يمثل أحدها معركة ترافلجار هذه ، وقد كان الإنكليز فيها يحاربون أسطولي إسبانيا وفرنسا معا فحطموها تحطيما، ونجت إنكلترا بهذا النصر من تحكم نابوليون؛ لأنه كان قد أعد جيشا مؤلفا من 172000 من المشاة و9000 من الفرسان، وأعد 2413 سفينة لنقل هذا الجيش القوي من شطوط بلاده إلى إنكلترا، فلولا انتصار الإنكليز في ترافلجار؛ لتمكن نابوليون من الوصول إلى إنكلترا وسحقها، ولا عجب إذا أكبر القوم بعد هذا ذكر نلسون وحروبه، ونقش على جانب آخر من القاعدة رسم معركة كوبنهاجن، وهي التي انتصر فيها نلسون على الدنمارك كما تقدم في بابه، وفي الجانب الثالث رسم استلام السيف من القائد الإسباني بعد معركة سان فنسان، وفي الجهة الرابعة رسم معركة أبي قير وكلها كان النصر فيها للإنكليز تحت قيادة نلسون أيضا، ويرى المتأمل في تلك القاعدة جملة صارت من آيات التاريخ يتداولها الإنكليز خلفا عن سلف ويحنون الرءوس لذكرها؛ لأنها كانت شعار نلسون كتبها في أعلى سارية ليراها كل جنوده يوم معركة ترافلجار، وهي: «إن إنكلترا تنتظر من كل فرد أن يقوم بالواجب عليه.» وفي هذه الساحة تماثيل كبراء كثيرين من القواد والساسة غير تمثال نلسون تحيط به إحاطة الهالة بالقمر. وهنالك مقاعد وبرك تتفجر منها المياه ومماش تزيد أهمية هذا الميدان؛ لأنه محاط من كل جهة بأعظم مشاهد لندن؛ فأمامه محطة تشارن كروس وفندقها والفندق الكبير، وفندق سسل فيه 700 غرفة و50 قاعة خصوصية فضلا عن القاعة العمومية، حيث تولم الولائم الكبرى. ولا يبعد عنه فندق سافوي، فيه 500 غرفة وهو على مرمى حجر من فندق متروبول وفيه 500 غرفة، وكل هذه الفنادق من أعظم ما في عاصمة إنكلترا. وأمام ميدان ترافلجار المذكور معرض الفنون الجميلة، ووراءه بقليل ميدان لستر فيه أعظم مراسح لندن، مثل مرسح أمباير والهمبرا وغيرهما، ومنه يرى مجلس النواب واللوردة ودواوين الحكومة وكثير من الأندية المشهورة، ويتفرع منه شارع ستراند وشارع فليت وشارع ريجنت وبال مال وبكادلي، وكلها من أعظم شوارع لندن أو هي أعظمها، فميدان ترافلجار هذا نقطة مركزية في لندن، واقع في طرف الستي أو المدينة الأصلية ولا بد لكل زائر أن يراه من أول يوم، كما أنه لا بد لزائر باريس أن يرى ساحة الكونكورد في الحال، والموضعان متشابهان في الأهمية.
قلنا إن معرض الصور فوق هذا الميدان، واسمه عند الإنكليز «ناشيونال جالري»، وهو من المتاحف العظيمة، أنفقوا على بنائه مبالغ طائلة وما زالوا يزيدونه إتقانا وزخارف من عام إلى عام، وقد ابتاعوا أنفس الصور ووضعوها في غرف هذا المعرض الفسيحة، ولو شئنا عد شيء قليل من تحف هذا المعرض لضاق بنا المقام، ولكن القارئ يعلم مقدار أهميته من القول إن الحكومة ابتاعت بعض صوره بالمال الوفير، فإنها دفعت تسعة آلاف جنيه ثمن صورة واحدة تمثل السيدة وولدها من صناعة ليونارود دي فنشي، وأهم من هذه صورة العذراء من صنع رفائيل المصور المشهور اشترتها الحكومة لهذا المعرض بسبعين ألف جنيه من الديوك أوف مارلبرو، وهي أغلى صورة في الوجود لم تبلغ صورة أخرى ثمنها إلى الآن، وقد درت في جوانب هذا المتحف وأعجبت بإتقان بنائه وزخارفه وفخامة عمده في المدخل الكبير، وهي من الرخام السماقي الثمين، تليها درجات من الرخام الأبيض عريضة، والداخل من تلك الواجهة العظيمة يشعر بالعظمة والوقار قبل أن يرى ما في المعرض من نفيس الآثار.
وأما الجانب المقابل لهذا المتحف من ساحة ترافلجار ففيه مركز الوزارات الإنكليزية، وهي أبنية عظيمة فخيمة متوالية بعضها وراء بعض في شارع اسمه دونن ستريت، يطل على حديقة سان جيمس المشهورة بإتقانها، وأجمل هذه الأبنية من الخارج لوزارة المستعمرات ومن الداخل لوزارة الخارجية؛ حيث يستقبل السفراء وأمراء الأجانب وتولم بعض الولائم العظيمة. ويلي هذه الأبنية الشاهقة قصر سان جيمس مقر ملوك إنكلترا الأول لم يزل على حالته القديمة، دليل ميل الإنكليز إلى المحافظة على القديم، وأمامه جنود من ألايات الحرس بتلك القامات الطويلة والوجوه الجميلة والملابس الثمينة، يخطرون وهم فرجة للناظرين يقضون الوقت بالتمشي لا يلتفتون إلى شيء آخر، فإذا كلمتهم لم يظهروا أنهم شعروا بوجودك أو سمعوك، وعلى الأبواب جنود منهم على الخيل وملابسهم جميلة يقف الجندي فوق حصانه ساعتين في موضعه، فلا هو يتحرك ولا الحصان يتقلقل كل تلك المدة، ولمنظرهم مهابة ووقار كثير.
ووراء هذه القصور بناء البرلمان العظيم، وهو مجلس نواب الأمة ولورداتها وعظمته لا تخفى على أحد؛ لأنه مركز قوة الدولة حيث تتلى أعظم الخطب السياسية والمحاورات، وقل أن يمر يوم لا نسمع فيه أن فلانا قال قولا خطير الشأن في هذا المجلس العظيم. والبناء من خارجه في غاية الفخامة والجمال، يندر أن ترى في الأرض أعظم منه إتقانا ومهابة، صرف عليه ثلاثة ملايين ونصف من الجنيهات، ولا تمر سنة إلا ويصرف عليه ألوف أخرى لزخرفه وإصلاحه، وله من الخارج عدة أبراج شاهقة ترى من مسافات بعيدة فتزيده حسنا ومهابة، أهمها برج سان ستيفنس وهو في الطرف الشمالي علوه 97 مترا، وفي الوسط برج آخر طوله 91 مترا، وبرج الملكة بني فوق قنطرة وعلوه 103 أمتار، وفي هذا البرج ساعة ذات أربعة وجوه، قطر كل وجه منها سبعة أمتار تسمع دقاتها إلى بعد باعد، وقد بني إلى ضفة نهر التمز، وضعت له المماشي والأرصفة عند الماء يجلس إليها الأعضاء للسمر وتناول المشروبات حين الفراغ من الأعمال، ويكثر أن يدعوا إلى ذلك الموضع أصحابهم من السيدات والرجال، فيراهم الراكبون في السفن من النهر، ويتأملون عظمة الموضع الذي تدار فيه سياسة الممالك ومهامها، ويتأملون أيضا واجهته المطلة على النهر يبلغ طولها 275 مترا، وقد نقش عليها صور ملوك إنكلترا من عهد وليم الفاتح إلى الملك إدورد الحالي، وكذلك صور وتماثيل كثير من عظماء الرجال الذين شيدوا المملكة، وقووا بأعمالهم الكبيرة دعائمها. وقصر وستمنستر هذا أو هو مجلس البرلمان يشغل أرضا مساحتها 33900 متر، وفيه إحدى عشرة ردهة أو حوشا، ومائة سلم وألف ومائة غرفة، يمكن للناس أن يدخلوه مرة في الأسبوع، وهو يوم السبت من الساعة العاشرة صباحا إلى الساعة الرابعة بعد الظهر؛ للتفرج على بعض جوانبه، وأما دخول القاعات التي يجتمع فيها اللوردة والنواب وسماع المداولات فلا يمكن إلا بإذن من أحد الأعضاء، وقد ذهبت إلى هذا المجلس العظيم مع صديق قديم لي هو المستر موبرلي بيل مدير جريدة التيمس المشهورة، ودرت معه في تلك الأروقة والقاعات حتى خيل لي أنني في بلد أنتقل في شوارعه ولست في بناء واحد، ودخلت قاعة العرش فإذا هي آية في الجمال والرواء رصعت أرضها بالفسيفساء البديعة الألوان وزينت السقوف والجدران بالصور والرسوم، منها صورة أمير البحر نلسون كأنه يموت في واقعة ترافلجار ورسم الدوك ولنتون يقابل معتمد فرنسا عقب واقعة واترلو الشهيرة، وفي صدر القاعة العرش يجلس عليه الملك في بعض الحفلات الرسمية، ومنه ينتقل إلى قاعة مجلس اللوردة، حيث يتلى الخطاب الملوكي، وحين ذاك يذهب موظف من مجلس اللوردة إلى مجلس النواب في الجانب الآخر من البناء يدعو النواب إلى الحضور لسماع الخطاب الملوكي، فيترك النواب كل عمل لهم ويبطل كل قول، ويتوجه بعضهم لسماع الخطاب، وهي عادة قديمة لم يتحول عنها الإنكليز إلى الآن. وأعضاء هذا المجلس نحو 550 لوردا أكثرهم يرثون هذا اللقب عن الآباء والأجداد، وبعضهم يرقى إليه باجتهاده، مثل كرومر وولسلي وكتشنر، ولكن لا يحضر المجلس من الأعضاء أكثر من مائة إلا في أحوال نادرة، وليس فيه مقاعد لجميع الأعضاء لو حضروا، وفي داير القاعة من أعلاها مواضع للسفراء والمدعوين من السيدات والرجال وأصحاب الجرائد، وسنذكر عن نظام هذا المجلس بعد الكلام عن قاعة النواب.
دخلت مجلس اللوردة، وهو قاعة باهرة ذهبت جوانبها وزخرفت سقوفها وفرشت أرضها بالقطيفة الحمراء، وفيها اثنا عشر شباكا زجاجيا رسمت عليها صور ملوك إنكلترا واسكوتلاندا، وبين تلك الشبابيك صور اللوردات الذين اضطروا الملك جون أن يمضي الدستور الذي قام عليه نظام الحكومة الحاضرة، وهذا الرسم على الزجاج في الألوان من الصناعة البديعة. وفي صدر القاعة من ناحية الجنوب منصة مرتفعة قليلا عليها المنبر أو الكرسي الذي يجلس عليه الملك عند افتتاح جلسات المجلس أو إقفالها، وبجانبه كرسي للملكة.
ودخلت بعد ذلك مجلس النواب، وهو أقدم المجالس النيابية عمرا وأعظمها صولة تنقل الأسلاك البرقية أقوال أعضائه كل يوم إلى أقاصي الأرض ، ولكنه إذا رآه الغريب لم يصدق أنه في ذلك المجلس العظيم؛ لأنه لا يزيد عن قاعة بسيطة فيها كراسي ومقاعد، وفي صدرها محل الرئيس، وهم يسمونه «سبيكر» أو المتكلم عن الشعب بحاجاته، وعدد أعضاء هذا المجلس 670 ولكنهم لا يجتمعون كلهم فيه إلا نادرا، ولا يمكن لأكثر من النصف أن يقعدوا فيه لصغره، وقد أبقوه على هذه الحالة؛ لأنه مجتمع النواب الأول فحافظوا على شكله عملا بسنة المحافظة التي يميل إليها الإنكليز، وأعضاء هذا المجلس أحزاب كثيرة أشهرها حزب المحافظين وحزب الأحرار، ومن أحزابهم حزب الأحرار المتطرفين وحزب الأحرار المنشقين والحزب الأرلاندي، وهو يخالف الأحزاب جميعها، ويطلب أن تستقل أرلاندا في شئونها الداخلية، ويكون لها مجلس خاص بها، وهي نقطة الخلاف الدائمة بين هؤلاء الأعضاء وزملائهم الإنكليز. والنواب ينتخبون كل ست سنوات أو أقل، وهم يجلسون إلى كراسيهم ولا ينزعون قبعاتهم مدة الجلسات خلافا للمتفرجين، وهذا امتياز قديم لأعضاء المجلس حافظوا عليه، كما أنهم حافظوا على عادات قديمة أخرى لا محل لذكرها هنا، وليس لهم رواتب مثل بقية النواب في أوروبا، بل هم يخدمون بلادهم بلا أجرة، وقد اشتهر عنهم الرزانة والوقار، فلا تحدث في مجلسهم الضوضاء وأشكال الخصام التي تسمع عن النواب في بعض الممالك الأخرى، وفي مجلسهم مقاعد للمتفرجين وأصحاب الصحف، ويتبع محلهم غرف للمداولات وللوزراء وأروقة كثيرة فيها رسوم الحوادث التاريخية وتماثيل الرجال العظام من الإنكليز.
ويقرب من مجلس البارلمنت هذا دير وستمنستر العظيم، وهو معبد فاخر يتوج فيه الملوك ويحتفل بزواج الأمراء والكبراء، وفيه مدفن لمشاهير الأمة أيضا، ويليه شارع عظيم اسمه شارع فكتوريا يتصل آخره بقصر بكنهام، وإلى جانب القصر حديقة جميلة اسمها سان جيمس بارك، يليها حديقة أخرى اسمها جرين بارك، ويتصل بهذه حديقة أخرى اسمها هيد بارك، هي من أكبر حدائق الأرض لا تقل مساحتها عن خمسمائة فدان، ويجتمع فيها الألوف في كل يوم متنزهين، ولا سيما يوم الأحد حين يخرجون من الكنائس وينقطعون عن العمل، وهنالك يخطب الخطباء على السامعين في كل موضوع سياسي أو مدني أو ديني، وتجري العربات الفاخرة لسراة لندن والخيل المطهمة، ولا يجوز لعربات الأجرة أن تجتاز طرق هذه الحديقة، والذي يريد أن يرى لذة العيش في لندن وثروة سراتها أو فقر أوباشها فما عليه إلا أن يدور في جوانب هيد بارك ير ذلك رأي العين.
إدورد السابع يقرأ الخطاب في البارلمان.
ذكرنا أن ميدان ترافلجار نقطة مركزية، ومنه يتفرع شارعان مهمان غربا، هما بال مال وبيكادلي، وفيهما الأندية من الطبقة الأولى يؤمها سراة الإنكليز حيث يقضون أوقاتهم بالمطالعة والمسامرة، ويتصل بالميدان المذكور أبهى وأجمل شارع في الأرض - أعني به شارع ريجنت - تمر به جميع أشكال الأمة الإنكليزية، وفيه الحوانيت تباع فيها أحسن البضائع، وهو يشبه أعظم بولفارات باريز، وفي طرفه شارع أكسفورد لا يقل طوله عن ميلين، ولو شئنا وصف شيء من هذه الشوارع أو عد المهم منها كله للزم لذلك المجلدات، يكفي الغريب أن يتمشى في هذه المثابات الكبرى ويتأمل مخازنها وتحفها وجماعات الداخلين إليها والخارجين منها؛ لأنه إذا قضى في ذلك عاما كاملا لم يمل الفرجة.
وأما متاحف لندن ومعارضها فأكثر من أن تعد أيضا؛ لأنها أعظم مدن الأرض وأشهرها، وفيها كل ما يمكن أن يخطر على البال، ولعل أشهر معارضها المتحف البريطاني المشهور بالآثار التاريخية لكل ملة وكل أمة، له منظر من الخارج فخيم، وقد قام على عمد بديعة الشكل، ومدخله رهيب رحيب يؤمه الناس مئات وألوفا، حيث يدرسون آثار الأمم الدارسة بلا ثمن، ويرون بقايا الشعوب الغابرة وقد قسمت أقساما، هنا للروم وهنا للرومان وهنا لمصر وهنا لبلاد آشور والكلدان، وليس في الأرض معرض آخر فيه من الأجسام المحنطة والآثار المصرية البديعة ما في هذا المعرض إلا متحف الجيزة. وهنالك من أنواع النقود القديمة والحديثة لكل الممالك ما يقصر القلم عن وصفه، ومحررات وكتب خطت بيد المشاهير من جميع الأزمان، ومؤلفات غربية بعضها عربي قديم له قدر وقيمة، هذا غير المكتبة التابعة لهذا المعرض، وهي قاعة كبرى مستديرة الشكل يدخلها الطالبون بإذن خاص من مديرها، وفيها نحو أربعمائة ألف كتاب، فإذا دخلها الزائر قعد إلى كرسي وكتب اسم الكتاب الذي يريده على ورقة يجدها أمامه، فيأتي خادم من خدمة المحل ويأخذ الورقة ثم يعود بالكتاب ويضعه أمامه بلا حديث ولا لغط، فترى العلماء والمنقبين يدرسون هنالك بكل وقار، ولتلك القاعة تأثير في النفس عظيم، وقد اشتهر المتحف البريطاني هذا بما أنفق عليه من الألوف، وما فيه من هدايا الإنكليز النفيسة والآثار، من أشهرها حجر رشيد الذي اهتدى الناس إلى العلم باللغة المصرية القديمة منه، وجده العلامة شامبليون الفرنسوي سنة 1804 مدة الحملة الفرنسوية، وأخذ منها يوم حاربهم الإنكليز فأودع في هذا المعرض، ومع ذلك آثار بابل ونينوى التي جمعها السر هنري ليارد وغيره، وهي أقدم آثار الآدميين، وفيه غرفة للتحف النفيسة والجواهر القديمة لا تفتح إلا بإذن خاص لبعض الزائرين.
ومن هذه المعارض متحف كنسنتون خص بالفنون الجميلة كالحفر والنقش والتصوير، وفيه أشكال الآلهة القديمة والرجال العظام كلهم على اختلاف الملل، ومتحف التاريخ الطبيعي وهو بناء جميل في صدره تمثال دارون العلامة المشهور، وفيه أشكال النبات والطير والسمك والحيوان كلها، وهو من المعارض الجميلة في لندن، ومن هذا القبيل أيضا متحف مدام توسو على مقربة من حديقة النبات التي ذكرناها، فيه تماثيل الرجال والنساء العظام بملابسهم المعروفة، وقد أتقن إلى حد أن الغريب لا يفرق بين التمثال والشخص الحي، وغير هذه المعارض كثير لا يمكن أن نطيل في وصفه.
وفي القسم الغربي من لندن أهم مشاهدها، وهو مسكن الأغنياء وأهل الترف، وليس في الأرض بقعة أعظم من البقعة المحيطة بقصر بكنهام في جمال أبنيتها واتساع شوارعها وفخامة مناظرها وثروة أصحابها وكثرة مشاهدها، وما فيها من آيات العظمة والإتقان، ومثلها في الجمال واتساع الطرق بعض الضواحي يسكنها الموسرون والأكابر وهم يقضون أعمالهم في المدينة. وفي لندن من تماثيل الرجال العظام ما لا يعد ولا يعدد، تراه أينما سرت، وأحسن هذه التماثيل ألبرت مموريل أو تذكار البرنس ألبرت زوج الملكة، أقيم له بعد وفاته في طرف حديقة هيد بمال الأمة، وأنفق على زخرفه وتشييده نحو 120000 جنيه، ويليه في آخر الحديقة إلى الشمال قاعة مستديرة كثيرة الفخامة والزخرف اسمها ألبرت هول يجتمع فيها الألوف للأمور الخطيرة وسماع الخطب المهمة، وهي تضم نحو عشرة آلاف نفس، وقل أن تسمع باسم رجل عظيم من الذين نبغوا بين الإنكليز وليس له تمثال في هذه العاصمة، وأما فنادقها فمحاولة عدها خطأ؛ لأن الفنادق هنا بلا عدد وبعضها ضخم كبير إلى حد غريب ومطاعمها أيضا لا حصر لها، ولكن أكثرها يقفل يوم الأحد مثل كل المخازن والأماكن العمومية، فترى المدينة ذلك النهار في سكون وهدوء غريبين حتى يخيل لك أنك انتقلت من لندن، وهي مركز الحركة الهائلة والضجة الكبرى.
ويكثر الضباب في لندن حتى إنهم يضطرون إلى إنارة الطرق والمخازن بالأنوار الكهربائية وغيرها في وسط النهر أحيانا، وجوها قاتم في أكثر أيام السنة حتى إن المرء لا يرى أمامه إلا مسافة قريبة، ومنازلها معروفة بالسواد من الخارج بسبب هذا القتام المولد عن كثرة مداخنها، والمقادير الكبرى التي تحرق فيها من الفحم كل يوم، ففيها أكثر من 600 ألف منزل ونحو 15 ألف معمل، ويتطاير منها الدخان في كل آن.
ومن أهم مشاهد لندن موانيها الكبرى على ضفاف نهر التمز، إذا زارها المرء رأى العجب وتحقق أن تجارة الإنكليز تصل كل صقع بعيد، وأن مملكتهم لا تغيب الشمس عنها وسمع من الضجة وشهد من الجد في العمل وكثرة السفن والعمال والأبضعة ما يحير العقول ويبهر الأنظار، فإن طول المينا أربعة أميال يدخل كل عام ما يزيد عن سبعة وعشرين ألف سفينة محمولها ستة عشر مليونا ونصف طونولاتة، وتبلغ قيمة صادرات هذه المملكة حوالي 550 مليون جنيه حسب إحصاء سنة 1908، ويمكن لثلاثمائة سفينة بصنادلها أن ترسو في هذا الميناء العظيم، وهناك الأرصفة التابعة للمينا أهمها رصيف كاترينا صرف عليه ثلاثة ملايين جنيه، مساحته نحو مائة فدان، ورصيف التجارة يشغل 350 فدانا ورصيف الهند يشغل، أيضا 350 فدانا ورصيف فكتوريا 500 فدان، ويدخل إلى هذه الأرصفة أربعون قطارا من قطارات السكة الحديدية في كل يوم، وهناك مخازن للبضائع أهمها محل مساحته 30 فدانا للبهائم يضم ثلاثمائة وخمسين ألف رأس من البقر والضأن، والذي يتأمل تلك العربات التي لا تحصى ذاهبة آيبة لنقل البضائع وهاتيك الألوف من العمال تشتغل بلا انقطاع؛ يعلم أنه في مقر الحركة الكبرى ومركز تجارة الأرض بلا خلاف.
ضواحي لندن
إن ضواحي لندن كثيرة العدد متنوعة المناظر يسهل الوصول إليها من كل جهات المدينة، ولما كان وصف هذه الضواحي التي جعلها أواسط الإنكليز وأكابرهم محل إقامتهم لا يختلف كثيرا عن وصف ضواحي العواصم الأخرى، فقد رأيت أن أكتفي منها بما يجيء:
حديقة ريجنت:
هي أكبر حدائق لندن، تبلغ مساحتها 472 فدانا من الأرض، وفيها قسم للحيوانات على شكل حديقة الجيزة من ضواحي مصر، ولكن معرض الحيوانات في حديقة ريجنت هذه من أكبر معارض الحيوان في ديار الغربيين، فيه أكثر من 2500 حيوان، وقد يزيد عددها أو يقل حسب الأحوال، كما أن عدد المتفرجين عليها يختلف باختلاف الأوقات، وأكثر ما يكون توارد المتفرجين إلى هذه الحديقة في ساعات العصر حين تخرج هذه الوحوش من مكامنها، وتشم رائحة اللحم فتأتي حركات تروق للناظرين. ولصغار الإنكليز ولع بهذه الحديقة، فهم ينتابونها ألوفا مؤلفة، وتلذ لهم فيها مشاهدة القردة على أنواعها وتأمل حركاتها وأمورها، وربما قضى الزائر ساعات متواليات في هذه الحديقة يدور من مشهد إلى مشهد، ويتأمل غرائب المخلوقات المتعددة حتى إذا شعر بملال أو تعب جلس إلى أحد المقاعد المنثورة في جوانب الحديقة بين شهي الأغراس وبهي الأزهار أو انتاب قهوة يسمع فيها شجي الألحان، وإذا جاع أو عطش فلديه مطعم فيه من كل فاكهة زوجان، ومن الأطعمة ما يشاء من الأطباق والألوان.
وفي هذه الحديقة أقسام أخرى بعضها لأنواع الطير، وقد لا تقل الطيور المختلفة في أقفاصها عن 1500 طير، جمعوها من سحيق الأصقاع ونائي القارات، فمنظرها غاية المتفرجين، وفيها أيضا قسم للزحافات، مثل الحيات وسواها جاءوا بها من الهند وأميركا وجاوة وإفريقيا، وهي داخل بيوت من الزجاج لبعضها شكل يخيف القلوب، ولكن هذه المخلوقات على الجملة تشرح الصدور بمنظرها وحركاتها، وتعد حديقة ريجنت من أحسن مثابات لندن وأنفعها في جميع الأوقات.
قصر البلور:
هو بناء من الزجاج والحديد شادته شركة إنكليزية في قسم سدنم من ضواحي لندن سنة 1854 برأي المرحوم البرنس ألبرت والد ملك إنكلترا الحالي؛ ليكون معرضا عموميا لمصنوعات الأمم جمعاء، وقد نقلت باريس وغيرها هذا الفكر عن لندن فأقامت المعارض العمومية المشهورة، وما زالت ترجع إليها من حين إلى حين، أنفقوا على هذا البناء يوم إنشائه مليوني جنيه، وجعلوا له فناء طوله 1608 أقدام، وفيه محل للموسيقى بلا سقف يمكن أن يقعد فيه 4000 نفس، وقاعة عظيمة واسعة تضم نحو 20 ألفا، وحدائق ومناظر تعد من حسنات العاصمة الإنكليزية، فالناس يقصدون هذا القصر وحديقته ويكثر عديدهم في الأعياد والآحاد حين تزداد المشاهد ومشوقات النفس إلى الحضور، وتطلق في الليل ألعاب نارية مختلفة الرسوم والألوان، فتلذ الفرجة لجمهور المتفرجين. وأما حديقة هذا القصر التي ذكرناها فلا تقل مساحتها عن 200 فدان، فيها كل ما يفتن الأبصار من الأعشاب والأزهار وبرك الماء وممهد الطرق وبقية الحسنات المعهودة في مثل هذا المتنزه الكبير. وفي هذا القصر تماثيل بديعة منقولة عن صنعة القدماء، ومعرض لبعض الآثار والأسلحة القديمة، وأسواق صغرى تباع بها النفائس من أحسن معامل الإنكليز.
رتشمند:
مكان بهي بديع تشرح آياته الصدر ويشعر المرء فيه براحة البال وتعاون الطبيعة والصناعة على إبراز الجمال بأحلى الأشكال، يمكن الوصول إلى هذه الجهة بسكة الحديد أو بالعربات تجرها الخيل أو بحافلات الأوتوموبيل أو بغير ذلك من وسائل النقل، وقد قصدتها بعربة تجرها أربعة جياد وتسير العربة ساعة من الزمان في طريق مستقيم ليس به اعوجاج ولا انحناء ولا تعريج إلى الشمال أو إلى اليمين، بنيت رتشمند على ضفة نهر التمز الذي يخترق مدينة لندن ويشطرها شطرين، ففيها القوارب الحسناء يركبها من شاء التنقل فوق ماء البحر، وإلى مقربة منه حديقة رتشمند المشهورة، وهي مجموع حرجات وجنات وغابات تمر بها الناس فوق الجياد أو في مركباتها متلذذة بالهواء النقي، ومساحة هذه الحديقة 2225 فدانا، كانت فيما سبق من أملاك ملوك إنكلترا، فتنازلت الملكة فكتوريا عنها في أوائل حكمها وجعلتها من أملاك الأمة حتى تكون مثابة الجمهور كما هي الآن.
حديقة كيو:
وهذه أيضا من بدائع الضواحي الإنكليزية ومثابات أهل الترف والبطالة، يمكن الوصول إليها من حديقة رتشمند التي ذكرناها، والمسافة بينهما طويلة، ولكن السائر في هذا الطريق يرى قسما كبيرا من أطراف مدينة لندن، وهم يعنون بإنبات الأعشاب والنباتات الغريبة في هذا الموضع، فيضعون بعضه داخل بيوت من الزجاج وقد يوقدون النار من تحت جذوره؛ لأنه منقول عن بلاد حارة فلا ينمو إلا بمثل هذا التدبير، أذكر أني لقيت مدير هذه الحديقة ساعة زيارتي، وأنه رافقني وأرشدني بنفسه إلى كثير مما تحلو مشاهدته، وأظهر لطفا عظيما، وأذكر أيضا أني رأيت في هذه الجهة لأول وهلة إحدى بنات الإنكليز تشتغل بعزق الأرض والزراعة وهي بنظيف الملابس، وفي رجليها حذاء وفي يديها قفاز أو كفوف تقيهما المضار، وقد رأيت أشجار النخل هنا داخل محل علوه 70 قدما وحرارته لا تقل عن درجة 80 على مدار السنة، وهو منظر غريب لا نظير له في بلاد الإنكليز، وفي وسط الحديقة طريق عريض جميل إلى جانبيه صفوف الزهر والعشب يمتد منها إلى ضفة التمز، وفيها كل ما تطلب النفس من لوازم الطعام والشراب، فزيارتها عائدة بالمسرة والقوم الذين ينتابونها جمهور كبير.
اليوبيل
ولدت جلالة الملكة فكتوريا في الرابع والعشرين من مايو سنة 1819، وهي ابنة الديوك أوف كنت ابن الملك جورج الرابع، وأمها ألمانية من آل كوبرج، وربيت هذه الملكة في مهد الفضيلة حتى إذا توفي عمها سنة 1837 ورثت الملك عنه بحسب نظام المملكة الإنكليزية، وأظهرت من ساعة تتويجها رقة وشعورا بالواجب جذب قلوب الناس إليها وجعلهم يجلون مقامها ويحبونها حبا مفرطا، واقترنت سنة 1840 بابن عمها البرنس ألبرت أمير كوبرج وغوتا، وكان الرجل من أنجب أهل زمانه وأعقلهم وأبرعهم، طالما قام مقام الملكة في المحافل وأرشدها في المهمات، وقد حدثت في أيامها حوادث كثيرة أشرنا إلى بعضها في الخلاصة التاريخية من هذا الفصل. وتقدمت الأمة الإنكليزية تقدما لم يسبق له نظير في أيام هذه الملكة العظيمة التي اشتهرت بالفضائل ولم تغضب شعبها مرة واحدة مدة حكمها الطويل، ولما بلغت الخمسين من حكمها احتفل الإنكليز بذلك العيد احتفالا عظيما دعوا إليه ملوك الأرض وأمراءها، ولكنهم عادوا إلى احتفال أعظم منه سنة 1897 حين تم على الملكة ستون عاما وهي فوق العرش، وكان هذا هو اليوبيل الذي نحن في شأنه.
كانت الحكومة الإنكليزية والأمة قد استعدت لذلك الاحتفال الباهر قبل زمانه بمدة طويلة، وظلت الجرائد أشهرا وأعواما تكتب عنه وتقدم الآراء في وجوه إظهاره، وجمع الأفراد والجماعات في المملكة الإنكليزية والمستعمرات مبالغ طائلة؛ لتنفق على الزخارف والزينات في يوم الاحتفال؛ ولتقدم بها الهدايا لجلالة الملكة أو لتنشأ المدارس والآثار الدالة على ذلك العيد العظيم الذي لم يدون له التاريخ مثيلا، فإنه لم يملك في الأرض ملك أو ملكة 60 عاما على سلطنة لا تغيب الشمس عنها مثل سلطنة الإنكليز إلا اثنان، هما لويس الرابع عشر ملك فرنسا وجورج الرابع ملك إنكلترا، وكلاهما لم يكونا على تمام القوى العقلية مدة حكمهما الطويل، وأرسلت حكومة إنكلترا في أوائل سنة 1897 كتبا إلى ملوك الأرض وأمرائها ووزرائها تعلنهم أن الاحتفال العظيم بمرور ستين عاما على حكم الملكة فكتوريا يتم يوم 22 يونيو من تلك السنة، فانتدبت كل دولة وفدا من عظمائها يحضر ذلك الاحتفال بالنيابة عنها، وكان رئيس الوفد في أكثر الأحيان من أمراء الدولة المالكة أو ولي عهدها أو أقدم وزرائها، وبعض الملوك ذهبوا بأنفسهم مثل ملك البلجيك وملك سكسونيا وملك اليونان وملك الدنمارك وغيرهم، وأرسلت الوزارة الإنكليزية إلى سلطنة الهند والمستعمرات تدعوها لحضور هذا الاحتفال فجاء من كل مستعمرة وزيرها الأول مع قرينته، واستأجرت لهم الحكومة فندق سسل من أشهر فنادق لندن في شارع ستراند فأقاموا فيه مدة الاحتفال ضيوف دولتهم، وكذلك جاء من كل مستعمرة نفر من الجند فكنت ترى العساكر الأوسترالية والكندية والقبرسية والهندية والصينية والملقية والمالطية والأفريقية على أشكالها وأنواعا من الجند، والناس أتت من مشارق الأرض ومغاربها، حيث يخفق العلم الإنكليزي الذي تظلل بظله في أيام الملكة فكتوريا نحو خمس البشر جميعهم، وهو عدد لم يحكم مثله واحد من بني آدم قبلها، وكان منظر هؤلاء الأقوام المختلفة ومنظر ضباط الجيش الهندي بملابسهم المزوقة وعمائمهم المزخرفة يستحق الذكر والإعجاب ، ويشير إشارة واضحة إلى اتساع السلطنة الإنكليزية وقوتها الهائلة، ودعي إلى هذا الاحتفال أيضا قواد الأساطيل الإنكليزية والجيوش البرية وأعضاء البارلمنت ومجالس الشورى والبلدية والوزراء السابقون وكل ذي حيثية ومقام، فكان في ذلك المشهد العظيم من أمراء الأرض وملوكها وقوادها ووزرائها وأصحاب المقام الخطير فيها ما لم يتفق اجتماعه في نقطة واحدة من عهد تأسيس الحضارة الحديثة، ولا غرو إذا قيل إن اليوبيل كان من أعظم أعياد المتمدنين.
وأما عن استعداد الأهالي والزينات الباهرة في كل جوانب لندن وفي الشوارع التي تقرر أن يمر بها الموكب العظيم في ذلك اليوم المشهود فحدث ولا تسل؛ لأن حلقات الزهر والأعمدة والقبات والمصابيح والكرات والرايات وأشكال الزينة الأخرى كانت متواصلة متوالية من قصر بكنهام الذي خرجت منه الملكة وبقية الكبراء إلى كنيسة مار بولس التي أقيم فيها الاحتفال الديني، ومن هذه الكنيسة إلى القصر في شوارع غير التي قدم الموكب منها، وقد استغرق مسير الموكب ذهابا وإيابا 4 ساعات ونصف ساعة، ومر في شوارع طولها ثمانية أميال حتى يتمكن الناس من رؤية ملكتهم ومشهدها الباهر في ذلك اليوم من عدة أماكن، وكان الناس قد استأجروا كل شرفة أو كوة أو نافذة يمكن لهم أن يقعدوا فيها ساعة مرور الموكب حتى إن أجرة الشباك في تلك الشوارع بلغت مبلغا كبيرا، وهدمت مواضع قديمة بني موضعها مقاعد من الخشب صفوفا فوق صفوف، فما بقي رصيف ولا سطح ولا مكان حتى احتشد فيه المئات والألوف، وخيل للناظرين في ذلك اليوم الغريب أن شوارع لندن وأرصفتها وأبنيتها انقلبت إلى مراسح فيها صفوف الجالسين بعضهم يلي بعضا، أولهم في الأرض وآخرهم في أعلى السطوح، والكل بأجمل هندام مع أولادهم وأصحابهم فرحين بذلك العيد الذي طبقت الآفاق بذكره مدة الأعوام الماضية، وقد تحلوا رجالا ونساء بألوان الراية البريطانية، وهي الأحمر والأبيض والأزرق، بعضهم لبسوها أزرارا في الرداء أو رباطا للعنق أو زينة لملابس الرأس، أو بطرق أخرى تظهر وطنيتهم وفرحهم الكثير. وتخلل صفوف الناس في كل جانب تلك الرايات المعقودة على أشكال بهية والزينات الباهرة وشعار الدولة الإنكليزية، وقد كتب عليها في معظم الجهات «الله يحرس الملكة» بأحرف مختلفة الأشكال والألوان.
وكان الهواء في ذلك النهار صحوا بديعا يوافق ما تعودته الملكة فكتوريا حين خروجها مدة حكمها الطويل، فإنها لم تخرج لأمر خطير مدة أيامها إلا والهواء معتدل والمطر قليل مع كثرة وقوعه في بلاد الإنكليز حتى صار من مصطلحات القوم أنهم يسمون أوقات الصحو «بهواء الملكة». وابتدأ الموكب العظيم بالخروج من قصر بكنهام الساعة 8 والدقيقة 45 صباحا بين دق الأجراس وقصف المدافع وعزف الآلات الموسيقية وصياح الناس من كل جانب، فكان لذلك الاحتفال تأثير كبير، وكان بدء ذلك الموكب خروج فرق من الشرطة والجند لبست أبهى الملابس المعروف جمالها، وقد تألقت الوسامات الحربية على صدور الرجال ووقفت الجنود في طول الطريق لحراسة أولئك العظام الذين تألف منهم الموكب والمحافظة على النظام بين الذين احتشدوا لمشاهدة ذلك المنظر الغريب، وما كاد النظام يتم والوقت يجيء حتى برزت من داخل القصر البهي فرقة من الحرس الملوكي، وهم جنود تضرب الأمثال بجمال وجوههم وقاماتهم وملابسهم ينتقون من طوال الرجال وأصحاب المناظر البهية، ويلبسون فاخر الثياب من خوذة نحاسية تلمع كالذهب الوهاج فوقها شعار الدولة الإنكليزية وريشة بيضاء وسلسلة تربطها إلى العنق، وكل هذه تسطع وتلمع من دونها سترة حمراء بديعة الجمال مزركشة بالقصب والذهب من أعلاها إلى أسفلها، وبنطلون أبيض متين له حواش من القصب وجزمة صفراء إلى الركبتين، وقفاز أبيض في اليدين، هذا غير ما على الجواد من الأدوات الثمينة، فكان منظر أولئك الجنود مما يشرح الصدور وترتاح إليه النفوس، وتقدم هذه الفرق من الحرس الملوكي ضابط صغير الجسم ضئيل امتطى جوادا أبيض وقد غطي صدر هذا الضابط بأفخر الوسامات، وكان في يده عصا المشيرية وعليه أمارات العظمة مع صغر جسمه، فعرف الناس في الحال أنه بطلهم المغوار والليث الكرار اللورد روبرتس الذي قاد جنود الهند وإنكلترا في مواقع الهند وبرما وأفغانستان والترانسفال، وشاد لدولته صروح الفخار؛ فصاحت تلك الجماهير لرؤيته فرحة مرحبة، ونادت الألسن أن ليعش روبرتس، وكان بعضهم يقول «برافو بوبس» وهو اسم هذا القائد العظيم عند العامة التي تحبه حبا مفرطا، فكان بدء الموكب ببروز هذا القائد العظيم استهلالا بديعا، وتوالت بعد ذلك فرق لا عد لها ولا حصر من فرق الجيش الإنكليزي وجيوش المستعمرات، وكان وراء كل فرقة وزير المستعمرة التي جاءت منها الجنود في عربة خاصة به مع قرينته، وجاءت بعد هذه فرق من بحرية إنكلترا وتلامذة مدارسها البحرية، فكانت تلك الجموع تصيح مرحبة بها صياحا دوت به الآفاق؛ لأن الإنكليز يفخرون بقوتهم في البحار، وهي عنوان ملكهم الوسيع، فما رأى البحرية من إكرام الناس لهم مثل ما رأوا في ذلك اليوم العظيم، ومرت بعد هذا فرق الجيش الهندي فصفق لها الناس كثيرا وبالغوا في إكرامها مبالغة ثم توالت عربات الوفود القادمة من كل مملكة، فكانت الجماهير كلما عرفت أميرا عظيما أو مندوبا ساميا تنادي مرحبة به وتعظم قدره، وقد خصوا بالإكرام الجنرال ميلز قائد جنود الولايات المتحدة ومعتمدها في ذلك الاحتفال، والبرنس هنري البروسي شقيق الإمبراطور ورئيس الوفد الألماني، والغراندوق سرجيوس عم القيصر ورئيس الوفد الروسي، وظل القوم يرحبون بهذه الجماعات.
وقد جاء وراء الوزراء أعضاء مجلس الأعيان ومجلس النواب والمجالس البلدية وحكام الولايات وتلامذة المدارس الحربية والبحرية حتى إذا تعددت الأشكال ومرت فرق العظماء على مثل ما تقدم، برز من وراء الجند أمراء امتطوا صهوات الجياد، وفي جملة هؤلاء الأمراء العظام الغراندوق سرجيوس الروسي عم جلالة القيصر والبرنس هنري الروسي شقيق إمبراطور ألمانيا، والأرشدوق فردناند النائب عن إمبراطور النمسا، وسمو البرنس محمد علي شقيق الجناب الخديوي، وأمير الجبل الأسود، وولي عهد السويد، وولي عهد الدنمارك، وملك سكسونيا، وولي عهد رومانيا ، وكثار غير هؤلاء من أمراء أوروبا وأقيال الهند والممالك الشرقية، وكان من وراء هؤلاء الأمراء عربة الملكة ووراءها ولي العهد البرنس أوف ويلس وأخوه الديوك أوف كونوت وابن عم الملكة الديوك أوف كامبردج، والكل بفاخر اللباس العسكري والوسامات العالية على ظهور الجياد، فكانت جماهير الناس كلما رأت أحد الرجال العظام أو كلما وصلت جلالة الملكة إلى أحد المواضع ترفع أصواتها إلى السماء طربا وترحيبا، وقد تكرر هتاف الناس وتصفيقهم وطارت في الفضاء قبعاتهم ولاحت في الهواء مناديلهم، وظهر لهم من الحماسة والفرح ما لم يرو نظيره عن الإنكليز. وكانت جلالة الملكة في عربة فاخرة يجرها ثمانية من جياد الخيل، وقد قعدت في صدرها وإلى يمينها ابنتها البرنسيس كرستيان، وإلى يسارها ابنتها الأخرى البرنسيس هنري باتنبرج، وسار أمامها في طليعة هذا الموكب العظيم اللورد ولسلي وهو يومئذ القائد العام لجيوش إنكلترا كلها وصاحب النصرات المتوالية في جهات الأرض، ومن أركان الدولة الإنكليزية وأكبر مشيدي صروح العز والمجد لها في أيام هذه الملكة السعيدة.
ويضيق بنا المقام لو وصفنا عشر معشار الذي تلا مركبة الملكة والذي تقدمها أو الذي أتته ملايين الناس في ذلك اليوم المشهود، ولكننا نكتفي بالقول إن هذا الموكب الهائل وصل كنيسة مار بولس، وكان الذين تقدم ذكرهم من وزراء المملكة ونوابها وقوادها ووزراء المستعمرات الإنكليزية وغيرهم قد سبقوا جلالة الملكة إلى تلك الكنيسة حيث أقيمت الصلوات شكرا لله على ما أنعم على الملكة من طول العمر والتوفيق العجيب لها ولمملكتها الزاهرة، وهذه عادة الإنكليز يجعلون مدار كل احتفال كبير على الصلاة. وحضرت تلك الوفود هذه الصلاة فسمعت الألوف تنشد نشيدا خاصا بذلك الاحتفال كتبه أحد أساقفة الإنكليز وحفظه الناس حتى إذا جاءت ساعة إنشاده اشترك الجماهير المحيطون بالكنيسة من كل جانب بترتيله، فكان لذلك وقع غريب وتأثير خارق في جميع النفوس.
ولما جاء المساء أولمت في قصر بكنهام وليمة فاخرة لنحو أربعمائة ضيف من هؤلاء الملوك والأمراء والكبراء، وتلا الوليمة مرقص بهي حضره نحو ثلاثة آلاف نفس من نخبة أهل الأرض ظلوا إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل في تفتل وتمايل وقصف وسرور، وأمراء الدولة الإنكليزية بينهم يلاطفون الجميع، كل هذا ومدينة لندن في زينة من الأنوار تبهر الأبصار، وقد قام قائم المصابيح والأشعة الكهربائية في كل جانب، وظهرت صورة الملكة وشعارها والدعاء لها وسني حكمها 1837-1897 بالمصابيح الصغيرة المختلفة الألوان، فكنت ترى شوارع لندن كلها زينات وراء زينات، فكأنما أنت في أرض مسحورة تنتقل من آية في الجمال إلى آية، وقد ازدحمت جماهير الخلق في تلك الميادين الواسعة والشوارع الفسيحة؛ فضاقت بها الأرض على رحبها وجعل الناس يمشون كتفا لكتف وهم بحر زاخر لا يعرف له أول من آخر، ولكن هذا الازدحام العجيب لم يحدث قلقا ولا اضطرابا فإنه مر على لندن ثلاثة أيام بلياليها، وهي في ضجة وحركة ما لهما مثيل وتزاحم بين الناس لم يروا له في تاريخ الأعياد الكبرى نظيرا، وما أنتج ذلك شرا ولا شكا أحد عاقبة سوء، بل إن الأفراح عمت وآيات السرور قامت في كل جانب، ولم يقتصر ذلك على دور الحكومة والبنايات العمومية، مثل إدارات الصحف وبنك إنكلترا وشركات التأمين والمحطات وغير هذا، بل إن الزينة تناولت بيوت الخاصة والعامة، والفرح تشارك فيه الرفيع والوضيع.
هذا كله في لندن وأما في الجهات الأخرى فإن مدن إنكلترا والهند والمستعمرات الإنكليزية كلها اشتركت في هذا الاحتفال، وحيثما وجد إنكليز في الأرض فهم نظموا لجنة تأتي ما يدل على اشتراكهم في ذلك العيد العظيم، وكان من آيات هذا الاحتفال في إنكلترا أنهم استعرضوا الجيوش الإنكليزية في ضواحي لندن وفي أولدرشوت وسواها من المواقع العسكرية، وكان تقاطر الألوف لمشاهدة هذه الاستعراضات عجيبا ولا سيما حين استعرضت الفرق التي جاءت من المستعمرات الإنكليزية، وهي من كل جنس وملة، وأهم من هذا كله استعراض الأسطول العظيم في سبتد، وقد جعلوه خاتمة الحفلات دلالة تباهي الإنكليز بقوتهم في البحر، وكان ذلك الأسطول مركبا من 165 قطعة حربية، وهو عدد هائل وقد تيسر للدولة الإنكليزية أن تستعرض كل تلك البوارج والمدرعات والطرادات والنسافات بدون أن تفصل باخرة واحدة من بواخرها الحربية عن مركزها، فإن أساطيل إنكلترا في البحار البعيدة بقيت كلها على حالها وجمع مع ذلك هذا العدد الوفير فاتضح للجميع حينئذ أن قوة إنكلترا في البحر لا تجارى ولا تبارى، وقد ذهبت إلى سبتد لمشاهدة هذا الأمر المدهش مع ألوف سواي أعدت لهم قطارات خاصة قامت من لندن، حتى إذا وصلت هذه القطر بمن فيها انتقل الركاب إلى بواخر بحرية دخلت أنا واحدة منها عظيمة الاتساع اسمها مارغريت، فكنا كلما دخل الواحد هذه الباخرة يعطى رسما طبع فيه شكل البوارج المزمع استعراضها مع أسمائها وطرزها ومدافعها ومركزها بين تلك الصفوف، وذلك بأنهم رقموا على كل باخرة نمرة أوضحوها في ذلك الرسم تسهيلا للاستدلال، وكانت تلك الباخرات راسية في البحر صفين عظيمين امتدا مسافة 25 ميلا فمخرت باخرتنا بين الصفين وجعلت تسير ساعتين ونصفا حتى وصلت آخر الصفوف، ثم عادت فلزم لها ساعتان ونصف أيضا. وأما عن عظمة ذلك المشهد الغريب فلا تسل؛ لأننا كنا بين جبلين أو صفين من القلاع الحصينة طفت على وجه الماء، وقد زاد على قوتها الهائلة حسن تنسيقها وجمال منظرها وما فيها من عدة وسلاح، وهي لو جمع مقدار المال الذي أنفق عليها لبلغ 40 مليون جنيه أو يزيد، وزاد المنظر رونقا أن الدول الأخرى أرسلت كل دولة منها بارجة حربية لتشهد هذا الاستعراض، فكنا نخترق صفوف هذه الرواسي، وكلما دنت باخرتنا من إحداها هتف الركاب مسلمين على ضباط تلك البارجة وبحريتها، وهم وقوف بالهيئة الرسمية على ظهور بوارجهم، ويتبادل القوم الهتاف فرحين حتى أتينا على آخر الصف، وعدنا وفي النفس من وقار ذلك الاستعراض شيء كثير. ولما انتصف النهار صدر لهذه البوارج جميعها من مركز القيادة العامة إشارة، فأطلقت كل بارجة 60 مدفعا إشارة إلى مرور 60 عاما على حكم الملكة فكتوريا، فكان لقصف المدافع دوي هائل تقلقلت له الرواسي وطبقت به جوانب الأرض، وعدد المدافع التي أطلقتها كل هذه القطع الحربية في تلك الساعة 99000 وكأنما هذا كله لم يكف القوم حتى إنهم أبقوا لنا أفخر أشكال الزينة برمتها إلى الليل حين أضاء الفضاء بما سطع من أنوار البوارج الكهربائية، فإن قطع الأسطول كلها أنيرت في لحظة واحدة على حين غرة، فظهرت الباخرات كأنها شعلة من نار وقد ترقرق الماء من تحتها واتضحت جميع أجزائها، وظهرت آيات البهاء كلها، فما رأيت دهري أجمل من منظر ذلك الأسطول العظيم وهو لابس حلته الكهربائية، وكان النائب عن جلالة الملكة في هذا الاستعراض ولي عهدها الملك الحالي.
وظل الفرح قائما على مثل هذا في سبتد حتى ولى الليل وعدنا في الصباح التالي إلى لندن في قطر خاصة، وكان عمال القطار يهتمون لراحة الصغار والكبار اهتماما يذكر لهم مع الشكر، فإنه مع كل هذا الازدحام الهائل لم يشك أحد الناس تعبا أو مللا، وهذا شأن الموظفين في سكك الحديد من الإنكليز في أعيادهم ومواسم سباق الخيل والأيام الكبرى يتعبون؛ ليستريح المسافرون ويعودوا إلى منازلهم وهم مثل أفراد العائلة الواحدة، عمهم السرور وشملهم الأمن وظهرت عليهم آثار الراحة والارتياح شأن القوم الذين ترقوا في مدارج الكمال وأعدت لهم كل وسائل الراحة والهناء، وقد حضرت من بعد هذا أشكالا كثيرة من الاحتفال بيوبيل الملكة، من ذلك أنهم مثلوا رواية في مرسح الهمبرا بلندن - وهو من مراسحها العظيمة - أظهروا فيها تاريخ الملكة فكتوريا بكل أدواره، وأنفقوا على الاستعداد لهذه الرواية ورسومها وملابسها ومعداتها الأخرى نحو سبعين ألف جنيه، وكان الممثلون كلهم بنات ذوات حسن باهر لبسن الأشكال المختلفة، وجعلن في بعض الأدوار يجتمعن للرقص سوية وهن لا يقل عددهن عن مائتي فتاة، فكان لرقصهن على الأنغام منظر يسحر العقول ويدهش الألباب، ولا سيما حين جعل بعضهن يتفتل والبعض يترقص، وفي الوسط عميدة الممثلات تدور على شكل بهي غريب، وقد لبس الكل أنفس الأطالس وتحلين بأمثلة الجواهر تشع الأنوار، وحملت فرقة من هذه الممثلات سعوف النخل، ودارت فرقة أخرى بالمناديل الكبيرة من الحرير الرقيق الملون ألوانا بالغة حد الجمال، فجعلن يقبلن في أيديهن هاتيك السعوف والحرائر وهن يرقصن ومن فوقهن بنات لهن جمال لا يوصف علقن في الفضاء بحبال لم تظهر للرائين، وركبت لهن أجنحة فكن يطرن فوق الرفيقات كأنما هن ملائكة الجنان فوق ذلك الجمع اللطيف الباهر، وليس يمكن أن يصف القلم أو اللسان جمال ذلك المنظر الفتان. وفي آخر الأمر مثلوا جلالة الملكة جالسة على عرشها وفي يدها صولجان الملك وعلى رأسها التاج، والكل بهيئة لا تختلف عن الهيئة الحقيقية ودار بجلالتها صفوف الجند وهن من هؤلاء الفتيات بالملابس العسكرية، فأدين بعض الرسوم ثم اشتركن في إنشاد النشيد الوطني عند الإنكليز، وعند ذلك وقف الحاضرون ورفعوا القبعات وطأطئوا الرءوس إجلالا لملكتهم وإكراما، تلك عادة في الإنكليز يظهرونها في محافلهم ومجتمعاتهم دليل حبهم للملك والوطن، ونعم ما يفعلون.
ومن هذا القبيل أنهم استدعوا المطربة المشهورة مدام باتي لتغني خمسة أدوار في القاعة المعروفة باسم ألبرت هول، وقد مر ذكرها وهي تضم عشرة آلاف نفس فابتاع تذاكر الدخول عشرة آلاف من الإنكليز حال علمهم بالأمر، ولما جاء موعد الغناء كان كل في موضعه وليس لذلك الخلق الكثير ضجة ولا اضطراب حتى إذا بدأت المغنية بالغناء والكل منصتين كأن على رءوسهم الطير أظهروا لها في آخر كل دور سرورهم بالتصفيق، ولم يسمع لأحدهم في أثناء ذلك صوت ولا حركة أخرى يستاء منها الباقون، وفي هذا مخالفة ظاهرة لمجتمعات الأنس في هذه البلاد، حيث يكثر اللغط والكلام في أثناء الغناء وقبله وبعده، ودفع القوم لمدام باتي ألف جنيه أجرة غنائها في تلك الليلة.
وكان من آيات الاحتفال أيضا معرض دائم سمي باسم الملكة فكتوريا، أنشئت فيه الأسواق والمخازن لعرض صناعة إنكلترا وأملاكها وبيع الأبضعة النفيسة، كان الداخلون إليه لا يقلون في اليوم عن خمسين ألفا، وفيه المطاعم والحانات ومرسح للتمثيل وأجواق الموسيقى، وألعاب جمة أشهرها دولاب كبير لم يصنع إلى الآن دولاب مثله تديره الآلات البخارية وقطره 300 قدم، ركبوا فيه أربعين عربة كل عربة تنقل 16 شخصا، فكان الراكبون يقعدون في مواضعهم، وهذا الدولاب العظيم يدور بهم على شكل الأراجيح المعروفة في هذه البلاد حتى إذا وصل المتفرج أعلى الدولاب من ناحية الفضاء رأى قسما كبيرا من لندن تحت يده، فكان تقاطر الناس على هذا الدولاب عظيما، ولا سيما الصغار منهم وأصحاب العائلات. ولقيت المستر موبرلي بل مدير التيمس الذي سبق ذكره فدعاني إلى وليمة فاخرة أولمها في منزله لرؤساء الوزراء الذين جاءوا من المستعمرات الإنكليزية، وكانوا موضوع إكرام الحكومة والأفراد مدة وجودهم في إنكلترا، ثم دعيت أيضا إلى دار محافظ لندن - التي مر ذكرها - لوليمة شائقة أولمها حضرته لهؤلاء الوزراء أيضا، فكان المدعوون يفدون ويستقبلهم الغلمان المستخدمون للتشريفات في مثل هذه الحفلات وهم يلبسون أثوابا من القطيفة الحمراء مزركشة بالقصب، وللسترة أزرار من النحاس كبير مذهبة وعلى الكتفين حلية من القصب تحكي التي يضعها رجال البحرية والعسكرية فوق أكتافهم، والبنطلون من القطيفة الحمراء أيضا مزركش بالقصب من جانبيه، وهو ينتهي عند الركبتين بأزرار من النحاس المذهب، وتليه جوارب من الحرير الأبيض وأحذية من الجلد الأسود اللماع، ويذر هؤلاء الغلمان المسحوق الأبيض (البودرة) على شعورهم، وهي عادة قديمة كان الرجال جميعهم يأتونها في الأجيال الماضية فبقيت بين أمثال هؤلاء الخادمين، وإذا استقبل الغلمان المذكورون مدعوا تقدموه إلى قاعة الاستقبال ونادوا باسمه واسم قرينته بصوت عال حتى يعلم صاحب الدار من القادم ويتقدم للترحيب، فكان كل مدعو إلى حفلة محافظ لندن هذه يصل على مثل ما تقدم، وكان من حسن حظي أني عرفت جناب السر جورج فودل فلبس محافظ لندن في ذلك العام، وحدثته وحدثني بعد الوليمة، وشكرني على ما قدمت من المساعدة لنجليه حين قدما مدينة الإسماعيلية في الشتاء السابق وأنا قائم مقام المحافظ، وقد تعب السر جورج فلبس هذا مدة العيد واحتفالاته؛ نظرا لمركزه في عاصمة الإنكليز، فإنه ألقى مدة هذا العيد نحو 300 خطاب وجمع على يده نحو مليون جنيه بالاكتتاب للزينات وغيرها، وضربت على التجار ضريبة غير إجبارية تعرف بضريبة البني (أي قرش تعريفة)، فجمعوا منها عشرة آلاف جنيه لبناء مستشفى خيري. وفي غد ذلك النهار زرت جناب اللورد كلارندون نجل اللورد كلارندون الذي تقلد وزارة الخارجية مرة، وله فضل على المرحوم والدي بما أنعم عليه مدة وجوده فيس قنصل إنكلترا في اللاذقية. وجناب اللورد كلارندون مثل أكثر أشراف الإنكليز مقيم في قصر قديم كان قلعة لأجداده فما غير منه في ظاهره إلا الذي لزم له ترميم أو إعادة بناء، وفي هذا القصر آثار ومفروشات باقية من أيام اللوردات كلارندون الأول، وقد مرت عليها في تلك القاعات عدة قرون.
وجملة القول أن إنكلترا وأملاكها ومستعمراتها كانت في أعياد تلي أعيادا سنة اليوبيل هذه، ولو شئنا عد الهدايا والآثار والاحتفالات التي اشتهر أمرها لما كفى لذلك كتب كثيرة، وكان من أمر جلالة الملكة أنها لما رأت من شعبها كل هذا الإكرام العجيب لها والحب الخارق، جادت في العطاء والولائم والصلات وأنعمت بالرتب والوسامات على مئات من نبلاء دولتها وكرام مملكتها، وأرسلت في آخر الحفلات رسالة خطتها بيدها الكريمة تشكر رعاياها جميعهم على ما أظهروا من الولاء شكرا قلبيا، وأمرت أن تنشر الرسالة هذه في صحف إنكلترا والهند والمستعمرات في آن واحد، فأرسلت إلى أقاصي الأرض بالتلغراف ونشرت في يوم واحد، وقد ورد في ذلك المنشور عبارة فصلت الخطاب في إشاعة تداولتها الألسن من عهد بعيد؛ فإن الكثيرين كانوا يظنون أن جلالة الملكة تكتفي بحكم 60 عاما وتتنازل عن الملك بعد الاحتفال لولي عهدها، فورد في منشورها المذكور قول صريح يفهم منه أنها عازمة على التمسك بالعرش ما ظلت حية، وكان ذلك ختام عيد ما رأى مثله الأولون والآخرون.
اسكوتلاندا
لما انتهيت من هذه الحفلات برحت لندن قاصدا مدن اسكوتلاندا وجبالها، وهي مصايف الأشراف الإنكليز وأكثر الأراضي البريطانية جمالا، وقد مر بك أن اسكوتلاندا هي القسم الشمالي من بريطانيا العظمى، وهي جزء من الأجزاء الثلاثة المكونة للملكة الإنكليزية - أريد بها إنكلترا واسكوتلاندا وأرلاندا - وتاريخها مختلط بتاريخ الإنكليز، فراجعه في الخلاصة التي صدرنا بها هذا القسم من الكتاب. ركبت قطارا وصلت به قبل أن أدخل حدود اسكوتلاندا بلدة «وندرمير»، وهي بلدة زاهرة زاهية بنيت على ضفة بحيرة تعد أكبر بحيرات إنكلترا وأوفرها جمالا، طولها عشرة أميال وعرضها ميل وثلث ميل، وإلى جانبيها نجاد بهية وهضاب شهية كسيت بالخضرة السندسية، وقد رصعت أرضها بالطرق الرحبة والأغراس البديعة وتخللها قصور باذخة شماء وصروح فائقة الإتقان، بعضها فنادق ومتنزهات والبعض مساكن لأهل النعمة والترف من الإنكليز - وهم كثار كما تعلم - فما في الأرض بلاد يكثر سراتها وأغنياؤها مثل هذه البلاد العظيمة، وقد عني القوم بهذه البحيرة وما حولها فوضعوا فيها البواخر والزوارق على أشكالها يتنزه بها السيدات والرجال والصغار معجبين بصفاء مائها وجمال ما حولها من المناظر، ووسعوا الطرق للعربات والعجلات وجماعة المارة من كل جانب وأكثروا من الغرس الشهي والعشب الندي حتى أضحت تلك البقعة مثابة أهل العز ومحجة الذين يريدون قضاء مدة ينسون فيها متاعب الدنيا وهم العمل من المتزوجين حديثا؛ إذ هم يقضون هنا شهر العسل - وهو الشهر الأول بعد الزواج - لا هم فيه غير التلذذ والتمتع بنعيم الحياة. وقد زرت جناب الخواجا بويل وقرينته وهما والدا المستر بويل من موظفي الوكالة البريطانية هنا سابقا، لهما قصر في طرف هذه البحيرة وسمعت منهما الشكوى؛ لأن نجلها الوحيد لا يزورهما إلا قليلا لكثرة أعماله في القطر المصري، ولقيت منهما إكراما وترحيبا كثيرا، وأقمت في تلك الجهة أربعة أيام وددت لو تكون أربعة أشهر؛ نظرا إلى جمالها المفرط ولذة العيش فيها ثم برحتها قاصدا مدينة أدنبرو عاصمة اسكوتلاندا.
أدنبرو:
هي من أجمل المدائن البريطانية، وإن تكن ليست من أكبرها، فهي لها شهرة قديمة وحديثة بمن نشأ فيها من الفلاسفة وفطاحل السياسة ولمدارسها الفلسفية والطبية شهرة ذائعة في الخافقين، والمسافة بين هذه المدينة ولندن نحو أربعمائة ميل تجتازها القطر السريعة مرارا كل يوم ذهابا وإيابا، وعدد سكانها 350 ألفا، فهي نظرا إلى قلة الساكنين لو قابلتها بغيرها من المدن المشهورة كثيرة النظافة والإتقان يندر أن تلقى مدينة مثلها في نظافة شوارعها وأبنيتها، كما أنه يندر أن تلقى في الأرض أناسا أطهر سيرة وأجمل قلبا وأرفع آدابا من أهلها؛ لأنهم مثل سكان اسكوتلاندا عامة أهل تقى وتعقل ورزانة وأدب كثير، وليس في حاراتها وشوارعها ما في أزقة لندن وباريس وبعض المدن الكبرى من الأجلاف والأوباش الذين يدنسون البقاع بقذر ملابسهم ودنيء ألفاظهم، كما أنه ليس فيها من ضجة العربات والحركة الهائلة ما في المراكز التجارية الخطيرة، فهي مطمع الطامعين بالعيش الهنيء ومقر البهاء والجمال بين المدائن الشمالية.
ولما وصلت أدنبرو ذهبت توا إلى فندق «سنترال» في شارع اسمه برلسز ستريت - أي شارع الأمراء - وهو أهم شوارع المدينة وأعظمها، يشرف على واد طويل عريض حولته يد الاجتهاد إلى مجموع حدائق بهية، غرس بها من أنواع الزهر والشجر كل ما تشرح الصدور رؤيته، وأنشئت فيها الطرقات الجميلة والبرك البديعة، وقد صنعوا لها عدة سلالم تتصل بشارع برنسز هذا؛ حتى ينزل الأهالي منها إلى الحديقة للتنزه وسماع الأنغام التي تصدح بها مساء كل يوم، فيحتشد الناس هنالك ألوفا على عادتهم في كل مكان مثله. وقد لقيت في هذا الشارع تمثال السر ولتر سكوت الراوية المشهور، وهو من أعظم كتاب اللغة الإنكليزية، ولد في أدنبرو وبني له هذا التمثال على قاعدة من حجر الصوان، وهو بالملابس الاسكوتلاندية الجبلية، تحكي ملابس العساكر الجبليين في فرق الجيش الإنكليزي نراها هنا كل يوم. ومن فوق التمثال برج علوه 200 قدم من الصوان رسم على جوانبه بعض ملوك اسكوتلاندا القدماء، وإلى جانب هذا التمثال أثر آخر يمثل الرحالة المشهور نفنستون صاحب السباحات المعروفة في أفريقيا؛ حيث توفي سنة 1873 وهو من أهل هذه المدينة. وقد ظللت سائرا في هذا الشارع، وهو ملتقى الهيئة الاجتماعية في أدنبرو، حتى وصلت سفح مرتفع يسمى عندهم تل كالتون، ارتقيته ورأيت في أعلاه مسلة من الصوان الأحمر اللامع، علوها عن سطح المدينة 443 قدما، وقد أقيمت تذكارا لبعض طالبي الإصلاح من أهل المدينة نفوا سنة 1794 بسبب مطالبهم. ويشرف هذا المرتفع على المدينة وضواحيها، ولها منه منظر كثير الجمال، ثم عدت إلى شارع الأمراء وتوصلت منه إلى شارع آخر في قصر الملوك القدماء ، وهو مثل قلعة مصر في شكله، كان منزلا لهؤلاء الملوك وحصنا يدفعون منه غارات الأعداء، ولطالما ثارت الفتن وسفكت الدماء في هذا القصر كما حصل في قلعة مصر. وقد دخلت هذا القصر من باب كبير ورأيت وراءه مدافع صوبت إلى المدينة، ومنها اثنان غنمتهما الجنود الاسكوتلاندية المشهورة بالبسالة من الروس في حرب القرم، ويلي ذلك غرف القصر في بعضها آثار تاريخية، منها تاج الملك جيمس الخامس وسيفه، ومنها غرفة فيها آثار الملكة ماري ستورات التي مر ذكرها في الخلاصة التاريخية وقتلتها الملكة إليصابات الإنكليزية، وكنيسة قديمة العهد بنيت سنة 1110. وتركت هذا القصر متوجها إلى قصر آخر اسمه هولي رود في كنيسة الصليب المقدس، وقد دعيت بهذا الاسم؛ لحكاية تاريخية متعلقة بالملك الذي بناها وهو دافيد الأول، قيل إنه كان واقفا في تلك البقعة للصيد وهجم عليه ثور هائل يريد الفتك به، ولكن الملك كان معه قطعة من خشب الصليب المقدس أوقفت ذلك الثور كالصنم، وكانت تلك القطعة هدية للملك من والدته الملكة مرغريت المشهورة بالتقوى، فبنى الملك الكنيسة في تلك الأرض تذكارا لنجاته. وبنى من حولها ذلك القصر الذي دخلته ولم أر فيه كثيرا مما يستحق الذكر غير أنه أثر تاريخي جليل حدثت أمامه عدة حروب ومعارك، وفيه قاعة عمومية جمعت صور ملوك اسكوتلاندا القدماء، وغرفة تحوي آثار الملكة ماري ستورت باقية على حالها الأصلية، وحمام لها كانت تمزج ماءه بالنبيذ الأبيض حين الاستحمام محافظة على نقاء جسمها، وبعض السيدات الآن يفعلن مثل هذا ويمزجن الماء بالحليب أو ببعض العطور.
وعدت مرة أخرى إلى شارع الأمراء فدخلت بعض الشوارع الجميلة التي تتفرع منه، وأهمها شوارع القلعة وفردرك وهنوفر، وكلها ملآنة بتماثيل الرجال العظام إلى درجة لم أر لها نظيرا في مدائن إنكلترا الأخرى. وأذكر من هؤلاء الرجال توماس غلادستون، وهو من الذين ولدوا في هذه المدينة، ولكنه رحل بعد ذلك بأولاده إلى مدينة لفربول للمتاجرة، ومن أولاده المستر غلادستون الرجل العظيم المشهور، ودخلت مدرسة الطب المشهورة التي سبقت الإشارة إليها ، وهي مجموع أبنية فسيحة بديعة فيها ألوف الطلبة، وقد نشأ منها بعض الشبان الشرقيين، مثل الدكتور حبيب خياط وحضرة الآنسة أنيسة صيبعة من سيدات طرابلس الشام، تلقت فيها الطب بمزيد الاجتهاد. وزرت مدرسة أخرى في الضواحي للمبتدئين، وهي مثل القصور الفاخرة في بنائها ووضعها، أتقن التدريس فيها كما أتقن في كل مدارس اسكوتلاندا، ولها فرع لتدريس علم اللاهوت يكثر طلابه؛ لأن الاسكوتلانديين أهل ورع وتدين، لا تقل شهرتهم في التقوى والأمانة عن شهرتهم في الإقدام والبسالة المعروفة عن جنودهم الجبلية، وآثار تدينهم ظاهرة في كثرة الكنائس وفي محافظتهم الغريبة على يوم الأحد، فإنك ترى أدنبرو في ذلك اليوم كأنها في منام وقد أقفلت كل حوانيتها وبطلت كل حركتها، فلا عربة ولا قطار ولا شيء أمامك إلا أفواج الناس ذاهبة بالهدوء والسكينة إلى الكنائس وعائدة منها، حتى إن المطاعم الضرورية لا تفتح فيها إلا بعد موعد الصلاة في الكنائس، والسفر من أدنبرو يوم الأحد غير ممكن؛ لأن محطات السكة الحديدية تقفل أبوابها مدة ذلك النهار، حتى إن الفنادق وضعوا في كل غرفة من غرفها نسخة من التوراة، وترى بعد الظهر شوارع المدينة وفسحاتها ملأى بالمصلين والمرتلين والواعظين يحثون الناس على التزام الفضيلة، والناس من حولهم كأن على رءوسهم الطير، وفي ذلك ما يشهد للاسكوتلانديين بالتدين الصحيح.
وكان معي في الفندق سائحة أميركية ألحت علي بالذهاب إلى كنيسة روسلن؛ لأنها أثر تاريخي في هذه العاصمة جميل، فذهبت إليها مع غيري من السائحين في عربة كبيرة يجرها أربعة خيول، وسارت بنا نحو ثلاث ساعات في مروج خضراء ومناظر بهية حتى وصلت تلك الكنيسة ورأيت بها من أنواع النقش على الحجر كالزهر والورد والشجر ما يشهد ببراعة صانعيها. والكنيسة هذه قديمة بنيت سنة 1446 وأقام اللورد روسلن في قصر إلى جانبها كان يدفع منه غارات أعدائه، وقد حارب الإنكليز هنا في معركة شديدة انتصر بها انتصارا تاما مع أن جنوده كانوا 8000 والإنكليز 30000 فترى الاسكوتلانديين يفخرون بذكر هذه المعركة في كل حين.
وزرت بعد ذلك ثغر المدينة وهو بلد مهم، سكانه 70 ألفا تقوم منه البواخر إلى جميع الجهات، ويليه إلى جهة الجنوب جسر عظيم مشهور اسمه جسر فورث بني على نهر فورث، وهو أعظم جسر في الوجود بني على طريقة هندسية عجيبة، بمعنى أنه ليس له قناطر وعمد في النهر، بل هو قوس واحدة قائمة على قاعدة في الأرض من هنا وقاعدة من هنا إلى جانبي النهر، وطوله 2765 مترا، فهو أقل طولا من جسر بروكلن في نيويورك إلا أنه أعظم منه متانة، وأدق صناعة وأغرب شكلا، وقد أنفق على بنائه أكثر من ثلاثة ملايين جنيه ووضع فيه من الحديد والفولاذ ما يكفي لبناء خمسين جسرا عظيما، واشتغل به خمسة آلاف عامل مدة سبع سنين، فلما انتهى بناؤه سنة 1890 احتفلوا بافتتاحه احتفالا عظيما شائقا رأسه ملك إنكلترا الحالي بنفسه، وقد شهد الموسيو إيفل مهندس البرج المشهور في باريس أن جسر فورث هذا أعظم الأعمال الهندسية الحديثة، وكان هو من المدعوين يوم الاحتفال بافتتاحه، والمهندس الذي بنى هذا الجسر العظيم هو السر وليم فولر أعطي لقب الشرف حين نجز عمله، وتقرر في الأذهان أنه أتم أعظم جسور الأرض بلا خلاف. وقد جاء هذا الرجل مصر على عهد المغفور له إسماعيل باشا؛ لإبداء رأيه في أمور هندسية وأكرم مثواه، وجاء من عهد قريب ليبدي رأيه أيضا في إصلاح القناطر الخيرية؛ فأعطي على تقريره ألف جنيه، وهو يقبض في بلاده الألوف أجرة رأي أو تقرير صغير عن كل عمل هندسي يندب له.
أبردين:
وبعد أن قضيت أسبوعا في هذه المدينة، وأعجبني منها نظافتها وحسن أخلاق أهلها، برحتها مسافرا في سكة الحديد إلى أبردين وتسمى أيضا مدينة الصوان؛ لكثرة هذا الحجر في نواحيها، وهي - والحق يقال - كلها من هذا الحجر، فإنه يقطع وينحت من نحو ثمانين موضعا في جوارها، وتبنى به المنازل كلها حتى إن الشوارع تبلط بهذا الحجر، وأكثر ما يكون البناء هنالك بالحجر الأسمر قطعا كبيرة ترص بعضها فوق بعض، ولا يدخلها قرميد ولا خشب ولا حديد، وأما القوائم والعمد والواجهات فتصنع من حجر أسود، ويتكون من ذلك مجموع أبنية غريبة المناظر كثيرة الجمال تقرب من بعض أبنية بيروت في شكلها، ولكنها تخالف أبنية أوروبا بوجه الإجمال، وهم يصدرون إلى الخارج شيئا كثيرا من هذا الحجر الذي جعل مدينتهم زينة بين المدائن، فما رأيت دهري مدينة نظيفة مثل أبردين هذه، حتى إنك لو درت الشوارع كلها لم تلق شيئا من الوسخ ولا قطعة صغيرة من الورق في طريقك، ويزيد هذا البلد جمالا أنه يشطره نهران، أولهما اسمه دي، والثاني دون، وهما صغيران ولكن تجري فيهما السفن المتوسطة ويصبان في البحر القريب من أبردين. وأكثر منازل هذه المدينة من دورين فقط، وأمام كل منزل حديقة جميلة فمنظرها بديع من جميع الجوانب، والساكن فيها يشعر براحة وطمأنينة وارتياح إلى تلك الأشكال لا يتولد في النفس إلا من مثل هذا الجمال المتجمع في أبردين، وقد تمشيت في شارع الاتحاد الذي بني به الفندق حيث نزلت وهو أحسن شوارع أبردين، طوله حوالي ميل وعرضه 70 قدما، فالتقيت بتمثال البرنس ألبرت زوج الملكة فكتوريا، وهو كان أهل اسكوتلاندا يميلون إليه لما أظهر من الميل إلى المشروعات المفيدة، ويليه تمثال لجلالة الملكة نفسها تذكارا لزيارتها هذه المدينة مع زوجها المذكور سنة 1859، وفي طرف الشارع إيوان كبير حفرت على حجارته صور ملوك اسكوتلاندا القدماء، وإلى جانبه نادي الضباط، فمنزل اللورد بيرون الشاعر المشهور حيث عاش وهو طفل صغير، فمدرسة مارشال في ساحتها مسلة من الصوان الأحمر علوها 72 قدما، وهي مصقولة تضيء كالمرآة، وقد بنيت تذكارا للسر ماكرجور الذي تولى رئاسة المدارس هنا 30 عاما، ولها أيضا أبراج عالية في الزوايا صعدت أوسطها فأشرفت على المدينة كلها، وأنت تعلم أن أوفق محل لرؤية المدن مثل هذه المرتفعات، حيث ترى صورة إجمالية ترتسم في الذهن ولا تمحى، ووراء هذه المدرسة مكتبة للعامة مجانية فيها تمثال الجنرال ولس الذي حارب الإنكليز ببسالة لا مزيد عليها، ويروى عنه أنه لما جاءه القائد الإنكليزي يطلب المخابرة أرجعه قائلا: اذهب وقل لمولاك إننا وجدنا للمحاربة بالسيف وليس للمخابرة. ويلي هذه المكتبة مدرسة غوردون للمعوزين والأيتام، وقد نقشوا على بابها جملة من يوميته هي هذه: «إني عملت الواجب علي لشرف أمتي تحريرا في الخرطوم يوم 14 ديسمبر سنة 1884.» ولغوردون مدارس كثيرة غير هذه في إنكلترا واسكوتلاندا أقيمت بعد قتله إظهارا لاعتراف الأمة بفضله وتأثرها من مصابه، وأكثرهم يعتقدون أن الحكومة أهملت أمره إهمالا أدى إلى موته ويذكرون ذلك إلى اليوم. وقبل أن أبرح المدينة دعاني صديق لي عمره نحو 70 سنة لأذهب إلى الحمامات البحرية؛ فذهبت وكان البرد يومئذ شديدا والمطر منهملا، فأذهلني حين وصولي أن الرجال والنساء كانوا يستحمون في تلك الأمواج المتلاطمة والمطر يسقط على رءوسهم والريح الباردة تهب على أجسامهم، وهم لا يبالون حتى إن صديقي المسن هذا اشترك في الاستحمام حال وصوله ولم يرجعه برد ولا مطر، فلا عجب إذا كان الإنكليز أقوياء أشداء على ما اشتهر عنهم ما دامت هذه عوائدهم، وما دام الكبار والصغار منهم يقضون نصف أوقاتهم في الرياضة والركوب والألعاب على أشكالها، فليس في الأرض أمة تمرن الأجسام مثل الأمة الإنكليزية أو تعتني بالنظافة مثلها، وهذا فيما أظن من أكبر أسباب ارتقائها؛ لأن الجسم القوي يتبعه عقل قوي في أكثر الأحوال.
أنفرانس:
وتركت أبردين بعد هذا في قطار جعل يخترق الهضاب والبطاح ويدخل تارة بين حراج اسكوتلاندا وحزونها، وطورا يسير على مقربة من البحر حتى وصلت بعد ست ساعات مدينة أنفرانس، وهي في حدود اسكوتلاندا على مسافة 600 ميل من لندن، وقد أضحت هذه البلدة مصيفا للكثيرين ينتابونها لاعتدال هوائها في الصيف وجمال مناظرها؛ لأنها في وسط جبال اسكوتلاندا المشهورة بالفخامة والبهاء، بنيت على ضفة نهر اسمه نس يتخلف منه عدة جزر صغيرة، يوصل بعضها ببعض جسور من الحجر والحديد متقنة الصنع، وقد أقيم في أحد ميادينها تمثال للجنود الاسكوتلانديين الذين قتلوا في حروب مصر والسودان، وكتب على القاعدة أسماء الضباط والمعارك، مثل التل الكبير وجنس وكوشة، والأثر كله من الصوان المصقول. وفي طرف هذه البلدة قلعة قديمة تحكي كل القلاع التي بناها الملوك الأول في المدائن المتطرفة للدفاع عن حدود المملكة، وفيها مدفعان روسيان غنمهما الإنكليز في حرب القرم، ورايات وآثار حربية تدل إلى عدة مواقع أظهر فيها الجنود الاسكوتلانديون بسالتهم المعروفة. ويبدأ من هذه المدينة نهر كليد المشهور بحسن ضفافه وجمال مناظره وكثرة الذين يتنقلون في اسكوتلاندا على بواخره، وقد ركبت إحدى هذه البواخر مع كثيرين غيري في يوم رق هواؤه وراقت سماؤه، والنهر طوله 240 ميلا يمر في جبال ووديان ونجاد ووهاد وغياض ومدن وعمائر شتى، ويتكون منه جزر وبحيرات كثيرة الأنواع، فالذي يسير فيه يرى كل محاسن الطبيعة والصناعة وآثار النعمة والحضارة في تلك الجهات السعيدة، وقد قامت بنا تلك الباخرة ونحن على ظهرها نتأمل تلك المناظر وندرس خرطا فيها رسم كل وادي النهر وضواحيه حتى إذا آن أوان الطعام، نزلنا قاعة فسيحة صفت فيها الأواني الفاخرة وقدمت الألوان الشهية، وكان أكثر الحاضرين من الاسكوتلانديين يشربون الوسكي مع الطعام، وهو مشروبهم الوطني، وكانت الباخرة تقف على تلك الضفاف البهية من حين إلى حين ليصعد من شاء وينزل من شاء، ورأيت بين المسافرين في تلك الجهات أناسا يذهبون للصيد مع عدتهم وكلابهم وهم يستأجرون الأراضي الفسيحة لذلك بالمال الوفير لمدات معلومة، حتى إن بعض السراة يؤجرون غابات لهم بآلاف من الليرات كل سنة لهذه الغاية، وهم يستحضرون إليها الغزلان والثعالب والأرانب ويطلقونها في جوانب الأرض ثم يتراكض وراءها الصيادون، وهذا من ملاهي الإنكليز المشهورة.
وفي جوانب هذا النهر صروح فخيمة وفنادق لا تعد وغرف ومنازل مفروشة ومعبدة للأجرة، يقضي فيها المصطافون بعض زمانهم مستريحين متنعمين، والمناظر تتنوع يرى المسافر أشكالها لا سيما إذ تلتف السفينة مع النهر بين تلك الجبال والغياض، ومن أجملها منظر جبل بن نفس، وهو أعلى جبال اسكوتلاندا. وبعد هذا الجبل سرنا في منبسط من الأرض بديع زرعوا فيه إلى جانبي النهر من هنا ومن هنا صفوفا طويلة من شجر الحور الجميل، فكنا في تلك البقعة كمن يتمشى بين جدارين من الخضرة النضرة والشجر البهي يهب بين أوراقها الهواء، فيسمع لها حفيف ترتاح إليه القلوب، وبعد ذلك كثرت في النهر الجزائر والبحيرات فكنا ساعة في نهر وساعة في بحيرة، ثم نحن مرة أخرى في النهر ثم ندور حول جزيرة أو نقف عند بلدة أو نلتف حول غابة، ومن فوقها منظر الجبل الفخيم أو في واد خصيب رصعت جوانبه بالقصور والحدائق والمناظر المنعشة للنفوس حتى وصلنا مدينة غلاسكو العظيمة بعد سفر يومين في هذا النهر، ونحن نتمنى لو تطول تلك السياحة المفرحة في نهر كليد البهي.
غلاسكو:
هذه من أشهر مدن الأرض وهي ثالثة المدن الإنكليزية؛ فإن الأولى لندن والثانية لفربول - كما لا يخفى - ولا يقل عدد سكان غلاسكو عن مليون نفس، وهي لو رآها الغريب ظنها لندن؛ لأنها نظيرة لها في الاتساع وضخم الأبنية وفخامتها وسوادها وكثرة الشوارع والميادين والمشاهد والمتاحف والمعامل التي لا تعد، وفيها سكك الحديد تحت الأرض وفوق الأرض والجسور والسفن تمخر في النهر، والعمال ألوف فوق ألوف على مثل ما في مدينة لندن، ولكنها نالت شهرة لم تنلها مدينة سواها في صنع السفن والبواخر من تجارية وحربية على أشكالها، فإنها تصنع في معاملها معظم مدرعات الأسطول الإنكليزي وشيئا كثيرا للدول الثانية، وقد تزيد نفقة المدرعة الواحدة من الطبقة الأولى عن مليوني جنيه، ولا يقل عدد الباخرات التي تخرج من معاملها في السنة عن 300 باخرة، فهم قد صرفوا مالا طائلا على الأحواض والترسانات، وبنوا لها الأرصفة والأسوار وكل ما يلزم مسافة ستة أميال، وهي من قدم مشهورة بعمل السفن؛ فقد كان جيمس واط أول من ارتأى تسيير السفن بالبخار من أهل هذه المدينة، وأول باخرة قامت منها في سنة 1812، فهي السابقة في هذا المضمار من أول عهد الناس بالبخار. زرت أحد هذه المعامل فرأيت من ألوف العمال وأدوات العمل ما لا يوصف في كتاب، وسمعت من طرق المطارق وقرقعة الآلات ما يصم الآذان، ومررت في ذلك اليوم بأهم شوارع المدينة، مثل شارع أرجيل وبكنان وميدان جورج فيه حديقة وبرك وتماثيل العظام، مثل الملكة فكتوريا وزوجها ولفنستون وواط وأرجيل وولتر سكوت، ويحيط بهذا الميدان قصور باذخة وأندية فخيمة، أهمها بناء المجلس البلدي وهو صرح يندر نظيره في الأرض، ولا مثيل له في مدن إنكلترا كلها أنفقوا على بنائه أكثر من نصف مليون جنيه وفتحته الملكة فكتوريا باحتفال باهر ، وقد تفردت هذه المدينة بمجلسها البلدي ونظام أعماله حتى أقر العارفون كلهم أن غلاسكو لها أحسن الحكومات المحلية من بين مدائن الأرض طرا، وكل ذلك من حسن التفات رجالها ونظام مجلسها البلدي ومحافلها، وقد أسعدني الحظ أني قابلت حضرة محافظها يوم زيارتي للمدينة، وكان معي توصية لجنابه فلما ارتقيت سلم ذلك البناء العظيم ووصلت مكتب المحافظ أرسلت إليه اسمي، فخرج لمقابلتي مرحبا مكرما، ودعاني إلى حضور مرقص عظيم يقام في دار المحافظة في كل عام وموعده ذلك اليوم، فقبلت الدعوة شاكرا ولما حضرت في المساء للمرقص رأيت نحو ألفين ما بين سادة وسيدات تردوا بأنفس الأطالس وأبهى الحلل، وقد برزت السواعد والنهود وتحلت الصدور ببارق الجواهر وأبرقت الأسرة فرحا وحبورا، وفاحت من جوانب القصر وقاعاته التي تحكي قاعات الملوك الروائح العطرية وصدحت الأنغام الشجية، وكان المحافظ واقفا بملابسه الرسمية، وهي جبة من القطيفة الحمراء تجر ذيولها وتشبه ملابس الشيوخ الشرقيين، بطنت بالفرو الأبيض ولها أكمام واسعة مطرزة وقبعة مستطيلة مثل قبعات القناصل الرسمية، حملها المحافظ في شماله، وسلسلة من الذهب مدلاة من العنق على صدره في آخرها قطعة من الذهب عليها شعار الدولة واسم المجلس البلدي، وكان أعضاء المجلس بملابسهم الرسمية أيضا واقفين حول جنابه وقرينته مع بعض قريباتها وصديقاتها يستقبلن الضيوف بالترحيب والبشاشة، ولا حاجة إلى القول إن الرقص وما تلاه من ألوان الطعام الشهي بعد منتصف الليل كانا على غاية ما يرام فخرجت من تلك السهرة الشهية وكلي إعجاب بعظمة غلاسكو وأنس أهلها، وعزمت في اليوم التالي على مبارحتها لأزور بعض مدن أرلاندا، وسافرت في البر والبحر بين مناظر لا تختلف كثيرا عما تقدم وصفه حتى دخلت جزيرة أرلاندا، وألقيت رحلي في مدينة بلفاست.
بلفاست
أرى قبل التقدم إلى الكلام عن مدينة بلفاست هذه في جزيرة أرلاندا، وعن عاصمة الجزيرة دبلن وغيرها من الأماكن الأرلاندية، أن أقول شيئا عن تاريخ هذه البلاد موجزا؛ لأن أهم ما يقال فيه ورد في الخلاصة التاريخية العامة عن إنكلترا، غير أن أرلاندا هذه عمرت وتقدمت في الحضارة قبل إنكلترا بزمان طويل، وكان لها دولة زاهرة من قبل أيام التاريخ المسيحي، ولما دخل يوليوس قيصر إنكلترا وأخضعها سنة 55 لم يمكن له أن يخضع أرلاندا؛ لأن ملوكها كانوا أقوياء.
ولما بدأ الدانماركيون وأهل شمال أوروبا يسطون على ممالك أوروبا كانت هذه الجزيرة في جملة ما دخلوا من الأراضي، وتمكنوا من الانتصار على ملوكها في أول الأمر، فدام القتال بينهم وبين الأهالي من سنة 438 مسيحية إلى سنة 838 حين جاء أولاف ستريك ملك الدنماركيين وملك البلاد، وظلت أرلاندا خاضعة له ولخلفائه حتى سنة 1084 حين قام بطل من أهلها اسمه أوبريان حارب المعتدين وطردهم من البلاد وأعاد إليها استقلالها فنمت وتقدمت تقدما عظيما.
وكانت مملكة إنكلترا في ذلك الزمان تقوى وتمتد أيضا وهي مجاورة لأرلاندا، فبدأ ملوكها يتطلعون إلى هذه الجزيرة، وأول من حاول فتحها منهم هنري الثاني؛ فإنه صدر له أمر من البابا بضم أرلاندا إلى أملاكه في سنة 1155 وحارب البلاد، فملكها بعد عدة مواقع وولى عليها أناسا من قبله ونقل بعضا من الإنكليز إليها، ومن ذلك العهد بدأ العدوان بين الأرلانديين والإنكليز وتعاظم في أيام إدورد الثالث الذي ضيق على أهل هذه الجزيرة وقمع ثورتهم بعد أن هبوا يريدون الاستقلال، وعين حكاما جائرين شددوا الوطأة على الأهالي، واشتد بسبب ذلك الجفاء بين الأمتين. وكان لأرلاندا مجلس نواب يسن النظامات الداخلية، فصدر أمر الملك هنري السابع سنة 1495 بأن تكون قرارات هذا المجلس كلها قابلة للتغيير لا يعمل بها إلا إذا صدق عليها مجلس النواب الإنكليزي، ثم لما ولي الملك جيمس الأول نقل إلى الجهة الشمالية من أرلاندا عددا كبيرا من أهل اسكوتلاندا وإنكلترا وأقطعهم الأراضي في ولاية الستر التي تعد مدينة بلفاست عاصمتها، وزاد الملوك الباقون على هذا إلى أن كانت أيام الثورة الإنكليزية سنة 1688، وولي الأمر بعدها الملك وليم الثالث فنقل كثيرين من الإنكليز أيضا إلى قضاء الستر، وكان القوم من حزبه ضد المنتمين لآل ستيورت المعزولين وعرفوا من ذلك الحين باسم الحزب الأورانجي نسبة إلى وليم الثالث، وهو في الأصل يعرف باسم أمير أورانج وما زالوا حتى يومنا هذا شأنهم في البلاد.
وبقيت أرلاندا على هذا النظام وهي تشكو ظلم العمال الإنكليز والنظامات التي أفقرت الأهالي، وجعلت الأرض كلها ملكا لبضعة من الأكابر حتى أول هذا القرن الماضي، حين سعى وزراء الدولة الإنكليزية في ضم أرلاندا ضما نهائيا إلى إنكلترا، وتم لهم ذلك فأبطل البرلمان الأرلاندي وصار أعضاؤه من أعضاء البرلمان الإنكليزي في سنة 1801، ولكن الأعضاء الأرلانديين شعروا بفقد الاستقلال والخسارة من هذا النظام فبدءوا يطلبون العود إلى النظام الأول، ويلحون على مجلس النواب الإنكليزي أن ينصف أهل بلادهم ويغير نظام الأراضي فيها حتى قام منهم في العصر الحاضر رجال كبار العقول نظموا الحزب الأرلاندي، وجعلوا له قوة كبرى تحسب الحكومة حسابها، وكان رئيس هذا الحزب أيام صولته المستر بارنل المعروف باسم ملك أرلاندا الغير المتوج، ولكنه تضعضعت أحواله قليلا بعد موت بارنل وما زال أفراده على مطالبهم، وأهمها أن يغير نظام الامتلاك الجائر؛ لأن الجزيرة - كما قلنا - ملك بعض اللوردة والموسرين ورثوها عن أجداد أخذوها في أيام ملوك إنكلترا الذين ذكرناهم في هذه الخلاصات التاريخية. وأهل البلاد قاعدون في الأرض بصفة مستأجرين يزرعونها ويستغلونها ويؤدون مالا معلوما عنها للورد كل سنة يتقاضاه وهو بعيد عن الأرض، سواء صحت المواسم أو لم تصح، فأكثر مال البلاد يروح إلى إنكلترا وينفق على غير الأرلانديين، والأجر التي يؤديها المستأجرون للوردة كبيرة، فإذا عسر في أحد السنين عليهم أداؤها أمكن للورد أن يطردهم منها، ولو أنهم أقاموا فيها هم وأجدادهم الأجيال، وقد حدثت عدة حوادث من هذا القبيل أظهرت جور النظام الحالي وهيجت أحقاد الأرلانديين فأصروا على مطالبهم حتى رأى المستر غلادستون المشهور أن يجيب سؤلهم ويمنحهم استقلالا داخليا، ولم يوافقه جمهور الإنكليز على رأيه لما بين الأمتين من العدوان؛ ولأن الإنكليز يخشون أن يتخذ الأرلانديون هذا الاستقلال الداخلي وسيلة للاستقلال التام وتجزئة المملكة الإنكليزية، وما زالت هذه عقدة المسألة الأرلاندية إلى الآن.
وأرلاندا جزيرة بهية تعرف بمروجها السندسية حتى إنهم يسمونها جزيرة الزمرد؛ لكثرة خضرتها الشهية. وأهلها أكثرهم من الكاثوليك ما خلا سكان ولاية الستر فإن أكثرهم من البروتستانت، وهم أهل ذكاء وفصاحة وحذق كثير، قام منهم عظام الرجال من القواد مثل لنتون وروبرتس وولسلي وكتشنر وأرباب السياسة مثل دفرن وأوبريان وبارنل وغيرهم وكتاب الأرلانديين وخطباؤهم البلغاء في هذه الأيام أكثر من أن يعدوا، وقد كانت أرلاندا عامرة بالسكان لا يقل عدد سكانها عن 8 ملايين نفس في بدء القرن الماضي، فنزح منهم ألوف وملايين إلى الولايات المتحدة والمستعمرات الإنكليزية بسبب نفورهم من نظام الحكومة الحالي، حتى إنهم لا يزيدون اليوم عن أربعة ملايين.
وأما بلفاست فإنها مدينة زاهرة عامرة في الجهة الشمالية من أرلاندا لا يزيد عنها في الأهمية في هذه الجزيرة غير العاصمة دبلن - التي سيجيء الكلام عنها - وقد اشتهرت بلفاست في الأيام الحديثة بما حدث في المظاهرات السياسية ضد الحزب الأرلاندي الوطني الطالب الانفصال عن إنكلترا؛ لأن معظم أهل هذه المدينة من الحزب الأورانجي كما تقدم معنا في الخلاصة التاريخية، وقام منها بعض فحول السياسة وأصحاب النفوذ الكثير، وعرفت أيضا بين المدائن البريطانية بالنماء السريع والتقدم الباهر مدة الأعوام الأخيرة؛ فإنها كانت في بدء حكم الملكة فكتوريا مدينة صغيرة وصارت الآن ثانية مدائن أرلاندا، عدد سكانها 350 ألف نفس، ولها شهرة بتنسيق الشوارع وجمال الأبنية وغنى المخازن وأهمية المعامل الكثيرة المشهورة عنها، منها معامل السفن البخارية والشراعية على أشكالها تصنع فيها الباخرات الكبرى لوزارة البحر الإنكليزية، ولبعض الممالك الأخرى وللشركات التجارية العديدة، ولا يقل عدد العمال في بعضها عن ثلاثين ألفا.
وامتازت بلفاست أيضا بصنع الخزف وأشكال الفخار وبالمنسوجات الجميلة من الكتان (التيل) والحرير، ولأقمشتها الكتانية شهرة ذائعة في الخافقين حتى إن ملوك أوروبا وسراتها يوصون معاملها على ما يلزم لهم من القماش للقمصان والمناديل والفوط، وهم يرسلون منها في كل عام مقادير كبرى إلى الأقطار الخارجية. ولما كانت صناعة الكتان من الأسرار الخاصة بهذه المعامل على طرقها المعروفة، فهم يحرصون على إبقاء سر الصناعة في معاملهم ويحذرون من السرقة وتقليد بضاعتهم، فلا يصرحون لزائر أن يزور معاملهم إلا إذا وثقوا من أمره ولم يخشوا عاقبة زيارته؛ ولهذا فإني لما قصدت التفرج على أحد هذه المعامل دخلت مع أحد المعارف، وكان المعمل في شارع يعرف باسم شارع يورك، وهو متسع المجال يشغل من الأرض مساحة أربعة فدادين وله بناء فخيم كبير ذو خمس طبقات، فدار بنا أصحاب المعمل في جوانبه يروننا كيفية صنع التيل من بدء أمره إلى آخره، فرأينا كيف يغسل التيل ثم ينقى وينظف ثم يسرح ويمشط، ثم يجدل ويفتل ثم يغزل ثم ينسج ثم يبيض ويصقل، ثم يقطع ويفصل ثم يطوى ويحزم كل نوع منه على حدة، فكانت الفرجة على طرق هذه الصناعة من ألذ ما يمكن للمرء أن يمتع النظر به ويستفيد من درسه، وقد رأيت أبضعة هذا المعمل بعد أن ينتهي العمال منها، فإذا هي متينة بيضاء جميلة تشرح الصدر بهيئتها، وأخص بالذكر منها أنواعا من المناديل البيضاء يرسلون منها المقادير إلى جلالة الملك وأهل بلاطه وكثير من السراة الإنكليز، وفي هذا المعمل 4500 عامل وقوة آلاته البخارية 1400 حصان، وفي قاعة منه عظيمة للنسج 65000 دولاب تدور عليها خيطان التيل فتغزل وتنسج، ولها دوي هائل يصم الآذان.
واتجهت بعد هذا إلى معمل للحبال، وصناعة الحبال في هذا الثغر مشهورة أيضا حتى إن أكبر معامل الأرض للحبال توجد في مدينة بلفاست هذه، وكان المعمل الذي دخلته عظيما يشغل من الأرض مساحة عشرين فدانا وفيه ثلاثة آلاف عامل ومائة كاتب، فدرت في جوانب المعمل ورأيت من أدلة الاجتهاد في هذه الصناعة البسيطة ومن مقدار الربح الوافر ما جعلني أفكر في حال الشرق ومصنوعاته التي كادت تنقرض بسبب وجود هذه المعامل الكبرى في مدائن الغرب، وتمنيت لو يبدأ أهل هذه الأقطار بالتعاون على العمل والاشتراك حتى يمكن لهم مجاراة أهل أوروبا في بعض الصناعات وإبقاء مقدار من الربح لهم بدل أن يكون النفع كله لمعشر الأوروبيين.
وقد اشتهر تجار هذه المدينة بالثروة، وبنوا لهم القصور الفخيمة في جوانبها وتقدموا في العلم أيضا حتى ارتقت مطابعهم وجرائدهم ومدارسهم ارتقاء كبيرا، والذي يرى مكتبة الخواجات أرل في هذه المدينة يظنها قصرا؛ فإنها في بناء لها ذي ثلاث طبقات ملئت بالمؤلفات والعمال في كل الجوانب. وفي بلفاست من الشوارع الكبرى والحدائق والمتنزهات ما يعسر علينا عده ولا يفيد سرده، ولكن أهم هذه الطرق الفسيحة شارعا يورك ورويال يتصل أحدهما بالآخر، وينتهيان في الطرف الواحد بميدان فسيح جميل اسمه ميدان دونجال، وفي الطرف الآخر بالمينا والأحواض البحرية، حيث تبنى السفن وقد سبقت إليها الإشارة. ويمر بهذه المدينة من ناحيتها الجنوبية نهر لاجان فتستقي منه الحدائق والمتنزهات، يؤمها القوم في أكثر الأحيان ولها منظر كثير الجمال.
وقد أقمت في بلفاست أياما تمكنت فيها من مشاهدة معالمها وآثار عظمتها ثم برحتها إلى دبلن عاصمة أرلاندا، والمسافة بين البلدين بقطار الحديد 100 ميل يقطعها المسافر في أرض جميلة تكسوها المزارع والخضرة، تحكي مناظر فرنسا في إتقانها ولها دروب جميلة، زرع الحور والصفصاف إلى جانبيها، وقد نمت نماء عجيبا بسبب خصب الأرض وكثرة الأمطار فأضافت إلى حسن البلاد حسنا.
ويلسن
بنيت هذه المدينة في سهل فسيح واتسع لها المجال وأحاطت بها المناظر الطبيعية الجميلة، فكان موقعها من أحسن المواقع في المملكة الإنكليزية، ولها أهمية سياسية كبرى؛ لأنها عاصمة أرلاندا من قدم، فيها آثار العظمة الأولى والقوة الحالية، وعدد سكانها لا يقل عن ستمائة ألف نفس جلهم من الكاثوليك، فهي مخالفة لبلفاست في هذا الأمر؛ لأن أهل بلفاست أكثرهم من البروتستانتيين، ويزيد هذه المدينة حسنا أنها يشطرها نهر ليفي شطرين، ويخترقها من الشرق إلى الغرب ثم يصب في خليج مار جرجس الفاصل بين إنكلترا وأرلاندا، وعند مصبه أحواض ومين عظيمة الأهمية لا يقل عدد السفن التي تنتابها كل عام عشرة آلاف سفينة وباخرة، وقد نظموا خطوطا من البواخر تسير بين هذه المدينة وثغور إنكلترا والسويد وأميركا وروسيا تنقل الركاب والأمتعة، وأهم ما تنقله من أرلاندا إلى الخارج حاصلات البلاد الزراعية، مثل البطاطس والماشية والأسماك المقددة تصاد من شطوط البلاد وبحيراتها، وبعض الحبوب والزبدة واللبن والبيض والجبنة، فإن للأهالي عناية بالزراعة وبسباق الخيل مشهورة، وقد بنوا فوق نهر ليفي الذي يخترق المدينة 11 جسرا تسهيلا للمرور ووسعوا الشوارع لسبب انبساط الأرض ورحبها في تلك الجهة، فجاء منظر المدينة بديعا لا سيما وأن لها مميزات كثيرة في مناظرها وأهلها، من ذلك أن طول القامة صفة تكاد تكون عامة في رجال هذه المدينة ونسائها، حتى إنك لترى الصبيات والسيدات يمشين على عجل ببسيط اللباس في شوارع المدينة، ولهن قامات تزري بغصن البان ووجوه طلقة ناصعة البياض، وترى الرجال أيضا أكثرهم طوال ولا سيما أفراد البوليس؛ فإنهم ينتخبون انتخابا لحسن مناظرهم، وتعتني الحكومة بأمرهم وتدرسهم في مدارس خاصة بهم حتى إن بعض الممالك الأخرى تنسج على منوال أرلاندا في نظامات البوليس وتنقل عنها.
وتمتاز هذه المدينة أيضا بعربات الأجرة فيها؛ فإنها بنيت على طرز لا نظير له في أكثر المدائن المعروفة، يقعد الراكب فيها إلى مقعد طويل ويمد رجليه ويسند ذراعه إلى وسادة في آخره، وفي الجانب المقابل له مقعد آخر على شكله، والحوذي على منصته بين المقعدين، وهذه العربات كثيرة في كل ناحية من المدينة أخذت واحدة منها حين خرجت من فندقي لأدور في جوانب دبلن، وكنت قد نزلت في فندق متربول، وهو في شارع ساكفيل أكبر شوارع هذه المدينة يبلغ عرضه ستين مترا، وفي وسطه عمود شاهق نصب في أعلاه تمثال نلسون أمير البحر المشهور، والعمود مجوف في داخله 168 درجة، صعدت أعلى البرج عليها ورأيت المدينة كلها من دوني فإذا بها زاهرة بهية لا يشوه منظرها دخان المعامل الكثيرة؛ لأن المعامل متباعدة عنها في الضواحي الفسيحة ثم هبطت الذرى إلى قاعدة العمود وسرت في شارع ساكفيل حتى التقيت بتمثال أوكونل الذي كان زعيما في أرلاندا ورأس مجلس نوابها في أواخر القرن الماضي، نصبوا له هذا الأثر على قاعدة علوها 40 قدما وارتفاع الأثر من فوقها 12 قدما، ثم ظللت على المسير وانتقلت فوق جسر من الجسور المشهورة في هذا البلد إلى الجانب الآخر من الشارع؛ فوجدتني أمام بناء قديم فخيم هو مجلس النواب الأرلاندي الأول بني سنة 1739، ولما ألغي نظامه على مثل ما ترى في الخلاصة التاريخية صار هذا المجلس مصرفا، وهو الآن موضع بنك أرلاندا المشهور من منذ سنة 1802، وقد تركوا في جانب من البناء قاعة الاجتماع على حالها فهي باقية فيها كراسي الرئيس والأعضاء على مثل ما كانت في القرن الثامن عشر، وأنشئوا على مقربة منه مدرسة تدرس بها العلوم العالية، ولها مكتبة عمومية طولها 300 قدم كلما طبع كتاب مفيد أضيف إلى ما فيها من نفيس الكتب حتى أضحت من أكثر المكاتب قيمة ونفعا. وللمدرسة هذه حديقة جميلة يقضي التلامذة فيها أوقات الرياضة، وفيها تمثال وليم أوبرين وهو من فصحاء الأرلانديين حرض قومه على الثورة ومحاربة الدولة الإنكليزية سنة 1848 حين كانت الأمة في هياج على أثر الثورة الفرنسية الثانية، فقبض عليه أولياء الأمر وحكموا عليه بعد المحاكمة بالإعدام، ولكنهم أشاروا على الملكة أن ترأف به فأبدلت الإعدام بالنفي المؤبد، وما مرت أعوام حتى صدر العفو عنه وعاد إلى بلاده.
ومررت بعد هذا بكثير من الشوارع المهمة، مثل شوارع آدم وناسو قامت إلى جانبيها المنازل المشيدة والصروح الفخيمة والمخازن الكبرى حتى وصلت حديقة ستيفن جرين في وسط العاصمة، وقد أحيطت بسور من قضبان الحديد وملئت بالأغراس الشهية والأعشاب الندية يلعب عليها الرجال والنساء والأولاد بقصد ترويض الأجسام، وفيها برك وتلال وطرق تشرح بمرآها الصدور، ومن حول سورها بيوت الأكابر والموسرين كثرت زخارفها وأطلت شرفاتها على جوانب الحديقة، فهي مرتع الآمنين ومقر أهل اليسار المتنعمين، مع أنها كانت في الذي مر من الزمان مقر اللصوص وأهل الجرائم ينتابونها على مثل ما كان أشقياء مصر ينتابون الأزبكية قبل أن عمرت وصارت مركز العز في هذا القطر السعيد.
وتابعت المسير في هذه الجهة حتى أتيت المتحف الأرلاندي، وهو من مشاهد دبلن المعدودة، فيه من آثار أرلاندا الأولى شيء كثير، مثل الخلاخل والأساور والجيب والجلابيب على أشكالها، وبعضها يقرب في طرزه من الشرقي والطبول، ظهرها من النحاس كالتي يستعملها العرب حتى اليوم في أفراحهم والأدوات الحربية على أنواعها والأقمشة الأرلاندية مع آلات الغزل والنسيج والحياكة الأصلية، وغير هذا كثير مما يستحق الذكر ويضيق عن سرده المقام.
كل هذا يراه السائح إذا سار على خط واحد من حيث بدأنا في شارع ساكفيل حتى إذا انثنى من ذلك الطريق رأى بعض الأبنية العظيمة، مثل بناء المحاكم على ضفة النهر أنفقوا عليه نحو 200 ألف جنيه، وبناء الجمرك وهو من أثمن ما في هذه العاصمة لا تقل الأموال التي صرفت عليه عن 500 ألف جنيه، وكنيسة القديس بارتك تضاهي كنائس أوروبا الكبرى في تحفها وجمالها، وهي أعظم كنائس أرلاندا طرا بنوها على اسم القديس باترك حامي الجزيرة وقديسها الخاص بها يجل الأهالي ذكره إجلالا، ولهم وسامات رفيعة الشأن باسمه ومحافل يدخلها كبراء الناس تعرف باسم القديس باترك أيضا فهو بمثابة القديس جورجيوس عند الإنكليز أو القديس نفسكي عند الروس.
ولما انتهيت من هذه المشاهد قصدت أعظم حدائق دبلن وأشهرها، أريد بها حديقة فنكس العظيمة، اشتهرت في الأيام الحديثة ببعض الحوادث التي سنذكرها، وبالاجتماعات السياسية التي تعقد بعض الأحيان في جوانبها، وتعد حديقة فنكس من أكبر حدائق المملكة الإنكليزية تبلغ مساحتها 1753 فدانا، وفيها من الهضبات والآكام والربض والآجام وحراج الشجر الغضيض ومرابع العشب السندسي وباسق الشجر ويانع الزهر ما يقصر عن وصفه قلم البليغ، وقد زادها حسنا أن النهر يشطرها شطرين إذ يمر في وسطها، وأن فيها من التماثيل والآثار لذكر مشاهير الرجال شيئا كثيرا أهمه مسلة من الصوان الأحمر أقيمت لذكر ولنتون القائد العظيم الذي يتباهى الإنكليز على ممر الزمان بانتصاره على نابوليون، وهو من الذين ولدوا في هذه المدينة صرفوا على إقامة هذا الذكر له 20 ألف جنيه، ونقشوا جوانب المسلة بكتابات مذهبة تدل على انتصاره في المعارك المشهورة. والمنزل الذي ولد فيه هذا القائد العظيم كائن في شارع ماريون نمرته 24، يقصده السائحون ويذكرون من رؤيته أعمال هذا البطل الكبير. ولوالي أرلاندا قصر صيفي في هذه الحديقة يقرب منه موضع فيها وجه الدليل نظري إليه؛ لأنه قتل فيه اللورد كافندش والي الجزيرة والمستر بورك وزيرها سنة 1882 في وسط النهار، وكان لقتلهما رنة ودوي في الأقطار بسبب مكانة الاثنين، وأولهما اللورد كافندش أخو الديوك أوف دفونشير ومن أكبر البيوت الإنكليزية العريقة في شرف المحتد، والثاني وهو المستر بورك كان من الخطباء وفحول السياسة. وعدت من هذه الحديقة فرأيت الناس في استعداد لزيارة الديوك أوف يورك حفيد جلالة الملكة مع قرينته، وكان الاثنان قد عزما على هذه الزيارة ليحضرا سباق الخيل وبنوع أخص النوع المعروف منه بقفز الخيل من فوق الأسوار في علو عظيم وهو سباق تعطى فيه الجوائز الكبيرة، ويشهده الألوف من أطراف البلاد، فهم يعتنون بتربية الخيل عناية خاصة، وكان سمو الديوك يريد من زيارته أيضا إزالة أثر الجفاء من صدور الأهالي الناقمين على الهيئة الحاكمة وعلى الأمة الإنكليزية، فأحسنت البلاد استقباله وكانت أكثر الجرائد تحرض الناس على إكرامه وإظهار الاحترام له فعاد الرجل من أرلاندا شاكرا مسرورا.
ولدبلن من الضواحي الجميلة ما لا يمكن لنا وصفه إلا موجزين، نذكر منها تلال كيلني سرنا إليها بالترامواي البخاري ما بين مناظر البحر من جهة وخضرة الجبال الشهية من ناحية أخرى، حتى إذا وصل الترامواي سفح الجبل قمنا في عربة جعلت تلتف وتتعوج بين تلك الصخور حتى وصلت غابة اضطررنا من بعدها أن نترجل ونرتقي قمة التلال على الأقدام، وهنالك رأينا منظرا من أجمل المناظر يحكي في بدائعه منظر جبل العصافير في موسكو أو كاهلمبرج من ضواحي فيينا، ويزيده حسنا أن فيه صخورا طبيعية أو هي من بقايا معبد وثني قديم تركت في جوانب الجبل، وفي تلك الجوانب قصور وحوانيت تلتقي حولها جماعات الناس وتتلذذ بالنظر وسمع الأنغام.
ومن هذه الضواحي الجميلة موقع اسمه كلوندارف ذهبت إليه مع غيري من السائحين، وهو موقع معركة حربية انتصر فيها أهل أرلاندا على الدنماركيين في العصور الأولى وطردوهم من البلاد، وهنالك قصور وحوانيت وحمامات بحرية يأتيها عدد كبير من الناس في فصل الصيف وتقصدها جماعات الناس من دبلن في أكثر الأحيان.
ولكن الذي ذكرناه لا يعد شيئا عند بحيرات كيلارني الذائعة الصيت في الآفاق وهي من المشاهد المعدودة في أوروبا، تبعد عن دبلن مسيرة 4 ساعات في القطار وهو يخترق سهولا فسيحة تزرع فيها البطاطس التي يعول الأرلانديون عليها في الغذاء حتى إنهم إذا أمحل موسمها أصابت بلادهم مجاعة، وبنيت في هذه السهول جذور يقطعها الأهالي ويجففونها ويستعملونها وقودا، وهي كثيرة المراعي للماشية تحدها صخور الجبال الزرقاء اللون، وفي بعض نواحيها حراج الصنوبر وغيره، وظللنا في القطار حتى وصلنا جهة هي ملك اللورد كيلدر أكبر أصحاب الأرض والمالكين في هذه الجهة، له نصف القضاء برمته والنصف الآخر لثلاثة من الموسرين الإنكليز ما عدا قليلا منه للأهالي، ونزلنا في فندق بتلك الجهة فوزع علينا بيان السياحة في البحيرات مطبوعا، وسرنا ذلك النهار مع جماعة كبيرة تقصد البحيرات في عربات كبيرة تنقل الواحدة منها 12 راكبا، وتسير ساعتين بين الجبال والآكام وكان المطر يهطل يومئذ مدرارا ورفاقي من السياح لا يعبئون به ولا يبالون حتى إذا انحبس المطر جعل صبية من أولاد القرى يجرون وراء عرباتنا ويبيعون للسائحين أمتعة وجوارب من الصوف يعملونها بأيديهم، وبعد مسير ساعتين في هذه العربة تركناها وركبنا خيلا سارت بنا في واد هائل المنظر كثير الصخور والعقبات لولا أني كنت مع كثيرين مدة سفري فيه لحسبت أني في أرض خلت من الآدميين، ثم مررنا بأراضي بعض المالكين الكبار، وقد فرضوا رسما على كل عابر طريق يمر في أرضهم - قيل إنه يعطى للخادمين - حتى وصلنا ضفة البحيرات، وجاءنا الزاد من الفندق، لكل زاده في سلة صغيرة عليها نمرة الغرفة المخصصة له، فجلسنا نأكل والماء من حولنا وقد لذ الطعام وحلت مناظر البحيرات أمامنا، وهي ثلاثة: اسم الأولى منها البحيرة العليا وطولها 5 أميال وفي وسطها صخر علوه 1000 قدم اسمه صخر النسر؛ لأن النسور تعيش فيه، وقد رأيت عددا كبيرا منها تحوم فوق البحيرة، وقد درت فيها مع غيري من السائحين في أحد القوارب. وأما البحيرة الثانية فطولها ميلان وتدعى الوسطى سرنا فيها مع التيار من غير مقذاف ثم دخلنا في البحيرة الثالثة أو السفلى، وهي أجمل الثلاثة طولها 5 أميال وعرضها 3، فيها 21 جزيرة وصخور متناثرة هنا وهنا في البحيرة ومنظرها جميل، ولطالما تغنى الأهالي بمدح هذه البحيرات ونظموا القصائد في وصفها، يغنيها الأرلانديون في مجتمعاتهم إلى اليوم. ويفصل بين هذه البحيرات شلال تهبطه الزوارق ويرتجف من هبوطها بعض السائحين، فأثر فينا ذلك السفر البديع، ولا سيما حين اجتاز زورقنا الشلال ودخل البحيرة السفلى، وهي أجمل أخواتها وأوسعهن مجالا، ولها منظر مفرط الجمال. ولما وصلت كل الزوارق منتهى البحيرات من ناحية داخلية البلاد رأينا العربات تنتظرنا على الشاطئ؛ فركبناها وعدنا إلى الفندق في تلك العربات، وقد رأيت أثناء سفري هذا ابن اللورد كيلدر الذي ذكرناه، كانت امرأة فقيرة الحال ترجوه أن يأمر وكيله بالرفق بها وتتوسل شاكية، وهو لا يرد عليها حتى قام القطار وغاب اللورد عن نظرها، وبعد سفر أربع ساعات فيه وصلنا دبلن، ومن ذلك الحين عزمت على السفر إلى لفربول التي ترى الكلام عنها فيما يلي.
لفربول
إن المسافة في البحر ما بين دبلن ولفربول 12 ساعة، اجتزناها في يوم راقت سماؤه وصفا هواؤه، فلما دخلت الباخرة نهر مرزي الذي بنيت عليه هذه المدينة رأيت من ضجة الخلق الكثير المزدحم فوق رصيف الميناء وحركة البواخر الذاهبة والقادمة ما يعجز القلم عن وصفه؛ لأن هذه المدينة من أهم مراكز التجارة في الأرض برمتها يقوم منها كل ثلاث ساعات باخرة كبرى إلى بعيد الأقطار، ومن هذه البواخر 1500 تذهب إلى شطوط أميركا ويأتي مينها الكثيرة أكثر من عشرين ألف سفينة في كل عام تنقل إليها حاصلات الأرض، وتأخذ منها الأبضعة الإنكليزية التي اشتهرت هذه المدينة العظيمة بتوريدها، حتى إنه لا يخلو بلد صغير في أطراف الشرق والغرب من أثر لمدينة لفربول.
ولقد وصفت كثيرا من مدائن بريطانيا العظمى وأرلاندا فلست أرى موجبا للإسهاب في ذكر بقية المدن الآتي ذكرها؛ لأن أكثر ما فيها متقارب في نوعه لا يخرج كثيرا عن وصف الذي تقدم إيراده عن مشاهد إنكلترا وعواصم الممالك الأوروبية الأخرى، غير أني أقول هنا موجزا إن لفربول كانت مدينة صغيرة لا تذكر وما عظمت إلا من عهد قريب؛ فقد ورد في التاريخ أنها كانت قرية لبعض صيادي السمك في أيام الملك تشارلس الأول، وكانت ضريبة الدولة على أهلها 15 جنيها في كل عام، وهم يعدونها ثقيلة رابية يريدون خفضها، حتى إنهم لما رفع الملك مقدارها في سنة 1572 وجعلها 25 جنيها، ثاروا على حكومته ونادوا بالانضمام إلى الحزب الذي رأسه كرومويل، وكانت شكواهم من أسباب الحرب التي انتهت بخذلان الملك وإعدامه، ولكن هذه المدينة كبرت ونمت بعد تلك الأيام فمنحها الملك وليم الثالث سنة 1723 لقب مدينة، وبدأ أهلها من ذلك الحين يتجرون ويرسلون أبضعة ومصنوعات حديدية إلى أراضي أفريقيا الشرقية في سفن شراعية جعلت تعود من تلك الأراضي محملة عبيدا، وراجت تجارة العبيد عندهم زمانا؛ لأنهم كانوا يرسلونهم إلى جزائر الهند الغربية ويسخرونهم في الزرع وبقية الأعمال، فلما بطلت النخاسة من كل الممالك الإنكليزية في سنة 1806، تحولت الأذهان إلى الاتجار والمصنوعات والبضائع ونقل حاصلات الممالك الأخرى إلى إنكلترا عن طريق لفربول، وكان هذا كله يتم في سفن الهواء فلما صنعت البواخر وجرت فوق نهر مرزي تجاه لفربول كبرت أهمية المدينة وتيسرت أحوالها وزادت حركة التجارة فيها، حتى إنه بعد أن كان الناس يعبرون البحر ما بين لفربول هذه ونيويورك في سفن البخار في 26 يوما كما فعل أحد الأميركيين سنة 1815 في زورق بخاري أصبح المسير الآن هينا، والمسافة تقطع في خمسة أيام وبعض الساعات. وشركات البواخر كثيرة، منها شركة كيونارد وشركة النجم الأبيض وغيرها من الشركات التي تبني البواخر الكبرى منها وتنقل في السنة ألوفا من بعيد الأقطار وإليها.
ولفربول الآن ثانية المدائن الإنكليزية في العظمة بعد لندن لا يقل سكانها مع الضواحي عن مليون نفس بنيت على شاطئ النهر كما تقدم، وهي قريبة من البحر وفيها من محطات سكك الحديد شيء كثير، فالاتصال دائم بينها وبين مدن إنكلترا والأقطار النائية، وقد لا يقل عدد القطر التي تقوم منها في اليوم الواحد عن ألف، ومن هذا تعلم مقدار أهميتها وعظيم حركتها التجارية. وأمام لفربول مدن عامرة أهمها نيوبريطن، وهي متنزه لطيف على شاطئ البحر، فيه مرابض ورمال شهية ينتابها المتنزهون، وفيها ألاعيب وحانات وهواؤها جميل. ومنها بركنهد، وهي مدينة كبيرة سكانها مائة ألف تعد ساعد لفربول وعضدها في الأعمال التجارية، والاتصال بين هذه الجهات والمدينة تام لا ينقطع، فإن في لفربول شركات لبواخر خاصة بنقل الناس بين الضفتين كثيرة الجمال تقوم منها كل نصف ساعة، وهي أبدا ملأى بالمتنقلين؛ لأن عددا كبيرا من سكان لفربول يسكن في هاتين المدينتين، والذي يزور أرصفة المينا - حيث تقوم هذه البواخر - يرى المهابة والعظمة؛ لأن أرصفة لفربول أكبر ما في الأرض من نوعها وأعظمها، وهي كثيرة العدد بعضها للجهات القريبة وبعضها لبواخر الشركات الكبرى، فلا يقل عدد الأحواض التي ترسو فيها عن 26 حوضا وطول المينا من طرف إلى طرف ثمانية أميال، بنوا فوقها الأرصفة للسفن العظيمة كما قلنا، ومهدوا بها الطرق الفسيحة وإلى جانبها طريق فسيح للعربات والمارة تليه البيوت والمخازن والحانات العديدة، وهي تشرف منافذها وكواها على تلك الحياض والمرافئ ويرى الناس منها أعظم مشاهد الحركة التجارية في الأرض، ولم يكف كل هذا لتسهيل النقل والانتقال حتى إن القوم بنوا سكة حديدية فوق قناطر من الحديد تمر من تحتها العواجل والحوافل وعربات النقل على أشكالها، ومن فوق القناطر أرتال تقوم بالراكبين وتسير بالقوة الكهربائية، أتموا بناءها سنة 1902 واحتفلوا بافتتاحها احتفالا عظيما، وهي مرتفعة 16 قدما فوق سطح الأرض، ومنظرها في غاية الجمال، ومنظر المينا والمدينة منها يستحق الذكر والإعجاب، وهذا كله لم يكف أيضا للحركة الكبرى في لفربول حتى إنهم حفروا نفقا تحت النهر ومدوا فيه سكة الحديد تنقل الأرتال وما فيها بين ضفتي نهر مرزي، وهم ينزلون هذا النفق بالآلات الرافعة والخافضة أو على سلم كثير الدرجات، فإذا وصل المرء المحطة تحت الأرض رأى نفسه في مثابة تنيرها الكهربائية ويأتيها الهواء النقي بمراوح يديرها البخار، وفيها الخلق والمناظر البهية والأرتال تسير تحت مجرى النهر إلى الجهة الأخرى مسافة ألفي متر تظهر فيها غرائب الصناعة الحديثة واقتدار جماعة المتمدنين.
ومشاهد لفربول كثيرة، منها البورصة تلي المينا ولها شهرة ذائعة في الخافقين، منها بورصة الأقطان، وبورصة الحبوب وأعمالها تفوق الحصر حتى إن المشتغلين بها لا يلقون وقتا لمناولة الطعام على مهل، فهم يتغذون في مطاعم قريبة منها ويقرءون الصحف التجارية والنشرات، في حين هم يأكلون ويشربون حتى لا يضيع عليهم شيء من الوقت الثمين، ويمكن الوصول من هذه البورصة إلى ميدان القديس جورجيوس في شوارع بهية غنية، أهمها اسمه لورد ستريت، ويليه تشرتش ستريت وغيرهما حتى إذا وصل المرء هذا الميدان رأى من عظمة المدينة ما يؤثر في النفس، ولا سيما تلك القاعة الكبرى في البناء الفخيم المعد للولائم الرسمية، وفيه دار المحافظة والمجلس البلدي إلى جانبه من الحدائق والكنائس والمكاتب العمومية والشوارع ما يضيق المقام عن عده، وقد صرفوا على هذا البناء العظيم نحو أربعمائة ألف جنيه، وأحاطوه بالحدائق اللطيفة وتماثيل العظام، منهم الملكة فكتوريا وزوجها في بدء الاقتران وهما على الجياد، وهنالك تمثال غلادستون الوزير المشهور والجنرال أرل الذي كان من قواد حملة السودان سنة 1885، وقتل في معركة كربكان، والرجلان ولدا في هذه المدينة، وما زال البيت الذي ولد فيه غلادستون باقيا على حاله يذكر الناس بفعال هذا الرجل العظيم.
مانشستر
ضربت صفحا عن ذكر كثير من المعامل والأشياء المهمة في لفربول، وأنا سأفعل ذلك في مانشستر التي ذاع صيتها في الخافقين بمصنوعاتها والأقمشة القطنية التي تنسج في معاملها العظيمة، فهي أشهر مواضع النسج في الأرض بلا مراء، ليس في الأقطار كلها بلدة حقيرة تخلو من بعض ما نسج في هذه المعامل الكبرى التي اشتهرت بها مانشستر ولفربول حتى صار ذكرهما مرادفا لذكر الشيت والخام وكل نسج من القطن، والحق يقال إن أهم ما في مدينة مانشستر هذه معاملها العظيمة، وأماكن التجارة الكثيرة فيها، وهي لا تمتاز بجمال في المنظر والأبنية، ولو أنها من أشهر مدن الأرض طرا فإن أحسن بناء فيها للمجلس البلدي ويعرف باسم مار جورجيوس أيضا، ومن أشهر مواضعها البورصة الجديدة، دخلتها مع أحد المعارف فأذهلني اتساعها وزخارفها وعلو سقفها، وهي قليل نظيرها في كل مدن أوروبا ومحطات سكك الحديد التي يقوم منها عدد يماثل القطرات التي تقوم من لفربول والترعة التي حفروها بين مانشستر ولفربول، وأنفقوا عليها الملايين حتى ترد إليهم البضاعة رأسا من البحار بدل أن تفرغ في لفربول وتنقل منها إلى معاملهم. وقد اشتهرت هذه الترعة بكثرة ما أنفق عليها وقلة إيرادها وجمال البواخر التي تجري فيها، وهي لا تزيد في الطول عن 36 ميلا وعرضها 120 قدما والعمق 26، وهنالك أبنية ضخمة هي وكالات ومكاتب قد لا يقل عدد المكاتب في بعضها عن ألف، وأما عن العربات والحركة وقتام المعامل فلا تسل، فإن ظاهر المدينة كله أسود من كثرة الدخان والجبلة في بعض أنحائها لا تطاق، والسكن غير ذي لذة إلا لأصحاب المكاتب والأعمال، وهي مع كل هذا تكسو الأرض بمنسوجاتها ولا تفوقها في الشهرة مدينة قديمة أو حديثة، وهي تعد بثمانمائة ألف نفس.
بريطن
وقد زرت من مدائن الإنكليز كثيرا غير الذي ذكرته لا أرى حاجة إلى وصفه، فلما عولت على الرحيل من هذه البلاد العظيمة قصدت أشهر مصايفها الواقعة على الشطوط الجنوبية - وهي مدينة بريطن هذه - لا ريب في أنها من أجمل المدن الأوروبية منظرا وموقعا، والذين ينتابونها في أشهر الصيف من كبراء الإنكليز لا يعدون، فهي قائمة بمال المصطافين من أهل لندن وسواهم، وفيها من الحوانيت والفنادق ما ليس في غيرها من مدن إنكلترا، أكثره واقع على البحر صفا واحدا طوله أربعة أميال، ومن دون هذا الصف البديع طرق جميلة على ضفة الماء يسير فيها المتنزهون وحمامات وألعاب ومشاهد بحرية من أشكال شتى، أجملها لسان من الخشب أدخلوه في البحر مسافة 1150 قدما، وفي آخره فوق الماء مطاعم وحانات وملاه تشتغل في الليل والنهار، ومن حولها الزوارق البهية تنقل المتفرجين في البحر، وقد انشرحت منهم الصدور وافترت الثغور، وزاد بهجة ذلك الموقع أنهم بنوا على مقربة منه سكة حديدية في وسط البحر يغمرها الماء وجعلوا القطار لها قاعة من الزجاج قائمة على عمد من الحديد، ولها من الأسفل عجلات تجري فوق خطوط الحديد التي يغمرها الماء، فهي إذا سارت في البحر بجماهير المتنزهين تظنها قصرا من البلور سابحا فوق الماء، ولا تعرف كيفية مسيره وعلوها عن سطح البحر 30 قدما، تدفعها القوة الكهربائية في المسير فتجعل النزهة فيها من غرائب المشاهد التي لم أر لها نظيرا في الحمامات البحرية مع كثرة ما رأيت منها في أوروبا وأميركا.
ومن مناظر هذه المدينة قصر بناه الملك جورج الرابع سنة 1787 وأنفق عليه مائتين وخمسين ألف جنيه؛ ليكون مصيفا له، وقد باعته جلالة الملكة الحالية في أوائل حكمها بخمسة وثلاثين ألف جنيه؛ لأنها لم تعول على قضاء فصل الصيف في هذه المدينة، وتقام الآن في هذا القصر بعض الولائم، وهو يحيط به عدة أبنية جميلة التزويق والنقش ترتاح النفس إلى السكن فيها، وقل أن ترى مدينة مثل بريطن كهذه تحلو الحياة في منازلها ومتنزهاتها، وسكانها نحو 150 ألفا من النفوس.
هنا انتهت سياحتي في مدائن المملكة الإنكليزية فبرحت بريطن بقطار سكة الحديد إلى نيوهافن، وهي بعد دوفر أقرب فرضة من شطوط إنكلترا إلى المين الفرنسوية، وهنا أوضح للقارئ أن الخطوط ثلاثة ما بين فرنسا وإنكلترا لبواخر الركاب، فالخط الأول ما بين ثغر كاليه في فرنسا وثغر دوفر في إنكلترا، ورد تفصيله في هذا الكتاب عند وصف السفر من فرنسا إلى إنكلترا، حتى أذهب منها إلى أميركا، والخط الثاني من ثغر بولون في فرنسا إلى فولكستون في إنكلترا، والثالث هو هذا من نيوهافن بإنكلترا إلى دبيب في فرنسا، والمسافة بينهما تستغرق ثلاث ساعات في عرض البحر. وفي الناس من يؤثر هذا الطريق؛ نظرا لاتساع البحر هنا خلافا لطريق كاليه ودوفر، فإن بحره ضيق ولكنه قصير لا يزيد عن ثلاثة أرباع الساعة وصلت من بعدها إلى دبيب، وذهبت منها بالسكة الحديدية إلى باريس قاصدا بلاد الطليان.
إيطاليا
خلاصة تاريخية
كانت إيطاليا في الزمان القديم بلاد العز والسؤدد ومقر العظمة والسلطان الواسع حينما عم ملك الرومان من رومة، وهي عاصمة البلاد من قدم، وانتشر نفوذهم في أنحاء الأرض فما بقي لغير دولتهم ذكر مدة وجودها إلى أن سطا عليها برابرة الشمال ودوخوها، ومن ثم بدأ تاريخ إيطاليا الحديث. وأما التاريخ القديم فمشهور وعلاقته بهذه الرحلة لا توجب أكثر من الإشارة إليه.
وقد كانت أكثر أجزاء إيطاليا الحالية من ممالك رومة القديمة، فلما انقسمت سلطنة الرومان شطرين، أحدهما غربي قاعدته رومة، والثاني شرقي قاعدته القسطنطينية، ظلت هذه الأجزاء الإيطالية تابعة للمملكة الغربية حتى خلع آخر الإمبراطرة سنة 476 وتولى الملك أودتشر زعيم قبائل النوثة، ثم ضاعت المملكة من يده ونالها تيودوريك ملك الإستروغوث سنة 493 بعد التاريخ المسيحي، ومن ذلك الحين لم يهدأ لبلاد الرومان بال من كثرة الهاجمين والطامعين، ولا سيما في الجهات الشمالية، وهي لم تزل آثار الرومان والقبائل الأولى كثيرة فيها، حتى إن اسم الجهة المحدقة بولاية ميلانو تسمى إلى الآن لومبارديا نسبة إلى قبيلة اللومبارديين الذين دخلوا البلاد من الجهات الألمانية وأسسوا فيها مملكة طال عهدها واشتهر أمرها زمانا، ولكن ملوكها طمعوا برومة وزحفوا عليها في القرن الثامن فاستغاث البابا، وهو يومئذ صاحب المدينة بملوك فرنسا، وأغاثه يبن وابنه شارلمان، وهو الذي أخضع مملكة اللومبارديين وضمها إلى أملاكه وتوج في سنة 800 إمبراطورا للسلطنة الغربية في رومة؛ فأعاد عزها إلى حين وقسمت الإمبراطورية على حفدة شارلمان بعد وفاته - كما رأيت في تاريخ فرنسا - فأصاب لونابر الولايات الإيطالية وظلت البلاد تابعة من بعد هذا لملوك الدولة الكارلوفنجية زمانا كثرت فيه الحروب والأهوال؛ لأن الملوك كانوا ضعفاء، والأمراء الذين طمعوا بالاستقلال كثر عديدهم . وجاء بعد هذه الحروب أوثو إمبراطور ألمانيا، ففتح الجزء الشمالي من إيطاليا سنة 950. وأما الأجزاء الجنوبية فكانت مرة تستقل ومرة تتبع الدولة الشرقية حتى آل بها الأمر إلى الاستقلال لما ضعفت الإمبراطورية، ونشأت جمهوريات وممالك كثيرة لها في تاريخ العمران ذكر كبير، أشهرها جمهورية البندقية أو فنيس التي وصل تجارها أقاصي الأرض وقام منها السياسيون والعلماء والمكتشفون، واختلطت بالأقوام الشرقية أكثر من بقية دول إيطاليا وحاربت العرب واتصلت بممالكهم زمانا، ونال تجارها الامتيازات من سلاطين آل عثمان وملوك اليابان وغيرهم. وعمت قوة بابا رومة في تلك العصور حتى صار الملوك يتذللون له ويعدون رضاءه واجبا لبقاء الملك في أيديهم، وكانت الدولة الألمانية السابقة الذكر تخسر بعض أملاكها حينا وتضيف إليها حينا، وساد في كثير من الجهات أشراف اهتضموا حقوق العامة فحاربهم الشعب زمانا حروبا طويلة انتهت سنة 1328 بتقسيم البلاد على بعض العائلات المالكة ولا محل هنا لتسميتها كلها. وفي سنة 1494 بدأت حروب طويلة بين فرنسا والنمسا على امتلاك إيطاليا فانتهى الحال بانكسار الفرنسويين في معركة بافيا سنة 1525 وتخليهم عن البلاد.
وبقيت إيطاليا وممالكها في زهاء وحروب متواليين، واتسع نفوذ البابوات فحكموا - غير رومة - أكثر الممالك الأوروبية، وقبضوا على سياسة الدول وتصرفوا بحقوق الملوك والإمبراطرة، وحدثت حروب كثيرة في إيطاليا ذكر معظمها في تاريخ الدول الأخرى، وكان أمراء فكونتي يحكمون إمارة لومبارديا وآل مدسي يحكمون فلورنسا، وفرع من آل بوربون يحكم نابولي وصقلية، وأكثر الجهات الباقية جمهوريات زاهرة نامية يرأس البابا شئونها رئاسة سياسية ودينية حتى قام نابوليون بونابرت المشهور، وسطا على لومبارديا ورومة وبقية ممالك إيطاليا؛ فأخضعها وضمها إلى أملاك فرنسا سنة 1792 ثم انتقضت عليه وساعدتها ألمانيا وروسيا وإنكلترا على الاستقلال، فعاد إليها بونابارت وأخضعها مرة أخرى سنة 1800 وتوج ملكا عليها، وسمي ابنه الصغير بعدئذ ملك رومة، وكان يوم تصرف بالممالك قد أقام أوجين بوهارني ربيبه ملكا عليها، ثم صار يوسف أخو نابوليون ملكا لنابولي، فما دام هذا الحال طويلا؛ لأن إيطاليا خرجت من قبضة الفرنسويين بعد سقوط نابوليون وعادت إلى الاستقلال فقويت شوكة ملوك نابولي وصقلية وهم من آل بوربون، وملكت النمسا جزءا مهما من شرقي إيطاليا فما تخلت عنه إلا في أول حكم فرانس جوزف الإمبراطور الحالي حين ساعدتها فرنسا على الاستقلال في سنة 1899.
فكتور عمانويل الثالث ملك إيطاليا.
وبينا البلاد في هذه الحالة تتنازعها عوامل الحرب والثورة قام في سردينيا فكتور عمانوئيل ملكها المشهور بالدهاء، وبدأ بتحريض الناس على الانضمام إلى رايته وساعدته فرنسا وإنكلترا؛ لأنه انضم إليهما في حرب القرم وحارب روسيا معهما، وكان من حسن حظه أنه رزق وزيرا عظيم الذكاء واسع العقل اسمه كافور، وقام على أيامه غاريبالدي بطل إيطاليا المشهور فحارب ملوك لومبارديا ونابولي وغيرهم، واستخلص البلاد منهم فجعلها مملكة واحدة ثم دخل رومة في 20 سبتمبر من سنة 1869 بمساعدة الجنود الفرنسية واغتصب القوة من البابا؛ فصارت إيطاليا كلها مملكة واحدة عاصمتها رومة كما كانت في الزمان الأول، ومات فكتور عمانوئيل أول ملوك إيطاليا بعد إعادة حياتها في 9 يناير من سنة 1878 فخلفه ابنه أومبرتو، عرف بين قومه بالبساطة الزائدة وحب الرعية والميل إلى الإصلاح والعدل، وقد تقدمت إيطاليا في أيامه تقدما يذكر في الصناعة والتجارة وحاولت أن تمد سلطانها وتعمر الجهات القاصبة، فملكت بعض الحبشة والصومال وأبرمت محالفة مشهور أمرها مع النمسا وألمانيا، وهي الآن من الدول العظيمة في الأرض، وقد بقي الملك أومبرتو على سرير إيطاليا إلى يوم 29 يوليو سنة 1900 حين كان راجعا إلى قصره في مونزا وانقض عليه في العربة فوضوي أطلق عليه الرصاص فقتله، وكان حزن أوروبا وإيطاليا - على نوع أخص - شديدا جدا على هذا الملك، وكان ولي عهده - وهو جلالة الملك فكتور الحالي - يومئذ متجولا في البحر مع عروسه، فلم يعرف بما أصاب والده إلا بعد الحادثة بيومين حين أسرع إلى رومة واستلم مهام الملك. وقد اقترن هذا الملك بالأميرة هيلانه كريمة البرنس نقولا صاحب الجبل الأسود، ورزق منها ثلاث بنات وابنا واحدا، واشتهرت هذه الملكة بما أتته من المساعدة في الزلزال الذي أصاب مدينة مسينا، فكانت تداوي الجرحى وتواسي المصابين، ولما هاج جبل النار في نابولي وجعل يقذف بنيرانه كانت هي في مقدمة الجميع لترى بنفسها الخطب وتسعف المصابين، واعترف الملوك بحسن عملها فأرسلوا إليها الوسامات تذكارا لما قامت به من واجبات الإنسانية والمروءة. وسكان إيطاليا - حسب الإحصاء الأخير سنة 1906 - نحو 36 مليونا ونصف مليون .
تورين
غادرت باريس ووجهتي المدائن الإيطالية، أولها مدينة تورين، فمر بنا قطار سكة الحديد في عدة مدن فرنسوية مثل شمبيري ومودان، وهذه الأخيرة واقعة على حدود فرنسا وإيطاليا، فيها جمرك مشترك للدولتين، نزلنا من القطار فيها؛ ليفتش العمال ما معنا من أمتعة وعفش، ثم عدنا إلى قطار آخر إيطالي، ودخلنا في نفق جبل سيني المشهور، وهو من آثار المدنية العظيمة ومن المناظر المشهورة في الأرض، يعد ندا لنفق سان غوثار الذي تقدم الكلام عليه في باب سويسرا، وقد بدءوا بنقبه في الجبل سنة 1861 فما انتهى عمله إلا عام 1870، واشترك في هذا العمل أمتا الطليان والفرنسيس فبلغت جملة المال الذي أنفق عليه 75 مليون فرنك، وطول هذا النفق ثمانية أميال من جانب في الجبل إلى جانب، وعرضه 26 قدما وعلو سقفه عن سطح أرضه 19 قدما، وفيه خطان لأرتال البخار، أحدهما للقطر الذاهبة والآخر للقادمة، وهم ينيرونه بمصابيح غاز بين الواحد منها والآخر مسافة 500 متر، فإذا دخل القطار هذا النفق أقفلت نوافذه والكوى، ولم يسمح لأحد المسافرين بفتح شيء منها ولا بمد يده أو إخراج رأسه مدة وجود القطار داخل النفق، لئلا يدخل قتام الآلة البخارية عربات المسافرين أو يحدث مكروه بسبب ضيق المجال، فكأنما المسافر في هذا النفق محبوس تحت قلب الأرض إلى حين، ثم يأتيه الفرج؛ إذ يخرج إلى وجه الأرض فيرى المرء نفسه طائرا في هذا القطار محلقا في تعاريج الجبل البهي يلتف من حول جبال الألب الموصوفة، وتتنوع من دونه آيات الجمال الطبيعي الرائع، فيكون الفرق بين ظلام النفق وقتامه وبهاء هذه المشاهد البديعة مما يزيد تأثيرها في النفس رسوخا، ويبقي لجبل سيني ونفقه ذكرا غريبا في الأذهان.
ووصلت تورين بعد سفر 30 ساعة في القطار المستعجل، ولهذه المدينة أهمية كبرى؛ فإنها كانت قاعدة إمارة بيامونته في القرون الوسطى، ثم علا شأنها حين دخلت في حوزة أمراء سافوا سنة 1418، ولما عاد أمراء هذه الدولة إلى امتلاك إيطاليا برمتها على عهد فكتور عمانوئيل جد الملك الحالي، جعلت هذه المدينة أيضا قاعدة المملكة الإيطالية الجديدة من سنة 1659 إلى 1865، ومن بعد ذلك نقل الملك كرسيه إلى فلورانس فاحتج أهل تورين واعترضوا على هذا الإبدال؛ لأنهم كان لهم اليد الطولى في توحيد المملكة الإيطالية، فما سكتوا عن الاحتجاج إلا لما صارت رومة عاصمة المملكة وهي أكبر مدائن إيطاليا وسيدتها من قدم كما تعلم، وفي هذه المدينة مع ضواحيها نحو أربعمائة ألف نفس، وهي مبنية في منبسط من الأرض واسعة الميادين مبلطة الشوارع تبليطا حسنا، وأكثر شوارعها طويلة لا يقل الواحد منها عن ألف متر في طوله، وكلها تحف بها الأشجار من الجانبين، وفيها الأبنية الجميلة المنسقة، فهي ممتازة بهذا الوضع وبنظافتها عن بقية المدن الإيطالية، وقل أن يخلو شارع أو رحبة في هذه المدينة من تمثال لأحد المشاهير الذين نبغوا في تورين أو سواها من مدن إيطاليا، فترى فيها تماثيل الجنرال لامرمورا قائد عساكر سردينيا في حرب القرم وغاريبالدي وكافور، وغير هؤلاء من الذين خدموا بلادهم خدمة خلدت لهم الذكر، والحق يقال إن مدن إيطاليا ملأى بهذه الآثار الجميلة.
ومن أهم مواضع هذه المدينة ميدان كاستيلو واقع في قلب البلد وهو يتفرع منه عدة شوارع مهمة كشارع غاريبالدي وشارع بو وشارع رومة، وفيه قصر قديم يعرف باسم «قصر المداما» أو السيدة سمي بذلك؛ لأنه كان لوالدة الملك فكتور أماديوس الثاني، وفي الجهة الشمالية من هذا الميدان قصر آخر للملك يقيم فيه حين يزور المدينة، ولا تخلو مدينة مهمة في إيطاليا كلها من قصر للملك أو قصرين كانت للأمراء والملوك الأول وهي كاملة الرياش والمعدات، ولكن أعضاء العائلة المالكة لا يقيمون في هذه القصور الآن إلا قليلا، وقد دخلت هذا القصر المنوه به، وهو قديم العهد بني سنة 1660 فألفيت رياشه جيدا بسيطا وقاعاته رحبة، وأهمها قاعة السلاح وفيه تمثال نابوليون الأول والسيف الذي انتضاه في معركة مارنجو، ونسران فرنسويان وأسلحة قدمتها مدن إيطاليا للملك فكتور عمانوئيل، وسيف قدمته لجلالته مدينة رومة سنة 1859، وإكليل من مدينة تورينو قدمته سنة 1860 وغير هذا كثير. وهناك ملابس آل سافوا الحربية الأولى تشبه التي وصفناها في غير هذا الفصل من ملابس فرسان القرون الوسطى وأسلحتهم، وسروج خيلهم أكثرها من القطيفة الحمراء المزركشة بالقصب، وتجاه هذا القصر - أي في الجهة الجنوبية من ميدان كاستيلو - قصر كارينانو القديم، ولد فيه الملك فكتور عمانوئيل، ويليه متحف فيه من الآثار المصرية ما لا يوجد في المتاحف الأخرى، ولا سيما البردي أو ورق البابيروس؛ فإن فيه ما لا يوجد نظير له في متحف الجيزة، وفيه من تماثيل الفراعنة الضخمة المصنوعة من الصوان الأحمر ما يستحق الذكر والإعجاب، وقد وصل معظم هذا إلى متحف تورين من قنصل لدولة إيطاليا أقام زمانا في مصر وأصله من هذه المدينة، فأرسل إلى متحفها كل هذه الآثار النفيسة.
وفي تورين ميدان آخر يعرف باسم كارلو عمانوئيل نصبوا فيه سنة 1873 تمثالا لكافور الوزير المشهور، وهو من أبناء هذه المدينة أيضا، وقد وضعوا على رأس التمثال إكليل الظفر وفي يده لوح عليه شعار كافور وهو «كنيسة حرة في بلاد حرة»، وما زال كتاب الغرب يتناقلون هذه العبارة عن كافور في كتاباتهم السياسية، وقد نقشوا على قاعدة هذا التمثال تاريخ استقلال إيطاليا، وتاريخ رجوع الجنود الإيطالية من حرب القرم، وتاريخ مؤتمر باريس وغير هذا مما كان لكافور به دخل كبير. ويتفرع من هذا الميدان شارع باسم كافور ما زال فيه البيت الذي ولد فيه هذا الوزير سنة 1810 وتوفي سنة 1861 والناس يقصدونه ويذكرون صاحبه العظيم كما يفعلون في كل موضع مثل هذا لذكر الرجال الكبار.
على أن أجمل ميادين تورين بلا مراء هو المعروف باسم فكتور عمانوئيل مؤسس المملكة الإيطالية الحالية، والشارع الفخيم الذي يتفرع منه بهذا الاسم أيضا، فإن هذين الموضعين هما نقطة الأهمية في المدينة ترى فيهما طبقات الأعيان وأهل البزة والترف، وفي كل الجوانب قصور فخيمة ومخازن عظيمة وشجر بهي وغرس شهي وماء يتدفق من البرك البهية، ومئات من سراة المدينة تخطو متنزهة، أو تروح وتغدو لشراء البضاعة النفيسة أو لقضاء الحاجات، وأنغام شجية تسمع في جوانب الميدان، فهنا ملتقى العز ومركز الحظ وهناء البال في هذه المدينة الحسناء. ويمكنك الوصول من هذا الشارع العظيم إلى الحدائق العمومية أو إلى الجسر المبني فوق نهر بو، وهو الذي مررت من فوقه وذهبت صعدا إلى جبال الكبوشيين البهية، سميت بهذا الاسم؛ لأن بعض رهبان الكبوشيين بنوا فوقها ديرا على ارتفاع ألف قدم عن سطح الأرض. والصاعد على قمة هذا الجبل في الترامواي البخاري يسير في طرق تزينها الصخور الضخمة، وتتخللها الأعشاب الندية وأشجار الصنوبر العطرية، فإذا ظللت صاعدا إلى جبل هنالك اسمه السوبرجا وارتفاعه 2000 قدم عن سطح الأرض وجدت في أعلاه كنيسة ومدفنا لآل سافوا بناها الدوك فكتور أماديو من أمراء الدولة الحاكمة في إيطاليا الآن، وفي الكنيسة قبة علوها 140 قدما إذا ارتقيت أعلاها رأيت من دونك منظرا يسحر الألباب لفرط جماله؛ فإنك يحيط بك المدينة والسهل والنهر وسلسلة جبال الألب العظيمة، منها جبل روزا ارتفاعه 15115 قدما، وجبل براديزو علوه 13780 قدما، وغير هذا مما تحلو الفرجة عليه وتنشرح لرؤيته الصدور، وهو كثير في تورين وفي أكثر المدن الإيطالية التي زرنا عدة منها، وكانت وجهتي من بعد تورين مدينة ميلان المشهورة، وإليك بعض ما يستحق الذكر عنها.
ميلان
هي عاصمة إقليم لومبارديا المعروف بالإقليم العالي في إيطاليا، وقد كانت من أهم مدن المملكة الرومانية في أكثر العصور؛ لأنها في القرن الحادي عشر كان تعدادها ثلاثمائة ألف نفس، واشتهرت في القرن الخامس عشر بصناعة التصوير حين قام فيها برامانته وليوناردو فنشي وتلامذتها الكثار، ولها الآن شهرة بالمصنوعات كالمنسوجات الحريرية؛ لما يزرع من شجر التوت في إقليم لومبارديا وغيرها من لوازم الأثاث والرياش، وهي بوجه الجملة من أكبر مدن إيطاليا تجارة وأكثرها ثروة، يبلغ عدد سكانها الآن نصف مليون ويشطرها شارع فكتور عمانوئيل المتصل بشارع فنسيا، وهما يوصلان إلى الحديقة العمومية، وفيها من أشجار المانيلا شيء كثير يتضوع منها روائح عطرية قوية، وحول البركة زهر ومقاعد وغير هذا مما لا أطيل وصفه؛ لأنه مثل الموجود في الحدائق العمومية الأخرى، وقد وصفت كثيرا منها، ولكن مدينة ميلان هذه تمتاز بأشياء لا نظير لها في الأرض، من ذلك الدوم أو الكنيسة تعد من عجائب الدنيا ولا يزيد عنها في الاتساع إلا كنيسة بطرس في رومية وكنيسة جيرالدا في إشبيلية بالأندلس - وقد مر ذكرها - وتعد كنيسة ميلان بين كنائس الطبقة الأولى في جمال بنائها وزخارفها، وما فيها من تماثيل القديسين المنقوشة على الحجر والرخام في سقفها وجدرانها داخلا وخارجا، وما أنفق على تذهيبها ودقائق صناعتها العجيبة، حتى إن مجموعها يعد مثال الجمال المؤثر في الأذهان، ولمنظرها مهابة من الخارج والداخل يشهد بها كل من أسعده الحظ برؤيتها، وصورها منتشرة في كل جهات الأرض، ومساحة هذه الكنيسة العظيمة 14000 متر مربع، يمكن نحو أربعة آلاف نفس أن يجتمعوا فيها، ويبلغ طولها من الداخل 162 مترا وعرضها 92 مترا وعلوها 220 قدما. والكنيسة كلها مبنية من الرخام، وهي قائمة على 52 عمودا محيط كل منها 12 قدما وسقفها من الرخام المختلف الألوان، ولها عدة شبابيك ونوافذ صنعت ألواحها الكبيرة من قطع الزجاج المختلف الألوان على شكل الفسيفساء، وهي تمثل حوادث الإنجيل والتوراة ولا يقل عدد هذه القطع في كل نافذة عن 350 قطعة، وهي من أثمن ما نزل على الزجاج من الصور المتقنة، يقف المرء أمام بعضها ساعات ولا يمل الفرجة، وقد يخيل للناظر إليها أنه يرى رجالا ومناظر صحيحة طبيعية لولا أن الصور تنقصها حركة الأشياء الحية، وعلى جدران الكنيسة من الخارج 2000 تمثال نقلا عن التوراة والإنجيل في القد الطبيعي، ولا حاجة إلى القول إنه كتب مجلد في تاريخ بنائها وعمل المهندسين الذين اشتغلوا بها، والنقود التي جمعت وصرفت عليها حتى تمت وتكرست في سنة 1577، وهي من ذلك العهد لا تبطل التحسينات فيها سنة بعد سنة حتى إنه أضيف إليها تمثال نابوليون الأول في سقف الكنيسة سنة 1805، ولكن العين المجردة لا ترى بدائع النقش والزخرفة في أعلى السقف بالنظر إلى ارتفاعه، ولهذا ترى كثيرين من السياح في يدهم النظارات ينظرون إلى ما فوقهم قبل البدء في الصلاة أو بعد ختامها، ولهذه الكنيسة برج يصعد إلى أعلاه على 300 درجة ترى من أعلاها جبال الألب، مثل الجبل الأبيض وجبل برنار وجبل السوبرجا في تورين السابق الكلام عنه، وغير هذا من المناظر البديعة.
كنيسة ميلان.
وفي شارع فكتور عمانوئيل رواق دعي باسمه مبني على شكل صليب صرف عليه ثمانية ملايين فرنك، طوله 320 مترا وعرضه 16، وارتفاعه 94 مترا وعلو قبته 180، ينتابه خلق كثير بعضهم يجلسون في القهاوي وبعضهم يأكلون في المطاعم والبعض يشترون لوازمهم من مخازنه كل ذلك داخل الرواق، وهو يمكن الوصول منه إلى تياترو سكالا المعدود من أكبر مراسح إيطاليا يضم 3600 شخص، والقارئ يعلم أن الطليانيين أهل طرب وفن، فالفقير منهم لا يتخلف عن الذهاب إلى ملهى لسماع الروايات أو الأغاني، وهم لا ينكرون الغناء أثناء مرورهم في الشوارع، تراهم في ليالي الصيف يجتمعون ومعهم آلات الموسيقى فتدوي الشوارع بأغانيهم وهم يعزفون ويطربون. وفي ساحة التياترو تمثال ليوناردو دي فنشي، ومن هذه الساحة يبتدئ شارع مانسوني، وهو من أبناء ميلان كان من أكبر الساعين في توحيد مملكة إيطاليا بقلمه كما سعى غاريبالدي بسيفه. وليس بعيدا من هنا متحف بريرا، رأينا في ساحته الخارجية تمثال نابوليون الأول، ثم دخلنا قاعاته فرأينا صورا كثيرة من صنع رفائيل وليوناردو وهي تعد في الطبقة الأولى، وأكثرها دينية بينها صورة مار مرقص يبشر في الإسكندرية، وصورة موسى وقد وجد طفلا على ضفة النيل، وخروج بني إسرائيل من مصر وخمسون ألف قطعة من النقود القديمة والجديدة من الذهب والفضة. ومما يذكر بين مشاهد ميلان، مدفنها المشهور، مساحة أرضه مائتا ألف متر، وهو يحيط به سور له أعمدة وأبواب بنيت بأدق صناعة، فإذا دخلت المدفن رأيت تماثيل الرخام الأبيض قائمة على تلك القبور، وهي أشكال كثيرة العدد والإتقان، فيها رموز وإشارات إلى المتوفين ، فإذا كان المتوفى طفلا صور ووالدته تنوح عليه أو شابا، فهناك عمود من الرخام قصف قصفا، وغير هذا من أدلة الاعتناء. وقد خططت شوارع منظمة فيها الأشجار والزهور والرياحين وبرك الماء، فما هذا المكان إلا من المتنزهات الموصوفة، وليس هو مجموع قبور يأنف من رؤيتها أو سمع حديثها السامعون.
ومن ضواحي ميلان بلدة مونتزا، وهي على مسافة ساعة بالسكة الحديدية، واقعة في أخصب بقعة من بقاع الأرض في جهة يقل لها النظير بين الجهات المعروفة بجمالها واعتدال هوائها؛ ولهذا اتخذها والد الملك الحالي مصيفا له، وقد زاره في قصرها رصفاؤه الملوك والقياصرة في السنوات الأخيرة، ودبرت هنالك المهام الخطيرة، والبلدة كلها غياض غضيضة ورياض غناء ملئت بشهي الشجر ولذيذ الفاكهة، وفيها من شجر التوت وجداول الماء العذب وبهي الحدائق ما لا تشبع العين من التمتع بحسنه المنعش، وقد غرست أشجار الصفصاف والحور في طرفها وجهاتها على طرق هندسية، وهم يعتنون بأغراس العنب وكرومه؛ لأنك ترى عروق العنب وأثمارها ممتدة مدلاة من شجرة إلى شجرة على نسق يروق للناظرين، وقد كان لوجود قصر الملك هنا تأثير كبير، فإن سراة ميلان بنوا لهم قصورا ومنازل فخيمة، وبعضهم يقضون فصل الصيف في بحيرة كومو يبلغ طولها 30 ميلا، وتتصل بها بحيرة أخرى تدعى لوكو، بنيت على ضفافها القصور والمنازل والفنادق يؤمها سراة الميلانيين وغيرهم. وهذه البحيرات تضاهي بحيرات لوسرن وجنيف في سويسرا، وتمخر فيها الباخرات ما بين المدن القائمة على ضفافها، ويتخللها غابات وأشجار الكستناء والصنوبر، فهي من جنات الأرض المعدودة، والذي يقضي زمن الصيف في هذه الجهة من إيطاليا فإنه ينشرح صدره من المناظر الطبيعية على أشكالها، لا سيما وأن الفنادق فيها متقنة ورخيصة الأثمان، وقد عدت من مونتزا بعد أن متعت النظر بآيات جمالها، ورجعت إلى ميلان ثم برحت هذه المدينة قاصدا مدينة فنسيا.
فنسيا
هي البندقية المشهورة التي تفردت بعجيب موقعها وغريب وضعها حتى أطلق عليها الكتاب اسم سلطانة الأدرياتيك، وضربت بمحاسنها الأمثال وتعشق طلاب الأدب ذكرها وزيارتها من قدم، فنظموا عقود الشعر الرنان في مدحها ووصف غرائبها، واشتهر اللورد بيرون الإنكليزي وغيره بما نشروه من نفثات يراعهم عنها، ولا عجب؛ فإنها المدينة العجيبة التي بنيت فوق الماء بدل الأرض، والتي تقوم فيها الزوارق والقوارب مقام العربات والخيل، وتحل الترع محل الشوارع والبرك محل الميادين والرحبات ، فكل ما فيها خاص بها يميزها عن سواها، بنيت على 117 جزيرة تتكون منها أحياء المدينة، وتفصلها بعضها عن بعض 150 ترعة هي الشوارع العمومية بنوا فوقها 378 قنطرة، فسهل المرور من جانب إلى جانب، وأكثر هذه القناطر جميل المنظر، وأما الأحياء أو الجزر المتباعدة فلا بد للوصول إليها من ركوب هاتيك الزوارق المستدقة المعروفة عندهم باسم جوندولا، وهم يتقنون عملها، ويديرها رجل واحد أو رجلان يقعد أحدهما في مقدمة القارب والآخر في المؤخرة، وترى هذه الزوارق أينما سرت تنقل الناس في ترع البندقية، وهي تنثني وتتعرج بين الجدران والمنازل وتحت الفنادق والمخازن أو تنساب انسياب الأفعى فوق الماء المترقرق، وإذا تقابل منها عدة تخللت بعضها بعضا وانسلت هذه من هنا وهذه من هنا بلا صدام ولا فرقعة، فيحلو السير فيها لجماعة المتفرجين.
ولقد أتيت هذا البلد مرارا برا وبحرا، ومررت هذه المرة على بلدة دزنسو، وهي قريبة من سلفرينو التي حدثت فيها المعركة المشهورة بين جنود إيطاليا وجنود فرنسا من جهة، وجنود النمسا من جهة أخرى سنة 1859، وقد تقدم ذكرها، وكان من نتيجة انكسار النمسويين فيها أن دولتهم تنازلت عن إقليم البندقية لإيطاليا، وما زال القطار من هنالك يجتاز الأبعاد ويخترق المزارع والعمائر مدة عشر ساعات حتى دخلنا محطة البندقية وسرنا منها في زورق إلى باب الفندق.
وأهم ما يذكر عن فنسيا ساحة القديس مرقس يبلغ طولها 175 مترا وعرضها 83، وهي مثابة الهيئة الاجتماعية ينتابها خلق كثير في أواخر النهار، ويكثر الازدحام في الليل حتى يتعذر المسير مع اتساع تلك الساحة، وهم يخطرون في جنباتها لسمع ما تصدح به الموسيقى من الأنغام الطليانية الحماسية. ويحيط بهذه الساحة من ثلاث جهات أروقة بني تحتها حانات ومطاعم ومخازن تباع فيها الحلي والجواهر وكثير من مصنوعات فنسيا الزجاجية الملونة، وهذه حرفة قديمة العهد حفظ سرها للآن، وفوقها منازل كانت لنواب البلاد، وهم أصحاب المراكز الأولى في حكم البندقية، ولكن قسما منها آل بالإرث إلى أربابه وقسما خص بالملك يقيم فيه حين يأتي هذه المدينة، وفي الساحة المذكورة برج قديم بني سنة 1329 لأجراس الكنيسة صعدنا إلى أعلاه على طريق مبلط لا درج له، وهو في عرض مترين يدخل النور إليه من نوافذ وكوى صغيرة، ولما بلغنا القمة رأينا الجزر عشرات ولمنظرها تأثير في النفس، قيل إن نابوليون الأول صعد أعلى هذا البرج ممتطيا جواده، وفي طرف الساحة برج قديم لساعة فلكية، ومع أنها تخربت فما زال فيها أمر غريب، فإنه يظهر من خلف البناء عبد بيده مطرقة يضرب بها المواقيت، وفي الساحة أسراب الحمام يقال إنهم كانوا في أيام جمهورية البندقية يطلقونها من الكنيسة للساحة في أحد الشعانين ابتهاجا وفرحا، وكان لها مرتبات، وهي إلى الآن تأوي هذه الرواقات فإذا دقت الساعة موعد الظهر اجتمع الحمام لالتقاط الحبوب التي تنثر له في الساحة المذكورة.
وفي آخر الساحة من الشرق كنيسة مار مرقس قيل إن عظام هذا القديس نقلت من الإسكندرية ودفنت فيها سنة 828، وهي مبنية على شكل الكنائس الشرقية (البيزانتية) لها هيكل في داخلها بني في الشرق، وهي من أقدم الكنائس أنشئت في القرن التاسع وأدخل فيها نحو خمسمائة عمود ما بين كبير وصغير، وكلها من الرخام الشرقي فيها من أشغال الفسيفساء مثل ما في كنيسة آيا صوفيا في الآستانة، وتقدر مساحتها بخمسة وأربعين ألف قدم، وفيها من الأواني الذهبية كالصلبان والمراوح والمباخر القديمة شيء كثير يعد كنوزا يباهون بإظهارها للطالبين، ويوصل من هذه الكنيسة إلى دار الدوجات، وهي قديمة العهد أنشئت في القرن الثامن، ومن غرائب بنائها أنها قائمة على 107 أعمدة، منها 36 عمودا صفت الواحد بعد الآخر في الدور الأول، وفوقها هذا العدد في الدور الثاني، وذلك في طول واجهة القصر على مسافة 82 مترا، وهم لما تهدم منها شيء أعادوه إلى مثل حالته الأصلية، فدخلنا في قاعاتها الواحدة بعد الثانية، وهي كثيرة العدد والزخارف، أهمها القاعة التي كان الأمراء والدوجات يقابلون فيها سفراءهم ومندوبي الأجانب، وقد نقش على جدرانها وسقفها صور زيتية دينية تمثل حوادث الإنجيل والتوراة حتى إنك لتفهم منها ولادة المسيح وحياته وصلبه وارتفاعه ، أو قصة يوسف مع إخوته وإبراهيم وولده، وفيها أيضا صور تاريخية تمثل حياة الدوجات في كل أدوارهم، وقس على ذلك.
وأحسن أشكال النزهة في هذا البلد أن يدخل المرء زورقا من الزوارق المبنية على الطراز الحربي القديم؛ فإنها مستدقة طويلة، ورأسها ومؤخرها مرتفعان يسمونها جوندولا ولها مقاعد في الوسط مغطاة لوقاية الجالسين من الشمس والمطر، وهي تمخر في الترعة العمومية، فيرى المرء على الجانبين منازل وقصورا بنى بعضها الدوجات وبعضها بناه نواب المملكة، وقد فطن لها جماعة من الأميركان الموسرين فاشتروا بعضها واعتزلوا فيها الأشغال، حتى إن السر هنري لايارد السياسي والأثري الإنكليزي المشهور اشترى قصرا منها لم يزل لورثائه. ومن المتنزهات المعدودة في زمن الصيف أنه يجتمع مئات من هذه الجوندولات أو الزوارق في هذه الترعة ويحتشد الناس فيها أزواجا وأفرادا معهم آلات الطرب، أخصها النوع المعروف بالماندولين (القيثار) يغنون ويطربون، ويأتي بعض الناس لهذه الغاية من البلاد المجاورة في الليالي المقمرة، ونظرا إلى كثرة الجزر المتباعدة فهم عندهم بواخر صغيرة تمخر كل نصف ساعة بين البلد وهذه الجزر، منها جزيرة ليدو وهي جيدة التربة فيها حدائق غناء وأشجار غرست صفوفا على شاطئ البحر، وهناك حانات وملاه صيفية وترامواي توصل إلى الحمامات البحرية يجتمع فيها خلق كثير، فزيارة هذه الجزيرة يعدها الغريب من أجمل النزهات؛ لأنه يتأمل منها حسن موقع فنسيا خصوصا من جهة البحر، ويقال مثل هذا عن جزيرة ثانية تسمى موارنو فيها قسم بكير من معامل الزجاج الملون، وهم يعملون منه المرائي المعروفة ويحيطونها ببراويز من البلور ملونة بألوان مختلفة، وقد وقفنا أمام الصناع وهم يفعلون ذلك، ويظهرون الزجاج كالخيط أو كالشعر في طول متر وأكثر، ويصنعون من خيوط هذا الزجاج أدوات ومنسوجات كأنها صنعت من القطن، وأزرارا للقمصان أو دبابيس للبرانيط، كل ذلك وأنت واقف أمامهم تتفرج، هذا أهم ما يمكن أن يذكر عن فنسيا. ولتاريخها لذة وفائدة ما بعدهما لذة كما يعلم القارئون، وقد برحتها قاصدا مدينة فلورانس، والمسافة بينهما ثماني ساعات، فقام القطار يمر في ولاية توسكانا المشهورة، ووقف في عاصمتها بولونيا الواقعة في أهم مركز حربي؛ فلهذا وضعوا فيها لواء من الجيش يقيم في حصونها، وهي مبنية في منبسط من الأرض عند أسفل جبال الألب ويلتقي فيها عدة أنهر وهي أيضا مركز أسقفية، ومع أن سكانها لا يزيدون عن مائة وثمانين ألفا، فإن فيها 130 كنيسة، وهذه حالة أكثر مدن إيطاليا أو كلها في كثرة الكنائس.
فلورانس
لم تكن هذه المدينة شيئا يذكر قبل أن قام فيها رجل يدعى جيوفاني دي ميديسي، مؤسس الدولة التي حكمت هذه البلاد واشتهرت في أوروبا، وخلفه ابنه كوزيمو سنة 1434 الذي أدخل إصلاحات شتى، حتى إن الأهالي لقبوه بأبي الوطن، ثم خلفه ابنه بيترو سنة 1464 وتلاه سنة 1496 لورنسو الذي لقب بالعظيم؛ لأنه وجه الفكر إلى إنشاء المدارس وتعليم الفنون اللطيفة، وأهمها فن التصوير حتى صارت فلورانس على عهده المستودع العام لبيع الصور، ولها الفضل الأكبر على متاحف أوروبا، كما أن لمدارسها الفضل على اللغة الطليانية؛ لأنها أصلحت قواعد نطقها وكتابتها وما زال الفلورانسيون حتى يومنا هذا يحسنون التكلم باللغة الطليانية أكثر من بقية أهل إيطاليا.
أما فلورانس الحالية فاسمها عند الطليان «فلورانس الجميلة»، يشطرها نهر أرنو الصغير ويرى المتجول فيها جبال الألب العظيمة عن بعد تتقدمها تلال بهية على مقربة من المدينة، وهي الضواحي التي اشتهرت عنها، فيها قصور عظيمة للموسرين من الأهالي والأجانب ولا سيما الإنكليز؛ فإنهم يستوطنون هذه الضواحي بعد اعتزال الأشغال حتى إن الملكة فكتوريا قضت زمنا في أحد هذه القصور، وقد مهدوا في هذه التلال شوارع معوجة متعرجة طولها أربعة أميال وعرضها ستون مترا، يرى المتجول فيها بالعربة مناظر بديعة تتنوع في كل أوان من صفوف الأشجار وأشكال الحدائق، فيرى المدينة من دونه وهو سائر في هذه التلول. والمتنزه الآخر في طرف البلد يدعى كاشبني طوله بضعة كيلومترات وصفوف الشجر إلى جانبيه والماء يتدفق من بركه الكثيرة، ومنظر حدائقه الصغرى بديع، والموسيقى تصدح فيه كل يوم، فهو من أعظم متنزهات أوروبا عامة ويظنه بعضهم معادلا للشان إليزيه في باريز.
وقد أكثرت في سياحتي هذه من ذكر المتاحف والآثار القديمة وما يقرب منها حتى خشيت أن يمل القارئ؛ فلهذا أضرب هنا صفحا عن بعضها وأقتصر على ذكر ميدان واحد يعرف بميدان السنيورة - أي السيدة - فيه تمثال كوزيمو الأول من عائلة ميديسي وقصره القديم بني في القرن الثاني عشر، ترى على جدرانه شعار الأحزاب القديمة من حزب جلفه شعاره النسر، وحزب ميديسي شعاره البندقية، وقد قام من حزب جلفه أمراء وملوك عظام لهم شهرة في التاريخ، وأهم فروعهم ملوك هانوفر الذين صاروا بعدئذ ملوك إنكلترا، والملكة فكتوريا آخر الملكات من هذا البيت. وأما آل ميديسي فذكرهم أشهر من نار على علم؛ لأنهم اختلطوا بأكثر العائلات المالكة في أوروبا، وقام منهم سيدات حكمن مملكة فرنسا زمانا في القرون الوسطى وعرفن بالذكاء والاقتدار، وعلى مقربة من هذا القصر رواق قديم قائم على عمد من الرخام، كانوا في القرن الثالث عشر يقيمون فيه الاحتفالات لرئيس الجمهورية وزوجته؛ فتركنا هذا المكان وذهبنا إلى متحف أوفيسي الذي أسس في القرن الخامس عشر على ضفة النهر للصور الزيتية، جمعوها قرنا بعد قرن مدة خمسة قرون، فلما ضاق بها هذا الموضع بني دهليز طويل من هذا المكان إلى الضفة الأخرى سرنا به حتى إذا وصلنا إلى الجانب الآخر ذهبنا إلى قصر بيتي، وقد سمي باسم أمير اشتهر بمقاومة آل ميديسي في القرن الرابع عشر، ولكنهم فازوا عليه واستولوا على هذا القصر وأقاموا فيه، وهو الآن ملك حكومة إيطاليا يقيم فيه الملك الحالي حين يزور هذا البلد فدخلناه من باب كبير، وصعدنا إلى الدور الأعلى، أهم ما فيه القاعات وفيها خمسمائة صورة زيتية، ويتبع هذا القصر حديقة بوبولي سميت باسم أمير من آل ميديسي وأنشئت في القرن الخامس عشر فوق مرتفعات تشرف على البلد، ولما عدنا في الغد إلى ميدان المداما ومشينا في شارع كالسايولي رأينا بعض السياح يسيرون حثيثا، وعلمنا من الترجمان الذي كان معنا بأنهم يقصدون المنزل الذي ولد فيه دانته الشاعر الإيطالي المشهور؛ فسرنا معهم لزيارته، ورأينا على باب البيت لوح رخام كتب عليه: «إن الشاعر دانته ولد في هذا البيت»، وليس يؤجر البيت ولكنه يدخله السائحون بدفع فرنك فيجمع صاحبه من هذا الرسم مالا وفيرا، وفي غرف المنزل كتب قديمة استعملها ذلك الشاعر المجيد، ثم سرنا إلى متحف الآثار المصرية تجد بينها تمثال الآلهة هاتور ترضع الملك الطفل هور مهب وجد في الأقصر بالصعيد، وما زلت أتردد على متنزهات فلورانس حتى جاء موعد السفر فبرحتها وقمت إلى رومية والمسافة بينهما ثماني ساعات في سكة الحديد.
رومية
هي عاصمة الرومان وكرسي مملكتهم من قدم مرت عليها أعوام كانت فيها سيدة الممالك وحاكمة العالم المتمدن، وقام فيها أقيال الرومان العظام وقوادهم وفلاسفتهم وقياصرتهم، واجتمع فيها كبراء كل الممالك المعروفة في الزمان القديم بعضهم أسرى وبعضهم تجار أو طلاب علم، فما سادت مدينة وشادت كما سادت مدينة رومية هذه في أيام صولتها. وتاريخها القديم من ألذ فصول التاريخ وأكثرها فائدة للعالمين، لم نتعرض لذكره؛ لأننا لم نجمل غير تاريخ الممالك الحديثة في هذا الكتاب، ولكننا نذكر القارئ هنا أن رومية بنيت سنة 753 قبل التاريخ المسيحي، وكان بانيها روملوس قيصرها الأول، وظلت هي سيدة المدائن الإيطالية وقاعدتها إلى سنة 800 بعد المسيح، حين توج شارلمان إمبراطورا للغرب على مثل ما ورد في تاريخ فرنسا، وصارت المدينة من ذلك العهد مقرا لبابوات الكنيسة الكاثوليكية، وما زالت حتى الساعة مركز الملك والرئاسة الدينية معا، وكانت رومية القديمة محاطة بسور عظيم لا يقل طوله عن 12 ميلا، وله 37 بابا يخرج منه الجنود ويدخلون، واشتهرت من قدم برحباتها الفسيحة وشوارعها الكبرى التي كان القواد العظام يعرضون فيها على الرومانيين غنائمهم ودلائل انتصارهم في الحروب، فكم من ملك وأمير قاده الرومان في تلك الشوارع أسيرا ذليلا، وكم من كنز ثمين وملك عظيم غنمه أهل رومية وتاهوا به فخرا ودلالا في تلك العصور، حين كانت هذه المدينة سيدة الأرض وأهلها لا يقلون عن مليونين وخمسمائة ألف يعدون أمراء الزمان وحكام الممالك وموالي الأمم في مشارق الأرض ومغاربها وأصحاب العز العظيم.
وقد بنيت رومية الحديثة موضع المدينة القديمة على تلال عشرة، فهي كثيرة المرتفعات والمنخفضات في أسواقها وشوارعها، وهي لا تبعد عن البحر غير 13 ميلا، ولكن ميناها شيفيتا فيكيا ليست بذات أهمية؛ لأن العاصمة قريبة من مدينة نابولي، ولها ارتباط بداخلية البلاد من كل جانب بواسطة سكك الحديد، وعدد سكانها الآن نصف مليون.
ولا حاجة إلى القول إن أشهر ما في رومية قداسة البابا، ومقره، وجلالة الملك ومركزه. فأما البابا فمقره في الفاتيكان، وهو حي من أحياء المدينة قائم بنفسه فيه القصور والكنائس والحدائق والمنازل، صار مقر البابوات من بعد رجوعهم من أفنيون في فرنسا في القرن الخامس عشر، وكان البابوات يزيد الواحد منهم بعد الآخر في قصور هذه الجهة ومحاسنها حتى بلغ عدد الغرف في هذه الدائرة العظيمة عشرة آلاف غرفة، وقد أتاح لنا الحظ زيارة الفاتيكان، ورأينا على الباب حرسا سويسريا ما زال أفراده ينتقون من أهل سويسرا ويلبسون الملابس المزوقة بالألوان الباهرة على مثل ما كان الحرس يلبس في الأيام القديمة. ودخلنا القصر فرأينا قاعات رفائيل المصور العظيم حيث كان يشتغل بالهندسة والرسم مع تلاميذه، وأطلنا النظر في هاتيك الصور البديعة التي تشغل جوانب كثيرة من القصر، ولها قدر في العيون وقيمة؛ لأن مصورها أبرع من اشتهر بهذا الفن اللطيف إلى الآن، وأكثرها صور دينية كما تعلم. والذي يزور متحف الفاتيكان يلزم له أيام وأسابيع حتى يرى نفائسه ويدرك مقدار قيمته؛ فقد رأيت هنالك من النقوش والتماثيل وقبور القياصرة والآثار العظيمة المختلفة الأشكال ما يعجز القلم عن وصفه، أذكر منها تمثال أوغسطس قيصر وجد سنة 1863، وتمثال النيل من الرخام، وهو عبارة عن بلاطة جميلة حفر عليها 16 صبيا دلالة إلى أذرع النيل في زمن فيضانه، وغير هذا من الآثار شيء كثير. ولا يخفى أن الفاتيكان مركز العالم الكاثوليكي، وأن الزوار يأتون هذه المدينة من كل الأقطار ليروا آثارها وكنائسها وليحظوا برؤية قداسة البابا إذا أمكن، وهم يرونه حين يحضر للصلاة مرارا معلومة في السنة، ويمكن لوجهاء الناس أن يقابلوه مقابلة خصوصية بعد المخابرة والاستئذان، ولكن يشترط على المرأة أن تغطي رأسها برداء أسود ولا تلبس في يديها الكفوف (القفاز).
ولما كان هذا مركز رومية في العالم الكاثوليكي صار لكنائسها شهرة عظيمة وقيمة كبرى، وأشهر هذه الكنائس - بل هي أشهر كنائس الأرض طرا وأوفرها قيمة وأكثرها تحفا وآثارا نفيسة - كنيسة مار بطرس الكبرى المعروفة، بنيت سنة 1506، وما انتهى العمل منها إلا بعد مائة عام من ذلك التاريخ، واشتغل في الرسم والنقش لها رفائيل وأنجلو اللذان ذكرناهما قبل. وقد سميت باسم القديس بطرس؛ لأنه دفن في هذا الموضع، وبنى الأقدمون كنيسة صغيرة من الخشب فوق قبره ثم، شيدت هذه الكنيسة العظيمة موضع الأولى، وطولها 187 مترا والعرض 137، ومحيط قبتها 42 مترا، وهي مشهورة بهذه القبة المرتفعة، وقد أحيطت القبة بأربعمائة تمثال من الحجر، طول الواحد منها 25 قدما، وهي يراها الناس من صحن الكنيسة، وإذا وقف المرء حول سياجها رأى الناس في أرض الكنيسة صغارا؛ نظرا إلى علوه الكثير، وقد وضعوا في صحن هذه الكنيسة قياسا يعلم منه اتساع الكنائس الكبرى في الأرض، وهاك بيانها:
متر
110
طول كنيسة آيا صوفيا في الآستانة.
128
طول كنيسة مار بولس في رومية (خارج السور).
136
طول كنيسة ميلان.
159
طول كنيسة بولس في لندن.
187
طول كنيسة بطرس الكبرى.
هذا في الاتساع، وأما في العلو فبعض الكنائس تزيد عن هذه الكنيسة العظيمة، وأشهرها كنيسة كولون في ألمانيا وكنيسة روين في فرنسا وكنيسة ستراسبورغ في الألزاس، وقد قامت هذه الكنيسة على عمد وركائز عظيمة الضخامة، وفيها تمثال القديس بطرس الرسول جالسا إلى قاعدة من الرخام في يده اليسرى مفاتيح السماء، وهو رافع يده اليمنى يبارك بها على الطريقة الشرقية، وقد تقدم القول إن الرسول بطرس دفن في أرض هذه الكنيسة، وهنالك دفن كثار غيره من البابوات والكاردينالية، وخرستينا ملكة السويد دفنت سنة 1619 بعد اعتناقها المذهب الكاثوليكي. فالمرء حال دخوله هذه الكنيسة يشعر بمهابة ووقار، ولكن الفائدة لا تتم للمرء إلا إذا أكثر من التردد فإنه في كل مرة يرى ما لم يره من قبل؛ لأن هذه الكنيسة وغيرها من الكنائس الشهيرة بنيت يوم كان الدين أهم شأنا منه في العصر الحالي، وليس في الإمكان الآن جمع الملايين للقيام ببناء كنائس كالموجودة في رومية وغيرها، فضلا عن كثرة عددها في كل مدن أوروبا وخصوصا في إيطاليا وروسيا، وأمام هذه الكنيسة فسحة قائم في وسطها تمثال بطرس وبولس ومسلة مصرية من الصوان الأحمر بأعلاها صليب وبجانبها رواق إهليلجي له أربعة صفوف من الأعمدة يبلغ عددها نحو ثلاثمائة، تخرقها دروب وفي أعلاها تماثيل كثيرة للقديسين.
ومن هذا القبيل كنيسة يوحنا ده لاتران، بنيت على أحد التلال، وهناك مسلة نقلها قسطنطين الكبير من هليوبوليس - أي مدينة الشمس عند مصر - إلى الإسكندرية، ثم نقلها ابنه قسطنطينوس إلى رومية، وقد لا يخلو تل أو ميدان في رومية من مسلة مصرية نقلها قياصرة الرومان، وكنيسة ماري ماجيور فيها من الأواني الذهبية ما يبهر البصر، وأشهر منها كنيسة مار بولس خارج السور، فإنها من بدائع الزمان قائمة على 85 من الأعمدة الضخمة الصوانية الوردية اللون، وتيجانها من الرخام الأبيض ينشرح الصدر من رؤيتها ولها خمسة أروقة، منها الرواق القائم على هذه العمد بأعلاه صور جميع البابوات بهيئتهم الطبيعية صفت صفوفا وزخرفت بالفسيفساء، وفيها عشر نوافذ كبيرة من الزجاج الملون عليها رسوم القديسين والملائكة، وهي على ما يقال أجمل من كنيسة مار بطرس، وليس فيها مقاعد أو كراسي مثل بقية كنائس رومية، بل هم يقفون فيها أو يركعون لسماع الصلاة.
قلنا إن رومية خالية من المتنزهات والميادين والشوارع العظيمة مثل التي في العواصم الكبرى، ولكن فيها متنزه البنشيو وميدان الكيرينال على أحد التلال به قصر الكيرينال المشهور، كان مسكنا للبابوات فاهتم كل منهم بزخرفته وعلى نوع أخص قداسة البابا بيوس التاسع؛ فإنه أنفق عليه المبالغ الطائلة، والقصر الآن مسكن ملك إيطاليا منذ سنة 1860، ويتصل بميدان الكيرينال هذا شارع فكتور عمانوئيل في قلب البلد، فيه الفنادق والحوانيت، وفيه عمود الإمبراطور تراجان من قياصرة الرومان العظام، علوه 43 مترا، وفي أعلاه تمثال هذا القيصر تذكارا لانتصاره على الداكيين، وقد دفن تحت العمود المذكور، ولكن البابا سكستوس الخامس وضع مكانه تمثال القديس بطرس. والعمود المذكور أثر جليل حفظ على حالته هذه من أيام الرومانيين، وهو من الرخام لبس بالبرونز وحفر عليه من أسفله إلى أعلاه 2500 رسم تمثل الرجال والسلاح القديم والخيل والوقائع الحربية، وفي جوف هذا العمود سلم لولبي له 182 درجة يدخل لها النور من 43 نافذة نقبت في جوانبه.
ومشاهد رومية كثيرة لا أقدر على عدها كلها هنا، منها الحمامات التي بناها قياصرة الرومان، مثل نيرون ونيطس وكاركلا، في الحمام الواحد منها كثير من المغاطس والأجران والبرك، فيها مياه سخنة وباردة وبخارية، وكلها من الرخام الطلياني النقي يسع الواحد منها 2500 مستحم في وقت واحد، وهناك بنيت القاعات للتكبيس والتعطير، وأنشئت الحدائق والألعاب الرياضية، وفي رومية أيضا آثار الملاعب الأولى بنيت على شكل مستدير (أمفتياتر) وضعت فيها المقاعد بعضها فوق بعض صفوفا متوالية، منها ملعب مارشلس كان يضم 40000 وملعب سكاروس 80000، وكان الرومانيون القدماء يطلقون الوحوش في هذه الأماكن ويتفرجون من مقاعدهم على قتالها أو مصارعة الرجال لها، وكثيرا ما كانوا يلقون الذين اعتنقوا الديانة المسيحية للوحوش في هذا الموضع فتفترسهم وتقطع أجسامهم والمتفرجون يسرون لعذابهم ولا يتأثرون، وما زال في العاصمة آثار الفوروم - وهو البارلمان الروماني - وقصور القياصرة وهياكل للمعبودات، مثل جوبيتر والزهرة والمشتري، وهم كلما وجدوا أثرا ينقلونه إلى المتحف، دخلناه فرأينا فيه قبور القياصرة من الرخام عليها نقوش بارزة تشير إلى وقائعهم الحربية وتاريخ حياتهم في الحروب، ويرى في أطراف المدينة بقايا أقواس النصر التي أقامها القياصرة، وقس على ذلك من آثار عظمة رومية الأولى وبقايا أصحابها السابقين.
البابوية
لا حاجة إلى القول إن البابا كان أعظم أصحاب السلطة الزمنية في الزمان السابق، وكان الكهنة والأساقفة بمثابة حكام للشعوب وقضاة، ولما كان الأساقفة تابعين في أحكامهم لرومية كان استئناف أحكامهم يرفع إلى قداسة البابا، ولا مرد لحكمه، وعليه أصبح الملوك والأمراء كالشرطة ينفذون أحكامه ويأتمرون بأوامره، أذكر من ذلك أن شارلمان ملك فرنسا ومؤسس مملكة جرمانيا الذي ظهر في أواخر القرن الثامن كان نصيرا لكرسي رومية طمعا بمساعدة البابا له حتى يصير إمبراطورا، فنصبه البابا لاون الثالث وألبسه تاج ألمانيا وسماه إمبراطورا، وعرف شارلمان للبابا ذلك الفضل فوسع اختصاصات الإكليروس ووهبهم المال والعقار وفوض إليهم كثيرا من أمور الحكومة، ولكن هذا الحال لم يدم فإنه لما تولى هنري الرابع مملكة جرمانيا أراد أن يزيل السلطة الزمنية من يد البابا فاستحال عليه الأمر؛ لأن البابا يومئذ كان غريغوريوس السابع، وهو من أشهر بابوات رومية وأعظمهم دهاء وعقلا وسياسة، فلما ثار السكسونيون على ملكهم اغتنم البابا هذه الفرصة وطلب إلى الملك هنري أن يحضر إلى رومية لاستجوابه عن كيفية معاملته لرعاياه، فاعتبر الملك هنري ذلك الطلب خارجا عن حقوق البابوية ورفض المجيء، ثم استصدر حكما بخلع البابا غريغوريوس السابع، فلما سمع البابا بذلك الحكم جمع أساقفة رومية وأصدر حكما قاضيا بخلع الملك عن مملكة جرمانيا وحرمه من الكنيسة، واشتد الحال بين الملك والبابا فالبعض من ملوك أوروبا وقسم من رعايا الملك عضدوا البابا؛ فخاف الملك على منصبه وسط بعض أمراء وأميرات إيطاليا من ذوي الوجاهة، وبعد الجهد الكلي أذن البابا للملك بمقابلته على شرط أن يأتي إليه بلا حاشية مرتديا ثوب الندامة، ولما وصل الملك إلى قصر البابا وقف ثلاثة أيام متوالية خارج الباب، وفي اليوم الرابع أذن له البابا بالدخول فركع على ركبتيه وطلب منه السماح والتوبة.
دامت سلطة البابوات قرونا وكان لهم ما للملوك من الجيوش الجرارة والقواد العظام حتى نهضت إيطاليا كما سبق في الخلاصة التاريخية، ودخل ملكها فكتور عمانوئيل الثاني مدينة رومية عنوة في سنة 1860، واحتل قصر الكيرينال، ولكنه قلق بعد دخوله إلى رومية وشعر بحرج مركزه لدى العالم الكاثوليكي، فعرض وزيره الكونت كافور - الذي كان له اليد الطولي في توحيد إيطاليا (كالبرنس بسمارك في توحيد ألمانيا) - على قداسة البابا أن يتنازل عن أملاكه فتضمن له إيطاليا الاستقلال التام في أعماله الدينية، وأن الكنيسة تكون حرة في بلاد حرة ويعطى له حي الفاتيكان وما فيه من القصور والمتاحف، ويعامل البابا حيثما سار في إيطاليا بنفس الاحترام الذي يؤدى للملك، وله التقدم على الملك في الحفلات الرسمية، وكان حين ذاك على الكرسي البابوية بيوس التاسع فرفض جميع ما عرض عليه؛ ولذلك صدر قرار من حكومة إيطاليا بتجريده من أملاكه وتخصيص مبلغ 150 ألف جنيه سنويا له، ولكن البابا رفض ذلك رفضا باتا، وهذا المبلغ متكوم في خزينة إيطاليا على ذمة البابوات منذ صدور القرار المذكور. وعلة البابا في عدم قبوله أن القبول يعد ذلك اعترافا منه بملك إيطاليا وهو لا يريد أن يعترف به، هذا غير أنه ليس بذي حاجة للمال؛ فإنه لما بلغ البابا ليون الثالث عشر السنة الخمسين من صيرورته كردينالا سنة 1892 وردت عليه هدايا من العالم الكاثوليكي لم تقل قيمتها عن مليوني جنيه، ولما احتفلوا بيوبيله في 20 فبراير 1902 - أي بمرور 25 عاما وهو على الكرسي البابوي - بلغت الأموال والهدايا التي قدمت لقداسته مليونا ونصف مليون. وقد رأيت أن أصف هنا كيفية الرسوم التي يجرونها عند وفاة البابا وتنصيب خلفه فأقول:
إنه لما ثقل المرض على البابا السابق ليو الثالث عشر في أواسط شهر يوليو سنة 1903 وكان عمره 93 سنة طير التلغراف قرب أجله إلى أقاصي المعمور فورد للفاتيكان 12000 رسالة برقية فيها سؤال عن صحته، وأقيمت الصلوات في كنائس رومية وغير رومية طلبا لشفائه، ولما بدأ البابا بالنزع اجتمع الكرادلة ودخلوا غرفة المريض وجثوا عند فراشه، وعندما لبى داعي ربه بلغ كاتب سره الخبر رسميا إلى الكردينال الكمرلنغ (الحكمدار)، وهذا سار من وقته إلى البلاط البابوي فجلس فيه كأنه رب البيت وأخذ في مباشرة مهنته، وأول عمل قام به هو أنه عين أحد الحجاب البابويين ليصون غرفة البابا ويسجل كل ما تتضمنه، ثم لبس لبس الحداد وهو الثوب البنفسجي البحت، وسار إلى حجرة الميت يتقدمه بعض الخواص، فبعد صلاة وجيزة على وسادة بنفسجية تقدم من الميت ليثبت موته فضرب جبينه ضربا خفيفا بمطرقة من فضة ثلاثا وهو يناديه باسمه الأصلي قبل أن نال الاسم البابوي، فلما انتهى من ذلك أعلن موته حالا قائلا: «إن البابا قد مات»، فحينئذ نزع حاجب البابا من إصبع الميت خاتمه المعروف بخاتم الصياد وسلمه للكردينال المذكور، يريد بذلك أن سلطة الكنيسة صارت إلى يده مؤقتا، وهذا الخاتم يمثل صورة القديس بطرس في سفينة، وعليه اسم البابا وبه يختم البراءات. وفي أول مجمع اجتمع فيه الكرادلة كسر هذا الخاتم مع الخواتم الأخرى التي فيها اسم البابا المتوفى دلالة على فروغ الكرسي البابوي، ثم كتب أحد الكتاب قرارا دون فيه حجة موت البابا وتسليم الخاتم إلى يد حكمداره، وبدأ ناقوس كنيسة مار بطرس الكبير يدق دقة الحزن وأجابته نواقيس رومية كلها، وخرج الحكمدار ليذيع خبر وفاة البابا بالتلغراف رسميا في الأقطار، وأعلن سفراء الدول في رومية بوفاة البابا، ودعي للحضور إلى رومية جميع الكرادلة، ثم إنهم حنطوا جثة البابا وعرضوها على منصة مرتفعة نصبوها في رواق الغرفة البابوية، والميت مضجع بالثياب البابوية فوق فراش مغطى بحرير أحمر وعلى طرفيه شمعدانان كبيران تسطع أنوارهما، وعند مدخل الرواق حارسان واقفان وبيديهما سيف مشهر طرفه إلى الأرض، ثم نقلت الجثة بكل إكرام إلى كنيسة مار بطرس بموكب حافل، ولبس الجسم الملابس المقدسة من بدلة ودرع الرئاسة وتاج وصليب ووضع في معبد القربان الأقدس، ولهذا المعبد شعرية كبيرة فبقي على هذه الحالة ثلاثة أيام متوالية، ثم دفن الجسم دفنا مؤقتا في أحد جدران كنيسة القديس بطرس بحفلة مؤثرة لم يحضرها سوى الكرادلة وحاشية البابا وحجابه ونحو مائة شخص من الأخصاء.
كان البابا لاون الثالث عشر المتوفى من أفاضل البابوات، وهو من أسرة إيطالية عريقة في المجد، ولد في الثاني من شهر مارس سنة 1810 وتوفي في التاسع عشر من شهر يوليو سنة 1903 الساعة الرابعة بعد الظهر.
كيفية انتخاب البابا:
كل يعلم ما للبابا من النفوذ الديني؛ لأنه يحكم ثلاثمائة ألف ألف من الكاثوليك، وله أيضا نفوذ سياسي كبير بسبب منصبه السامي، فالممالك الكاثوليكية تود لو يكون البابا من أبناء أمتها حتى يميل إلى تعضيدها ساعة اللزوم، وقد حصل عند الانتخاب الأخير أن حكومة النمسا الكاثوليكية أبدت معارضة في انتخاب الكردينال رامبولا الذي كان المظنون في العالم الكاثوليكي انتخابه؛ لأنه أقدر الكرادلة فنهض الرجل في الحال وقال: إني أحتج على دخول السلطات العالمية في الانتخاب، ولكنني أعد نفسي سعيدا إذا أعفيت من أعباء البابوية.
وطريقة الانتخاب هي أن الكرادلة يجتمعون للتفاوض في أمر الرئاسة البابوية لمجلس الكونكلاف - أعني المجلس المقفل - وذلك في قصر الفاتيكان، حيث تعد القاعات والدور التي حوله لتصلح لسكن الكرادلة طول أيام اجتماعهم إلى يوم انتخاب الحبر الجديد، وتجعل هذه القاعات الكبرى حجرا صغيرة تفصل بينها حواجز خشبية يعطى فيها كل كردينال أربع حجر: إحداها للنوم، والثانية للعمل، وحجرتان لكاتب أسراره وخادمه، وهذه الحجر، تعطى بالقرعة، ويدخل مع الكرادلة في مجلسهم المقفل كاتب أسرار المجمع وأصحاب التشريفات وعدد معلوم من العمال كطبيب وجراح وصيدلي ومزين وبناء ونجار يختارهم الكرادلة في الجلسات التي تعقد قبل الانتخاب بعد التثبت من أهليتهم وحسن سلوكهم، وبعدهم عن الدسائس، وإذا دخلوا معهم المجمع فلا يجوز لهم الخروج منه مطلقا إلا في أمر ذي بال يحكم بصوابه الكرادلة جميعا.
وبعد اجتماع المجلس يخطب أحد السادة ليحض المنتخبين على التجرد من كل الغايات الشخصية واختيار من يعرفونه أهلا لرئاسة الكنيسة، وفي نهاية الخطبة يتقدم أحد التشريفاتية ويمسك بيده الصليب البابوي ذا الشعب المثلثة ويمشي أمامه حاشية الكرادلة الذين تعينوا لخدمتهم ويتبعهم المرنمون وهم ينشدون التسابيح، فإذا بلغوا المعبد السكستي الذي يتم فيه الانتخاب جلس كل حسب رتبته تحت الملة المعدة له، ثم تتلى على مسامعهم رسوم الأحبار الرومانيين بخصوص هذا الانتخاب، وعلى أثر ذلك يقومون بالترتيب ويقسم كل منهم ويده على الإنجيل المقدس بأنه يختار لرئاسة الكنيسة الرجل الذي يعرفه أجدر بهذا المنصب الجليل من سواه، وبعد ذلك يخرج من المعبد السكستي ومن المكان المعد لإقامة الكرادلة كل من ليس له عمل في المجمع، ثم يسد البناءون كل الأبواب بجدران من الحجارة إلا باب السلم الملكي فإنه يقفل بأربعة أقفال، منها قفلان في الخارج وقفلان في الداخل، وكلها تقفل أمام الشهود، وبعد أن أقفل هذا الباب قام على حراسته نفر من الجند يتقدمهم أحد أشرف رومية يدعى محافظ المجمع، وكذلك دار الكردينال الحكمدار مع ثلاثة من الكرادلة، وزار كل الحجر ليتحقق أنه ليس ثم غريب وأن الأحكام البابوية روعيت تماما، وعمل بين المحجوزين والخارج أربعة منافذ أو دواليب يحرسها قوم ثقات يفحصون كل ما يوضع فيها لئلا ينفذ منها مكاتيب وما شاكل ذلك، وكانوا إذا طلب أحد من الخارج كالسفراء وغيرهم أن يواجه أحدا من الكرادلة استدعاه إلى الدولاب وفاوضه بحضور الحرس، وجعلت المطابخ في داخل سكني المنتخبين، وكل كردينال يأكل وحده، أما الخدم والحاشية فكانوا يأكلون في مطعم عمومي.
وفي اليوم الأول بعد دخول الكرادلة في مقام الانتخاب المعد لهم عند الساعة الثامنة، ناداهم مدير التشريفات بدق الجرس ثلاثا وهو يقول: «سادتي إلى المعبد. فلما قرع الناقوس توارد الكرادلة يتقدم كلا منهم خدمه حاملين محفظته حتى إذا دخلوا المعبد، تلا أسقف رومة الصلوات مبتهلا إلى الروح القدس طالبا أنواره، ثم أشار مدير التشريفات إلى الذين كانوا هنالك من غير الكرادلة أن يخرجوا فخرجوا وبقي الكرادلة وحدهم في المعبد، وأقفل المعبد من داخله، ثم جلس الكرادلة على مقاعد منتظمة على شكل مربع حول الهيكل وفوق رءوسهم مظلات وأمام كل مقعد منضدة للكتابة مغطاة بطنفسة نسج عليها شعار الكردينال الجالس إليها، وبإزاء الهيكل منضدة كبيرة عليها كأس من فضة جعلت فيه أوراق الانتخاب، واتخذ لذلك أوراق مطبوعة كتب عليها: «إني أختار الكردينال (فلان) حبرا أعظم.» فلما كتبت هذه الأوراق قام كل كردينال إلى الهيكل وصلى صلاة وجيزة راكعا أمام الصليب، وأقسم مرة ثانية بأنه ينتخب من يراه أحق بالسدة البطرسية، وأشهد الله على نفسه ثم ألقى الورقة في الكأس وعاد إلى مكانه بعد الانحناء أمام الصليب، وعدت أوراق الانتخاب عدا مدققا حتى تكون بعدد الكرادلة المنتخبين، ثم راجعوها وهم يعدون الكردينال منتخبا للبابوية إذا نال ثلثي الأصوات في هذه الجمعية، وكانوا في مدة الانتخاب يحرقون تبنا في موقدة ليتصاعد دخانه، ويعلم الشعب الواقف في ساحة القديس بطرس أن الانتخاب ما زال مستمرا.
فلما تم الانتخاب أحرقت أوراق بلا تبن لنارها لهيب بلا دخان، فعرف الواقفون خارجا أن الانتخاب قد تم، وعند ذلك تقدم كبير الكرادلة سنا مع مدير التشريفات والكرادلة الثلاثة الموكول إليهم في ذلك اليوم ترتيب المجمع، فسألوا البابا الجديد بصوت جهوري: «أترضى بانتخابك القانوني لرتبة عظيم الأحبار؟» فحالما أجاب بالقبول أعلن مدير التشريفات قبوله للفيف الكرادلة المجتمعين، فحاد عنه في الحال الكردينالان الجالسان إلى يمينه ويساره إجلالا لرتبته الجليلة ونزعت كل المظلات إلا مظلته إشعارا بمقامه، ثم سأله كبير الكرادلة ثانية: وبأي اسم تريد أن تدعى؟ فقال: باسم بيوس العاشر، وللحال كتب كاتب الكرسي الرسولي قرارا بذلك، وسار البابا بين اثنين من الكرادلة إلى الهيكل، فنزع ملابس الكرادلة وتردى بالثياب الحبرية وجلس إلى كرسي أمام المذبح ووجهه إلى جهة الحاضرين، فتقدم إليه كل الكرادلة وجثوا أمامه ولثموا يديه فقبلهم بقبلة السلام، وفي أثر ذلك قدم الكردينال الحكمدار للحبر الجديد خاتم الصياد فجعله في إصبعه، وفي هذا اليوم أعلن انتخاب الحبر الأعظم رسميا فأسرع البناءون إلى فتح النوافذ المسدودة، وفتحت الأبواب فسار أقدم الكرادلة وأمامه الصليب البابوي إلى شرفة فوق كنيسة القديس بطرس تطل على الساحة الكبرى، وأخبر الشعب بالانتخاب قائلا: «أبشركم بفرح عظيم، فإن حبرنا الجديد هو الكردينال سارتو وقد دعي بيوس العاشر»، وألقى من الشرفة ورقة تتضمن هذه البشرى تناولتها ألوف من الأيدي فانتشر الخبر في رومية انتشار البرق، وللحال دقت نواقيس كنيسة القديس بطرس وأجابتها نواقيس المدينة كلها، وطير البرق هذا الخبر إلى أقاصي الأرض، وفي غد اليوم التالي جرت حفلات في غاية العظمة والأبهة في قصر الفاتيكان، فإنهم ألبسوا البابا في إحدى ردهاته السفلى ملابسه الحبرية، وساروا به إلى المعبد السكستي، فبعد صلاة وجيزة ارتقى العرش البابوي فتقدم إليه الكرادلة ونالوا من قداسته البركة، وفي اليوم عينه عقد الحبر الأعظم مجلسا لسفراء الدول في إحدى قاعات الفاتيكان حيث تقبل تهانئ الدول جميعها.»
وقد تولى رئاسة الكنيسة في رومية إلى الآن 263 بابا منهم 214 إيطاليا، و21 من الشرقيين - أي الأروام والمصريين والسوريين - و17 فرنسويا و5 ألمانيين و3 إسبانيين وبورتغالي وإنكليزي وهولاندي. وأول من تولى رئاسة الكنيسة في رومية بطرس الرسول من سنة 42 إلى 66 وخلفه القديس لينوس من سنة 66 إلى سنة 77، وتوالى بعد ذلك الأحبار الآخرون، وفي سنة 1305 نقل الكرسي البابوي من رومية إلى أفنيون من أعمال فرنسا على عهد البابا كلمان الخامس وبقي فيها لغاية تنصيب غريغوريوس الحادي عشر، وفي أيامه - أعني في سنة 1370 - أعيد الكرسي إلى رومية. والبابا بيوس العاشر من أصل وضيع ولد في قرية ريز من إيطاليا في 2 يونيو سنة 1835 ورقي إلى رتبة كردينال في سنة 1893 على فنسيا (البندقية)، وهو الذي أجرى بعض ترميمات في كنيسة مار مرقص الشهيرة يشكر عليها، وانتخب بابا في 4 أوغسطس سنة 1903.
البابا بيوس العاشر.
ولما كانت رومية في ملك البابوات كانت تطلق المدافع من القلعة وتدق الطبول وتستعرض العساكر، ويعقد موكب للانتخاب بهي يسير من قصر الكيرينال (المقيم به الآن ملك إيطاليا) إلى بلاط الفاتيكان، فتظهر البابوية بكل رونقها. وكان البابا يركب عجلة ملكية بديعة تجرها الخيل المطهمة ويتقدمه الكرادلة، كل منهم في مركبته لابسين دروع الحرير الأحمر والبردة الأرجوانية المحشاة بالقاقم، وكان هذا الموكب يمر من شوارع رومية الغاصة بجماهير الخلق حتى يبلغ قصر الفاتيكان.
نابولي
إذا عدت مدن الأرض المعروفة بجمال الموقع وغرابة المشاهد كانت مدينة نابولي في مقدمتها بلا مراء؛ فإن الواصل إليها يذهله فرط بهائها وكثرة غرائبها؛ لأنه يدخل في جون من البحر مقوس الشكل والعمائر البديعة مرصوصة حوله من طرف إلى طرف على ضفة الماء ، وتتصل الأبنية والطرق المنظمة من البحر إلى هاتيك الروابي والتلال البهية الواقعة وراء المدينة، وكلها تتخللها الحدائق والأغراس والرحبات والميادين، وبقية أشكال الجمال الموصوف في المدن العظيمة، ومن وراء الكل جبل النار (فزوفيوس) يتقد جوفه اتقادا فيقذف النار من فوهته، ولطالما أوقع هذا البركان بعمائر الآدميين وله في تاريخهم ذكر كبير، فمن وقائعه تدمير مدينة بومبي الباقية آثارها على مقربة من نابولي، وهي من المشاهد العظمى التي يقصدها السائحون من كل جوانب الأرض، وعامة الناس هنا يقولون في أمثالهم «انظر نابولي ومت»، ولا عجب فإنها من أشهر مواضع الأرض في آيات الحسن، وهي أهم مدن إيطاليا وأكبرها لا يقل عدد سكانها عن سبعمائة ألف نفس، وفيها من المتاحف والمشاهد والآثار ما يقل نظيره، ولكن السياح الكثار الذين يفدون على هذه المدينة آلافا مؤلفة يشكون مر الشكوى من أهلها؛ فإنهم حالما يصلونها يزحمهم التراجمة والمرشدون والحوذيون والبياعون وصغار المنادين هؤلاء يعرضون عليك كبريتا ويعترضونك في المسير، وهؤلاء يصيحون في أذنك بأسماء الجرائد والصور التي يحاولون بيعها للذين يتعبون منهم ويتضجرون، وهؤلاء يضجون من حولك ويلغطون وبعضهم يقتفي منك الأثر ويضيق صدرك بإلحاحه، طالبا أن يكون رفيقك ويدور معك على المشاهد بأرخص الأجر أو يقدم لك ما شئت من الخدم وغير هذا كثير.
وعلى الجملة فإن نابولي مدينة كثيرة المشاهد والآثار والغرائب، يحار المرء في كيف يبدأ بوصفها، وأحسن ما يكونان يجعل المتفرج فاتحة الأمور زيارة «فيال ناسيوناله»، وهو متنزه ممتد بجانب البحر غرست فيه الأشجار والأزهار وأنشئت برك الماء، وهناك تصدح الموسيقى كل يوم من بعد الظهر، وفي وسط هذا المتنزه محل الأسماك، وهو بناء متسع جمعت فيه أنواع السمك والوحوش البحرية الغريبة الشكل مما يقل نظيره، وقد رأيت فيه السمك الكهربائي (نوربيل) وهو إذا مسه المرء شعر بقوة كهربائية، ورأيت أيضا المرجان الأحمر والأبيض، وقل أن يأتي أحد الناس إلى نابولي ولا يزور هذا المحل، وهو تحت إدارة لجنة لها مرتبات سنوية من حكومة إيطاليا ومن الحكومات الأجنبية، مثل ألمانيا وإنكلترا، تدفع ذلك تنشيطا لجمع ما يمكن جمعه من الجزر والخلجان من الوحوش والحشرات البحرية، والأجانب يأخذون إلى بلادهم كل نوع غريب الشكل بعد أن يدفعوا رسما صغيرا.
فتركت هذا المكان وذهبت إلى قصر الملك، وهو بعد قصر رومية أجمل القصور الملوكية في إيطاليا، فيه صور وتماثيل ملوك نابولي مدة الثمانمائة سنة التي حكموا فيها هذه البلاد، وشيء كثير من آثارهم والهدايا التي أرسلت إليهم، وبجوار القصر المذكور تياترو أو ملهى سان كارلو، وهو من أحسن الملاهي في شكله وزخارفه وغير بعيد عنه رواق أومبرتو سمي باسم الملك، وهو حديث بني في سنة 1890 بمبلغ اثنين وعشرين مليون فرنك، يبلغ طوله 185 مترا، ويقسم إلى أروقة نقشت وزخرفت وله في الوسط قبة جسيمة تحتها المخازن والحانات يزدحم فيها الناس على مثل ما ترى في كل مركز مثل هذا المركز الشهير.
وبعد ذلك سرت في شارع توليدو، ويقال له أيضا شارع رومية، وهو يخترق البلد من الجنوب إلى الشمال في طول ميل ونصف، ويمتد من البحر إلى الجهات العالية، وهو أبدا مزدحم بالخلق يتصل ببعض الميادين، منها ميدان كافور يقرب منه المتحف، وهو أحسن متاحف إيطاليا، فيه غرف كثيرة العدد ملئت بالنقوش على الحجر والتماثيل الرخامية والصور الزيتية ما لا يعد ولا يحصى. وفي نابولي البركان أو جبل النار لا ينقطع دخانه المتصاعد يبلغ 4000 قدم تقريبا في الجو، ولما يشتد هيجانه يقذف حجارا وصخورا ومواد أخرى مصهورة، ويسمع له صوت كقصف الرعد أو دوي المدافع يخرج من باطن الأرض، وقد تألفت شركة مدت سكة حديدية توصل إلى قمة هذا الجبل يصعدون بها إلى أعلاه ثم يعودون. ولطالما انفجر هذا البركان وألحق الأذى بالساكنين حوله، وأهم انفجار له في التاريخ حدث سنة 79 بعد المسيح حين انصبت مصهوراته الملتهبة على غير انتظار فوق مدينة بومبي ومدينة هيرا كولانوم فطمستها، وأبقت آثارهما العجيبة كما سبق القول وآثار بومبي من مشاهد إيطاليا الممدودة إلى الآن، وما زال البركان يشتد وينفجر من حين إلى حين حتى إنه بلغ درجة كبرى في سنة 306 حين علا رماده وطارت به الرياح حتى موقع الآستانة، وقد تكون من هذا الرماد وعلى شاطئ البحر جبل آخر في مدة 24 ساعة بلغ علوه 130 مترا وسماه الأهالي الجبل الجديد، وفي 1631 و1638 و1660 و1680 عاد إلى الهيجان ولم يكن ضرره كبيرا. وأما في سنة 1790 فإن مقذوفاته المصهورة أحرقت كل شيء أصابته من زرع وضرع. وفي سنة 1794 كان الانفجار شديد الهول حتى إن الرماد أحرق قرية توري التي أعيد بناؤها بعد ذلك. وفي سنة 1872 كان الانفجار أشد هولا فارتفع من فوهة الجبل عامود نار كان علوه 1300 متر، مات مئات من الأنفس في القرى المجاورة. ومن عهد ليس بعيد - أعني في شهر أبريل من سنة 1906 - هاج بركان فزوف هياجا شديدا، وفتحت له فوهة جديدة وقد ذعر أهالي القرى من قضاء سان جيوزيبه المجاورة له، وجعلوا يفرون إلى مدينة نابولي والبركان يصب عليهم نارا حامية، وكانت الأحجار تخرج من الفوهة ألوفا وتعلو لحد 3000 قدم ثم تتساقط، وجرى نهر من المواد المصهورة علوه 20 قدما وعرضه 600 قدم؛ فأغرق قرية بوسكو، وكان سيره بمعدل نصف ميل في الساعة، وكان الرماد يغطي القرى المجاورة، وتعذر على أهاليها الوصول إلى نابولي حتى إنهم لجئوا إلى الكنائس، وأصيبت قرية أوتاجانو بضرر عظيم؛ لأن الرماد أوقع سقف كنيسة سان جوزيبة فقتل فيها 150 نفسا، وعلا الرماد في قرية لتوري وتراكم فوق السوق فسقط من ثقله وقتل تحته 14 قتيلا وجرح 124، وخرب البركان القرى المجاورة له فباتت جردا ليس فيها نبت أخضر، وبلغ سمك الرماد في بعض الجهات ست أقدام، وكانت الغازات المتصاعدة من جوفه تقتل الذين يستنشقونها، وقد علموا فيما بعد أن اتساع الفوهة كان 1500 متر، وبلغ عدد الذين قتلوا في قضاء سان جوزيبة مائتين، فلما سمع ملك إيطاليا بهذا الحادث أصدر أمره إلى بعض البواخر الحربية أن تذهب إلى ثغر نابولي للإسعاف، وسار هو إليها بنفسه من رومية ومعه الملكة فذهبا إلى جبل فزوف وكان في ذهابهما خطر؛ لأن الرماد والرمال كانت تنسف في الوجوه، حتى إنها حجبت الهواء وجعلت التنفس أمرا عسيرا، ومع ذلك فإنهما تقدما ولم يضطربا، وقد زارا كل القرى المصابة، وأمرا بتوزيع 4000 جنيه للمصابين في هذا الحادث الأليم، وما زال ملك إيطاليا وقرينته يظهران مثل هذه المروءة في جميع الحوادث المحزنة، وقد خاطرا بالنفس في خرائب مسينا ورجيو الأخيرة حين دهمتهما الزلازل في أوائل سنة 1909 وقتلت من أهلهما 70 ألف نفس، وأضرت بمئات الألوف، وهي أكبر حوادث الزلزال في التاريخ الحديث، ربما كان سببها فعل هذا البركان، وما أحدث بمقذوفاته من الفراغ في جوف الأرض حتى هبط سطحها وأحدث المصاب المذكور.
جبل النار.
وضواحي نابولي كثيرة بهية الجمال، منها عدة جزر في البحر ومنها جبال وسهول يمكن أن يقضي الزائر فيها أواقيت الهناء، وأهمها من وجه تاريخي مدينة بومبي كتب مجلدات عنها وعن جبل النار، وقد كان من أمرها أنه في سنة 72 مسيحية اشتد هياج البركان وقذف من الحجارة والطين والمواد المحرقة فوق مدينة بومبي طبقة ردمتها وغطتها سمكها نحو 20 قدما، فمات في هذا الحادث نحو ألفين من الأهالي، وفر الباقون في جوانب الأرض فدفنت المدينة وطمست أخبارها من بعد هذا المصاب، وحدث في القرن الخامس عشر أن بعض المهندسين وجدوا أساس منازل مدفونة، ثم عثر بعض الفلاحين سنة 1748 ببعض الأواني المنزلية من النحاس وغيره؛ ولذلك تنبهت الأفكار إلى مدينة بومبي القديمة، فصدر أمر الملك شارل الثالث بإزالة الردم واستمر العمل أعواما عديدة، وكانوا كلما وجدوا أثرا ينقلونه إلى متحف نابولي، من ذلك هياكل الرجال والنساء محجرة وحلي ذهبية وفضية وأشكال لا تدخل تحت حصر أو قياس، وقد سرت إلى هذه الآثار مع أحد الأدلاء الذين يعينهم المجلس البلدي ولهم رواتب منه، فدخلت المدينة المتردمة وسرت في شوارعها ومماشيها، ورأيت أنه ما بقي من أثر لهذا البلد إلا جدران بعض المعابد الوثنية ومواضع للرقص وأفران ومنافذ بعض المنازل، فاعتراني من وصف الدليل على إبهامه حيرة حين تأملت تلك الخرائب والشوارع المقفرة، وذكرني حالها بعبر الدهر وغير الزمان.
ومن ضواحي نابولي «كاستلا ماره»، وهي مدينة صغيرة زاهية زاهرة مبنية على خليج نابولي غربا، تشرف على الخليج وجزره، ومنازلها ممتدة مسافة ميل على طول الشاطئ، ومنها يمكن الصعود إلى التلال المجاورة المكسوة بشجر الكستناء، وقد اشتهرت هذه الجهة ببدائع جمالها الطبيعي حتى إن الملك فردناند اتخذها مصيفا له سنة 1820 حين اشتدت وطأة الطاعون في نابولي، وأطلق عليها اسم كوي سي سانا - أي هنا الشفاء - وهي من مثابات السائحين المشهورة. وعلى مقربة منها بلدة «سورنيته»، ذهبنا إليها في طريق جميعه محاسن طبيعية، وهي مثل شقيقتها مبنية على شاطئ البحر يصطاف فيها العدد العديد من السكان والغرباء وأكثر الغرباء إنكليز وأميركان، فإنهم يرون في هذه المدينة الصغيرة كل ما يوافق ذوقهم، من ذلك الحمامات البحرية والتجول في البحر في زوارق شراعية والتنزه على الأقدام أو على الخيل والحمير ما بين الغابات، وقل أن يشتد الحر هنا، فإن الهواء البحري الغربي يرطبه وينعش الأجسام، فلما قضيت زمنا في سورنيته عدت منها إلى نابولي. وفي الغد ركبت باخرة صغيرة مع العدد العديد من السياح إلى جزيرة كابري، وهي أيضا من المصايف المعدودة، ومع أن عدد سكانها لا يزيد عن ثلاثة آلاف فهم أوجدوا فيها عددا كبيرا من الفنادق لكثرة المصطافين فيها والوافدين إليها لرؤية «المغارة الزرقاء»، وقد زرت هذه المغارة في زورق من الزوارق التي تنقل المسافرين في تلك الجزيرة، ووجدت طول المغارة من الداخل 175 قدما والعرض 100 قدم وعمقها ثماني أقدام، وسقفها الصخري لا يزيد عن أربع أقدام فوق رءوس الداخلين، وقد سميت الزرقاء؛ لأن المياه بداخلها زرقاء اللون، ولها منظر غاية في الغرابة، ويجتمع هناك غواصون من الأهالي نزلوا أمامنا للقاع، فكان لون أجسامهم أزرق كالفيروز، ثم عدنا إلى الجزيرة مع السياح، وهم يذكرون المآكل اللذيذة ورخص أثمانها، ولا سيما النبيذ، فإن الموجود منه في ضواحي نابولي من أحسن الخمور وأرخصها ثمنا، وقد جرت معامل الخمر في فرنسا على جلب المقادير الوافرة منه ومزجه مع خمورها، وهم يضعون علامة معاملهم على الزجاج ويبيعونه بأغلى الأثمان.
ومن أجمل ضواحي نابولي مدينة كازرته، ونسبتها إلى نابولي نسبة فرسايل إلى باريس، فإن فيها قصرا لملك إيطاليا من أفخر قصور الملوك في أوروبا، وهي على نحو عشرين ميلا من نابولي يقصدها خلق كثير للنزهة.
وأما أشكال الخضر والفاكهة فكثيرة في نابولي، وثمنها رخيص، وقد لا تجد في أوروبا كلها بلدا له جمال هذه المدينة ورخص المآكل فيها وتنوع المناظر في البر والبحر وغرابة المشاهد الحديثة والآثار التاريخية، وقليل بين الناس أيضا من كان مثل أهل نابولي في سرعة الاختلاط بالغريب، ولعل أهل هذه المدينة أكثر الطليان ميلا إلى الاغتراب والضرب في مناكب الأرض؛ فإن أكثر الطليان من نزلاء مصر وغيرها من أهل نابولي يعرفهم المرء لأول وهلة أينما كان من اللهجة الخاصة بهم، وقد مر عنها الكلام.
هذا آخر ما شهدت في بلاد الطليان، وقد أوجزت في وصفه لأسباب كثيرة، أهمها أن إيطاليا معروفة أكثر من سواها عند قراء العربية، وأن الوصف متقارب في أكثر الفصول، والمشاهد هنا تقرب من مشاهد أوروبا التي أطلت الكلام عنها. وإني لما انتهيت من هذه السياحة عدت إلى القطر المصري وكانت زياراتي لمدائن إيطاليا عديدة، فإني مررت بها كثيرا في الذهاب والإياب عند زيارتي للممالك التي سبق الكلام عنها في الفصول الماضية من هذا الكتاب.
الولايات المتحدة
خريستفوروس كولمبوس مكتشف أميركا.
خلاصة تاريخية
كانت القارة الأميركية برمتها من مجاهل الأرض عند الساكنين في بقية الأنحاء إلى أن قام المكتشف العظيم خرستوفر كولومبو في أواسط القرن الخامس عشر وأذهل باكتشافها العالمين. وقد ولد هذا الرجل العظيم في عام 1436 في مدينة جنوا من مدائن إيطاليا، وكان والده صاحب معمل للنسج. وأما هو فعرف من أول عهده بحب السفر وخوض البحار حتى إذا كثرت معارفه وزاد ميله إلى السفر البعيد خطر له أن يصل الهند من ناحية البحار الغربية، وجعل يفكر في ذلك زمانا ويحسب ألا بد من وجود أرض في الطريق لم يصلها سواه، فطلب من حكومة بلاده أن تعينه على اكتشاف تلك الأرض ولم يلق منها قبولا، ثم قصد حكومات البورتوغال وفرنسا وإنكلترا، فكان نصيبه منهن الإعراض حتى إنه طرق باب الحكومة الإسبانية وملكها يومئذ فردناند والملكة إزابلا، فرضيا بطلبه وأمرا بإعداد سفن قليلة تسير في عرض البحار تحت أمره، فقام من شطوط إسبانيا في 7 أوغسطس من عام 1492، وبعد سفر 65 يوما بلا انقطاع، ومعاناة متاعب شتى وصل جزائر الهند الغربية مثل كوبا وسان سلفادور، وهو الذي أطلق عليها هذا الاسم؛ لأنه ظنها جزءا من بلاد الهند المعروفة، وعاد كولومبو بعد هذا الاكتشاف إلى إسبانيا، فأكرمت وفادته وعين واليا على الأرض التي اكتشفها، ثم عاد إليها في سياحة ثانية وظل يروح ويجيء ما بين إسبانيا وتلك الجزر حتى اكتشف القارة الأميركية بنفسها في رحلته الرابعة عام 1502 عند شطوط فنزويلا في أميركا الجنوبية.
وكثر الكارهون للمكتشف العظيم بعد اشتهار أمره حتى إنه حرم لذة اكتشافه، فمات حزينا والناس لا يعرفون قدره، وتوافد المكتشفون على أميركا من بعده وكان في جملتهم ربان اسمه أميركو عرف باكتشاف مصب نهر الأمازون في بلاد برازيل وسميت القارة كلها باسمه، وظل الناس بعد ذلك في اكتشاف حتى عرفوا جوانب القارة الأميركية كلها في زمان قصير، وكان للدولة الإسبانية القسم الأوفر منها ولا سيما في القارة الجنوبية ما خلا بلاد البرازيل؛ فإنها ملكتها البورتوغال وظلت في قبضتها زمانا.
وكان الهولانديون والفرنسويون والإنكليز يومئذ في بدء قوتهم فأخذوا يملكون الأراضي الأميركية، وكان معظم أملاك الإنكليز في شمال الولايات المتحدة وإلى شمالهم الفرنسويين في بلاد كندا وإلى الجنوب منهم الهولانديون، ولكن الإنكليز حاربوا هاتين الأمتين وانتصروا عليهما، فصارت كندا ونيويورك وأكثر الولايات المتحدة من أملاكهم، ثم تقهقرت الدولة الإسبانية فاستقل معظم البلدان الأميركية التي كانت خاضعة لها وانفصلت بلاد البرازيل عن دولة البورتوغال، وصار للقارة الأميركية شأن عظيم.
أما الولايات المتحدة فإنها ظلت تحت حكم إنكلترا إلى سنة 1776 حين هبت للثورة، ومعظم سكانها يومئذ مهاجرون من بلاد الإنكليز ساءهم أن حكومة بلادهم قررت عليهم ضرائب فادحة، ولم تنظر إلى بعض مطالبهم؛ فأرسلوا إليها يطلبون أن يكون لهم نواب في مجلس الأمة الإنكليزية يناضلون عن حقوقهم أسوة بالإنكليز الذين تطلب منهم الضرائب والرسوم، فامتنعت حكومة إنكلترا عن إجابة هذا الطلب وزادت الضغائن بين الطرفين حتى اجتمع نواب الأميركيين من الولايات كلها، وهي في ذلك الحين ثلاث عشرة ولاية وقرروا محاربة الدولة الإنكليزية والانفصال عنها وتأسيس حكومة مستقلة وجعلوا جورج واشنطن الشهير قائد جنودهم، ومن ثم دارت رحى الحرب، وكان النصر في أكثر مواقعها للأمير كان وساعدتهم فرنسا على الإنكليز، ففازوا بالاستقلال المرغوب وأسسوا جمهورية مستقلة كان رئيسها الأول جورج واشنطن الذي ذكرناه، وسنوا نظاما بديعا لبلادهم هو على حاله إلى اليوم، وسنعود في فرصة أخرى إلى بيانه.
ورقيت الولايات المتحدة بعد استقلالها مراقي العز والفلاح، وفتحت أبوابها للراحلين والمهاجرين من كل بلاد حتى تقاطر إليها الألوف والملايين فعمروا البلاد واستدروا خيرها، وزادوا قوة البلاد وعظمتها في عهد قريب حتى إن هذه الجمهورية العظيمة اشترت من فرنسا ولاية لويزيانا في الجنوب بعد استقلالها بقليل - أي سنة 1803 - واستولت على فلوريدا وهي في الجنوب أيضا عام 1818، وعلى تكساس وكالفورنيا ومكسيكو الجديدة عام 1846، وكانت كلما ملكت أرضا تجعلها ولاية مثل بقية الولايات المتحدة حتى عم شأن البلاد، وزاد عدد سكانها زيادة عجيبة، فإن عددهم لم يزد أول القرن الغابر عن خمسة ملايين، وصار 12 مليونا في سنة 1813، و23 مليونا في سنة 1850، و35 مليونا في سنة 1866، و50 مليونا في سنة 1880، وهو الآن لا يقل عن 85 مليونا، منهم 77 مليونا من أصل أوروبي، و16 من العبيد و6 من الهنود الأصليين، ومعظم العنصر الإفرنجي في أميركا من أصل إنكليزي، فأفراد هذا الجنس الآن نحو 35 مليونا، ومعهم 15 مليونا من أرلاندا و13 من ألمانيا و5 من فرنسا، و4 من إسبانيا و5 من أجناس أخرى.
جورج واشنطن أول رئيس لجمهورية أميركا.
وفي الولايات المتحدة الآن أكثر من مائتي ألف ميل من السكك الحديدية، منها الخط الذي يوصل نيويورك بسان فرانسيسكو على شاطئ الباسيفيك، وهو يخترق القارة الأميركية من الشرق إلى الغرب مسافة 3500 ميل أو خمسة أيام ونصف يوم متوالية في القطر المستعجلة .
وتحاربت الولايات المتحدة وإنكلترا مرتين بعد الاستقلال كان النصر فيهما أكثره للأميركان. وفي سنة 1861 نشبت في البلاد حرب أهلية هائلة دامت 4 سنوات بين أهل الولايات الشمالية والولايات الجنوبية، بسبب أن أهل الشمال أرادوا إبطال النخاسة واستعباد البشر وخالفهم أهل الجنوب لكثرة ما عندهم من مزارع القطن والسكر والعبيد، فتحارب الفريقان حربا يذكرها معظم كبراء الأميركان إلى الآن، ففاز أهل الشمال بعد أهوال جمة، وألغي الاستعباد من تلك البلاد الحرة، وقد اشترت الولايات المتحدة بعد هذه الحرب بلاد ألاسكا من روسيا وحاربت إسبانيا سنة 1898 ففازت، وظهر للملأ اقتدارها، وهي اليوم أغنى دول الأرض بلا مراء، ولها قوة تحاكي قوة أعظم الممالك الأوروبية، وشأن في الخافقين عظيم.
وقد توالى الرؤساء على هذه الجمهورية من بعد استقلالها، فكان أولهم جورج واشنطن وتلاه آخرون أهمهم إبراهام لنكون الذي حدثت الحرب الأهلية السابقة الذكر على عهده. والرئيس ينتخب مرة كل 4 سنوات، كان راتبه في أول الأمر 5 آلاف جنيه في السنة، ثم صار 10 آلاف وهو الآن 15 ألفا، واسم الرئيس الحالي تافت والرئيس السابق روزفلت، وكلاهما من أعاظم الرجال، وقد زادت قوات أميركا البحرية في الزمان الأخير حتى إنها أصبحت الثانية بين دول الأرض في قوة أساطيلها، ولكن جيشها البري قليل الأهمية، وأما صناعة هذه البلاد وتجارتها فإنهما نمتا نماء هائلا عجيبا كما نما السكان في عددهم حسب البيان الذي ذكرناه.
المعرض الأميركي
لما اشتهرت مصر وسارت في سبيل الحضارة والارتقاء بعد الذي فعله ولاتها العظام من آل محمد علي باشا، صارت الدول العظمى تنظر إليها وتعدها في مصافها عند كل حادثة علمية أو تاريخية كبرى، ولا سيما من بعد أن فتحت ترعة السويس على عهد المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وما كان من احتفاله الباهر بافتتاحها؛ فإنه كما يعلم الجمهور فاق الأوائل والأواخر في السخاء على الاستعداد لتلك الحادثة المشهورة، ودعا إليها ملوك الزمان، وأعد لهم فوق الذي يليق بأهل الأبهة والسلطان، فجاء هذا القطر السعيد ملوك عظام في مقدمتهم إمبراطور النمسا وإمبراطورة فرنسا السابقة - نريد بها أوجيني أرملة نابوليون الثالث - وجاء الأمراء الفخام مثل ولي عهد السلطنة الإنكليزية، والوزراء النائبون عن بقية الملوك، فزادت شهرة مصر زيادة كبرى، وجعلت الدول من بعد ذلك الحين تدعوها إلى معارضها ومؤتمراتها، فهي دعيت رسميا لمعرض باريس العام سنة 1867 ولمعرض فيينا الذي تلاه. ولما أقامت دولة الولايات المتحدة معرضا عاما في مدينة فيلادلفيا عام 1876 احتفالا بمرور مائة عام على استقلالها - كما ترى في الخلاصة التاريخية - كانت مصر في عداد الدول المدعوة؛ فصدر أمر إسماعيل باشا الخديوي بتشكيل لجنة في مصر تعد المعدات اللازمة للقسم المصري في ذلك المعرض، وكان رئيس اللجنة توفيق باشا الخديوي السابق - رحمه الله - وهو يومئذ ولي عهد الخديوية المصرية؛ فجمعت هذه اللجنة شيئا كثيرا من الأبضعة المصرية والحاصلات الطبيعية، كسن الفيل وريش النعام والصمغ وخشب الأبنوس والسنمكة والخرتيد من السودان، ومصنوعات فضية كالصواني وعلب السجارة وظروف وفناجين وأطباق وسلال قش من عمل السودانيين. وأخذت من محصولات مصر قطنا وغلالا على أنواعها، وأخذت من المتحف المصري مثالا للأهرام بديعا وبعض الحلي والآثار الثمينة، ووضعت هذه كلها مع حاصلات البلاد ومصنوعاتها في صناديق عدتها مائة وخمسون، على أن ترسل إلى المعرض الأميركي، فلما انتهت من ذلك صدر الأمر بانتخاب رجال ينوبون عن البلاد المصرية في ذلك المعرض وترسل معهم تلك التحف والرواميز، فوقع الانتخاب على دانينوس باشا وبروغش باشا وكاتب هذه السطور، وورد علينا كتاب من دولتلو نوبار باشا ناظر الخارجية في ذلك الحين يعلننا بالانتقاء لهذه المهمة بأمر من سمو الخديوي، ويشير علينا بالإسراع في السفر إلى الولايات المتحدة حتى نكون في المعرض يوم افتتاحه في أول مايو سنة 1876، فصدعنا بالأمر ومثلنا بين يدي الخديوي فأوصانا بالاجتهاد وإتقان شكل المعرض المصري؛ حتى يكون من ورائه شهرة لمصر ومقام مذكور، ثم تشرفنا بمقابلة ولي عهده توفيق باشا، وهو رئيس اللجنة التي مر ذكرها فسر بانتقائنا لهذه المهمة، وسألنا أن نرسل إليه كل أسبوعين تقريرا عن المعرض وشئونه، وأعطانا رسمه الكريم فخرجنا من لدن الأمير وولي عهده معجبين، وبدأنا بالاستعداد للسفر بدون إمهال.
وتركنا مصر وجهتنا الإسكندرية، ومنها ركبنا باخرة من بواخر الشركة الإنكليزية الشرقية في 8 نوفمبر سنة 1875، وكان ذلك أول عهدي بالسفر إلى الغرب، فعسر علي أمره لا سيما وأنه كان في فصل الشتاء حين يكثر البرد القارس في جهات أوروبا وأميركا، ويشعر به الذي يعرف شتاء مصر اللطيف. ووصلنا مدينة برندزي في إيطاليا بعد سفر أربعة أيام، فخرجنا من السفينة إلى قطار كان في انتظار الركاب والبريد لينقله إلى لندن، فقام بنا القطار يمر حينا على المين الإيطالية الواقعة على بحر الأدرياتيك، مثل أنكونا، وحينا يوغل في داخل البلاد ويمر بمدائن مشهورة، مثل فوجيا وإسكندرية وبارما حتى وصل بعد ثلثي ساعة إلى مدينة تورين، وهي من مدائن إيطاليا الزاهرة ترى وصفها ووصف غيرها في باب إيطاليا من هذه الرحلة، وقمنا من تورين على عجل إلى مدينة باريس في قطار سريع يسير بين الجهتين، ويخترق جبال الألب المشهورة، ويدخل في نفق تحت الأرض نقبوه لهذه الغاية عند جبل سيني. فلما وصلنا حدود فرنسا عند مدينة مودان خرجنا من القطار الإيطالي إلى قطار فرنسوي جعل يخترق الهضاب والبطاح، ويمر بالأراضي العامرة، مثل بلاد شامبيري وماكون وديجون حتى وصل باريس بعد سفر 21 ساعة.
وقمنا من باريس في قطار سريع (إكسبرس) إلى حدود فرنسا لنبحر منها إلى بلاد الإنكليز، فلما أتينا فرضة كاليه، وهي أقرب المين الفرنسوية إلى إنكلترا دخلنا باخرة تسير في بحر المانش وشعرنا في الحال بصعوبة السفر في ذلك البحر المزيد الطامي وله شهرة ذائعة في كثرة أمواجه وعلوها؛ لأنه خليج قليل عرضه حصر بين بحرين واسعين، فهو آفة المسافرين من بلاد الإنكليز وإليها، أصابنا فيه الدوار الشديد كما يصيب سوانا حتى أتينا على آخره ورست الباخرة على مينا دوفر في بلاد الإنكليز، فخرجنا من الباخرة إلى قطار أعد على الشاطئ وسرنا به إلى مدينة لندن فبلغناها في اليوم السابع من مبارحة الإسكندرية، ورأينا على المحطة فيها جناب المستر تيلر قنصل أميركا السابق في مصر، فرحب بنا ودعانا إلى منزله في ويتشموند، وهي من ضواحي لندن.
وفي اليوم التالي رأينا المرحوم الطيب الذكر سليم بسترس - وكان لنا معه علاقات وداد - ففرح بوصولنا وسر لمأموريتنا، ودعانا إلى منزله الفخيم في شارع الملكة. وسرت أيام قليلة علينا في لندن أخذنا بعدها تذكرة السفر إلى نيويورك في باخرة من بواخر شركة كيونارد - ومقرها في لفربول - فسافرنا من لندن في يوم كثر ضبابه واشتد برده إلى درجة جعلتني أفكر في مصر وسمائها الصافية وهوائها العليل، حتى إذا وصلنا مدينة لفربول سرنا إلى الباخرة توا وقمنا إلى أميركا في 27 نوفمبر سنة 1875، فلما وصلت بنا إلى كوينستون وقفت قليلا لتأخذ ما يرسل إلى هذه الفرضة من بريد لندن، ثم عادت تمخر في عباب البحر، ولا وقوف من بعد ذلك الموضع حتى تستقر في مينا نيويورك، والمسافة بين الجهتين 3000 ميل، وكان يوم سفرنا من بلاد الإنكليز إلى أميركا جميلا، والهواء معتدلا فلم نلق عناء كبيرا. ورأينا في أثناء المسير دخانا يصعد من تحت الماء وبخارا يخرج من البحر، فعرفنا أن ذلك من بركان تحت الماء وحرارة في داخل الأرض، وكان من أمر بعض النوتية أنهم ألقوا أدلية في الماء وانتشلوها ملأى بماء حميم، كل هذا مع أن الماء بارد في هاتيك النواحي، ويزيد برده في جهات «نيوفوندلاند»، حيث يجمد الماء وتطفو منه على وجه البحر قطع كبرى إذا اصطدمت بها البواخر لحق بها أذى كبير، وأصحاب السفن يحذرون شرها ويحسبون لها فوق حسابهم للأنواء والعواصف، وظللنا على مثل هذا الحال إلى اليوم السابع حين خيم الغسق وملأ الضباب جوانب الأفق، فتعذر على باخرتنا المسير، فأمر الربان بأن تسير الباخرة على مهل، وجعل يطلق الأسهم النارية في الفضاء والمدافع أيضا تحذيرا للسفن القادمة من الاصطدام وتنبيها، فكان من وراء ذلك اشتغال بالنا زمانا بهذا الأمر حتى إذا خلصنا منه وظهر نور الشمس، هاج البحر وعلت أمواجه فتأملتها ووجدتها أشد هولا من أمواج البحر المتوسط، وهي تختلف عنها في أن لونها قاتم، والفترة بين الموجتين طويلة وأما البحر المتوسط فإن أمواجه أصغر ولون مائها ضارب إلى الزرقة، وهي سريعة التوالي موجة بعد أخرى، وظل البحر في هياج كهذا يومين كاملين، ونحن تارة نصعد مع الباخرة فوق الماء كمن يرتقي جبلا وطورا ننحط كأنما نحن في واد أو حضيض، حتى إننا لما فررنا من هذا الهول إلى غرف النوم وعولنا على تناسي الموج جعلنا ننقلب من هنا ومن هنا، ونكاد في بعض الأحيان نهوي من السرير بسبب ميل السفينة مع الأمواج ميلا شديدا، ولكن الأزمة فرجت في اليوم الحادي عشر من هذا السفر حين علمنا أننا صرنا على مقربة من أميركا، وخرجنا إلى ظهر الباخرة نتفرج فإذا نحن تجاه الشطوط الأميركية، وقرب فرحنا في تلك الساعة من فرح كولومبو مكتشف هذه القارة. وكان أول ما رأيناه من العالم الجديد منارة جزيرة فاير، ثم بعد أن سرنا ثلاث ساعات دخلنا خليج ساندي هوك، وسارت الباخرة إلى أن دخلت ما بين جزيرة ستاتن وجزيرة أخرى اسمها لونغ آيلند، وبعد حين ظهرت مدينة بروكلين، وهي ملاصقة لنيويورك إلى جهة اليمين يفصل بينهما نهر، ثم ظهرت مدينة جرزي، وهي أيضا ملاصقة لنيويورك إلى جهة الشمال، فهي مثل الآستانة يرى القادم إليها هاتين المدينتين كما يرى الداخل إلى الآستانة قاضي كوي إلى اليمين وبرنكبو إلى الشمال.
نيويورك
في اليوم الثامن من شهر ديسمبر سنة 1875 استقر النوى بالباخرة، وألقت رحلها في مينا نيويورك، وكان ذلك بعد قيامنا من الإسكندرية بشهر كامل، وهو زمان طويل لو يذكر القارئون. ولكن طرق السفر والإسراع تقدمت في هذه الأعوام الأخيرة حتى صار الوصول من مصر إلى نيويورك ممكنا في 11 يوما فقط، وحين خرجنا من السفينة إلى الجمرك وأراد عماله أن يفتشوا ما معنا من الأمتعة أعلمناهم بالمهمة التي كنا فيها، وأبرزنا الأوراق اللازمة فرحبوا بنا ترحيبا وسهلوا طرق الخروج، ومن ثم استأجرنا عربة توصلنا إلى الفندق الذي اخترنا النزول فيه، وهو «ففث أفنيوهوتل»، وهو إلى اليوم من أكبر فنادق هذه المدينة العظيمة وأفخمها وأوفرها استعدادا، فلما صرنا إليه طلب منا مديره أن نسجل أسماءنا والجهات التي قدمنا منها حسب العادة المتبعة في أكثر الفنادق المعروفة، ثم سألنا أن ندخل غرفة ظننا أنها لراحة المسافرين، فدخلناها ورأيناها مفروشة بالرياش الكامل، وفيها الكراسي والطنافس والسجف والمرايا وغيرها، حتى إذا جلسنا فيها تحركت من نفسها وصعدت بأكملها إلى الأدوار العليا من البناء، فعلمت حينئذ أنها الآلة الرافعة التي يستغنون بها عن الدرج، وكان ذلك أول عهدي بهذه الآلة واسمها الأسنسور أو «لفت» في لغة الأميركان والإنكليز، وفي فنادق العاصمة المصرية اليوم منها أشكال بديعة، وهي من اختراعات الأميركان، نقلها عنهم أهل أوروبا وشاع استعمالها على ما تعلم، وبعد أن غيرنا الملابس في غرف النوم نزلنا إلى قاعة رحيبة واسعة الجوانب أعدت لموائد الطعام، وقد وقف من حولها الخادمون بأنظف الملابس وعدتهم ستون من العبيد الأميركان، فبدأنا بالأكل ورأينا اختلافا عن فنادق أوروبا في النظام، فإن الفنادق الأوروبية يجوز في أكثرها للسائح أن يأكل أينما أراد، وأما في فنادق أميركا فالمرء يدفع أجرة اليوم بأكمله، ولا بد له من الأكل فيها، غير أنهم قد سهلوا ذلك على الناس فجعلوا للفطور وللغداء وللعشاء أوقاتا يمكن معها للأكثرين أن يحضروها، فإن فطور الصبح يمكن تناوله هنالك من الساعة السادسة في الصباح إلى الساعة العاشرة، والغداء من الظهر إلى ما بعده بساعتين، والعشاء من الخامسة بعد الظهر إلى السابعة أو من السابعة إلى التاسعة. وتمتاز فنادق أميركا عن فنادق الأوروبيين الآن في أن أكثرها يأكل فيها الواحد الأصناف التي يختارها من كشف يقدم إليه، وفيه جميع الألوان والمسافر، يدفع المطلوب عن الأيام التي يقيمها في الفندق ويستريح من دفع الذي يدفعه في الفنادق الأوروبية ثمن الشمع أو الخدمة أو غير هذا، ومما ينقده للخادمين على سبيل «البخشيش»؛ فإن الرجل قد يدفع في أوروبا إلى هؤلاء الخادمين رسوما على مثل ما ذكرنا تقرب في قيمتها مما يدفعه إلى أصحاب الفنادق ثمن الطعام وأجرة النوم، أما المطاعم الأميركية فإنها على نسق المطاعم الأوروبية.
وقد بدأ الأميركان من عهد ليس ببعيد باستخدام البنات للخدمة في المطاعم، فعم هذا النظام في أكثر المحلات المشهورة، وصار ذلك مزية لفنادق الأميركان ومطاعمهم وداعيا إلى التشويق والإتقان. وتمتاز فنادق الأميركان أيضا في أن أهل البلاد يجعلونها مساكن للعائلات أكثر من سواهم، وفي مدائن الولايات المتحدة عائلات كثيرة تسكن في الفنادق، وتؤثر ذلك على استئجار البيوت وإدارتها، ولو أن فيه زيادة في الإسراف. وفنادق الأميركان كاملة العدة فيما يلزم لراحة النازلين فيها من الحمامات ومواضع الغسل والحلاقة وغير ذلك، وفي غرف النوم رفوف مرتفعة قليلا توضع عليها الصناديق والأمتعة ولا ترمى في الأرض، وفي ذلك حرص على الشيء نفسه من التلف وعلى راحة المسافر؛ لأنه إذا فتح صندوقا له لم يتكلف الانحناء إلى الأرض ولم يجد مشقة، وفي أكثرها آلات من الخشب تنزع الأحذية من الرجل بدل أن تتعب الأيدي بها، وأمور أخرى تدل على انتباه الأميركان وإتقان أعمالهم. وفي «الففث أفنيو هوتل» هذه أولاد نجباء يلبسون الكساوي المميزة لهم عن سواهم، وهم تعينهم البلدية لقضاء الأغراض وإيصال الرسائل من الفندق إلى أنحاء المدينة بأجرة تقدر على نسبة المسافة التي يسيرونها.
وكنا قد أتينا بكتب إلى بعض الوجهاء أكثرها توصيات، ومنها كتاب إلى والد المستر تيار الذي مر بك ذكره، وهو من أصحاب الملايين الكثيرة، وله منزل في ففث أفنيو حيث أقيم الفندق الذي كنا فيه، وهو أحسن شوارع المدينة وأبهاها، وجاء على أثر قدومنا كثيرون من مكاتبي الجرائد طلبوا مقابلتي لأخبرهم ما أعلم عن مصر وحصتها في المعرض العام فحدثتهم بما يريدون وانثنوا وهم يشكرون، ثم جعلوا يكتبون عن القسم المصري في المعرض وعما سيكون من غرابته أمورا شتى، ولا سيما إذا ذكروا أنه سيكون فيه آثار بالغة في القدم تشهد باقتدار أمة نمت وعظمت من خمسة آلاف عام، في حين أن بلادهم لم يمر على استقلالها وبدء عظمتها غير مائة عام.
ولا بد من إفراد قسم من هذا الكتاب لوصف نيويورك، فأقول: إن تاريخها يقرب من تاريخ الولايات المتحدة كلها أو بعضه؛ فقد قيل إن أول من وطأ أرضها السنيور فرازاني في سنة 1524، ولكن المعروف أن إنكليزيا اسمه هدسن كان من عمال الشركة الهولاندية، جاء النهر الشمالي الذي يحد نيويورك من جهتها الغربية ومعه بعض السفائن الهولاندية، وقد سمي النهر ومصبه باسمه إلى هذا اليوم فرفع عليها العلم الهولاندي في سنة 1624، وكان أول حاكم هولاندي عليها رجلا اسمه بيتر منوي اشترى تلك الأرض التي بنيت عليها المدينة من أصحابها الهنود الأصليين بخمسة جنيهات، وسماها أمستردام الجديدة على اسم المدينة الكبرى في بلاده. وتوالى على نيويورك الحكام الهولانديون بعد من ذكرنا إلى سنة 1650، وهي لا يزيد عدد سكانها يومئذ عن ألف نفس أكثرهم يشتغلون بتجارة الخشب والغراء، والهنود يتهددونهم من كل جانب حتى جاءها الإنكليز في سنة 1664 واحتلوها وملكوها، وقائد جنودهم يومئذ الكولونيل نيكولسون سماها نيويورك باسم الدوك أوف يورك، الذي صار فيما بعد الملك جيمس الثاني، وكان امتلاك الإنكليز لهذه المدينة فاتحة الإقبال على الولايات المتحدة؛ لأنها مفتاح البلاد ودليل خيرها الوافر وربوعها الواسعة، فتوافد عليها الألوف من كل جانب، ولا سيما من إنكلترا وأرلاندا وتفرقوا في جوانب البلاد فعمروا المدائن العظيمة، مثل بوسطون وفيلادلفيا، وهي كلها من المدائن العامرة، فلما رأت الحكومة الإنكليزية أن البلاد التي ملكتها حديثا بلغت هذه الدرجة من الأهمية عنيت بتنظيمها وتقسيمها 13 ولاية، وكان من أمرها ما كان إلى أن استقلت في 4 يوليو من سنة 1776 على مثل ما رأيت في الخلاصة التاريخية، وكان لمدينة نيويورك النصيب الأوفر في المحاربة والاستقلال، فتحها واشنطن عنوة وطرد الإنكليز منها فكان ذلك داعيا إلى خروج الجنود الإنكليزية من البلاد كلها.
ونيويورك هذه تعد جزيرة؛ لأنها واقعة بين نهرين يجعلانها كثيرة الطول قليلة العرض، أحدهما نهر الشمال غربا وثانيهما نهر الشرق شرقا، ولها الآن مينا جميل وافر الاتساع يكفي للعدد العديد من السفن التي تصله وتقوم منه كل يوم، طوله ثمانية أميال وعرضه يقرب من خمسة، وهو يمثل ما وصلت إليه التجارة البحرية في هذه الأيام من اتساع النطاق ، فإن نيويورك أول أساكل الولايات المتحدة وأكبر مراكزها التجارية تقرب تجارتها من ثلثي تجارة البلاد كلها، فقد لا يقل عدد السفن التجارية التي تزورها سنويا عن عشرة آلاف، وهي فوق هذا مركز المهاجرة إلى الولايات المتحدة، والمهاجرة من أهم الأمور هنالك؛ لأن البلاد ما عمرت إلا بالملايين التي جاءتها من كل صقع وصوب، ولا يقل عددهم عن نصف مليون نفس كل سنة وأكثرهم يقيمون فيها زمانا ثم يضربون في مناكب الأرض ويتفرقون منها في جوانب البلاد؛ ولذلك زاد عدد سكانها زيادة مدهشة ولا سيما بعد أن ضمت إليها مدن بروكلين ولونغ آيلند، ومن عهد ليس بعيد أضيف إليها بعض البلاد المجاورة فأصبحت مساحتها 326 ميلا مربعا، وسكانها أربعة ملايين، فهي المدينة الثانية في العالم. ولنيويورك مزية خصوصية على بقية المدن المشهورة بعلو بناياتها المؤلفة من 18 طبقة إلى 30 طبقة، ويقال إنهم يقيمون الآن أعظم ما فيها من الأبنية، فيه 41 طبقة وعلوه 186 مترا، وفيه أربعة آلاف غرفة للنوم وللجلوس، وفيه المطاعم والمخازن والقهاوي ودوائر تجارية، والبناء على العموم يضم 6000 نسمة يشتغلون ويأكلون ويشربون وينامون ويجدون كل ما يحتاجونه كأنهم في مدينة، ومساحة أرضه أربعمائة ألف قدم مربع، وستكون قيمته مليوني جنيه.
نموذج بناء في نيويورك يسع 6000 نسمة.
وفي نيويورك 344 فندقا، منها 51 يسع الواحد منها 600 شخص، وفيها 98 مرسحا للتمثيل و26 غابة وحديقة للنزهة، وسكك الحديد الداخلية تنقل أربعة ملايين راكب في كل يوم، ولا أزيد القارئ علما بثروة الأميركيين، بل إني أذكر واحدا منهم - وهو روكفلر - إيراده فيما يقال يزيد عن 4 ملايين جنيه في السنة، وأغنياؤهم يبذلون المال في الأعمال النافعة، مثل مساعدة المدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية، فإن روكفلر وهب في سنة واحدة - وهي سنة 1907 - نحو 40 مليون ريال، والست ساج 13 مليونا، وكرنجي 8 ملايين، والست جنيش 5 ملايين، وقس على ذلك. ولنساء الأميركان الأغنياء ولع يقرب من الجنون بإنفاق الأموال على الملابس وغيرها، ذكر سنكلير - وهو عالم خبير بهذه الأمور - أن السيدة منهن تصرف على جلباب حرير مطرز من الزي الباريزي نحو 300 جنيه، وتعمل له قبعة تلائمه بمبلغ 50 جنيها، وقبعات الربيع بنحو مائتي جنيه، وتشتري الحذاء من جلد الأيائل وأزراره من صدف اللؤلؤ بعشرين جنيها، وملابس لحفلات الرقص مزخرفة بالفضة على أشكال الزهور ولها ذيل مرصع بالجواهر ثمنها 1200 جنيه غير ما عليها من الجواهر، وتدفع ثمن المنديل عشرة جنيهات، وثمن الجوارب الحريرية عشرة جنيهات، وثمن مظلة قبضتها ذهب ولؤلؤ خمسين جنيها، وبعضهن يلبسن الثوب مرة أو مرتين ثم يهملنه، وقد قدرت ثمن الحلي على إحدى السيدات بخمسين ألف جنيه وهي ذاهبة لحفلة رقص وكان معها أحد رجال البوليس السري يحرسها بالذهاب والإياب. ولما اشتهرت ثروة الأميركان في أوروبا جعل كل ذي لقب برنس ولورد وكونت وبارون يطلب الاقتران بأميركية، فمنهم اللورد كرزون والي الهند السابق، والدوك أوف مارلبرو، والمستر شامبران، والديوك أوف مانشستر، وغيرهم من الإنكليز تزوجوا الأميركيات، هذا غير سراة الفرنسيس والألمان والمجر وسواهم من الذين تزوجوا بنات الأميركان، حتى قيل إن المبالغ التي اكتسبتها أوروبا من المثريات الأميركيات لا تقل عن خمسين مليونا من الجنيهات.
وقد خططت شوارع نيويورك الأصلية من الشرق إلى الغرب تقطعها شوارع أخرى على زوايا قائمة، فتجعل منظر الطرق الكبرى متشابها يضلل الغريب لولا أن لها نمرا فوق كل منزل أو باب تدل عليه، ونمرت الشوارع من واحد إلى ما فوق، فما على الغريب إلا أن يطلب عدد الشارع، فإذا وصله رأى نمرة المنزل على اليمين أو على الشمال وهي طريقة بسيطة يسهل حفظها على الغريب. وقد بدأت التفرج على هذه المدينة من شارع وول وأوله عند البحر، ولشارع وول هذا أهمية؛ لأن به الأعمال المالية الكبرى، وفيه الأبنية العظيمة، أذكر منها البورصة، وهي بناء فخيم من المرمر، دخلناها مع بعض الأصدقاء وسمعنا فيها من الغوغاء ورأينا من الحركة ما يعسر وصفه، فإنهم قدروا أن قيمة الذي يباع في هذه البورصة من أسهم السكك الحديدية وحدها تبلغ مليون جنيه في كل يوم، ولاحظت هنالك لأول مرة أن كثيرين من الأميركان يمضغون الدخان مضغا، وقد وضعت لهم براميل صغيرة في زوايا القاعة ليبصقوا بها، وأذكر أيضا بناء عظيما لأعمال التأمين على الحياة وفي داخله 1500 عامل، وإلى القرب منه مصارف ومحلات تجارية كبرى فيها من الحركة التجارية ما يشهد لهذه المدينة بالتقدم في مضمار الأعمال المفيدة.
ويلي هذا في الأهمية شارع عظيم اسمه برودواي أو الطريق العريض، وهو طويل يمتد مسافة خمسة أميال على خط واحد، وفيه عمارات عظيمة عمومية، أذكر منها محل البوسطة وفيها 2500 عامل وخلفها المجلس البلدي والمحكمة التي أنفقوا على بنائها وزخرفها نحو مليونين وأربعمائة ألف جنيه، وقد سرت في هذا الشارع واجتزت نحو ميلين بين صفوف البناء الفخيم حتى بلغت المكتبة العمومية التي بناها آل إستور الكرام، وملئوها بنفائس المؤلفات ومفيد الكتب، وأنفقوا عليها حوالي ثلاثمائة وأربعين ألف جنيه، وهم من العائلات العريقة في المجد الوافرة اليسار في أميركا، تقدر ثروتهم الآن بنحو ستين مليون جنيه أو تزيد، وتعد من أغنى العائلات في الدنيا، وكان عدد الكتب في هذه المكتبة يوم زرناها 280 ألف كتاب، وعدد الذين يدخلونها للمطالعة والبحث عما يفيد 70 ألفا في السنة.
وإلى مقربة من هذا الشارع طريق الأشراف والسراة ومقر آل اليسار والنعمة - نريد به «ففث أفنيو» الذي ذكرناه - وفيه الفندق الذي اخترنا النزول فيه مدة إقامتنا بمدينة نيويورك، وفيه ميدان ميدسون حيث أقيمت التماثيل لعظماء الأميركان وقوادهم، منهم أمير البحر فاراجوت والجنرال ورث، والمستر ستورت الذي كان وزير الخارجية مدة الحرب الأهلية، وواصلنا المسير من هذا الشارع إلى شارع 51، وفيه كنيسة قديمة يتبعها أرض زادت قيمتها زيادة فاحشة بعد أن تقدمت المدينة وعلت أسعار أرضها، فباعوا جانبا منها بأربعمائة ألف جنيه أنفقوه على تجديد بنائها. وإلى جانبها بيت آل فاندربلت، وهم من أغنى أهل الأرض، وقد عني ببناء هذا القصر جد المستر فاندربلت الحالي، وهو الذي جمع المال كله وأورثه لابنه وبناته، وكنت قد رأيت هذا الرجل في الصعيد وتعرفت به لما ساح في مصر، فوددت مقابلته ولكنني علمت أنه غائب فوقفت أتأمل بيته وتلك الزخارف المدهشة التي أنفق الرجل عليها بعض ملايينه.
وظللت على المسير حتى وصلت الحديقة العمومية، وهي في عرف الأكثرين من أجمل حدائق الأرض، تبلغ مساحتها 480 فدانا، وقد جاء في كتاب بادكر أنه صرف عليها ثلاثة ملايين جنيه، فلا عجب إذا كانت جنة زاهرة وروضة باهرة تحيي بجمالها النفوس وتختلب بمحاسنها العقول، ذلك مع أنها كانت قبل غرسها مستنقعا تضر روائحه بالأبدان، فصيرها المال وهمة الرجال جنة تجري من تحتها الأنهار، وهي يدخل إليها من 20 بابا، فيها أربعمائة فدان غرست بباسق الأشجار ولطيف الأزهار، و43 فدانا يتدفق منها الماء ما بين جداول وبحيرات تسحر الأنظار وبقية أرضها طرق مرصوصة بالحصى أو شوارع فسيحة بعضها للعربات، وطولها عشرة أميال، وبعضها لراكبي الخيل وطولها ستة أميال وبعضها للمارة على الأقدام وطولها ثلاثون ميلا، وفي قسم منها القناطر البديعة بنيت لوقاية الناس من المطر فإذا زرت الحديقة في أحد أو عيد رأيت ما ترقص له القلوب طربا من اجتماع الجمال الطبيعي بجمال الصناعة، والتقيت بألوف وعشرات الألوف من المتفرجات والمتفرجين في هاتيك الطرق البهية، والموسيقى تعزف بالألحان، والناس ما بين راكب وماش يسمعون وينظرون، وآخرون في قوارب بديعة الصنع تجري فوق ماء البحيرات البهية، وآخرون في المطاعم أو فوق الكراسي بين أدغال الحديقة وأزاهرها والكل في نعيم يمرحون، وعند باب الحديقة معرض ومسلة مصرية هي التي أهداها الخديوي إسماعيل باشا للجمهورية الأميركية، ونقلت من مصر على نفقة المستر فاندربلت الغني الذي سبق ذكره، وقد كنت واقفا في الإسكندرية يوم جاء المهندس الأميركي ونزع هذه المسلة من موضعها، وهي من أيام الملك توتميس الثالث، أمر بصنعها قبل المسيح بنحو 1500 سنة، وعليها الكتابات الهيروغليفية بهذا المعنى، ثم زاد الملك رعمسيس الثاني اسمه عليها بعد ثلاثة قرون - أي في أيام موسى النبي - وهي تبلغ 69 قدما في طولها، ووزنها مائتا طونلاتة، بلغت نفقات نقلها إلى نيويورك عشرة آلاف جنيه؛ لأنه صنع لها أدوات خاصة بها وباخرة قامت لهذا الغرض.
وأما المتحف الذي أشرت إليه فلم يكن يوم زيارتي له بالشيء الذي يذكر، بل إن فيه رسوما وصورا تقل كثيرا في العدد والقيمة عما في متاحف أوروبا؛ وسبب ذلك واضح هو أن متاحف الأميركان جديدة لم تمر عليها الأعوام حتى يجتمع فيها مثل ما في متاحف أوروبا من النفائس، ولكن القوم ذوو أنفة وغيرة إذا قيل لهم إن في أوروبا شيئا أحسن مما عندهم أثر ذلك فيهم؛ ولهذا فهم جمعوا مالا طائلا بالاكتتاب لمتحف نيويورك واشتروا له بنحو مليوني جنيه في مدة عشرين سنة ما يفتخر به كل أميركي، وعدت إلى فندق في قطار سكة الحديد الذي يسير فوق الأرض، وهم يبنون لذلك القناطر العظيمة قائمة على عمد من الحديد متوالية الوضع فتسير القطر فوقها والناس من تحتها في حركتهم وأعمالهم، فهم في هذا يخالفون نظام الإنكليز الذين يبنون سكك الحديد في لندن تحت الأرض ونظام الأميركان أصلح للمسافرين لا يضطرهم إلى استنشاق الهواء العفن تحت الأرض ولا يحرمهم منظر الأرض التي يسافرون فيها، ولكن نظام الإنكليز أوفق لأصحاب الحركة التجارية ولمنظر الشوارع؛ لأنه لا يشوه منظرها ولا يقلل سعة الطرق على الساكنين، وقد مد فوق هذه القناطر ثمانية خطوط للسكك الحديدية تنقل في السنة أكثر من مليوني نفس في جهات المدينة من مائة وعشرين محطة، يقوم 30 قطارا في كل ساعة، وهي من أملاك المستر فاندربلت المثرى الشهير، يدخل منها ثلاثة آلاف جنيه في اليوم له ولشركائه.
وقد علمت أن مدينة بروكلن متصلة بنيويورك، يفصل بينهما نهر، وفوق النهر جسر يعد من عجائب هذا الزمان في دقة صنعه وغرائب شكله؛ لأنه بني بدون قناطر، بل هو معلق على قوائم متينة في الطرفين، واسمه الجسر المعلق، ولعله أجمل الجسور التي بنيت من نوعه إلى الآن، وقل أن تخلو جريدة مصورة أو رحلة من رسوم هذا الجسر ووصف بدائعه، فإن طوله 5990 قدما وعرضه 85 قدما، وعلوه عن سطح النهر 135 قدما، فهو تسير من فوقه العربات على أشكالها والمارة على الأقدام وأرتال سكة الحديد، فلا يقل عدد الذين يمرون فوقه في السنة عن أربعين مليونا، فلا عجب إذا قيل إنه من عجائب هذا الزمان. ولما كان الوصول إلى هذه المدينة لا بد منه لسائح زار نيويورك، فقد قصدناها ودرنا في جوانبها، وتأملنا محاسنها، وزرنا أحد الأصدقاء عرفناه في الإسكندرية ثم عدنا إلى الفندق في نيويورك استعدادا للسفر إلى مدينة فلادلفيا التي أقيم فيها المعرض العام وندبنا لحضوره، وكنا نظن أول الأمر أننا سنعاني مشقة نقل الصناديق معنا في السفر، فعلمنا أننا في غنى عن ذلك ؛ لأننا سلمنا هذه الصناديق بإشارة العارفين إلى شركة آدم، وأخذنا منها وصلا بها، ثم سافرنا وأرسلت تلك الصناديق على يد الشركة؛ وعلى ذلك تمت مدة إقامتنا في مدينة نيويورك العظيمة. ووصلنا مدينة فلادلفيا بعد سفر يسر الخواطر في داخلية الولايات المتحدة؛ فوجدنا صناديقنا في الفندق الذي قصدناه واسمه أوتل كونتينينتال.
فلادلفيا
بنى هذه المدينة قوم من طائفة الكويكرس أو جمعية الأصحاب، وكان ذلك في سنة 1682. وأما هذه الطائفة فلها شهرة في أوروبا وأميركا، وإن تكن غير معروفة في القطر المصري. وهي من الطوائف البروتستانتية، لها أمور كثيرة تمتاز بها عن غيرها من الطوائف، منها أنها تحرم القسم تحريما تاما، فلا يقسم أفرادها بالله أو بغيره ولو يكون ذلك في المحكمة، حتى إن إنكلترا اضطرت أن تسن اللوائح الخاصة للقسم في المحاكم ومجلس الأمة بسببهم، وهم يعدون أنفسهم جماعة السلام، فلا ينتظمون في الخدمة العسكرية ولا يقبلون حربا ولا يشربون مسكرا ولا يحفلون بالمراقص والملاهي، ولا يتأنقون في الملابس، وقد كان من أشهر رجالهم الوزير جون بريط الحر الإنكليزي المشهور الذي يعده الإنكليز من أكبر أركان النهضة الإنكليزية في العهد الحديث، دخل مع غلادستون في عدة وزارات واستقال من الوزارة عام 1882؛ لأنه لم يوافق زملاءه على محاربة مصر. وأفراد هذه الطائفة لا يعرفون للأشهر وأيام الأسبوع أسماء، بل هم يقولون اليوم الأول للأحد والثالث للثلاثاء والسادس للجمعة وقس على ذلك. ويعرفون الأشهر بنمرها أيضا، فيقولون الشهر الأول والشهر الخامس بدل يناير ومايو، وفي ذلك مزية لهم مشهورة. وهم يختلفون عن كل طائفة من الطوائف النصرانية في أنهم لا يعتدون بالمعمودية وتناول العشاء الرباني أو الاشتراك، ولهم شهرة صحيحة في الصدق والشهامة والمحافظة التامة على مبادئ الشرف والشهامة، فليس بين أهل الأرض كلها أناس أشهر منهم في الفضيلة والصدق، ذلك حق يعترف به لهم كل العارفين، وهم ذوو بساطة في معيشتهم وعبادتهم لا ينفقون المال على الزخرف الفاني، ولا يشربون الخمور ولا يؤمون مواضع الرقص والطرب. والناس في إنكلترا وأميركا إذا قلت لهم إنك كويكري عدوا ذلك دلالة كافية على سمو آدابك.
هذا مجمل الذي يقال عن طائفة الكويكرس التي أسست مدينة فلادلفيا والولاية الملتفة حولها، وقد سميت الولاية بنسلفانيا باسم المستر بن رئيس هذه الطائفة في ذلك الحين، وسميت المدينة فلادلفيا، ومعنى الاسم «بلد المحبة» إشارة إلى مبدأ الذين أسسوها، وكان ذلك في سنة 1682 على ما علمت. وتوارد الناس على هذه المدينة فعمروها، ولكنها ظلت بلا امتياز بلدية حتى سنة 1701، وكان عدد سكانها يومئذ 45000 نفس فقط، فجعلت تنمو وتتقدم حتى صار عدد الساكنين فيها الآن فوق مليون وربع مليون من النفوس، وأصبحت ثالثة مدن الولايات المتحدة في الأهمية التجارية، وأولها في الأهمية الصناعية؛ لأنها تمتاز الآن عن مدن أميركا كلها بكثرة ما فيها من المصانع والمعامل. ولهذه المدينة موقع بديع؛ لأنها بنيت في سهل فسيح بين نهرين، هما نهر دلوار ونهر سكولكل، ولها شهرة في اتساع المجال؛ فإن طولها 22 ميلا وعرضها لا يقل عن خمسة أميال، وأكثر منازلها ذات طبقتين، وقل أن تزيد عن أربعة، فهي من هذا القبيل أنسب لسكن العائلات وأفضل من حيث الشروط الصحية من كل مدينة كبرى تكثر فيها طبقات البناء. ولما أسس المستر بن هذه المدينة جعل شوارعها أسماء تنطبق على ما كان فيها من الأشجار، فأحسن طرقها الآن تعرف باسم شارع البندق أو شارع الكرم أو شارع الصنوبر وغير هذا. وفي المدينة أربعة ميادين كبرى تعرف بأسماء: واشنطن وفرانكلن ولوجان ورتنهوس، وكل شوارعها فسيحة جميلة واضحة النمر لا يضيع فيها الغريب. وفي فلادلفيا مركز إدارات سكك الحديد الكبرى ولثغرها أهمية كبرى؛ لأنها واقعة على الأوقيانوس الأتلانتيكي، ولها خطوط عظيمة من البواخر البحرية تمخر بينها بين بقية البلدان، وأخصها إنكلترا وفرنسا وممالك الشرق الأقصى.
ولا بد أن يسأل القارئ عن السبب الذي حمل حكومة الولايات المتحدة، بعد أن تم مائة عام على استقلالها، على جعل هذه المدينة مقر الاحتفال بذلك العيد العظيم، ومركز المعرض العام الذي بني لهذه الغاية، فنخبره أن هذه المدينة كان لها اليد الطولي في حرب الاستقلال المشهورة؛ لأن الجمعية التي قررت محاربة إنكلترا في ذلك الحين عقدت في فلادلفيا، وهنالك وقع نواب الأميركان على قرار الاستقلال رسميا في 4 يوليو من سنة 1776، وهو اليوم الذي يعتبره الأميركان في كل زمان ومكان يوم عزهم وبدء حياتهم، ويجعلونه عيدهم الوطني الأكبر، ولما انتخب القائد جورج واشنطن رئيسا أول للجمهورية الأميركية بعد استقلالها كان مركزه ومركز الجمعية العمومية في هذه المدينة أيضا، وظل الحال على مثل هذا حتى بنيت مدينة واشنطن، وهي العاصمة الحالية، ونقلت الإدارة إليها في سنة 1797، ولم يزل المنزل الحقير الذي أمضي فيه قرار الاستقلال في فلادلفيا على حاله، والأميركان يحتفظون به ويعدونه أجل آثارهم، وفيه أدوات استعملت في ذلك القرار، منها الكراسي التي جلس النواب وواشنطن عليها، والمنضدة التي وقع فوقها، ومقاعد وبعض الرياش كانت يومئذ في ذلك البيت، وأقلام وجرس رن في ساعة مشهورة علامة الإجماع على المناداة بالاستقلال، وعلم كتب عليه بالإنكليزية عبارة معناها «احذر أن تطأني»، وصور الرئيس والأعضاء الاثني عشر، ورسوم الثلاث عشرة ولاية التي نالت الاستقلال، وغير هذا كثير مما تعده الأمة الأميركية كبيرا غالي الثمن.
وأما مشاهد هذه المدينة العظيمة فكثيرة تستحق الوصف، صحيح أنه ليس فيها ولا في غيرها من مدائن الولايات المتحدة ما يقرب من كنائس أوروبا المشهورة، مثل كنائس رومة وكولون وميلان وستراسبورغ التي مضى عليها مئات من السنين في زيادة وتحسين، ولكن الأميركان كما قلنا أهل حماس وغيرة، وهم يحاولون سبق أوروبا في كل باب ومطلب، وقد أوجدوا من غرائب المشاهد ما ذكرنا بعضه، ومنه قصر المجلس البلدي في هذه المدينة كله من الرخام الأبيض الجميل، وقد أشغل بناؤه 12800 متر، وفيه 750 غرفة معدة لأعمال المجلس البلدي والمجالس المحلية والاستئناف، ويبلغ ارتفاعه 510 أقدام، وفوقها تمثال المستر بن مؤسس المدينة. ويلي هذا بناء فخيم للماسون أنفق عليه ثلاثمائة ألف جنيه، ويقول الخبيرون إنه لو بناه غير هذه الفئة؛ لأنفق عليها فوق هذا المال الكثير. ومن هذه المشاهد مركز البوسطة، وهو بناء عظيم من الرخام الأبيض أيضا بلغت نفقاته مليون جنيه، ومنها مدرسة كبرى تعرف باسم مؤسسها جيرار ولها شهرة واسعة يقصدها طلاب العلم من شاسع الأقطار، وكان المسيو جيرار هذا رجلا فرنسيا رحل إلى الولايات المتحدة وهو فقير؛ فأثرى وجمع مالا طائلا ثم عاد إلى بلاده وهو يضمر الخير لأقاربه الفقراء، وقد عزم على إعطائهم بعض ماله، ولكنه تنكر وجاءهم بلباس الفقراء فنفروا منه وتبرءوا من قرابته، ونصحوا له أن يعود إلى حيث أتى، فلما رأى الرجل هذا من أقاربه أظهر حقيقة أمره وعدل عن إمدادهم بالمال، وشعروا بذلك فجعلوا يعتذرون ويتقربون، ولكنه لم يقبل لهم عذرا وأعلنهم أنه عائد إلى حيث أتى، فعاد إلى فلادلفيا وتوفي فيها سنة 1750 وترك ثروته وقفا لمدرسة بنيت وسميت باسمه، وفيها الآن نحو ألفي تلميذ، ولا تقل الأموال والعقارات الموقوفة لها عن ثلاثة ملايين جنيه.
ولهذه المدينة حديقة من أكبر حدائق الأرض وأجملها، تبلغ مساحتها 2800 فدان، وهي تمتد مسيرة أربعة أميال على ضفة نهر سكولكل، ولها بذلك رونق وبهاء كثير، وكنت أتردد على هذه الحديقة وغيرها من مشاهد المدينة وأنا أستعد للمعرض الذي جئت من أجله، فلما رأيت أن الفندق الذي كنا فيه بعيد عن محل المعرض انتقلت إلى منزل أقرب منه إلى المحل المقصود، وجعلت أتردد على محل اللجنة المفوضة بالنظر في أمور العارضين وأبضعة الممالك والولايات، أحرر القوائم اللازمة حتى فرغت من الاستعداد وقرب يوم افتتاح المعرض، وحصل لي في ذلك المنزل نادرة غريبة وهي أن في كل منزل سلكا يتصل بإدارة الأولاد السعاة الذين سبق ذكرهم، إذا ضغط صاحب المنزل أو من فيه على زر كهربائي في طرف السلك دق جرس في إدارة السعاة فحضر أحدهم لقضاء المطلوب، وكان عندي كتاب في ذلك اليوم أريد إرساله إلى أحد الأصدقاء فضغطت على الزر، ولما أبطأ الساعي في الحضور ضغطت مرة ثانية وثالثة، فما مضى على ذلك زمان حتى رأيت العربات المعدة لإطفاء الحريق ومعها المضخات والطلمبات يسوقها الرجال المتمرنون بملابسهم المعروفة وخوذهم النحاسية جاءوا إلي يستعلمون عن محل الحريق، فقلت إنه لم يحصل ذلك على ما أعلم، قالوا إنك طلبت أدوات إطفاء النار بالضغط على الزر ثلاثا وأوضحوا لي حينئذ أن الضغط على الزر مرة معناه طلب الساعي، ومرتين طلب البوليس لضبط واقعة، وثلاث مرات طلب الرجال والأدوات لإطفاء النار، وكان ذلك أول عهدي بهذا النظام.
ويذكر القارئ أن المغفور له توفيق باشا - رئيس لجنة المعرض الذي نحن في شأنه - كان قد كلفنا إرسال تقرير إليه كل 15 يوما، فأنا قمت بهذا الأمر وأرسلت أول التقارير بعد أن رأيت المعرض قبل افتتاحه، وأرسلت معه رسوما وجرائد وجعلت ذلك دأبي كل 15 يوما، وقد أسعدني الحظ بورود كتب بخط يده الكريمة إلي ردا على تلك التقارير، وهي إلى الآن عندي حفظتها كنزا ثمينا، ووردت الصناديق التي وضعت فيها المعروضات المصرية قبل غيرها فسر لذلك مدير المعرض، وسهل لنا الطرق لترتيبها في مواضعها، وكان نواب الأمم يتواردون واحدا بعد واحد، والناس يدعونهم على الولائم الحافلة، حضرت منها في أول الأمر وليمة حضرها من النواب غيري النائبون عن مملكتي الصين واليابان؛ لأنهم جاءوا فلادلفيا عن طريق البحر الباسفيكي، فلما كان الصباح التالي لهذه الوليمة وفد علي مكاتبو الجرائد الكبرى يطلبون الاستعلام عما سيكون في معرضنا المصري من التحف والآثار، فأعطيتهم ملخص الكشف العمومي ونشروه في جرائدهم، ومن ذلك الحين كثرت علي الدعوات والزيارات من أعظم العائلات حتى إن أيام الأسبوع لم تعد تكفيني لإجابة كل الدعوات، لا سيما وقد اشتهر الأميركان بالكرم وحب الغريب إذا كان من بلاد بعيدة مثل مصر لها شهرة بآثارها القديمة، وتميل نفوسهم إلى سماع أخبارها ووصف مناظرها. والآن أتقدم إلى وصف المعرض العظيم الذي ذهبنا إلى فلادلفيا من أجله، وأجعل الاختصار خطتي في وصفه؛ لأن التطويل لا يمكن في هذا المقام.
المعرض
علمت مما مر بك أنه لما مر مائة عام على استقلال الولايات المتحدة أنفق أهلها على الاحتفال بذلك احتفالا باهرا، ودعوا ممالك الأرض ودولها إلى إرسال من ينوب عنها في حضور معرض أقيم لهذا الغرض، وفي عرض ما تريد من الآثار أو الأشياء الدالة على منزلتها، وقرروا أن يظل المعرض ستة أشهر من أول مايو إلى آخر أكتوبر من سنة 1876. ولما كنت من المندوبين المصريين لحضور الاحتفال والمعرض توجهت لمقابلة مدير هذا المعرض بعد وصولي إلى مدينة فلادلفيا بقليل وأطلعته على أوراق تعييني وتداولت معه طويلا فيما يلزم للقسم المصري، وفي اليوم التالي جاءني هذا المدير مع كاتب يده العام ورد لي الزيارة، وأخذني معه إلى الحديقة الكبرى التي بني فيها المعرض ومر ذكرها، فذهبت ورأيت أرض المعرض، وهي داخل دائرة يحيط بها سور ومساحتها 236 فدانا، منها الأرض المخصصة لعرض البهائم، ومليونا قدم مربع لأصحاب الأبضعة المطلوب عرضها على الزائرين والمتفرجين، وكان في ذلك المعرض أبنية فخيمة خصصت كل منها لغرض معلوم، منها الأبنية الآتية: (1)
القسم العمومي في بناء فخيم، مساحة أرضه 21 فدانا، وطوله نحو 1880 قدما، وعرضه 464 قدما، وعلوه 70 قدما، وفيه قسم لكل حكومة خارجية دعيت للاشتراك في هذا المعرض، وفي جملتها القسم المصري. (2)
قسم الآلات الصناعية و«الماكينات»، مساحة أرضه 14 فدانا، وطوله 1402 قدم، وعرضه 360 قدما، وارتفاعه 70 قدما، وهو محاذ للقسم العمومي كأنهما بناء واحد طوله 3824 قدما. (3)
قسم الزراعة مساحته عشرة أفدنة، طول بنائه 820 قدما، وعرضه 125. (4)
قسم النبات في فدان واحد من الأرض، طول بنائه 283 قدما، وعرضه 193، وعلوه 72. (5)
قسم الصور والرسوم، طوله من الداخل 365 قدما، وعرضه 210، وارتفاعه 95، وفيه قبة من الرخام ارتفاعها 150 قدما، أنفقوا على بنائها مليونا ونصف مليون من الريالات.
هذه الأقسام العامة في المعرض، وأما الخاصة فكان فيه بناء عظيم للحكومة عرضت فيه الآلات القتالة، كالمدافع والبنادق، وأمثلة على شكل البواخر الحربية، وقسم لكل ولاية من الولايات المتحدة بني أكثرها على الطرز الخاص بتلك الولاية وملئ بأنواع الأبضعة الفاخرة وأدلة التقدم العظيم. وكان في أرض المعرض سكة حديدية ينتقل فيها المتفرجون من أحد جوانبه إلى الآخر؛ نظرا لاتساع أرضه وأقيمت فيه المطاعم البديعة، وأشهرها للخواجات بروفانسو جاءوا من باريس لهذا الغرض، وقد بلغت نفقات هذا المعرض 6 ملايين ريال أميركي، جمع الأهالي منها بالاكتتاب خمسة ملايين، فلما لم يكف ساعدتهم الحكومة بمليون واشترطت أن يرد إليها المليون من إيراد المعرض بعد اشتغاله.
وأما افتتاح المعرض فكان يوم 10 مايو من سنة 1876، وقد تم باحتفال عظيم من الحكومة والأهالي معا، فإنه لما جاء اليوم الموعود حضر رئيس الولايات المتحدة، وهو يومئذ جناب الجنرال غرانت المشهور، وجاء معه من واشنطن عاصمة البلاد وزراء الجمهورية ونواب الولايات وأعضاء مجلس الشيوخ وكبراء الحكومة، فوصلوا في قطار خاص كثير الزخارف، ونزل الرئيس ضيفا على المستر تشايلد، وهو من سراة هذه المدينة وصاحب جريدة لدجر المشهورة، التي لا يقل الربح منها عن مائتي ألف ريال في السنة، ذلك فضلا عن إيراد المستر تشايلد من أمواله وأملاكه الأخرى، وهو مثل أكثر أصحاب الملايين في الولايات المتحدة جاء مهاجرا يطلب الرزق في بدء عمره؛ فجمع ثروته الطائلة بالجد والدأب وحسن التوفيق، وكان وصول رئيس الجمهورية ومن معه إلى فلادلفيا قبل افتتاح المعرض بيوم واحد، فلما كان الغد ازدحمت الطرق من جميع الجوانب بخلق كثير من الأميركيين والسياح المتفرجين، وملئت جوانب الحديقة التي أقيم فيها المعرض بالناس على اختلاف الأجناس، وجاء الرئيس إلى منصة بديعة في الحديقة أمام القسم العمومي زينت بالأزهار والأعلام على شكل يسحر الناظرين، وكانت الطرق كلها يحرسها جنود أرسلوا من كل الولايات لهذا الغرض، فرقة من كل ولاية. فلما رقي رئيس الجمهورية تلك المنصة جلس إلى كرسي كبير وضع له في وسطها، وجلس إلى يمينه المدير العام للمعرض وإلى شماله المدير المالي للمعرض، وجلس من ورائه وزراء الجمهورية وكبراؤها وأعضاء مجلس الأمة والشيوخ وحكام الولايات، وإلى جانبيه من هنا ومن هنا مندوبو الممالك والدول الأخرى وبعض خاصة المدعوين، وكان في الحديقة منصة أخرى تجاه هذه المنصة وقف فيها خمسمائة سيدة؛ لينشدن نشيد الاستقلال بصوتهن الرخيم، فلما تم عقد ذلك المجلس المهيب وقف جناب رئيس الجمهورية، وقال: «إني أفتح هذا المعرض بعد مرور مائة عام على استقلالنا، مظهرا لأمتنا وللأمم الأخرى نتيجة تقدمنا في قرن واحد من الزمان، وإني أسأل الله تعالى أن يحفظ ولاياتنا المتحدة.» فتصاعدت أصوات التأمين على هذا الدعاء من أربعمائة ألف نفس تجمعت في حديقة المعرض، ثم أطلقت المدافع مائة وواحدا، ونزل الرئيس من تلك المنصة فدخل أقسام المعرض والجموع من ورائه، وجعل يتفقدها قسما قسما، وكان كلما جاء قسما من أقسام الدول الأجنبية يلاطف المندوبين فيها بالكلام الرقيق حتى إذا وصل قسم الآلات الصناعية صدر أمره بتشغيلها، فصدع العمال بالأمر، وجعلت تلك الآلات هذه تدق وهذه تثقب وهذه تخرط وهذه تضغط وهذه تدور، وكان لها دوي هائل. ولما زار معرض الزراعة أمعن نظره في آلات الزرع والحرث والحصد وغير هذا، وكان في ذلك القسم آلات ترفع الماء من حوض وتصبه في حوض وهو يتدفق تدفقا بديعا، وكان في كل من هذه الأقسام جدول ببيان ما فيه، والناس يتفرجون ويعجبون ولا سيما إذا وصلوا إلى معرضنا المصري وشاهدوا غرائبه، ولطالما سألوني وسألوا غيري عن أمور لا تخطر على بال المواطنين، فهذا يريد العلم بكيفية تربية دود القز إذا رأى الحرير الطبيعي، وهذا يسأل أن كيف يفقس البيض ويصير فراخا بالطرق الصناعية؟ وبعضهم يطلب جريدة عربية ليحفظها عنده أثرا من الآثار، وهذه تسألنا أن نكتب اسمها بالعربية على بطاقة الزيارة، وتلك تستفهم عن طرق الزواج وتعدد الزوجات عندنا، وغير هذا مما لا يخطر إلا على بال الغريب، وكانت جرائد أميركا تنقل إلى قرائها أخبار هذا المعرض بالبيان الوافي، وأكثرها ترسم صور المناظر والأشخاص، وكان أكثر الرسوم شيوعا رسم الرئيس وهو في المنصة يفتح المعرض ومن حوله من ذكرنا، وفي جملتهم مندوبو الحكومة المصرية بملابسنا الرسمية والطرابيش.
وقد تشرفنا بمقابلة الرئيس غرانت بعد يوم الافتتاح في بيت المستر تشايلد، وكان ذلك بدعوة أرسلت إلى جميع مندوبي الدول، فأظهر جنابه للجميع لطفا كثيرا، وبعد أن مر على هذه المقابلة يومان ورد إلينا كتاب من المستر تشايلد المذكور يقول فيه إن قرينة الجنرال غرانت رئيس الجمهورية عازمة على زيارة القسم المصري في المعرض، وهو يرجونا أن نستعد لمقابلتها وإطلاعها على ما تريد، فعملت بهذه الإشارة وكنت في الموعد المضروب مستعدا لمقابلة هذه السيدة الكريمة حتى إذا حضرت ومعها ابنتها وصهرها، درت معها أوضح لها ما في معرضنا من الآثار والأشكال، وهي تطرب وتعجب مدة ساعة من الزمان وتستقصي العلم بكل ما تراه، وقد استلفتت أنظارها ملاعق صغيرة صنعت على شكل غريب من خشب الأبنوس، فرجوت حضرتها أن تقبل تلك الملاعق هدية صغيرة وتذكارا للمعرض المصري؛ فقبلتها متلطفة شاكرة، ومعها بعض الآثار المصرية القديمة. ثم خرجت بعد أن تكرمت بدعوتي إلى قصرها في واشنطن عاصمة الجمهورية فشكرتها، وأرسلت تقريرا خاصا إلى سمو الخديوي توفيق باشا عن هذه الزيارة التي جعلت للقسم المصري شأنا كبيرا في هذا المعرض. ومما يريك الفرق بين الحكومات الجمهورية المبنية على رأي الأمة وتوافق الأفراد، وبين الحكومات الوراثية التي يتعالى أمراؤها عن بقية الناس ويتشامخون، أن رئيس الجمهورية في هذه البلاد العظيمة يعد نفسه واحدا من الناس، فينزل في بيت صديق له كما رأيت، ويقبل طلب أصدقائه فيحضر سهراتهم وولائمهم ولا فرق بينه وبينهم مع أنه رئيس أمة في الطبقة العليا من التمدن، يزيد عدد أفرادها عن عدد الناس في كل مملكة أوروبية ما خلا مملكة روسيا، وقد كان من أمر الجنرال غرانت أن المستر بول من الوجهاء دعاه إلى العشاء في أحد الأيام ودعانا معه أيضا، فذهبت إلى بيته في الساعة المعينة، وكان رئيس الجمهورية وقرينته وغيرهما في قاعة فخيمة بانتظار ساعة العشاء، وقد حدثت حضرة السيدة الكريمة زوجها بما كان من واجب إكرامنا لها عند زيارتها للمعرض المصري، فرحب بي جنابه ترحيبا خاصا، وقمنا على أثر وصولي إلى المائدة الفاخرة، فلما انتهينا من العشاء دخلنا قاعة التدخين حسب عادة الرجال، وكانت السيدات في قاعة الاستقبال ريثما ينتهي الرجال من التدخين، ولما كنا في تل القاعة أخبرني رئيس الجمهورية بعزمه على السياحة في مصر في الشتاء التالي، فسألته إذا كان يسمح لي بإبلاغ ذلك رسميا للحكومة المصرية، فأجابني بالإيجاب وأظهر لطفا لا ينتظره المرء من بطل ضرغام مثله، شهد الحروب وحارب الألوف وانتصر على القوات العظيمة، فإنه - ولا يخفى - كان قائد الجنود الشمالية في الحرب الأهلية التي ورد ذكرها في الخلاصة التاريخية بين أهل الجنوب وأهل الشمال، وكان له النصر في كل المواقع القاضية، واشتهر جنابه بالصمت وكثرة التأمل، ولكنه لم يقلل الكلام لما تشرفت بمعرفته، وأذكر أنه لما ورد اسم السياحة، قال لي إنه لا بد من معاناة المتاعب إذا ساح في فرنسا والنمسا وإيطاليا؛ لأن له لسانا واحدا فقط هو لسان الصدق، فضحك الحاضرون لهذه النكتة، وكان له ولع بالتدخين حتى إنه لم يترك السيجار من يده إلا عند الاضطرار إلى تركها، وهو يعد من أكبر رؤساء الجمهورية الأميركية وأعظمهم.
وقد كان احتفال الناس بهذا المعرض وبمرور القرن على استقلالهم عظيما يعز نظيره؛ فإن المدينة كانت مزدانة من جميع جوانبها على نفقة الأهالي، وكانت الجماهير ألوفا مؤلفة في كل شارع كبير، ولا سيما في جوانب المعرض وحول ذلك البناء القديم الذي تم فيه قرار الاستقلال وذكرناه قبل الآن، وفي جميع الساحات والحدائق الأخرى. وكان الخطباء يقومون للخطابة في موضوع الاحتفال والوطنية والناس تتألب من كل جانب لسماع أقوالهم، حتى إذا فاه الخطيب بقول يوجب الحماس الوطني أو أشار إلى ما كان من حزم الأجداد الكرام والنصر في الحرب التي أدت إلى الاستقلال صرخوا مستحسنين متحمسين، وألقوا قبعاتهم في الهواء رجالا وأطفالا، وفي مثل هذه المظاهر ما يبث روح الوطنية في القوم، ويوضح لأبناء أميركا منزلتهم الرفيعة من بعد الاستقلال، فهم يعدون أنفسهم أهل كرامة لما نالوا من الحرية التامة، وفي ذلك ما لا يخفى من الفخر الصحيح.
ولما جاء الليل في يوم الاحتفال سطعت الأنوار الباهرة في كل ناحية من المدينة، ودار في شوارعها موكب حافل له منظر مؤثر مهيب، وتبع ذلك الموكب آلاف من الناس حتى إن الذي رأى تلك الليلة في فلادلفيا رسخ في ذهنه ذكرها وذكر معرضها واحتفالها الباهر. وقد كان حاكم المدينة في مقدمة هذا الموكب، ومن ورائه أشكال المحتفلين وأغربهم أصحاب الحرف، كالنجارة والحدادة والتجارة والفلاحة وغيرها، يتقدم كل فئة من أصحاب هذه الحرف شيخها، ومعه علم خاص بها وموسيقى تصدح بالأنغام الوطنية وأنوار باهرة. وكان عدد المحتفلين كثيرا جدا إلى حد أنه لو وقف المتفرج على الموكب في نقطة من المدينة ومر به الموكب لم ينته من الفرجة إلا بعد انقضاء ثلاث ساعات تتوالى فيها المناظر المختلفة والمشاهد العظيمة، وكانت لجنة المعرض قد أقامت وليمة فاخرة في تلك الليلة لكبراء الناس، وفي جملتهم نواب الممالك الأخرى فحضرنا تلك الوليمة وسمعنا من بعد الطعام خطبا رنانة، كان أول القائلين فيها رئيس المعرض الذي رحب بالحاضرين وأطنب في مدح الحرية، وتلاه غيره من الأميركان والمندوبين الذين شاركوا الأميركان في فرحهم وهنئوهم بما وصلوا إليه، فاستغرقت تلك الوليمة ثلاث ساعات من الزمان.
وظللنا في المعرض نقوم بمواجبه حتى بلغنا في أحد الأيام أن رئيس المعرض عقد اتفاقا مع مديري سكك الحديد على إعداد قطر خاصة لمندوبي الدول تأخذهم إلى أعظم مشاهد الولايات المتحدة على نفقة الدولة، وأهم هذه المشاهد شلال نياغارا وإقليم البترول (زيت الغاز)، والفحم الحجري وغير هذا مما سيأتي وصفه. وبعد قليل وردت إلينا أوراق تدعونا إلى هذه السياحة الجميلة، وشارات خاصة توضع على صدر المدعوين لتميزهم عن سواهم، وطبعت أوراق أخرى فيها بيان هذه السياحة وما تم الاتفاق على أن يراه المدعوون، وعين اثنان من أهل الخبرة والمهندسين الأميركيين لمرافقة المندوبين الأجانب في هذه السياحة وإطلاعهم على كل أمر يريدون العلم به، فبناء على هذه الدعوة قمنا في قطار خاص في الساعة السابعة من أحد الأيام وسرنا في داخلية البلاد نحو 7 ساعات، رأينا في خلالها بلاد لانكاستر ولاندسفل وجاكستون وغيرها حتى بلغنا مدينة التونا، وهي شهيرة في أنها معمل بناء العربات لشركات السكك الحديدية في ولاية بنسلفانيا وما يجاورها، ولهذه الشركة أراض لا تقل في اتساعها عن عشرين ألف فدان. ولما وقف القطار في المحطة ركبنا عربات أعدت للمندوبين وسرنا إلى فندق استؤجرت فيه غرف لنا أيضا، وكان اهتمام عمال هذا الفندق بإكرامنا شديدا حتى إن مدير الفندق كان يخدمنا على مائدة الطعام بنفسه، ويملأ كئوس الخمرة لنا بيده وهو يعرب عن سروره باجتماعنا لمشاركة قومه في احتفالهم العظيم.
وسرنا بعد ذلك بقليل إلى معمل العربات والآلات لسكك الحديد، وهو محل واسع يشغل من الأرض حوالي 150 فدنا أو 63000 متر، وفيه عشرة آلاف عامل ويصنع فيه من الآلات البخارية التي تجر الأرتال مئات كل عام، ومن عربات الركاب والأبضعة ألوف كثيرة، فلما وصلنا ذلك المعمل دار بنا مديروه يشرحون ويوضحون، وكانوا يأمرون العمال أن يصنعوا «الوابورات» والعربات على مرأى منا ونحن نتفرج معجبين لجمال تلك الآلات والعربات التي تمتاز عن العربات الأوروبية بطولها وإتقان صنعها والعمل على راحة المسافرين فيها، وليس يخفى أن أهل أوروبا جعلوا يشترون بعض عربات الركوب لقطاراتهم من أميركا أو هم يصنعون على مثالها، واشتهرت عربات التونا هذه بمحاسنها حتى قام المستر بلمان المشهور واخترع نوعا من العربات المتينة التي يقل في سيرها الارتجاج وتكثر الراحة للمسافرين واحتكر صناعتها. ولشركته أكبر معامل العربات في ولاية نيويورك، وقد أصبح الرجل من أصحاب الملايين وشركات السكك الحديدية في كل البلاد تشتري من عربات بولمان لقطاراتها، ورجعنا إلى الفندق بعد أن تمتعنا بمشاهدة هذا المعمل وغرائبه، فكنا نرى العربات معدة لركوب من شاء منا بلا أجرة ندفعها حتى إذا شاء أحدنا أن يقصد نزهة أو فرجة كانت العربات في خدمته متى أراد.
وفي تلك الليلة أولموا لنا في العشاء وليمة فاخرة، ودعونا بعدها إلى موضع للتمثيل، وكان كل مندوب يطلب فيه وفي الحانات والقهاوي ما أراد من المشروب ولا يؤخذ منه الثمن حتى إني مسحت حذائي ولم يشأ الصبي أن يأخذ أجرة؛ لأنه رأى من الشارة في صدري أني أحد المندوبين وأجرة عمله واصلة من الحكومة، فذكرني هذا بالكرم الحاتمي الذي أظهره سمو إسماعيل باشا الخديوي الأسبق عند الاحتفال بترعة السويس، فإنه أتى مثل ذلك في المطاعم والفنادق التي أمها المدعوون للاحتفال، وذلك غير الذي أتاه لإكرام إمبراطور النمسا وإمبراطورة فرنسا وولي عهد إنكلترا على وجه خاص.
بتسبرج
قمنا في اليوم التالي على قطار يشق الجبال شقا، ويخترق الأودية والسهول، فيمر في مناظر بهجة للغاية، ويدور من حول الجبال فلا يخترق قلب الأرض في نفق أو سرداب إلا اضطرارا، وفي هذا مزية للأميران على الأوروبيين في سككهم الحديدية؛ فإن أهل أوروبا يحفرون للأرتال نفقا تحت الأرض كلما وصلوا إلى جبل، فإذا ما دخل القطار مثل هذا النفق لم ير المسافر غير الظلام الدامس، وفاته منظر الجبال وسفحها، وأما في أميركا فإنهم يجتنبون النفق ما أمكن، ويعرجون من حول الجبل بدل اختراقه فيتسنى للراكب في بلادهم أن يمتع نظره بأحسن المناظر الطبيعية، وظللنا على المسير في هذا القطار حتى بلغنا منابع كريسون، وهي عيون من الماء الحديدي فيه نفع للأبدان وعافية يقصدها كل ذي علة يستشفي بمائها المعدني، فتفرجنا عليها وشربنا ثم عدنا إلى القطار وعاد يخب في الأرض خبا ويرينا من أشكال الطبيعة عجبا، حتى وصلنا مدينة بتسبرغ المشهورة؛ فنزلنا في محطتها ولقينا العربات معدة لنا على مثل ما رأينا كل موضع زرناه مدة هذه السياحة.
ومدينة بتسبرغ هذه ثانية مدائن ولاية بنسلفانيا يبلغ عدد النفوس فيها ثلاثمائة ألف أو يزيد، ولها موقع بديع ما بين نهري الجاني ومونونجاهيلا يلتقيان فيها، ومنهما يتفرع نهر أوهايو. وتجاه هذه المدينة مدينة أخرى اسمها الجاني على اسم النهر الذي ذكرناه، وفيها من النفوس حوالي 130 ألفا، والبلدان يعدان في عرف الأكثرين مدينة واحدة؛ لأنهما يفصل بينهما ذلك النهر فقط وفوقه جسور عديدة وطرق شتى للاتصال، وهذه المدينة حديثة العهد مثل أكثر مدن الولايات المتحدة، فإن تأسيسها كان في سنة 1754 حين بنى بها القائد الفرنسوي دوكين قلعة سميت باسمه، واستولى عليها الإنكليز بعد ذلك، ثم أخلوها بعد انخذالهم في حرب الاستقلال، فعمر المدينة لا يزيد عن 144 سنة، وهي في وسط إقليم كله حديد وفحم حجري تكثر فيه المناجم لاستخراج هذين المعدنين حتى إنهم ليخرجون من أربعة مراكز في مليونين ونصف مليون طونلاتة من الحديد، وعشرين مليون طونلاتة من الفحم الحجري في كل سنة، ويخرج من الإقليم فوق أربعين مليون من زيت البترول، وبذلك تعلم أهمية هذه الجهة من جهات الولايات المتحدة ووفرة غناها في المعادن، ومعلوم أن زيت البترول هذا على شهرته الحالية لم يعرف إلا من نحو مائة عام فقط، ولم يشتهر استعماله إلا في سنة 1821 وقد حسبوا طول الأنابيب التي يسير فيها البترول هنا، فإذا هو 1200 ميل ومقدار الزيت الذي يجري فيها مليار قدم مكعب.
وسرنا بعد هذا إلى معامل الحديد العظيمة، وأشهرها معمل الخواجات تومسون، يعمل فيها العاملون بنحو ستمائة ألف طونلاتة في كل سنة، أكثرها قضبان لسكك الحديد، وفيها أفران هائلة لتذويب الحديد وسكبه وتليينه يسميها العمال جهنم، وهم يزيدون في هذا المعمل عن ستة آلاف عامل، اعتصبوا مرة وأضربوا عن العمل؛ بغية أن تقلل لهم ساعات العمل وتزاد الأجور، فاقتضى لتسكين هياجهم أن تجرد الحكومة عليهم فرقة منظمة من الجيش ومعها المدافع، وقائدها جنرال من قواد الجيش الأميركي. وتحولنا بعد زيارة هذا المعمل في أنحاء المدينة، وصعدنا إلى قسم منها فوق قمة جبل واشنطن، وهو مسكن الأكابر وأهل اليسار، ولما كان الصعود إليه والنزول عسرا بسبب علوه صنعوا آلات تصعد وتنزل بقوة البخار، وتنقل الناس والبهائم والحاجات لها، وهي على شكل الآلات المستعملة في جبال سويسرا إلا أنها أسرع سيرا؛ لأنها تصعد وتنزل على خط مستقيم والركوب فيها يخيف الذي لم يتعود استعمالها، والذي يصعد القمة بهذه الطرق يرى منظرا يعز نظيره، فإنه في وسط بلد زاهر فخيم المباني، ومن تحته معامل يتصاعد منها الدخان فيحجب منظرها عن العيون، والنهر في الجانب الآخر ينساب فيه الماء انسياب الأفعى فيفتن بجماله الناظرين.
وفي هذه المدينة أبنية كبرى أنفق عليها الملايين، وهي تضارع أجمل ما رأينا في مدن أميركا الأخرى، من ذلك بناء البنك العمومي والبنك المحلي والبوسطة وغيرها. والبواخر التي تسير فوق الماء من هذه المدينة وإليها في داخلية الولايات المتحدة تجتاز مسافة عشرين ألف ميل في جوانب البلاد من هنا ومن هنا؛ لأنها تجري على ثلاثة أنهر، فيبلغ مجموع ما تنقل مليون طونلاتة ونصف مليون في العام، وهي كل عام في ازدياد. والذي يسافر على هذه البواخر في هذه الأنهر يرى كل ما يسر الخاطر من جمال الطبيعة وتقدم الصناعة في بلاد الحرية، وكان حاكم هذه المدينة شديد الاهتمام بما يسر المندوبين ويريهم اقتدار مدينته، حتى إنه أمر بإضرام النار في منزل، وأرسل إليه رجال المطافئ بمضخاتهم وطلمباتهم على مرأى منا ومسمع، فأرانا كيف يجد أولئك الرجال في المسير على تلك العربات الثقيلة، وهي تقرقع وهم يصيحون ويقرعون الأجراس تنبيها للمارة حتى يفروا من طريقهم ولا تصدمهم العربات في عدوها السريع، وأكثر رجال المطافئ في أوروبا يسيرون على مثل هذا عند حصول الحرائق، ولكن الأميركان امتازوا بحسن نظامهم وسرعة قيام المطافئ عندهم إلى محل النار، وإيصال المساكن كلها بأجراس كهربائية إلى مقر العمل حتى إن مدينة لندن مع اشتهارها بالنظام والإتقان في كل الأعمال لما أرادت أن توصل أعمال المطافئ إلى درجة الكمال أرسلت أحد رجالها المشهورين إلى مدن أميركا؛ ليتعلم فيها طرق الأميركان، وينقل المفيد منها إلى بلاده.
وسرنا في صباح اليوم التالي على القطار الخاص إلى إقليم الزيت، ووقفنا في بلدة تعرف باسم أويل ستي أو مدينة الزيت، وبعد الغداء في الفندق الذي أعد لنا توجهنا إلى مناجم البترول، وكنت أظنها في أرض قاحلة قفرة، شوه الزيت ظاهرها، وأحرق الكلأ والعشب فلم يبق غير منظر قبيح ورائحة كريهة، فرأيت الحال على غير ما ظننت؛ لأن الأرض هنالك مكسوة كلها بالخضرة البهية، وفيها مئات من الآبار يستخرج زيت البترول منها، وهي تختلف حجما وعمقا، فمنها ما يقل عمقه عن ثلاثمائة قدم، ومنها ما يزيد عن ثلاثة آلاف، وهي كلها تستخدم فيها الطلمبات لإخراج الزيت منها إلى أقنية تجري فيها جداول وتصب من بعد ذلك في حوض كبير، ومنه يؤخذ الزيت ويعلل بالطرق المعروفة عندهم، ثم يوضع في الصناديق الصفيحية، ويرسل إلى جوانب الأرض، وهو متى خرج من البئر يعرف بصفائه، ولكن النزح يؤثر فيه، فإنه يختلط بالأكدار كلما أخذ منه شيء وقل الموجود في البئر، فإذا كثرت أكداره تركوه يوما أو يومين ريثما يعود إلى النقاء، ثم عادوا إلى نزحه، وبعض هذه الآبار تنشف بعد نزحها مرات معلومة فيتركها أصحابها ويحفرون آبارا أخرى على مقربة منها، وهم يربحون منها الأموال الطائلة حتى إن أكبر أصحاب الملايين اليوم هم تجار الزيت وأصحاب الأسهم في سكك الحديد، وكان أحد المهندسين الأميركيين مدة وجودنا عند هذه الآبار يشرح لنا طرق استخراجها وشحنها وتنقيتها، ويوضح كل ما أشكل علينا حتى إذا انتهينا من هذه الفرجة عدنا إلى القطار، فعاد إلى المسير في وسط أراض شهية ومناظر بهية، ظهر لنا في آخرها بحيرة مشيغان، وهي أكبر بحيرات أميركا، ليس لها في أوروبا نظير من حيث الاتساع، طولها 360 ميلا وعرضها 108 وعمقها 900 قدم. وتقدمنا إلى ما وراء هذه البحيرة، فمررنا ببحيرة أصغر منها تعرف باسم تشور، وبعد 12 ساعة وصلنا إلى بلدة أري بنيت على بحيرة بهذا الاسم، ولها منظر بديع، وهي من الأماكن التاريخية في الولايات المتحدة حصل فيها معركة بين الإنكليز والأميركان في الحرب الثانية بعد الاستقلال، وكان النصر في هذه المعركة للقائد الأميركاني بري، فإنه حطم سفن الإنكليز وملك الموقع سنة 1813، وبتنا تلك الليلة في فندق ريد بهذه المدينة. وفي ثاني الأيام أراد حاكم المدينة أن يدعو المندوبين إلى رؤية البحيرة وجوانبها، وهي من البحيرات العظيمة، طولها 290 ميلا وعرضها 60 ميلا، ولها اتصال ببحيرتي هورون وبحيرة أونتاريو، ويخرج منها نهرا دتروا ونياغرا، فاستأجروا لهذه الغاية باخرة جميلة قمنا فيها وسارت تجري في ماء البحيرة تارة توغل في عرضها وطورا تنتقل بين الشطوط وتشرح الصدور بمرأى هاتيك الضفاف البهية والمنازل العظيمة التي رصعت بها تلك الأرض الطيبة فعدنا في المساء وكلنا ألسنة تلهج بحسن تلك المناظر.
بفالو:
وتركنا هذه البلدة في اليوم التالي، فاستقر بنا النوى بعد ذلك في مدينة بفالو، وهي من مدن أميركا العظيمة التي تقدمت تقدما سريعا لا مثيل له في تاريخ المدن الأوروبية؛ لأنها بنيت في سنة 1825، وعدد سكانها الآن يزيد عن ثلاثمائة ألف، وهي في وسط سهول فسيحة، وفيها مروج خضراء وحدائق غناء، وقد أطلق عليها اسم بفالو أو جاموس؛ لأنها كثيرة المرعى؛ ولأن هذا الحيوان يستقي من نهرها، وهي ذات هواء طيب وماء عذب، يقصدها المهاجرون من كل ناحية وتزيد على نسبة كبرى كما تقدم القول، وفيها معامل مشهورة للجعة والصابون والنشا يشتغل بها ألوف من العمال أكثرهم من الألمانيين والأرلانديين، ويصدر من معاملها لهذه الأصناف الثلاثة ما تقدر قيمته بمائة مليون ريال كل سنة.
نياغارا:
ويعلم القارئ أن غاية هذه السياحة اللطيفة الوصول إلى نياغارا، وهي أعظم شلالات الأرض طرا وأكثرها غرابة وجمالا، قل أن يجيء الولايات المتحدة زائر أو سائح ولا يقصدها، وعلى ذلك فنحن عدنا إلى المسير حتى وصلنا إلى هذه الشلالات العظيمة، وهي واقعة في حدود الولايات المتحدة من جهة الشمال حتى إن قسما كبيرا منها تابع لبلاد كندا الإنكليزية، فبعد أن استرحنا قليلا في أحد الفنادق قمنا لنرى أعظم المشاهد التي جئنا لأجلها، وهي تلك الشلالات العجيبة التي تلتقي فيها أربع بحيرات كبرى، هي أري وهورون ومشيغان وسوبيريور، يخرج منها نهر نياغارا في عرض 4750 قدما، وينصب فيه من الماء نحو 15 مليون قدم مكعب في كل دقيقة، وهذا المقدار الهائل من الماء ينحدر من علو 167 قدما إلى واد كبير الصخور فينحط عليها بقوة لا توصف، ويحدث ضجة تصم الآذان ومنظرا لم تكتحل بمثله عين إنسان، هذا هو الجانب الأميركي من الشلال العظيم ومجموع الشلالات المعروف باسم نياغارا، وتجاهه القسم الكندي، وهو كثير الاتساع يعرف باسم «نعل الحصان»؛ لأنه يشبه النعل في تكوينه، ويجري الماء هنالك في عرض 3000 قدم، فينحط من علو 158 قدما إلى واد بهيج، ولشدة انحدار الماء يتكون منه قوس من القطرات يحيط بها هالة من الضباب تزيد منظره رونقا ومهابة، وما أخطأ القائلون إن نياغارا أفخم ما في الطبيعة من المناظر، ولطالما تغنى شعراء الفرنجة في وصف هذه الأماكن العجيبة، وعني المصورون برسمها، حتى إن واحدا منهم قضى 17 عاما في رسم وتصوير نقلا عن بدائع الطبيعة في ذلك المكان. وقد اهتم الإنكليز والأميركان في بناء الحواجز والأرصفة حول هاتيك السيول المتدفقة وبنوا الفنادق والمتنزهات إلى جانبها، فصارت السياحة حول نياغارا من ألذ ما يمكن التمتع به، هذا غير أنهم اهتدوا من عهد قريب إلى استخدام القوة الكبرى الناشئة عن انحدار الماء في تلك الشلالات لتوليد الكهربائية، وهم الآن ينيرون بعض المدن بالقوة الكهربائية المتولدة منها، وفي نيتهم أن يتوسعوا في العمل ويجروا القوات وينيروا الجهات بهذه القوة الغريبة. والذي يقف إلى مقربة من ذلك السيل المنحدر ويتأمل غرائب الطبيعة يضيع في التأمل وينسى الذي كان فيه، وإذا كان مع صديق إلى جانبه لم يسمع له قولا ولو صرخ بملء صوته؛ لأن هدير الماء في انحداره وصوت التطامه بالصخور يصم الآذان. والماء إذا ما استقر في تلك الأودية بعد انحداره الغريب سار في النهر الذي يقل عجيجه حينا، وحينا يصل مقدار الماء الهائل إلى مضيق من الأرض يجري فيه أو إلى نقطة من مجراه تكثر فيها الصخور، فينشأ عن ذلك منظر يقرب في الغرابة من انحدار ذلك السيل الغريب؛ لأن الماء تتعالى أمواجه ويشتد في السير هياجه، فيؤثر ذلك على ذهن السامع والرائي تأثيرا لا يمحوه الزمان ولو طال.
وقد مر بك القول إن القوم اهتموا لتشييد الفنادق وإقامة المتنزهات حول هذه الشلالات، وساعدهم على هذا خصب الأرض وكثرة الماء يروي الغرس والزرع، حتى إن الأشجار التي تنمو على ضفاف تلك المجاري تكبر إلى حد عجيب، وهم قطعوا بعضا منها وعرضوها في المعرض مع غرائب البلاد، وقد كان اجتماع المحاسن الطبيعية في هذا الموضع داعيا إلى توافد الأفراد والجماعات عليه من كل صوب، فلا يقل عدد الزائرين كل عام عن نصف مليون، وكثير من الذين يتزوجون في الولايات المتحدة يقصدون نياغارا في الشهر الأول بعد الاقتران، وهو يعرف عندهم بشهر العسل، فيختلي المرء بعروسه مدة الشهر في أرض كلها دواع إلى الفكر والتأمل وتناسي زحام الدنيا ومشاغلها، ويروق للمتزوجين ذلك الشهر. وفوق هذا، فإن بعضا من أصحاب الهوس تعلقوا من عهد قريب على أمر ينهى عنه العقل، وهو أن ينحدروا مع الشلال في نياغارا ويصلوا إلى طرفه الأخير سالمين، وفي ذلك من الخطر العظيم ما لا يخفى، ولكن كثيرين منهم حاولوا ذلك فراحوا ضحية الهوس والمخاطرة الكبرى، وكان أكثرهم يضعون أنفسهم في براميل محكمة السد علها تقيهم من ضغط الماء وفعل الأمواج المتلاطمة، فما نجا منهم أحد، وكان في جملة هؤلاء الناس إنكليزي اسمه الكبتن وب، اجتاز بحر المانش الكائن بين فرنسا وإنكلترا سباحة، ولم يعبأ بكثرة أمواجه، ونال من وراء ذلك شهرة وجمع له بعضهم مكافأة بالاكتتاب بلغت ألف جنيه، فذهب هذا الرجل بعد حين إلى نياغارا مع امرأته، وهناك أراد فعل المستحيل ولم يصغ لنصائح امرأته وإلحاحها، وكانت النتيجة أنه اختفى في عباب ذلك البحر العجاج، ولم يقف له الباحثون على أثر، وكان قد قصد نياغارا لتمضية شهر العسل مع عروسه فخيب منها الآمال. وقد خربت جسور بنيت فوق هذا التيار لقوة سيره، فجعلوا الآن كل الجسور من النوع المعلق التي تقف على عمد في طرفي الأرض من الجانبين، وليس لها قوائم ولا عمد في الماء.
ولما انتهينا من التأمل في بدائع نياغارا اجتزنا الحدود ودخلنا مدينة أونتاريو في بلاد كندا التابعة للدولة الإنكليزية، وكان البعض منا يودون لو تطول الإقامة هنا زمانا، ولكننا عدنا بإشارة أولياء الأمر إلى القطر وسافرنا إلى مدينة روتشستر، وهي يبلغ عدد النفوس فيها نحو مائة وثمانين ألفا، وقد بنيت على ضفة نهر جنسي، وعلى مقربة منها شلالان ينحدر الماء في أولهما من علو 25 قدما، وفي الثاني من ارتفاع 85 قدما، والماء هنالك عذب نقي يشبه الفضة في لونه؛ لذ لنا الشرب منه، وعلى ضفاف ذلك النهر البهي عدة معامل، منها معمل للجعة (البيرا)، لما علم صاحبه بقدومنا دعانا للتفرج على محله فسرنا إليه، وهناك فتحت لنا البراميل الصغيرة هدية من صاحب المعمل؛ فشربنا وشكرنا وعدنا إلى المسير حتى وصلنا بحيرة سنكا، وهي مشهورة بجمالها، طولها 38 ميلا وعرضها يختلف ما بين 3 أميال و6 وعمقها يزيد عن 600 قدم، ولها مزية أنها لا تجلد في فصل الشتاء. وقد بني على شطوطها منازل عظيمة وقصور فخيمة لها الحدائق الغناء، فسرحنا الطرف زمانا بمناظرها، وتابعنا السفر حتى بلغنا خور واتكنس، وهو من المشاهد العجيبة لا مثيل له في أوروبا، طوله نحو ميلين ونصف وعمقه 300 قدم، وفيه صخور هائلة الحجم وأعشاب برية بالغة منتهى الضخم، فيحار الإنسان في وصف غربته وفخامته، ويعلم منه مقدار عظمة الطبيعة وتقصير المناظر الصناعية عنها في الفخامة والغرابة. وفوق هذا الخور جسر كبير مررنا عليه، ثم نزلنا إلى قسم من أسفله على سلم من الخشب والصخور ترشح ماء من فوقنا؛ ولذلك المنظر وقار ومهابة، وصعدنا من الناحية الثانية إلى فندق بني في ذلك الموقع البديع، ومنه يرى المرء البحيرة والأودية والشعب والسهول المحيطة بتلك البقعة، فبتنا هنالك ليلة واحدة، وقمنا في الصباح التالي إلى مدينة وليمسبورت، فلما دخلناها أطلق 21 مدفعا، وجاء حكمدار البوليس ومعه نفر من رجاله لاستقبال المندوبين، وبتنا في تلك المدينة ليلة أخرى.
وفي اليوم التالي وقف بنا القطار بعد مسير ساعة في إحدى القرى الصغيرة؛ لنرى كيف تقطع الأخشاب وتنقل، فرأينا الرجال يقطعون الأشجار ويلقون بها إلى النهر من داخل البلاد فتسير من نفسها مع الماء حتى تبلغ هذا المكان فيلتقطها أصحاب المعامل بالآلات التي ترفع القطع الكبرى كما يرفع المرء القلم بأصابعه، وتنتشلها من الماء فتدخلها في آلات أخرى في دور أعلى من البناء فتقشرها وتدفعها إلى آلات أخرى تنشرها ألواحا، وهذه تدفعها إلى مكان ترص به بعضها فوق بعض إلى أن يجيء زمان إرسالها إلى المواضع البعيدة، وهي تشحن في قطر خاصة لها والعربات والخطوط وبقية اللوازم في داخل المعمل، وقد قطعت أمامنا عدة أشجار بالآلات البخارية بأسرع من لمح البصر. وفي ذلك المعمل ألواح مقطعة وأخشاب تشغل مساحة لا تقل عن مائة فدان من الأرض. وزرنا بعد ذلك مدينة هارسبرج دعيت على اسم مؤسسها المستر هارس، وهي على نهر صغير وفيها حديقة لطيفة في مركزها تمثال للمستر هارس المذكور، وإلى جانبه جذع الشجرة التي ربطه إليها الهنود حين أحرقوه حيا في سنة 1718، وكان ذلك ختام السياحة البديعة التي أعدها مديرو المعرض لمندوبي الدول واستغرقت 12 يوما، رأينا في خلالها من كرم أصحاب البلاد ولطفهم ومن اعتناء أولياء الأمر بشأننا ما أطلق ألسنتنا بالشكر، وغرس ذكر تلك السياحة في أذهاننا إلى آخر الزمان.
عود إلى المعرض:
ولما عدنا إلى أعمالنا في المعرض كان فصل الصيف قد دخل، وهجر أهل اليسار فلادلفيا وقصدوا مصايفهم في الجبال أو على شاطئ البحر، وأشهر هذه المصايف فرضة لونغ برانش على المحيط، عرفت بحماماتها ويرد إليها نحو ثمانين ألف زائر وزائرة كل سنة، وفيها الفنادق الكبرى كثيرة العدد على شاطئ الأوقيانوس بطوله. وللكبراء قصور في ذلك الموضع، منها قصر للجنرال غرانت رئيس الجمهورية، وفيها السباق المشهور للخيل يعقد مرة في العام، وتكثر مسابقة الناس إليه وتراهنهم على أي الخيل يسبق، فقصدت هذا المحل ونزلت في فندق كان فيه بعض عائلات أعرفها. وفي اليوم التالي ذهبت إلى الحمامات ورأيت هنالك لأول مرة أن الرجال والنساء يستحمون في حمام واحد بعضهم مع بعض، فأنكرت هذه العادة، وهي ينكرها كل شرقي، ولكن الذين يألفونها لا يرون فيها نكرا لا سيما وأن المستحمين والمستحمات يسترون الأبدان بملابس خاصة للحمام ولا يأتون ما يوجب النفور، وقد كان هذا الأمر قاصرا على الأميركان فصار الأوروبيون يأتونه في عدة أماكن بحرية، وقد شرحت لذة الإقامة في الحمامات البحرية عند الكلام على هولاندا وبلجيكا، وقضيت في تلك الناحية زمانا إلى أن اتصل بي خبر وصول جلالة إمبراطور البرازيل إلى فلادلفيا، وعرفت أن في نيته التفرج على المعرض فعدت إليه حتى أكون على استعداد لمقابلته إذا أراد زيارة القسم المصري. وبعد ذلك أبلغنا ولاة الأمر أن جلالته سيقابل مندوبي الدول في قاعة المدرسة الجامعة بواسطة سفيره في الولايات المتحدة؛ فذهبنا في الأجل المضروب، ولقينا من مؤانسته وضعته شيئا كثيرا، وكان جلالته يحدث كلا بما يسره، فلما وصل إلي أشار علي أن أدقق في درس طرق التعليم ونشر المعارف في الولايات المتحدة؛ لأن مصر في حاجة إلى ذلك لترقية شعبها. وفي ثاني الأيام وصلني كتاب من مندوب دولة البرازيل يخبرني فيه أن جلالة الإمبراطورة عزمت على زيارة القسم المصري في المعرض، فانتظرت قدومها في الساعة المعينة، ولما جاءت مع المندوب البرازيلي درت مع جلالتها أفصل لها وأشرح، وهي تبدي الإعجاب والمسرة حتى انتهت من قسمنا وخرجت شاكرة متلطفة.
ودعاني بعد هذه الأمور حضرة الصديق المستر ولش مدير المعرض الحالي إلى الإقامة في مصيفه أياما في جرمانتون من ضواحي فلادلفيا، فلبيت الطلب وأقمت معه ومع عائلته ثلاثة أيام، وتلك عادة عند هؤلاء القوم الكرام يدعون الغريب إلى منازلهم ويرحبون به ترحيبا، وهم يعدون كل كلمة يقولها عن بلاده علما ثمينا حتى إني لما رأيت مندوب بلد السويد بعد هذا أخبرني أنه تعرف بعائلة دعته إلى مصيفها أياما، وهنالك تعرف بعائلة أخرى فدعته وعرفته بعائلة ثالثة، واستمر على ذلك مدة شهر كامل يتنقل في تلك المصايف معززا أينما حل، وهم يتبادلون الدعوات بعضهم مع بعض بمعنى أن الذي له مصيف على البحر يدعو صديقا مع عائلته له مصيف في الجبال، ثم يزوره مع عائلته، فهم يتمتعون بكل أطايب النزهة على أشكالها بمثل هذا النظام اللطيف. وقد كان من حسن حظي أني أقمت تلك الأيام في بيت المستر ولش المذكور الذي صار سفيرا لبلاده في إنكلترا بعد أن انتهت مهمته في المعرض، وكان له ابنة لها ولع بركوب الخيل، فدعتني في أحد الأيام إلى الركوب والمسابقة على ظهور الجياد، وقدمت لي فرسا مثل فرسها، فعملت بإشارتها ووقف والدها حكما بيننا يحكم للسابق بالفضل، فسبقتها في أول الأمر، ولكنها جدت في السير ووصلت الشأو الأخير قبلي فصار الواقفون يصفقون لذلك تهنئة للفتاة بإحراز قصب السبق. وتمشينا من هنالك إلى النقطة التي حصلت فيها المعركة بين اللورد هو الإنكليزي والجنرال واشنطن محرر أميركا وكان الفوز فيها للأول. ورافقت مضيفي وعائلته يوم الأحد إلى الكنيسة، وهم لا يهزأ شبانهم بالمتعبدين كما يفعل شبان غيرهم، بل يعدون ذلك دليل العلم والتهذيب.
ودعاني بعد ذلك المستر شاربلس - من وجهاء فلادلفيا - إلى مصيفه في شستر فسرت إليه وقضيت أياما مع الرجل وعائلته في هناء ونعيم، نقضي الأوقات بلعب الأكر وركوب الخيل والنزهة في قارب بديع يمسك المستر شاربلس دفته ويقذف أولاده وبناته ترويضا لأبدانهم، وعدت بعد هذا إلى مركزي في فلادلفيا.
وحصل في هذه الأثناء أني كنت أتمشى في بعض شوارع المدينة، وسمعت الناس يجرون ويقولون النار أضرمت في المعرض، فخشيت أن يكون ذلك في القسم المصري وتضيع المثمنات التي لا تعوض فيه، وركبت عربة أسرعت بي إلى جهة المعرض والتقيت بعربات الإطفاء مسرعة، فلما دخلت حديقة المعرض علمت أن النار في فنادق بعيدة عن قسمنا، ورأيت رجال المطافئ يصبون سيلا مدرارا على النار ويخربون الأبنية المجاورة لها حتى يحصروها في دائرة معينة فأخمدت النار بعد أن أتلفت ثلاثة فنادق بعد الاشتغال ساعتين، ولم يصب أحد الناس بضر. وظللت في تنقل بين ضواحي فلادلفيا حتى جاء الموعد الذي اخترته لزيارة عاصمة الولايات المتحدة وحضرة رئيسها بناء على دعوته ودعوة قرينته، كما رأيت في الفصول السابقة.
واشنطن
والآن أتقدم إلى عاصمة هذه الدولة العظيمة وأصف بعض مشاهدها الكبرى، ولا بد من ذكر شيء عن نظام حكومتها حتى يكون القارئ على بينة من أمره، وإني ذاكر هذا النظام على وجه الاختصار، وسوف أجعل ذكره في خلال الكلام عن المشاهد حتى لا يشعر القارئ بشيء من الملل ، وتتم الفائدة.
فقد مر بك أن حضرة زوجة الرئيس غرانت لما جاءت المعرض دعتني إلى زيارة «البيت الأبيض» في مدينة واشنطن، وهذا اسم القصر الفخيم الذي يقيم فيه رئيس الجمهورية مع عائلته مدة تولي الرئاسة، بني على نفقة الدولة وأكثره من الرخام الأبيض، وفيه كل ما يلزم من لوازم المعيشة المنزلية، والخدام تصرف لهم رواتبهم من الحكومة، فلا يتكلف الرئيس غير نقل أمتعته وخدمته الخاصة فقط حتى إذا انقضت مدته ترك القصر لمن يخلفه في المنصب. وفي هذا القصر غرف فسيحة بديعة الإتقان فرشت بالرياش الفاخر على نفقة الدولة أيضا؛ لاستقبال وفود الناس والسفراء ورجال الأمة وغيرهم من الذين لا غنى للرئيس عن مقابلتهم، وهو في كل أسبوع يقابل من شاء مقابلته من الناس ويصافح الصغير والكبير، ويسير بين رجال الدولة وأصغر العمال سيرا واحدا، فلا تعرفه من بقية الرجال إلا إذا دلك إليه عارف بحاله. ومدة الرئاسة عندهم أربع سنوات يمكن أن يعاد الانتخاب من بعدها، ولكن القوم تعودوا من بعد أيام استقلالهم ألا يعيدوا انتخاب الرجل للرئاسة أكثر من مرة واحدة؛ لئلا تطول مدة حكمه ويستأثر بالأمر، فيكون في ذلك رجوع إلى الحكم الملوكي الذي ينفر منه الأميركان نفورا كبيرا. ويعد الرئيس بمثابة رئيس الوزارة والملك في الممالك الدستورية، فهو أوسع سلطة وأكبر قوة من ملك الإنكليز أو ملك إيطاليا، وله حق تعيين الوزراء من أعوانه دون سواهم، وكذلك هو يعين السفراء والقناصل من أهل حزبه، وله راتب قدره 75 ألف ريال في السنة أي 15 ألف جنيه فقط، وكان فيما مر خمسة آلاف، ويجوز لمجلس الأمة محاكمته وعزله إذا ثبت عليه إثم، وله الحق في رفض كل قرار لمجلس الأمة إلا إذا أصر المجلس على القرار بعد رفضه ولم يحصل ذلك إلى الآن، غير أن أحد الرؤساء السابقين واسمه أندرو جونسون اتهم بأمور ووقف أمام مجلس الشيوخ للمحاكمة فلم يقر المجلس على إدانته.
ووكيل الرئيس قليلة خصائصه، ولكنه ينتخب مثل الرئيس لأربع سنوات، وهو يرأس جلسات مجلس الشيوخ الذي سيأتي ذكره، وإذا مات أو قضت عليه علة بالانسحاب لم ينتخب سواه للرئاسة، بل قام الوكيل بأعماله إلى آخر المدة.
وإني بناء على دعوة الرئيس غرانت وقرينته تركت فلادلفيا في قطار مر على ضفة سكونكيل ودلوار، وهما النهران المحدقان بالمدينة، واخترق بعد ذلك سهولا فسيحة فوصل واشنطن بعد ست ساعات، وذهبت من المحطة توا إلى فندق فبت ليلتي وقمت في الصباح التالي في عربة إلى قصر رئيس الجمهورية، فبعد سير قليل وقف الحوذي وقال لي إن هذا هو «البيت الأبيض» فأخذني العجب؛ لأني لم أر شيئا من أدلة الرئاسة والملك حول ذلك البيت، فلا حراس يخطرون ولا جنود يقيمون ولا رجال بملابس الأبهة والزخارف يظهرون، وفي ذلك مخالفة لكل الممالك الأوروبية، فنزلت من العربة وقرعت الجرس عملا بإشارة الحوذي، فظهر لي خادم فتح الباب، وقال من تريد، فأعطيته اسمي على بطاقة الزيارة، وسألني أتريد مقابلة الرئيس نفسه أم قرينته أم صهره المستر سارتوريوس وجميعهم خرجوا من المنزل، قلت إذا قدم ورقتي هذه إلى جناب الرئيس بنفسه وانصرفت وقد أذهلني بساطة الحاكم على دولة من أقوى دول الأرض، وعجبت لقوة النظام الذي يسود بلا جنود، والحرية التي تساوي رئيس الأمة الكبرى بأحقر أفرادها، وعدت إلى الفندق فأتاني في اليوم التالي مديره وبيده بطاقة الزيارة باسم الجنرال غرانت رئيس الجمهورية، وعليها دعوة للعشاء في الغد عند الساعة السابعة مساء، وعلمت أن أحد المعاونين في القصر الأبيض أحضر إلي تلك البطاقة، فذهبت إلى البيت الأبيض في الساعة المذكورة، وأدخلني الخادم إلى قاعة جميلة ما لبثت فيها قليلا حتى جاءتها زوجة الرئيس، ثم حضر هو ومعه الجنرال شريدن وزير الحرب، وهو من أبطال الحرب الأميركية الأهلية أيضا، وذهبت معهم إلى قاعة الطعام فوجدنا ابنة الرئيس وصهره، وجلسنا جميعا على المائدة، وتناولنا العشاء ونحن نتحدث عن أمور كثيرة، أهمها عن مصر ومشاهدها وأحوالها، ولم أر في هذا القصر شيئا يوجب الذكر غير أنه في فرشه وأدواته ونظامه ومنظره لا يختلف عن بيوت الأكابر من الأميركان ، وكثيرون من أصحاب الملايين لهم قصور أعظم من هذا القصر وأفخم، أنفقوا على زخرفها وإتقانها أضعاف الذي أنفق على بيت رئيس الجمهورية. ولطالما رأيت هذا الرئيس العظيم مدة إقامتي في واشنطن نازلا من بيته الأبيض أو في الشوارع المعروفة يتمشى وحده مثل بقية الناس، ويداه من وراء ظهره حسب العادة التي اشتهرت عنه.
وأما مشاهد هذه المدينة غير البيت الأبيض الذي يقيم فيه رئيس الجمهورية، فأهمها الكابتول، وهو دار الندوة الأميركية حيث يجتمع نواب الأمة وشيوخها للبحث في مهام الدولة وما يلزم لها من النظامات والشئون، ومعلوم أن حكومة هذه الجمهورية مثل غيرها من الحكومات الدستورية لها رئيس هو الذي تقدم ذكره، ومجلسان، أحدهما مجلس الشيوخ يرأسه وكيل رئيس الجمهورية كما تقدم وأعضاؤه 88 كبيرا يندبون من كل ولاية اثنين، وعدد الولايات المتحدة الآن 44 ولاية، وتنحصر أعمال هذا المجلس في التصديق على مشروعات النواب، ولكن لهم سلطة كبرى ليست لغيرهم من أعضاء المجالس العليا في أوروبا، فإنهم يعدون المجلس الأعلى في الجمهورية يحاكم أمامه رئيس الجمهورية والوزراء إذا ارتكبوا في وظائفهم ما يوجب هذه المحاكمة، ولهم حق المعارضة للرئيس إذا انتخب للمناصب العليا غير الذين يليقون لها، وفوق هذا فإن لهذا المجلس حق التصديق على المعاهدات أو المحالفات التي يبرمها الرئيس والوزراء مع الدول الأخرى، فهم بهذا لهم سلطة فوق كل سلطة في الولايات المتحدة، وكبراء الأميركان يتسابقون إلى إحراز العضوية فيه ويدفعون الأموال الطائلة لنيل هذا الشرف، فترى أكثر الشيوخ الحاليين من الأغنياء وأصحاب الملايين، ولكل عضو من أعضاء مجلس الشيوخ هذا - أو السناتو كما يسمونه - خمسة آلاف ريال في السنة أو ألف جنيه، وهم ينتخبون لمدة ست سنوات يجوز إعادة انتخابهم من بعدها، وفي كل سنة يتغير ثلثهم ويبقى الثلثان إلى أن تنتهي السنوات الست فيتغير الكل أو يعاد انتخابهم، وهم يجتمعون في قاعة كبرى من قاعات الكابتول التي نحن في شأنها، ولكل منهم مقعد خاص به أمامه منضدة صغيرة ودرج لكتابة المذكرات وحفظ الأوراق، وفي ناديهم أماكن كثيرة للزائرين على اختلاف أنواعهم ولمكاتبي الجرائد، فهم في هذا مثل بقية المجالس النيابية في كل الممالك الدستورية.
وفي الكابتول أيضا قاعة كبرى لمجلس النواب، وهم الآن 356 نائبا ينتخبون كل أربع سنوات مع رئيس الجمهورية، وينتقون من أعضاء المجالس النيابية في كل ولاية، فليس يخفى أن الولايات المتحدة مجموع ولايات مستقلة تمام الاستقلال في أمورها الداخلية، ولكل منها نظام يوجده رجالها وحاكم ووكيل الحاكم وأحكام وقوانين خاصة بها ومجلسان لسن القوانين. وبقية ما يقال عن مجلس النواب، مثل الذي قيل عن مجلس الشيوخ واسم المجلسين عند الأميركان «كونجرس»، كما أن اسم مجلسي النواب والشيوخ عند الفرنسويين والإنكليز «بارلمنت».
وفي قصر الكابتول غير هذه القاعات أماكن أخرى لا محل لذكرها هنا. والكابتول بناء بديع أسس على أكمة قائمة بنفسها مرتفعة حوالي 90 قدما، وطول هذا البناء 751 قدما، وعرضه 324 وعلو قبته 288 قدما، في رأسه تمثال الحرية، وتعد هذه الدار من أعظم أبنية المتمدنين، فإنه أنفق عليها نحو ثلاثة ملايين ومائتي ألف جنيه، ولها ثلاثة مداخل كبرى، فالذي يدخلها من الباب الأوسط يرى في صدر البناء تمثال كولومبوس مكتشف أميركا وإلى يمينه من الداخل تمثال الاستقلال الأميركي، وعند الباب الشمالي تمثال يشير إلى تنصيب واشنطن على رئاسة الولايات المتحدة وتماثيل أخرى تمثل وصول كولومبوس إلى هذه القارة سنة 1492، والتوقيع على قرار الاستقلال سنة 1776، وتسليم كورنوالس القائد الإنكليزي سنة 1781، ورسم الولايات الأصلية وعددها 13، وغير هذا مما يوضح تاريخ أميركا وتقدمها من سنة الاكتشاف إلى سنة المعرض الذي كنا في شأنه.
هذا كله تجده في بناء الكابتول العظيم، ولا بد قبل الانتقال منه أن نخبر القارئ أن حكام الولايات المتحدة ورئيس جمهوريتها والنواب والشيوخ وكل الذين يجتمعون في هذا المحل وذكرنا أسماءهم، ينتمون إلى أحد الحزبين العظيمين في البلاد، وهما حزب «الربوبليكنس» أو الجمهوريين، وحزب «الدموقراطس» أو العاميين. وكل من له دخل في سياسة الولايات المتحدة لا بد أن يكون تابعا لأحد هذين الحزبين، ولكن الأكثرية لحزب الجمهوريين من زمان طويل وأكثر رؤساء الجمهورية الذين انتخبوا من بعد الحرب الأهلية منه، ما خلا المستر كليفلاند رئيس الجمهورية السابق فإنه زعيم الحزب الديموقراطي، فما دام الحزب الجمهوري له الأكثرية في البلاد فالرئيس يكون منه وكذلك السفراء والقناصل؛ لأن حكومة الولايات المتحدة جرت على عادة تختلف عن عادة الممالك الأوروبية في ترقية سفرائها ونقلهم؛ فإن الرئيس هو الذي يعين هؤلاء القناصل والسفراء في مراكزهم، فإذا انتهت مدته وجاء رئيس جديد تغير أكثرهم وجاء بدلهم أصدقاء الرئيس الجديد. وفي هذا ما لا يخفى من تسليم المناصب السياسية إلى الذين لم يتمرنوا على أعمالها.
ويلي الكابتول في الأهمية المكتبة العمومية، ولها بناء عظيم تظنه قصرا منيفا، طوله 470 قدما وعرضه 365، وقد أنفقوا عليها مليون ومائتي ألف جنيه، وفيها أربعة ملايين مجلد يجوز لمن شاء أن يطالع الذي يريده فيها، وهم كل سنة يزيدون عدد الكتب حبا في ترقية شأن العلم وإفادة الجمهور.
ودار التحف وفيها من الأواني الصينية الغريبة صنعت في الهند والصين واليابان، وفرنسا شيء كثير، وفيها قسم للصور من ضمن رسومه ستمائة رسم أو تزيد تمثل هيئة الهنود ومشايخهم وطرائق معيشتهم، ونريد بالهنود هنا أهل أميركا الأصليين، وهم جنس منفرد عن غيره من أجناس البشر عرفوا بطول القامة ودقة الأنف وحدة النظر واللون النحاسي المميز لهم عن سواهم، وقد كانوا كثارا في أول الأمر، ولهم اطلاع واسع على بعض العلوم ولا سيما الفلكية منها، وآثارهم في بلاد المكسيك وما يليها إلى الجنوب تشهد بتقدمهم في العصور الخالية، ولكنهم أصحاب خديعة ومكر وحيلة ينفر الأوروبيون الذين عمروا أميركا منهم، وقد حدثت بين الفريقين حروب كثيرة كادت تفضي إلى انقراض هؤلاء السكان الأصليين. وفي الولايات المتحدة نحو نصف مليون منهم الآن في الولايات القاصية، وهم بلا صوت في إدارة البلاد ولا شأن ولا نفوذ، وأكثر أهل الولايات المتحدة يكرهونهم كرها شديدا، وإذا سجن أحدهم لجناية تعمدوا أذيته ولم يصبروا عليه إلى حين صدور الحكم القانوني. وقد اشتهر هؤلاء الهنود بالفتك الذريع بالفتيات الأميركيات، وأهاجوا سخط الأميركان عليهم بسبب هذه الخلة، فصار القوم الآن كلما سجن أثيم لمثل هذه التهمة يتنكر بعضهم ويهجمون على السجن ليلا، فيستاقون الهندي الأثيم ويشنقونه بأمر أنفسهم بدل أمر العدل، وهذه عادة غريبة قاصرة على تلك الولايات المتحدة لا يأتونها إلا مع الهنود، ولا سيما إذا كانت جريمتهم من نوع تعذيب البنات، وتعرف هذه العادة الأميركية باسم «لينتش»، وهي من أغرب ما يروى عن الأميركيين.
ويلي هذا المتحف في الأهمية بناء عظيم للمتقاعدين أو هم أرباب المعاشات، فيه قاعات فسيحة تعقد داخلها بعض الجمعيات الحافلة، ويمكن أن تضم عشرين ألفا من السامعين.
وقصر الاختراعات، وهو من أعظم الأبنية الأنيقة، خص بإدارة الاجتماعات وحصرها في المخترعين، وفيها الدلالة الكافية على اتساع نطاق الاختراع والسعي المفيد في بلاد الولايات المتحدة؛ فإن عدد الطلبات المسجلة في هذه الإدارة لا يقل عن ألوف الألوف، وفيها نموذج من كل اختراع يقدمه الذين يطلبون أن تحصر منفعة الاختراع فيهم، فلا يقل عددها عن نصف مليون مثال متقن الصنع، وقانون الاحتكار والاختراع في الولايات المتحدة كثير المواد، ولكنه يفي بمراد المخترعين أكثر من قوانين إنكلترا وفرنسا وغيرها، وأهم مواده أن المخترع يحق له أن يحتكر بيع الصنف الذي يخترعه أو بعضه إلى مدة معلومة لا تقل عن عشر سنين، وفي بعض الأحوال خمس عشرة سنة، لقاء رسوم لا تذكر يدفعها إلى خزانة الدولة أقساطا، فلا عجب إذا نمت الصناعة وكثر الاختراع في ظل دولة هذا نظامها.
ويلي ذلك قصور عظيمة للنظارات، وهي: الخارجية والمالية والحربية والعدلية والزراعة والبحرية والبوسطة، وليس للداخلية وزارة في واشنطن؛ لأن كل ولاية حرة في أمورها الداخلية، ولها وزير خاص بها في قاعدة الولاية، وقد دخلت سراي الخارجية بعد أن أرسلت اسمي إلى الوزير وهو يومئذ المستر فيش، فقابلني وقرأ كتاب توصية بي جئت به من صديق له في فلادلفيا فرحب بي كثيرا، وأراني بعض جوانب الوزارة، وفي جملتها قاعة عظيمة حوت رسوم الوزراء الأميركيين جميعهم من يوم تأسيس الجمهورية إلى ذلك الحين، وقد دعاني هذا الوزير للعشاء في منزله فلبيت الطلب ووجدت عنده المستر سانفورد سفير الأميركان في بلاد البلجيك، وتوجهنا بعد العشاء إلى منزل وكيل الوزارة لحضور مرقص واحتفال كبير فلقيت هنالك النواب والشيوخ والحكام وسراة الأميركان، وفي جملتهم بعض من الذين قضوا فصل في الشتاء في مصر وعرفتهم فيها. ودخلت أيضا وزارة المالية متفرجا في جوانبها وفيها مطبعة سرية تطبع أوراق الحكومة المتداولة بين الناس كالنقود، وعملها سري لا يصل إليه العمال أنفسهم؛ لأن الذي يطبع لا يرى الذي يجمع الحروف، والذي يصنع الورق لا يعرف صانع الحبر وهلم جرا، وفي كل ذلك حذر من التقليد وتحمل الغبن والخسارة. ونظارة المالية هذه تصرف كل ورقة من هذه الأوراق تقدم إليها بقيمتها نقود، وهي في ذلك مثل بنك إنكلترا وبنك فرنسا وغيرها من المصارف تتداول الأيدي أوراقها كما نتداول النقود، وإذا وجدت أوراق مالية مزورة من هذا القبيل فما على صاحبها إلا أن يحضر إلى نظارة المالية فتعطيه ورقة بقيمتها، وتغير أيضا الأوراق البالية من كثرة الاستعمال.
ومدينة واشنطن مثل الدولاب شكلا، مركزها الكابتول الذي ذكرناه، ومن هناك تتفرع الشوارع في شكل دائرة، وتسمى بأسماء حروف الهجاء تسهيلا واختصارا. والمنازل والحوانيت كلها منمرة مثل بقية المدن الكبيرة، والشوارع مصقولة بالأسفلت وهي واسعة كثيرة النظافة. وفي المدينة نحو ثلاثمائة وخمسين ألف نفس كانوا في أول هذا القرن 8028 فصاروا 23364 في سنة 1840، ومائة وعشرة آلاف في سنة 1870، ونحو مائة وخمسين ألفا في سنة 1880، وفي جملة سكانها 40 ألفا من النواب والشيوخ وموظفي الحكومة والسفراء وعائلات هؤلاء الموظفين؛ فلذلك قيل إنها مدينة الموظفين والنواب، وقد ارتفعت أسعار المأكولات فيها ارتفاعا كبيرا حتى إنها لتعد الآن من أكثر مدن الأرض غلاء، وأكثر الخادمين في منازلها من سكانها السود، وهم يقربون من خمسين ألفا فيها. وفيها من المشاهد الكبرى غير الذي عددناه تماثيل لواشنطن محرر أميركا، ومسلة تعرف باسمه أيضا ارتفاعها 555 قدما، وكلها من الرخام الأبيض بلغت نفقة إنشائها ثلاثمائة ألف جنيه، ومنها تمثال لافايت القائد الفرنسوي الذي أعان الأميركان على الاستقلال، وتمثال مارشال وهو مؤسس نظام المحاكم والقضاء في الولايات المتحدة.
وعدت بعد هذه السياحات إلى مركزي في فلادلفيا، فعلمت من المستر تشايلد أن فيها اثنين من أشراف الإنكليز وكبراء مشاهيرهم، هما اللورد دوفرن واللورد روزبري، فأما اللورد دوفرن فقد كان مدعوا للعشاء في تلك الليلة عند المستر تشايلد ودعيت أنا أيضا، وكان اللورد دوفرن يومئذ حاكم مستعمرة كندا الإنكليزية ثم صار واليا للهند، ونقل منها إلى الآستانة سفيرا ثم نقل إلى رومة فإلى باريس، ومنها استقال من الخدمة بعد أن شهد جميع الناس أنه من أبرع سفراء زمانه وأكثرهم استعدادا لحل المعضلات. وقد كان من حسن حظي أني اجتمعت به للعشاء في منزل المستر تشايلد، وكان في جملة قوله لنا أنه شديد الميل إلى رؤية مصر وآثارها، وقد تحققت أمنيته هذه؛ لأنه جاء مصر بعد إخماد الثورة العرابية مندوبا من قبل حكومته لتنظيم حكومتها، وتقرير القواعد التي تسير عليها، ويذكر القراء أن مصر سائرة الآن بحسب آرائه المنشورة في التقرير المشهور، وأنه كان يدير حركة المسألة المصرية مدة وجوده في الآستانة، ولما جاء مصر في مهمته المذكورة ندبني دولتلو رياض باشا يوما لإبلاغه كلاما، فلما اجتمعت به ذكرني باجتماعنا في فلادلفيا قبل ذلك الحين بسبعة أعوام. وأما اللورد روزبري فإني أخبرني صديقي المستر دركسيل - الذي مر ذكره - أنه كان ضيفا عنده، ودعاني للعشاء في ذات ليلة فاجتمعت بهذا الرجل العظيم، وهو الذي صار بعد ذلك وزيرا للخارجية على عهد غلادستون، ثم خلفه في رئاسة الوزارة الحرة، وله شهرة تدوي بها الآفاق، فلست أزيد القراء به علما، وكان يوم قابلته شابا تلوح عليه أدلة العظمة ويكثر من الصمت والتأمل، ولكنه إذا قال شيئا كان قوله عذبا طليا يسحر السامعين.
ختام المعرض
كل الذي مر بك تم في ستة أشهر ونحن في المعرض الأميركي العام، حتى إذا قرب ختامه بدأنا بالاستعداد للعود إلى مصر، ووزعت الجوائز قبل الختام بقليل على أصحاب الصناعة والتجارة وغيرهم ممن عرض شيئا يستحق الذكر، وكان في جملة الجوائز واحدة للمعرض المصري نالها على نوع من القطن، ولما جاء يوم الختام - وهو 10 نوفمبر سنة 1876 - قدم رئيس الجمهورية من العاصمة باحتفال مثل الذي وصفناه عند افتتاح المعرض، فألقى خطابا وجيزا شكر فيه الدول المتحابة التي شاركت الولايات المتحدة في احتفالها ومعرضها، وذكر مصر معها بنوع خاص، وأعلن إقفال المعرض، فأطلق مائة مدفع ومدفع، وصدحت الآلات الموسيقية بالأنغام، ودار ذكر الوداع والتهاني، وكان مدير المعرض وعماله يثنون على الحاضرين ويودعون ويذكرون أوقات الصفاء. وفي مساء ذلك اليوم استقبل رئيس الجمهورية مندوبي الدول للوداع وشكر كلا منهم على حدة، وانصرفنا ونحن نذكر أياما قضيناها بكل ما يفيد العقل والنفس، وأرسلت آخر التقارير عن المعرض إلى سمو الخديوي توفيق باشا، وبدأنا بتوديع أولئك الأصدقاء الذين أظهروا لنا لطفا وكرما غير معتاد. ثم سافرنا من مدينة فلادلفيا آسفين لفراقها ومن فيها، وسرت إلى مدينة نيويورك ونزلت في فندق هوفمان أياما، ثم ركبت باخرة من بواخر شركة هويت ستار الإنكليزية، ومعنى اسمها النجم الأبيض ومركزها في مدينة لفربول ببلاد الإنكليز، فودعت الأصدقاء وغادرت ربوع الأميركان بعد إقامة 14 شهرا، وكان ربان الباخرة رجلا كريم الأخلاق، وفيها كثار من أهل الوجاهة بينهم الموسيو بلتنف معتمد روسيا في المعرض، ولما كان زمان سفرنا في فصل الخريف أو أول الشتاء، فإن الجو أظلم مدة السفر كله، وكثر الضباب والمطر، ولكن الأمواج لم تزد عن الحد المعتاد فوصلت السفينة ميناء لفربول ليلة عيد الميلاد من تلك السنة بعد أن مخرت في البحر تسعة أيام اجتازت فيها 3000 ميل، وكان بعض الركاب لا يصدقون أنها تصل في ذلك اليوم والبعض يصدقون، فجعلوا يتراهنون ولما قضي الأمر وتم المراد ربح بعضهم من البعض الآخر مالا وافرا بهذا الرهان، وعول أكثرهم على شراء هدية لربان الباخرة بهذا الربح؛ لأنه كان كثير الاهتمام براحة المسافرين.
وعدت بعد ذلك إلى مصر فتشرفت بمقابلة سمو الخديوي وعرضت عليه نتيجة المأمورية، فأظهر الرضى والارتياح، وكان ذلك ختام سياحتي في الولايات المتحدة ومأموريتي في معرضها المشهور، والحمد لله على حسن الختام.
معرض باريس العام
سنة 1900
لما أوشك قرن الحضارة والاختراع على الختام، خطر لأمة الفرنسيس أن تجعل عامه الأخير ممثلا لآياته جامعا لكل حسناته، فتقيم في باريس الحسناء معرضا عاما لتسابق الأمم فيه إلى عرض النفائس والبدائع، وتتجلى آيات التقدم الباهر في كل أبواب العمران والارتقاء، فنادت أمم الأرض تدعوها إلى الاشتراك في هذا المعرض العظيم ولبتها الشعوب متوافدة على عاصمتها البهية من جميع الأمصار قادمة بما أنتجت قرائح نوابغها من فنون هذا الزمان ومصنوعاته وعلومه واكتشافاته، حتى إذا فتحت أبواب هذا المعرض المشهور كانت القصور المنيفة قائمة في جوانب أرضه الرحيبة بين ما مهدوا من بهي الطرق وبديع الحدائق والمشاهد التي تختلب العقول، وقد ملئت هاتيك القصور بآثار الأوائل والأواخر، ونسقت غرائب التقدم الحديث من مبتكرات الأقوام المختلفة، فبدت جميعها آيات بينات تشهد بمقدرة الإنسان وارتفاع درجة العمران في ذلك القرن العجيب؛ لأن المعرض كان صورة للأرض مصغرة ولكنها بديعة الإتقان وافية البيان ساحرة للأذهان، ما أتى الناس بمثلها في جميع الأزمان.
وما اشتهر في الأقطار بناء هذا المعرض حتى بدأ كل ذي قدرة على الذهاب يتحفز استعدادا لرؤية محاسنه وبدائعه؛ لأن المعرض مدرسة للمرء تزيده علما واختبارا، وتمثل لديه ما صنع الأولون والآخرون وما أدركوا من أسرار الطبيعة، وما سخروا من عناصرها، وما أنجزوا لترقية حالة الأفراد والأقوام في كل زمان ومكان، وما يمكن أن يكون قد بلغه بالخبر ولم يظهر أمامه بالعيان، ولا سيما هذه المخترعات التي لا تعد، وقد تناولت معظم ما في الأرض وغيرت شكله تغييرا يكاد يحسب من خوارق المعجزات، مثل البخار الذي أودى بالأبعاد وقرب البلاد من البلاد، حتى إنه يمكن أن يسير المرء في أيامه حول الأرض في أقل من أربعين يوما لو استمر على المسير، وما كان ذلك فيما قبل بالأمر الميسور، ومثل التلغراف الذي جعل الأرض أصغر مما صغرها البخار، حتى إن الواقف في أطراف الشمال يمكن له العلم بأخبار النائي في أقاصي الجنوب والوقوف على أحوال كل صقع سحيق ساعة بعد ساعة، وأصبح الأمر الذي كان يلزمه صبر الأعوام حتى يصل بعض المواقع المتباعدة يذيع حال وقوعه وينتشر بين جميع الأقوام، وأغرب ما في هذا النوع تلغراف ماركوني الذي ينقل الأخبار بلا سلك ولا موصل عبر دقائق الهواء، تدفعها آلته الكهربائية أمواجا تلو أمواج في الفضاء حتى إذا بلغت موضع آلة أخرى من هذا النوع نقرت عليها نقرا خفيفا وطبعت إشارات مثل إشارات التلغراف المألوف ، فيقرأها القارئون وهم لا يرون مصدرها ولا واسطة وصولها.
وقد أصبح أهل أوروبا وأميركا يتناقلون درجات الحرارة وأخبار الهواء ومجاريه في الأوقيانوس الأتلانتيكي، ويعلمون حقيقتها قبل أن تبلغ شطوط أرضهم بهذا التلغراف العجيب، حتى إذا ظهر لهم أن إعصارا أو عصفا كبيرا قادم عليهم استعدوا له ولم يخاطروا بالسفن في ساعة البلاء الكبير، وأهم من هذا أن السفن ترسل أخبارها إلى الشواطئ، وهي في عرض البحر على بعد ألف وخمسمائة ميل عن البر، فيدري الناس بأخبارها، وتعرف كل أخبار الناس وهي بعيدة عنهم هذا البعد، حتى إذا وقعت إحداها في مصاب أمكن لها أن تخابر أقرب الشواطئ بأمرها فتأتيها النجدة بدل أن تستسلم للقضاء وتغرق في البحار، ثم هم جعلوا الآن يطبعون جرائد تصدر في البواخر كل يوم مدة سيرها وتستقي أخبارها ساعة بعد ساعة على طريقة ماركوني من الشطوط، فلا يحسب المسافر نفسه منقطعا عن العالم وأهله مدة السفر؛ لأنه يعلم ما يريد بهذا الاختراع البديع. هذا وكثير غيره يراه المرء في المعارض موضحا من نشأته إلى آخر درجاته، ويدرك بالعيان ما يلزم لإدراكه في الكتب طويل الأعوام.
ولو شئنا أن نعد غرائب العصر الحديث التي مثلت في هذا المعرض لضاق دون عدها المقام؛ لأنهم طيروا الأصوات بتلفونهم وأنطقوا الجماد بفونوغرافهم، وولدوا غرائب الصناعة بهذه المجاري الكهربائية التي تعد أساس الاختراعات الأخيرة وقاعدتها، حتى إنهم بدءوا يستعيضون بها عن البخار ويستخدمونها لكل غاية من أمثال ما ذكرنا، ولا بد أن يكون شأنها عظيما في المستقبل القريب، ففائدة المعارض الجامعة في هذه الأبواب ظاهرة، ولكن الخبر ليس كالعيان، هذا غير أن المعارض تعد أندية لأهل القول ورجال العلم والعمل، ومجامع لكل فن ومطلب يختلف إليها زعماء الأفكار وينتابها المجدون العاملون على ترقية درجة الحضارة في الشرق والغرب، فيتبادلون الآراء ويتناقلون أخبار علومهم واكتشافهم، وينشرون آيات اختبارهم وفوائد بحثهم على العالمين.
ولقد كان من حظ العالم العربي أن معرض باريس الأخير انتابه اثنان من الكتاب المجيدين، ونشروا على الجمهور خلاصة ما رأوا فيه بألطف أسلوب وأجلى بيان، هما حضرة الفطن الذكي أحمد بك زكي اتفق مع صديقه حضرة الدكتور ألفريد عيد صاحب مجلة طبيب العائلة، وأرسل رسائل رنانة عن المعرض طبعه كتابا اسمه الدنيا في باريس، ووزع على قراء تلك المجلة بلا ثمن فكان تحفة، عدد صفحاته 272 مزينة بجميل الرسوم تستحق الذكر بين مفيد المطبوعات إلى آخر الزمان، وثانيهما حضرة العلامة المشهور الدكتور يعقوب صروف صاحب مجلة المقتطف الغراء؛ فإنه طبع في مجلته سلسلة مقالات بلغت غاية الأرب في متانة عبارتها وبديع تنسيقها وصدق معانيها، حتى إنه لم يكتب بلغة العرب أحسن منها في كثير من الفصول، هذان الكاتبان المجيدان سبقا كل سابق في كتابة المواد عن المعرض، حتى إني لما بدأت بتسطير هذا الفصل عولت في كثير من أجزائه على مقالاتهما وأصبح شكرهما واجبا بلا مراء.
ولقد عن لي أن ألقي دلوي في الدلاء فأزور هذا المعرض الأكبر، وأسجل ما يدور في خاطري عن بعض مشاهده وآياته، فاجتزت البحر إلى مرسيليا يوم 29 يونيو سنة 1900، وسرنا ذلك اليوم، فلما كان الغد ظهرت جزيرة كريت ودنت الباخرة منها، فكانت تسير على مقربة منها وهي إلى الجهة اليمنى حوالي 12 ساعة؛ لأنها جزيرة طويلة لا تقل عن 150 كيلومترا من طرف إلى طرف. ثم دخلت الباخرة البحر اليوناني أطلقوا عليه هذا الاسم لوقوع الجزيرة اليونانية فيه، وفي جملتها الجزر التي كانت لدولة الإنكليز ثم تنازلت عنها لحكومة اليونان في بدء حكم الملك جورج الحالي سنة 1864، وظهرت في اليوم الثالث جزيرة «سيسيليا» إلى جهة اليمين وجبال كلابرا إلى جهة الشمال، وكلاهما من الأملاك الطليانية، ثم بلغنا خليج مسينا، وهو مضيق من الماء تنحصر فيه الأمواج وتكثر أهوال السفر فيه بسبب الأنواء، وقد بنيت على شاطئه مدينة مسينا المعروفة بجمال منظرها وحسن موقعها، فكنا نرى شوارعها من الباخرة وأعمدة قناديلها نظرا إلى اقترابنا منها. وفي اليوم الرابع مررنا بجزيرة كورسكا على الجهة اليمنى، وهي الجزيرة التابعة لفرنسا، وقام منها نابوليون الكبير، ثم جزيرة سردينيا وهي تابعة لإيطاليا ، مررنا بها وهي إلى الجهة اليسرى وظللنا على هذا السفر المتوالي حتى بلغنا مدينة مرسيليا في اليوم الخامس من أيام السفر، وأقمنا 12 ساعة في القطار.
وأقمت في باريس شهرا كاملا أتردد يوما بعد يوم على معرضها العظيم، فرأيت أن الذي يريد العلم الصحيح بكل ما فيه يلزم له أن يقيم على ذلك مدة المعرض بأكملها وقد لا تكفيه، حتى إن أصحاب المعرض أنفسهم لا يعلمون - فيما أظن - كل ما يعرضون فيه من الأشكال، وتاريخ هذه المعارض يرجع إلى الأسواق التي كانوا يقيمونها في المدائن والقرى مدة العصور الغابرة، ولكنها لم تصر شيئا يستحق الذكر إلا في أواسط القرن الماضي حين أقام الإنكليز معرضا عاما سنة 1851 بناء على اقتراح البرنس ألبرت والد جلالة الملك إدورد الحالي، وقد بقيت أجزاء هذا المعرض وحفظ كثير من بقاياه في سدنام من ضواحي لندن واسمه قصر البلور، وهو من مشاهد لندن المعدودة إلى اليوم، ومساحة هذا المعرض 73150 مترا مربعا، زاره مدة وجوده ستة ملايين نفس، وعد ذلك يومئذ نجاحا كبيرا، ثم بدأت فرنسا بإقامة هذه المعارض فأنشأت أولها سنة 1855 بعد الانتهاء من حرب القرم المشهورة في ميدان شان ده مارس، وكانت مساحته 168000 متر مربع ومساحة قصره 32000 متر مربع، ثم عادت لندن في سنة 1862 وأقامت معرضا آخر في حي كنزنتون، وهو من مساكن الأكابر في عاصمة الإنكليز وقصره باق إلى الآن جعلوه معرضا للمنحوتات والنقوش القديمة والحديثة، ونقلوا إليه كثيرا مما كان في المتحف البريطاني المشهور. وفي سنة 1873 قامت دولة النمسا لمجاراة الرفيقات في هذا المضمار فأنشأت معرض فيينا، وتبعتها جمهورية أميركا ، ففتحت معرضها الأول سنة 1876 تذكارا لمرور مائة سنة على إعلان حريتها واستقلالها، وعلى أثر ذلك أصدرت حكومة فرنسا قرارا بإقامة معرض عام في عاصمتها كل عشر سنين؛ لأن جمال باريس الفتان واتساع ضواحيها وميادينها وتوسط مركزها وشهرتها بالمحاسن عامة تضمن إقبال الناس على معارضها - ولو كثرت - فأقامت معرضا سنة 1878 وبقي منه إلى الآن قصر ألترو كاديرو، وأقامت المعرض التالي سنة 1889 تذكارا لمرور مائة عام على سقوط الباستيل في يد الشعب الفرنسوي وسقوط الاستبداد ونشأة الحكومة الجمهورية في فرنسا، فكان معرضا عظيم الشأن، وكانت جمهورية الأميركان أبدا في تقدم كبير، فرأت بعد ذلك أن تبرز أدلة تقدمها الباهر للعالمين، وأقامت معرض شيكاغو سنة 1893 وجعلته أكبر ما تم من نوعه إلى ذلك الحين وانتهت بإقامة معرض سان لويس الأخير سنة 1904، فكان أوسع المعارض طرا في مساحة أرضه وزادت نفقاته عن عشرة ملايين جنيه.
وأما فرنسا فإنها عادت إلى العمل بقرارها السابق، وأرادت أن تخلد ذكر القرن التاسع عشر بتمثيل غرائبه، وجعلت المعرض في سنة 1900 آخر سني القرن المذكور، وهو موضوع كلامنا الآن.
أقيم هذا المعرض على ضفتي نهر السين في ساحة شان دي مارس، وبلغت مساحة أرضه مليون وثمانين ألف متر مربع، منها 460 ألفا شيدت عليها الصروح الفخيمة والمباني الفاخرة ونحو مائة ألف متر زرعت حدائق غناء وروضات فيحاء تشرح برؤيتها الصدور، وفي جملة ذلك زهاء أربعين ألف متر فرشت بالعشب النضير بساطا عديم المثال، ومثل هذا العشب السندسي كثير في جهات أوروبا ولونه كالزمرد البهي، وقد غرسوا 3000 شجرة في جوانب هذا المعرض وجعلوا بعضها حرجات في البهاء والرواء، وكان الرواء المزروع على أشكاله الكثيرة يشغل 3000 متر من الأرض وحده غير بقية الأشجار والأزهار، وجاءوا بنحو 28 ألف قصعة أو برميل نمت فيها الشجيرات والأعشاب والأزهار المتنوعة ورصوها في طرق المعرض، وهم يتعهدونها يوميا ويسقونها ما يعادل 300 ألف ليتر من الماء، وأقاموا كثيرا من الأنصاب والتماثيل صنعت من الرخام يتدفق الماء منها على أشكال تروق للناظرين، يكفي للعلم بمحاسن هذه الأشجار والرياحين والأزهار أنه أنفق عليها وحدها مبلغ 23 ألف جنيه.
معرض باريس العام.
وقد فتح للمعرض 45 بابا تتوارد جموع الناس منها كل يوم إلى أجزائه، وبنوا فوق نهر السين 25 جسرا أو قنطرة، لما أن المعرض كان على ضفتي النهر كما تقدم الكلام، فكان الجسر لا يبعد عن الجسر إلا مسافة 300 متر بوجه التقريب حتى لا يجد الناس عناء في الانتقال من جزء في المعرض إلى جزء، وكانوا يفتحون هذه الأبواب كل صباح لجماهير المنتظرين في الساعة 8 من الصباح، ويوصدونها في الساعة 11 من الليل، ولكن عمال المعرض وهم لا يقلون عن 200 رجل، كانوا يهبون للعمل قبل فتح أبوابه بساعتين على الأقل لكنس طرقه وجوانبه وإعادة رونقه ونظامه، ويلي ذلك توارد المكلفين بحفظ الأمن والنظام وهم 200 من الشرطة و600 من الحراس و300 من الفرسان و500 من الحرس الجمهوري و400 من المراقبين على الأبواب لتذاكر الدخول، فمجموع هؤلاء العمال 3000 وهم المعينون رسميا من الحكومة ولجنة المعرض للقيام بأعماله العمومية لا يدخل في عدادهم العمال الذين خصوا من داخل المعارض بخدمة أجزائه وهم يعدون بالألوف. وكان هؤلاء يدخلون بعد العمال الرسميين الذين ذكرناهم فيتواردون أفواجا من باب المطاعم والحوانيت وخدمة الحانات والمقاولين والمتعهدين والجزارين وباعة السمك والطير وعمال البريد والتلغراف والتلفون، ويليهم موظفو المعرض كل يذهب إلى محله، حتى إذا جاءت الساعة 8 والمراقبون على الأبواب فتحت للداخلين وبدأت حركة الأعمال، وقد كان عناؤهم بمسألة الانتقال شديدا حتى يسهلوا سبل الحركة والمسير على الزائرين، فما تركوا وسيلة حتى عمدوا إليها فأتوا بالشيء الكثير من العربات السيارة والترامواي الكهربائي والبخاري أو الذي تجره الخيل والدراجات والسيارات أو هي الأوتوموبيل على أشكاله، والباخرات تسير في نهر السين طول مدة العمل مملوءة بالزائرين، تأتي بهم من بعيد الجوانب، وكل عربة أو سفينة قادمة تنزل الركاب عند أقرب الأبواب إليها، فكان عدد الداخلين ما بين مائتي ألف وثلاثمائة ألف في اليوم، وزاد عن هذا المعدل كثيرا في أيام الآحاد والأعياد؛ لأنه دخله يوم عيد العنصرة نصف مليون زائر، وفي غد ذلك العيد نحو ذلك، وزاد عددهم في يوم الأحد 9 سبتمبر حتى بلغ ستمائة ألف نفس.
البوابة الأثرية الفخيمة.
وقد أنشئوا مكاتب للبريد داخل المعرض ووضعوا 76 صندوقا للمراسلات يفرغها السعاة في أوقات معلومة، وأوجدوا أيضا مكاتب للتلغراف والتلفون بلغ عددها 56 مكتبا حتى إن الواقف في أرض المعرض كان يمكن له مراسلة أية جهة أرادها من أقاصي الأرض وهو في مكانه، فكان في ذلك تسهيل كبير لأعمال المعرض وأصحابه وزائريه، وفتحوا ثلاثة فروع للبنوك المشهورة داخل أرض المعرض، فكان المرء يقبض المال إذا أبرز تحويله بلا مشقة الانتقال إلى مكان بعيد، وبلغ عدد المطاعم في جوانب المعرض مبلغا كبيرا، ولكن كثرتها لم تغن عن الزحام بالنظر إلى كثرة القادمين، فكانوا يدخلون الطالبين في أكثرها بموجب نمر يعطونها لكل قادم في دوره فيقف الرجل وبيده النمرة حتى إذا خلا مكان على موائد المطعم دخل وتغذى فيه، فكان كثير من الناس يضجر من طول زمان الوقوف وانتظار أمر الخادم له بالدخول فينصرف وهو جائع والمال في جيبه وفير كثير.
دخلت هذا المعرض من البوابة الأثرية يوصل إليها من ميدان الاتحاد (بلاس ده لاكونكورد)، وهي بناء جميل علوها 38 مترا ومساحة بنائها 500 متر، وقد فتحوا فيها 76 طاقة أو نافذة لبيع التذاكر، و38 مدخلا يمكن أن يدخل منها 2000 شخص في آن واحد أو 6000 شخص في كل ساعة، بنوها من الطوب والحديد والخشب، وطلوها ببهي الألوان الزاهية كالأخضر والأحمر والأزرق، ويتخلل خطوطها عروق الذهب، وتخفق في أعلاها وفي جوانبها الأعلام ورصعوها ترصيعا بديعا بالمصابيح الكهربائية الصغرى، إذا خيم الظلام وأرخى الليل سدوله أناروها بالنور الكهربائي فتلألأت وضاءت كأنما هي نجوم الثريا في كبد السماء، أو عقود من الجوهر واللؤلؤ تسطع وتلمع في عنق غانية حسناء، ولها جمال فتان ورونق يذهب بالأفكار ويسترق الأذهان، فدخلت من هذه البوابة البديعة على ما تقدم القول، وسرت في جنة من الأزهار والرياحين تتدفق المياه من أنصابها وبركها البهية حتى وجدتني أمام قصرين منيفين وصرحين فخيمين شادتهما حكومة فرنسا من الممر النفيس بناء متينا محكما ، وزينتهما بمنتهى ما وصل إليه حذق الصناع من غرائب النقش والزخرف والتزويق، حتى إنها أنفقت عليهما مليوني جنيه، وكان بينهما شارع جميل يوصل إلى جسر إسكندر الثالث، وهذا قليل من وصف هذين القصرين الفخيمين:
القصر الكبير:
فأما القصر الكبير فكان معرض الفنون، وما تم في بابها مدة السنين العشر التي مضت قبل افتتاح المعرض بلغت ساحته 40000 متر مربع أو أقل من عشرة فدادين بالشيء القليل، وجمع بين متانة البناء وفخامته وبين غرائب الزخرف ودقة الصناعة وبهاء الألوان، ولم ينهج مهندسوه منهجا واحدا في بنائه، ولكنهم جمعوا بين الأساليب اليونانية والأوروبية الوسطى (رنيسانس)، وهم يريدون بهذا الاسم تجدد الحضارة على عهد لويس الثالث عشر، ولويس الرابع عشر من ملوك فرنسا في القرن السابع عشر. وقد جعلوا عمد هذا البناء العجيب مضلعة ونقشوا بين ضلوعها ورق السنديان وثمره على المرمر النقي، وجعلوا هذا النقش بلون السنديان الطبيعي، فكان لمنظر تلك العمد البهية تأثير يفرح النفوس، وزخرفوا واجهته بالتماثيل والأنصاب، وجعلوا له بوابة واسعة ذات عمد رخامية توصل إلى رواقين، قام كل رواق منهما على 14 عمودا، وهما يتصلان بفناء رحيب طوله 200 متر وعرضه 55، وقد سقف بالزجاج، فعرضت دولة فرنسا في هذا الفناء ما صنعه النحاتون والمصورون من أبنائها من النقش والحفر على الرخام والحجر والجبس أشكالا لا تعد، هي رسوم رجال أو نساء من المشاهير ووحوش ضارية وطيور، فكان عدد هذه القطع أكثر من ألف، واشتركت بقية أمم أوروبا مع فرنسا في عرض هذه الأنصاب والتماثيل، فكان لمجموعها منظر رهيب ولا سيما إذا رآها المرء بمفرده في الليل، وقد تفنن الصناع في نقش بعض التماثيل فجعلوا بدن التمثال من الرخام الأبيض وشعره من الأسود وملابسه من الرخام الملون مثل تمثال الطبيعة، وهي شكل فتاة أسفرت عن وجهها وكشفت ستارها، جسمها من الرخام الأبيض وثوبها من الرخام المعرق بالأحمر والأصفر وشعرها من الأشقر الذهبي ورداؤها ضارب إلى الصفرة، وغير هذا مما يحدث فتنة في نفوس الناظرين.
ولقد صعدنا الدور الثاني من هذه الفسحة على سلم بديع الصنع من الحديد، جعلوا له أشكالا يشتغل بها الفكر دون سواها مدة الصعود، فإنهم صنعوا الحديد على شكل الأوراق والأغصان الطبيعية وطلوها باللون الأخضر تمثيلا للشكل الطبيعي، وقد خص هذا الدور الثاني بالفنون الجميلة أو «التصوير بالقلم»، وهو مطلب له عند الغربيين قدر وقيمة، حتى إن نفقات هذا القسم في المعرض بلغت 12 مليون فرنك، وكان فيه 40 قاعة جميلة عالية السقوف عريضة الجدران محلاة بعروق الذهب، وقد علقت في جدرانها الرسوم النفيسة فلم تقل عن خمسة آلاف رسم، نصفها من صنع مصوري فرنسا والنصف من بقية الأمم. وقد رأيت بين هاتيك الرسوم البديعة ما يمثل كل حالة في الأرض وأهلها، ففيها رسوم الليل والنهار، وصور الضاحك والباكي والشيخ والفتى والحب والهجر والجبال والبحار والمعارك والمؤتمرات والملوك والكبراء، وبقية الأحوال على أشكالها، فكانت أفواج الزائرين تقف متأملة ممعنة معجبة بتلك المحاسن التي أظهرتها فنون المصورين، وحانت مني التفاتة إلى صورة في القسم الروسي، فألفيتها تمثل ملك الحبشة في مجلسه الرسمي واقفا ويده على رأس نمر، ورأيت صورة القيصر بطرس الأكبر وبيده طفل هو لويس ملك فرنسا العظيم؛ لأنه لما ذهب بطرس لزيارة باريس كان لويس طفلا فأخذه بين يديه وقال: إني الآن أحمل فرنسا كلها بيدي، وهنالك صور أفراد بالشكل الطبيعي لا تستره الملابس، وهو منظر لم تألفه الأذهان الشرقية، ولكنهم تعودوه في بلاد الغرب فترى صغارهم وكبارهم من النوعين يتفرجون عليها ولا يبالون، مثل صورة الريشة، وهي على شكل فتاة لم تلبس غير قميص يستر بدنها ومنكبيها، وحول وسطها منطقة تتدلى منها الحمائل وقد عقصت شعرها ولفته في أعلى الرأس غدائر متوالية صعدا، ثم عصبت هذه الغدائر الحسناء بعصابة من الذهب مرصعة باللؤلؤ والجوهر، وقد أمسكت ريشة زرقاء بيسارها فكان ذلك علة اسمها.
ومن ذلك صورة الزهرة، وهي أيضا على شكل فتاة غضة الشباب بهية الإهاب، أرخت بعض ذوائبها على جبين لها وضاح يزري بنور الصباح، وقد كللت رأسها الجميل ببديع الأزهار والرياحين، وأمسكت بيمينها عرقا من هذه الأزهار . وغير هذا كثير.
القصر الصغير:
وأما القصر الصغير فما أطلق عليه هذا الاسم لصغر فيه أو قلة في مواده؛ لأنه كان كثير الجوانب واسع الغرف جامعا لكل أثر من آثار الإنسان في أدواره السابقة جميعها، فترى فيه أدوات الحروب القديمة كالسيوف والخوذ والدروع والتروس، مما كانوا يحاربون به قبل السلاح الناري، وفيه الساعات القديمة والنقود على أشكالها، والأقفال والأمواس والسكاكين والآنية الفخارية، ورياش البيوت كلها وضعت على نسق يريكها لما كانت في أول الحالات كيف تحسنت وارتقت إلى أن بلغت مبلغها الحالي؛ لأنهم جمعوا مواد الحياكة والنسج كلها ليراها الرائي، ويتضح له كيف ينسج الثوب، ثم كيف يفصل، ثم كيف يخاط، إلى غير ذلك، وسيبقى هذان القصران في جملة معارض باريس الدائمة إتماما للفائدة، وضنا بكنوزهما من التلف، ذلك مع أن عاصمة الفرنسيس ملأى بالمتاحف، مثل: اللوفر والترو كاديرو، ولكنها أبدا تطلب المزيد في مثل هذا الأمر المفيد.
جسر إسكندر الثالث:
بعد الفراغ من هذين القصرين تركتهما وذهبت مارا على جسر إسكندر الثالث، دعي باسم القيصر الروسي السابق؛ تخليدا لذكر التحالف بين دولتي روسيا وفرنسا وقد وضع أساسه القيصر الحالي، وهو يومئذ ولي العهد لما زار مدينة باريس سنة 1896 واستقبل استقبالا بالغا منتهى العظمة والفخامة ما زال الناس يذكرونه إلى الآن. والجسر من غرائب الصناعة الحديثة ومشاهد باريس المعدودة، قليل نظيره في جمال شكله ورقة زخارفه وإتقان صنعه، هو عبارة عن قوس واحد نصبت فوق نهر السين طوله 107 أمتار من ضفة إلى ضفة، وعرضه 40 مترا، وقد أنفقوا عليه سبعة ملايين فرنك وزينوا طرفيه بقباب شاهقة مموهة بالذهب في أعلاها أشكال النسور الروسية، وهم ينيرونه كل ليلة بمئات من الأنوار الكهربائية، فيكون منظره غاية في الجمال.
البنايتان:
وأقاموا في منتهى هذا الجسر بنايتين عظيمتين كل منهما ذات دورين، واحدة إلى اليمين وواحدة إلى الشمال، وطولها 1500 متر، وعرضها 300 متر، يفصلهما طريق الإنفاليد الذي يوصل إلى طريق قبر نابوليون الأول، فالبناء القائم على الشمال عبارة عن معرض تام لجميع مصنوعات فرنسا ومعاملها، تجد فيه كل أداة تصنعها معامل الفرنسيس من المكانس إلى الجواهر، ومن الإبر إلى أخف الأطالس. وقد قسموا هذا البناء أقساما، ووضعوا فيه النمر ليسهل الاطلاع على محتوياته، وكتبوا اسم المعمل على كل سلعة أو صنعة حتى إذا أراد المرء أن يشتري شيئا من فرنسا قصد هذا المعرض، وعرف أين توجد أحسن معاملها. والبناء الثاني القائم على اليمين فيه مصنوعات الأجانب، قسم لكل أمة قسما، وأقام فيه العمال الساهرون يستقبلون القابلين باللطف ويشرحون. وأجمل ما في هذا المعرض خريطة فرنسا في القسم الروسي لما رأيتها كان حولها جمع متألب من المتفرجين يحدق ويعجب، وكانت أجزاء هذه الخارطة تسطع وتلمع فتفرح بمرآها القلوب، وقد صنعت كلها من نفيس الجواهر ترصيعا بديعا ما له في صناعة الناس نظير، خططت فيها الأقاليم وظهرت المدن بألوان الجواهر المختلفة، مثل باريس، وضعوا موضعها في الرسم ألماسة عظيمة تبهر النظر بأنوارها، ومرسيليا أشاروا إليها بحجر من الزمرد الأخضر، وروين بلؤلؤة، وليون بياقوتة، وقس على هذا ما جرى مجراه، فكانت هذه الخارطة هدية القيصر لحكومة فرنسا؛ تخليدا لذكر معرضها والصداقة الكائنة بين الأمتين، وهي أجمل الهدايا وأنفسها في العصر الحديث. وقد ورد في جريدة روسيا الرسمية أنهم أنفقوا على هذه التحفة الثمينة أربعة ملايين فرنك، وقضى الصياغ في صنعها ثلاث سنين، هذا في قسم روسيا. وأما الأقسام الأخرى فكانت مجموع محاسن تستحق الذكر، من ذلك القسم الأميركي فيه غرائب الاختراعات، وتميزه عن سواه مروحة كبيرة ميكانيكية تدفع الهواء الساكن فتصيره هبوبا شديدا كان الناس في حاجة إليه يومئذ والحر شديد، ورأيت فيه الآلات التي تصنع الحذاء في ثلث ساعة، فإذا أوصيت عليه وأنت واقف فصلوا الجلد بدقيقة واحدة وخاطوه بسبع دقائق، ووضعوه في القالب 7، وعملوا النعل في 6، وأتموا بقية اللوازم في 10، فمجموع ذلك 31 دقيقة. وهنالك قسم الصين يحار العقل مما فيه من صناعة العاج الدقيقة حتى كأن العظم في يد الصينيين حرير يوشونه ويطرزونه على أدق الأنواع، وفيه أيضا موكب إمبراطورة الصين بكل بهائه وزخرفه ممثل نقشا على العاج.
ولما انتهيت من هذه الأقسام صعدت الدور الأعلى من البناء، ولكن الصعود كان على طريقة تعد من ألطف غرائب الصناعة؛ ذلك أننا لم نرق سلما في الصعود، بل وقفنا على بساط عرضه متر واحد، وهو أبدا يدور ويلتف على أسطوانة تديرها الكهربائية ولا نهاية له فيما يرى الراءون، فإذا وقف المرء على هذا البساط العجيب وأمسك بيمناه حبلا من القطيفة يستعين به على الثبات جعل البساط السحري يلتف من نفسه تحت الأرجل، ويرفع الواقف عليه بسير رويدا حتى يوصله إلى الدور الأعلى، فكأنما هو بساط الريح الذي توهمته عقول الأولين فيما نشروا من الحكايات والأساطير. ولما بلغت الدور الأعلى رأيت جماهير الخلق محتشدة ما بين البنايتين، وعلمت أنهم ينتظرون قدوم جلالة شاه إيران متفرجا على المعرض، فنزلت ووقفت مع الواقفين، ورأيته حين أقبل مع بعض الكبراء، فإذا هو كما يمثله الرسم الشائع، ولكن الاصفرار ظاهر في عينيه، وقد خط الشيب عارضيه، فنزل من العربة وسار من ورائه حاكم إقليم السين، ورئيس المجلس البلدي وياور رئيس الجمهورية، ولم يرجع من حيث تمكن رؤيته؛ لأنه كان يؤثر التواري يومئذ بعد أن حاول أحد الفوضويين قتله في اليوم السابق.
قصور الممالك:
لم تكتف الأمم الأجنبية بما كان لها من الأقسام في البناء العمومي الذي سبق ذكره، ولكنها شيدت قصورا منيفة في شارع عظيم يمتد على ضفة السين سمي بشارع الممالك، وقد كانوا في بعض الأحيان ينظرون إلى بهاء منظر القصر من الخارج وزخارفه أكثر من نظرهم إلى ما فيه من المصنوعات، وكان قصر إيطاليا أجمل هذه القصور طرا، أنفقوا عليه أكثر مما أنفقت إنكلترا وأميركا على قصريهما، مع أنهما أشهر بكثرة النضار وسعة اليسار، حتى إن القصر الطلياني كلف عشرة ملايين فرنك، ولعل الداعي إلى هذا سياسي يدل على عود إيطاليا وفرنسا إلى المجاملة والصفاء بعد أن طال بينهما التنافر والجفاء، وهذه أسماء الممالك التي بنت قصورها على ضفة النهر في الشارع المذكور: إيطاليا - تركيا - أميركا - النمسا - المجر - إنكلترا - بلجيكا - النورويج - ألمانيا - إسبانيا - السويد. أما روسيا والهند والصين فبنت قصورها في شارع التروكاديرو.
قصر إيطاليا:
تأملت هذا القصر كثيرا قبل أن ولجته، وحدقت بما فيه من نقش دقيق ورسم أنيق، وما في بنائه من الحسن الظاهر للعيان، وقد بنوا هذا القصر دورين ونقشوا على واجهته رسوما وصورا اشتغل بها مهرة الصناع والمصورين، حتى إنها لو رسمت على القماش بدل تلك الجدران لكانت من أحسن ما تزدان به معارض الرسوم. ودخلت الدور الأول من هذا البناء الفاخر فإذا به متسع القاعات بهي الجوانب علقوا فيه المصابيح والثريات الكبرى من أجمل ما تصنع معامل الزجاج في البندقية، وهي ملونة ببهي الألوان، ووضعوا هنالك أنواعا شتى من صناعة البندقية المشهورة بمعامل الزجاج، نسقوها على مناضد طويلة، وهي مختارة من كل معمل أرسل إليها أجود ما عنده، فكانت مناظرها بهجة للعيون.
قصر تركيا:
بني هذا القصر ومن فوقه في الدور الأعلى منه ملهى أو تياترو، وقد أنفق على بناء الدورين مليون ومائة ألف فرنك، وله ردهة فسيحة تطل على نهر السين، ويرى الواقف فيها كثيرا من أبنية المعرض وأجزائه، وكان الازدحام كثيرا تجاه هذا القصر، ومنظره مع ما فيه يفكر المرء بالآستانة، ولا سيما منظر هذه الأبضعة المتراكمة من المنسوجات الحريرية يحيكونها بالأنوال في حمص وحماة ودمشق، ومن الأقمشة المطرزة بالقصب على النسق التركي المعروف، وطنافس نفيسة من صنع أزمير، ومن معمل هيريكة السلطاني في الآستانة، وكان فيه كثير من الأدوات التي تصنع في القدس، وهي مصنوعات شتى من الخشب ومن الصدف وعرق اللؤلؤ، وفيه أيضا أنواع جميلة من الحلي والمصاغ الذهبي والفضي على رسوم أكثرها شرقية تختلف اختلافا ظاهرا عن صياغة الفرنجة، فكان المتفرجون على هذه البدائع كثيرين، وفي جملة ما عرضوا هنالك الدخان الاستامبولي وبعض لوازمه من الأفمام والشبوقات، بعضها من الكهرمان والبعض من مواد أخرى. وأما الملهى الذي بنوه في الدور الأعلى من هذا القصر فكان فيه خليط من الممثلين والعمال من الأتراك والسوريين والأرمن وسواهم، يرقصون ويلعبون ألعابا شتى، ويغنون الأغاني الشرقية ويطربون. وقد كان العثمانيون والشرقيون عامة يجدون في القصر التركي شيئا تميل إليه النفوس، ولا وجود له في غير هذا الموضع من باريس، هو القهوة العربية على مثل ما تصنع في مصر والشام، فكان ذلك من حسنات القصر التركي.
قصر أميركا:
أنفقوا على بناء هذا القصر خمسة ملايين فرنك، وكان يختلف عن بقية القصور في إدارة أموره الداخلية؛ لأنه كان ناديا للأميركيين الذين يؤمون باريس مدة المعرض، وقد جعلوه ثلاثة أدوار، في الأول منها مكتب للاستعلام يرأسه شاب أميركي ولد في باريس وهو من الأذكياء، كان يقضي النهار كله في مجاوبة السائلين على كل ما يخطر لهم الاستعلام عنه في دائرة المعرض، وكثيرا ما يسألون عن غيره أيضا، فكنت أرق لحالة هذا الشاب إذ أراه أبدا في إيضاح ومجاوبة لا ينتهي من سائل أو سائلة حتى يبدأ بمجاوبة فرد جديد، وعادة النساء الأوروبيات والأميركيات في الاستعلام واستقصاء الأمور مشهورة، ولا سيما إذا وجدن عاملا مثل هذا عرف المطلوب كله، وقد انقطع لخدمة السائلين، وفي هذا الدور أيضا مكتب للبريد القادم من أميركا بأسماء الذين لم يعرفوا موضع إقامتهم حين قاموا من بلادهم، فأوصوا أن ترسل إليهم الرسائل إلى القصر الأميركي في المعرض، ويليه مكتب آخر تباع فيه طوابع البريد وأدوات الكتابة، تسهيلا للذين يريدون أن يحرروا الكتب والرسائل من ذلك المكان، ووضعوا أيضا صندوقا للرسائل، وأنشئوا غرفة للجرائد الأميركية من كل ولاية، وكانوا يسجلون أسماء القادمين إلى المعرض من أميركا، فيكتبون الاسم ومحل الإقامة ويوم الوصول إلى باريس ويوم ذهابهم منها، والجهة التي ذهبوا إليها والفندق الذين ينوون الإقامة فيه حتى إذا ورد على أحدهم شيء من بلاده بعد أن يبرح باريس يرسلون الشيء إليه في محله الجديد، أو إذا أراد أحد الأصحاب أن يعرف مقر صاحبه عرف ذلك في الحال، وكانوا يعلنون في هذا المكتب أخبار العالم الواردة بالتلغراف، وأسعار البورصة في نيويورك، أما الدور الثاني من هذا القصر فأعدوه لمندوب جمهورية أميركا في المعرض ومن معه من العمال والمساعدين، والدور الثالث خص بالحفلات الراقصة أو الجمعيات الأدبية، ولهذين الدورين آلة رافعة تصعد من الدور الأول، وفي الدور الثاني عمال يأخذون بطاقة كل قادم يريد أن يوصل اسمه إلى المندوب، فكان كل أميركي يدخل هذا القصر في المعرض يشعر أنه في وطنه ومنزله من حسن التدبير.
قصر النمسا:
أنفق على هذا القصر سبعة ملايين فرنك وعرضت فيه مصنوعات بلاد النمسا وبعض ما ميزتها به الطبيعة من المياه المعدنية التي يستفيد منها أهل الأقطار جميعهم، مثل مياه الينابيع المشهورة في مارينباد وكارلسباد وغيرهما، ولها شهرة ذائعة في الأقطار، وقد كانت هذه المياه سبب اشتهار المدن المذكورة ونمائها؛ لأنها قامت بسبب وجودها وتوارد الناس من كل صوب للانتفاع بمائها، وقد أصبحت مثابة الألوف ومعظمهم من الأغنياء والأكابر في كل عام.
قصر المجر:
صرفوا على هذا القصر مليوني فرنك ونصف مليون، وجعلوه خاصا بمملكة المجر وحدها، فلم يضموه إلى معرض النمسا؛ لأن المجر مملكة مستقلة قائمة بنفسها، ولها أحكام وسياسة وقوانين ووزارة ومجلس نواب غير التي في بلاد النمسا، فلا رابطة بين المملكتين فيما سوى أن ملكهما واحد، هو الإمبراطور فرانس يوسف الحالي. والمجر حريصون جدا على إظهار انفصالهم عن النمسا واستقلالهم، فجعلوا هذا القصر خاصا بهم ولا محل لوصف ما كان فيه من المصنوعات المجرية؛ لأننا لم نفسح المجال في هذا الفصل لوصف بقية المصنوعات.
قصر إنكلترا:
أنفق الإنكليز على بناء هذا القصر مليون وثمانمائة ألف فرنك، وأنفقوا كثيرا غير هذا على بناء الأقسام والمعارض للمستعمرات الإنكليزية، مثل كندا وأوستراليا ونيوزيلاند وأفريقيا الجنوبية، وهي أشغلت نحو 7000 متر من أرض المعرض غير الذي أنفقوه أيضا على قصر الهند، وسيأتي ذكره. وقد كان القصر الإنكليزي - مثل كل عمل إنكليزي - جميلا مع قلة الزخارف، وكان الترتيب سائدا على ما فيه وعلى أعماله أيضا حسب المعروف عن هذه الأمة، فإنهم أوقفوا ضابطا على باب القصر يشير إلى الناس بالوقوف والامتناع عن الدخول حتى إذا اجتمع منهم 80 أو 90 أشار إليهم بالدخول؛ إذ يكون الذين سبقوهم - وهم بمثل هذا العدد تقريبا - قد خرجوا من باب آخر، فلا يختلط حابلهم بالنابل من تكاثر الأفراد في قاعات القصر، ولا يحدث اضطراب وقلق للعمال أو للزائرين.
قصر بلجيكا:
بلغ المال الذي أنفق على هذا القصر مليون فرنك، وكان معرضا بديعا لصناعة هذه البلاد الراقية التي سبقت الممالك العظمى في كثير من المصنوعات، ولا سيما الحديدية منها، كالسلاح والآلات الزراعية والمنسوجات وسواها. وتمتاز المصنوعات البلجيكية بمتانتها وجودتها، وقد تقدمت في السنين الأخيرة تقدما عظيما، حتى إنها حلت محل الصناعة الإنكليزية في كثير من أسواق الأرض، واشتهرت الشركات البلجيكية بالهمة والتفنن في إنجاز الأعمال.
قصر السويد:
كانت جملة المال الذي أنفق عليه مليون وثمانين ألف فرنك، وقد صنع كله من الخشب على نسق بديع يشهد بالبراعة لصانعيه، فإنهم قطعوا ألواح الخشب في ستوكهولم وأتقنوا نجارتها وجعلوه على القياس المطلوب للبناء، ووضعوا لها نمرا ثم أرسلوها في سفينة شراعية إلى مرسيليا، فما بقي على بناء القصر السويدي في المعرض غير أن تركب تلك الألواح بعضها إلى بعض حسب نمرها، وأن تطلى بالألوان بعد ذلك، فهم اكتفوا بعدد قليل من العمال والنجارين في باريس لإتمام البناء، لم يزد عددهم عن 12 نجارا ومهندسا، وقد كان هذا القصر أحسن مثال لبلاد السويد وحالتها، ولكن القوم لم يكتفوا بعرض الحاصلات والمصنوعات فيه، بل إنهم مثلوا هيئة بلادهم في الشتاء حين تتراكم فيها الثلوج وتطول الليالي، وفي الصيف حين يطول النهار فيشرق القمر والشمس معا في وسط النهار، وهي من الحوادث الطبيعية الناشئة عن مركز الأرض تجاه الشمس، لا ترى إلا في الأقاصي الشمالية، مثل بعض روسيا وبلاد السويد والنورويج. وقد أعادوا هذا القصر برمته إلى ستوكهولم بعد انتهاء مدة المعرض في باريس؛ لأنهم فكوا تلك الألواح ونقلوها، ولا بد أنهم استعملوها لأغراض أخرى بعد ذلك.
قصر النورويج:
يقال في السويد والنورويج مدة هذا المعرض ما قيل في النمسا والمجر من حيث العلاقة السياسية، فإن المملكتين كانتا دولة واحدة ثم انفصلتا على ما رأيت في تاريخهما، وقد أنشأ أهل نروج معرضهم الخاص في باريس لهذه الغاية وأنفقوا عليه نصف مليون فرنك، وعرضوا فيه حاصلات بلادهم ومصنوعاتهم، وأهم ما يقال في هذا القصر أنه مثل قوة أهل النورويج على التجارة وصناعة السفن؛ لأن لهم امتيازا بذلك جعلهم من أهل الطبقة الأولى بين الأمم. ومما شهدت في هذا القصر تمثال نانسن، وهو رحالة نورويجي مشهور ذاع اسمه في الأقطار؛ لأنه بلغ في سياحاته إلى نواحي القطب الشمالي شأوا لم يدركه السابقون فكان أعظم مكتشف لدائرة القطب قبل بيري، وقد ذهب الرجل في باخرة قوية بناها لهذا الغرض، وسماها فرام، والاسم نورويجي معناه «إلى الأمام»، واستصحب معه الدراجات التي تسير على الثلج، والكلاب التي لا يمكن السير بدونها في تلك الأصقاع المتجمدة، ومئونة 3 سنين حتى إذا لم يعد السير ممكنا في الماء ترك الباخرة وتقدم زحفا على الجليد إلى آخر ما بلغه يومئذ، فأفاد أهل العلم فوائد كبرى وعاد على الزحافات، أما الباخرة فإنه تركها محبوسة في الجليد، فلما أشرقت الشمس طويلا وذاب بعض الجليد نزلت الباخرة من نفسها مع تيار الماء فوجدوها في ثغور النورويج وجعلوا يوم وصولها مثل الأعياد. وأما نانسن نفسه فإنه نال غاية العز والإكرام بعد رجوعه، وقابل الملوك والعظماء وخطب وكتب كثيرا عن سياحته، فجمع مالا طائلا جزاء مخاطرته في خدمة العلم والاكتشاف.
قصر إسبانيا:
لم يكن لهذا القصر نظير بين قصور الدول؛ لأنه مثل كثيرا من حالة العرب على عهد امتلاكهم لبلاد إسبانيا، فكان منظره وما فيه يلذ للشرقي ويعيد إلى الذهن ذكر أحسن أيام الدول العربية الزاهرة في الأندلس، فقد رأيت فيه قباء أبي عبد الله آخر سلاطين الأندلس من بني الأحمر وأسلحته وجرابين كان يضع فيهما نسختين من القرآن، ورأيت عمامة حربية من النحاس كان يلبسها أمير البحر خير الدين باشا، وهو الذي يعرفه الإفرنج باسم بارباروسا أو ذي اللحية الحمراء، وكان في هذا القصر كثير يمثل الأزياء الإسبانية الحالية ومصنوعات تلك البلاد.
قصر ألمانيا:
اهتمت أمة الألمان بإقامة هذا القصر ونحو 20 موضعا غيره في أجزاء المعرض العام؛ لأنها خطت في الصناعة والتجارة مدة الأعوام الأخيرة خطوات واسعة، فنمت معاملها وتعددت مصنوعاتها وجعلت ترسل المندوبين منها إلى سائر الأقطار يعلمون حاجة الناس ويوصون على الأشياء التي تفي بحاجاتهم حتى إن المتاجر الألمانية عمت، وأصبح كثير من أسواق الأرض خاصا بالألمانيين دون سواهم؛ ولهذا كان الاهتمام لعرض المصنوعات الألمانية في معرض الدول عظيما، فإنهم أنفقوا على بنائه ستة ملايين وستمائة ألف فرنك، وكان بناء بديعا فخيما، دهن بتراب الرخام حتى يخيل للرائي أنه مبني من الرخام برمته. وكان هذا القصر الألماني ممتازا بين أمثاله من معارض الدول في أن له شرفة طويلة في الدور الثاني يظهر منها المعرض كله، وأما الأشياء التي ضمها هذا القصر فكثيرة لا يسهل عدها على القارئ، نذكر منها آلات جديدة لصب الحروف المستعملة في الطباعة، وصورة جوتمبرج - وهو ألماني مر ذكره في فصل آخر من هذا الكتاب، كان أول من اخترع الطباعة بالحروف على النسق الحديث - وغير هذا كثير.
هذه سلسلة القصور التي بنيت على ضفة النهر تمثل حالة الدول والأمم تمثيلا يجعل المتنقل بينها كأنه ساح من قطر إلى قطر، ورأى زبدة ما يستحق الذكر في كل من تلك الأقطار، وأما قصور الدول الأخرى التي بنيت في شارع تروكاديرو فهي كما يجيء:
قصر روسيا:
معلوم للجميع أن هذه الدولة الضخمة السلطان مشهورة باتساع مواردها وكثرة كنوزها وحاصلاتها، ولها مزية بكثير من المصنوعات والحاصلات ليست لبقية الأمم، مثل الفرو يصدر أكثره من بلاد الروس ويصنع في مدائنهم، وقد كان لهذا النوع قسم كبير في القصر الروسي استلفت أنظار المتفرجين ولا سيما السيدات منهم، وقد أتقنوا عرض هذه الفراء الثمينة فوضعوا أشخاصا من الخشب كالرجال والنساء والأولاد وألبسوها أنواع الفرو الثمين مفصلة على جميع الأزياء، هذا لملابس السيدات داخل المنازل، وهذا للخروج في أيام الشتاء، وهذا للحفلات وهذا للاستقبال، وكان بين تلك الأزياء شكل سيدة خارجة من حفلة وهي لابسة جبة من أثمن أنواع الفرو، وهو يقدر بأضعاف قيمته من الذهب لندرته وجماله المفرط وصعوبة الحصول عليه، وكان هنالك قطعة من فرو السمور الأسود لم أر لها نظيرا في جمال سوادها الساطع اللامع ونعومتها، فلا عجب إذا بلغ ثمنها 75000 فرنك، وقد كتب عليها هذا الثمن الكبير، وقد مثلوا في هذا المعرض أيضا حالة الصياغة الروسية، ولا سيما ما خص منها بالآثار الكنائسية؛ فإنهم جاءوا بالصياغ من روسيا كانوا يصيغون أفاريز من الفضة تطلى بالذهب وتوضع فيها الأيقونات، كذلك صنع الطلاء المعروف بالمينا، وهو مما امتاز به الروس وكان له قسم في القصر الروسي. وكانا في هذا القصر خارطة الشرق البعيد، وفي وسطه سكة الحديد العظيمة التي توصل روسيا من أطرافها عند بطرسبرج بأقصى ملاكها في الشرق عند فلادفستوك، والأرض التي قامت بسببها أكبر الحروب الحديثة بين دولتي روسيا واليابان.
قصر الصين:
بني القصر الصيني إلى يمين القصر الروسي، وقد جعلوا له مدخلا يحكي البوابة الكبرى التي قامت في أول حي الإمبراطور في مدينة بكين عاصمة الصين، أشغل هذا القصر أرضا واسعة من المعرض؛ لأنهم لم يقتصروا فيه على عرض الأشياء الصينية، بل هم جاءوا بالعمال من بلاد الصين، وقد رأيت فيه الصياغ يصيغون جميل الأشكال والنجارين والخراطين والنحاتين كل يعمل بحرفته، ولهم صبر غريب على نقش الزخارف الدقيقة في العاج والخشب والمعادن، واشتهرت بها صناعتهم من قدم، وكذلك رأيت النساجين يحيكون الحرير وغيره بالأنوال على الطرق الصينية، فكأنما هذا القصر كان معملا لصنع البدائع الشرقية، يود الزائر لو يقيم فيه زمانا يتأمل أولئك الصناع وما يصنعون.
قصر الهند:
إذا دخل المرء هذا القصر حسب نفسه متنقلا في بلاد الهند العظيمة؛ لما يرى في جوانبه من أنواع المنسوجات الشرقية والأسلحة القديمة والأحجار الكريمة والمعادن الثمينة من نحاس وذهب وفضة وغيرها، كلها منقوشة أجمل نقش وقد قطع العاج أشكالا شتى كثيرة الزخرف والإتقان، ويذكر في هذا الباب أيضا قصر جزيرة سيلان المشهورة؛ لأنها من أجزاء السلطنة الهندية، وهي معروفة بما يصدر من أرضها كل سنة من الشاي والأفاوية والرصاص الذي تصنع منه الأقلام المعروفة، فإن قيمة المتصدر من هذا الصنف وحده كل سنة لا تقل عن 12 مليون فرنك. ولما كانت المصنوعات الهندية مشهورة في هذا القطر فلا نطيل في وصف قصرها ومصنوعاتها في معرض باريس.
المستعمرات الإنكليزية:
أشهر المستعمرات الإنكليزية التي أقامت لها القصور الخاصة وعرضت مصنوعاتها وحاصلاتها في هذا المعرض مستعمرة كندا، وهي قطر واسع عظيم واقع في أميركا الشمالية، كانت ملكا لدولة الفرنسيس بعد اكتشاف أميركا، ولكن إنكلترا استولت عليها في سنة 1760 بالحرب، وما زالت هي أهم مستعمراتها، وأهلها خليط من مهاجري الإنكليز والفرنسيس، وهم على درجة عليا من التقدم والارتقاء، وقد أظهروا بين معروضاتهم في قصر كندا أنواع الشكر الكبير الباسق الذي يكثر في غياض تلك البلاد، وكثيرا من الحاصلات الزراعية التي يصدرونها إلى بعيد الأقطار.
ومن هذا القبيل قصر أوستراليا - أي القارة التي ملكتها إنكلترا برمتها، وهي تزيد خمسة وعشرين ضعفا عن مساحة أمها إنكلترا - وقد عرضوا في هذا القصر أنواع الذهب الأوسترالي، وهو أهم حاصلات البلاد الطبيعية، وكان المستخرج منه في السنوات الخالية مقدارا عظيما، فهم بنوا في هذا القصر هرما ورقموا عليه السنين التي اشتغلوا فيها بإخراج الذهب من أرض أوستراليا، ومقدار ما أخرجوا كل عام، وقد بلغ الذي استخرجوه قبل عام المعرض - أي في سنة 1899 - مليون أوقية ونصف مليون، بلغت قيمتها 6 ملايين جنيه.
ومن هذا القبيل أيضا قصر الترانسفال، وكانت يومئذ جمهورية مستقلة ولم تكن مستعمرة إنكليزية كما هي الآن، وكانت الحرب سجالا بينها وبين إنكلترا في أيام المعرض، فأراد أهلها أن يظهروا قوتهم على ما هم من قلة العدد وبراعتهم في مقاتلة دولة عظيمة جردت عليهم 260 ألف مقاتل، قتل منهم وجرح نحو 45000 وأنفق عليهم وعلى لوازم تلك الحرب 230 مليون جنيه بعد حرب دامت 30 شهرا، وكان في صدر القصر يوم دخلته صورة كروجر آخر رؤساء جمهورية البوير، وفيه نساء وأولاد من البوير يظهرون طرق استخراج الألماس من بلادهم وتنقيته والبحث عنه في الأتربة والحصى، وهنالك جدول بمقدار ما استخرج من هذا الجوهر سنة بعد سنة ، وجدول آخر بمقادير الذهب التي استخرجوها من مناجم جوهانسبرج، وكانت أهمية الترانسفال يومئذ منحصرة في الذهب والألماس والحرب التي أدت إلى تظاهر كثير من الزائرين.
بقية القصور:
وقد ضاق بنا المقام، فليس يمكن الإسهاب في وصف بقية القصور، فنشير إليها موجزين. من ذلك قصر اليابان، أشهر ما وضعوا فيه اللؤلؤ الأسود، وقصر موناكو يمثل أشهر ما فيها، وهو الكازينو الذي فاق كل أماكن المقامرة في الوجود، وقصر البورتوغال بني من دورين وامتاز بوجود جوق على بابه من الموسيقيين الزنوج، وهم جنود بملابسهم الرسمية تحت قيادة ملازم من جنسهم جاءوا بهم من مستعمرة سان توماس، وكان إقبال الناس عظيما على هذا القصر؛ ليروا هؤلاء الجنود وما بهم من اعتدال في القد وتناسب في الملامح؛ وليسمعوا الأنغام.
على أن الأمم لم تكتف بهذه القصور كما تقدم القول؛ فإن إنكلترا عرضت أشياءها المتعددة في 21 مكانا غير قصرها في الأبنية العمومية، مثل قصر الآلات الميكانيكية، وقصر البحرية والحربية والمعادن والخمور. وأميركا أشغلت 20 مكانا بمعروضاتها، والنمسا وألمانيا 19، وبلجيكا 17 وإيطاليا 15، وكل من إسبانيا والسويد والنورويج 13، فكان تمثيل حالة الأمم ظاهرا في كل جزء من أجزاء هذا المعرض العظيم.
معرض الآلات:
لا ريب أن التمدن الحديث قائم بآلات الصناعة على أشكالها، وأن معارض الحضارة تزيد أهميتها بزيادة ما فيها من هذه الآلات؛ فقد أجمع الكتاب على اعتبار ذلك نقطة الأهمية في كل معرض؛ لأنه الدليل الأكبر على درجة تقدم الأمم، وأنا أعد قولهم صوابا. والآلات الميكانيكية التي يقوم بها التمدن الغربي لا تعد ولا تحصى، منها ما هو صغير تكاد لا تراه إلا إذا قربت منه، ومنها ما هو كبير بحجم الآكام الكبرى، ولكل آلة غرض معلوم، فمن الأغراض ما هو نافع مثل إنماء الزراعة وإتقان الصناعة، ومنها ما يضر وقد أوجد للهلاك، مثل آلات القتل والفتك في الحروب البحرية والبرية، وهي كثيرة عندهم متنوعة الأشكال، حتى إنها حوت خلاصة علوم البشر في الهندسة والطبيعيات وسواها، وقد تفننوا بها في هذه الأيام تفننا غريبا، وكان في معرض الآلات الذي نحن بصدده أدوات كثيرة من هذا القبيل، ولكن القسم الأكبر من هذا المعرض المهم كان للآلات النافعة، مثل المحاريث وبقية الآلات الزراعية الحديثة، والآلات الرافعة والدارسة والطاحنة والكاسرة، والعازقة والراوية والقاطعة والناشزة أشكالا تحار في دقتها الأفكار. وقد اشتركت جميع الممالك في هذا القسم من المعرض، وأتت كل أمة بما عندها من الأشكال لكل نوع من أنواع الآلات الميكانيكية، فكنت ترى من آلات الحرث مثلا عشرين نوعا على الأقل، ومن الطلمبات أكثر من ذلك، وقس على هذا في الباقي، فكان بناء الآلات شغلا شاغلا للزائرين يبقون على التنقل في جوانبه والتفرج على ما فيه ساعات متوالية حتى تمل النفوس، ولا تنتهي العين من رؤية جميع الأشكال. وإني وقفت زمانا مثل بقية الواقفين، وجعلت أتأمل أدلة الحضارة الحديثة، مثل معاصر القصب من معامل البلجيك وآلات الحرث بالبخار من إنكلترا وأميركا، وقاطرات سكة الحديد من فرنسا وبعضها من أميركا، وهي العربات المعروفة باسم مخترعها بولمان، لا ريب أنها أحسن عربات سكك الحديد وأقلها رجرجة، وأنسبها للسفر وراحة المسافرين، ومعدل ثمن العربة منها أربعة آلاف جنيه. وبين الآلات الكبرى التي رأيتها في هذا المعرض عيار لرفع الأثقال من صنع المعامل الألمانية وزنه 25 ألف كيلو، وآلة تدير غيرها من الآلات بقوة البخار لها قوة 20 ألف حصان من صنع المعامل الفرنسوية، وغير هذا كثير لو شئت أن أشير إليه موجزا لطال المقام.
قصر الكهرباء:
ومعلوم أن عصرنا عصر البخار والكهربائية، وأن التمدن الحديث يظهر بأبهى مظاهره في أبواب الآلات البخارية والكهربائية، فأما البخارية فقد تقدم بعض الكلام عليها، وأما الكهربائية فإنهم جعلوا لها في المعرض بناء خاصا كان من تحف الدهر وغرائب هذا المعرض العظيم، ولا سيما لأن أجزاء المعرض كلها كانت تنار بالمصابيح الكهربائية، وبعض أثقالها يجر بالقوة الكهربائية أيضا، وكل هذه الأنوار وهذه القوى تتولد من الآلات الموجدة لها في بناء الكهربائية الذي نحن الآن بشأنه وتتوزع منه إلى بقية الأجزاء حتى إلى رأس برج إيفل المشهور، وكان طول هذا البناء 130 مترا، وارتفاع سقفه عن الأرض 70 مترا، وهو كما تقدم القول ينير المعرض ويدير بعض آلاته حتى إذا اضطرب سير هذه الآلات في قصر الكهربائية بطل كثير من الحركة في أجزاء المعرض وساد الظلام بدل النور البهي، وقد كانوا في آخر مدة التفرج من كل ليل يفعلون ذلك، أي إنهم يوقفون الحركات ويطفئون جميع الأنوار بزر صغير يضغطون عليه فينقطع المجرى الكهربائي، وينتهي دور العمل في ذلك اليوم.
قصر الجيوش :
مثلوا في هذا القصر حالة الجيوش البرية والبحرية في جميع الممالك حسب طرقهم الحديثة والنظامات المتبعة الآن عند المتمدنين، وقد اشتركت فيه كل الممالك الكبرى، فلزم لعرض أشكاله أن يكون البناء واسعا؛ ولهذا بلغت مساحة هذا القصر 4610 أمتار مربعة، وكان مثابة الألوف كل يوم من الزائرين؛ لأن آلات الحرب ومعدات القتال ما زالت من قدم ساحرة للأفكار جاذبة للنفوس. ولقد كان في هذا القصر كافة ما في جيوش الأقطار المتمدنة من أدلة التقدم والارتقاء، مثل مستشفى عسكري لنحو 309 من الجنود جاءوا به من ألمانيا، وصنعوه على نسق المستشفيات المعول عليها في الجيش الألماني، ووضعوا فيه أيضا أنواعا من الآلات البخارية التي يستعملونها لتدفئة الثكنات في الشتاء، وأنابيب تمتص الهواء الفاسد من غرف الجنود وتدفعه إلى الخارج، وتأتي بدله بالهواء، وهنالك مثال المستشفيات النقالة لساحات الحرب وطرق التمريض، وبعض الآلات العلمية التي تفيد في الاكتشاف والاستطلاع، غير الأسلحة التي اشتهر أمرها، ولكل دولة منها أنواع.
وقد عرضوا في هذا القصر أيضا أمثلة من البارجات الحربية على أشكالها، فكنت ترى المدرعة الكبرى مثالا أمامك واقفا على قاعدة من الخشب، وقد ظهرت في هذا المثال أجزاء المدرعة إلى أعلاها بكل وضوح، حتى إنهم صنعوا تماثيل الضباط واقفة تدير حركة البارجة وقد أعدوها للحرب والقتال أو للسفر إلى بعيد الثغور، فكان إعجاب الزائرين كثيرا بما في هذا القصر الجميل.
سكة الحديد:
ذكرت فيما مر الوسائل التي عولوا عليها لنقل الزائرين إلى المعرض، وقد بقي علي أن أذكر ما استنبطوا من الطرق لنقل الناس من جهة إلى جهة في جوانب المعرض من داخل أبوابه، ويعلم القارئ أن اتساع هذا المعرض العظيم جعل تسهيل سبل النقل والحركة أمرا محتما؛ لأنه أشغل أرضا مساحتها مليون وثمانون ألف متر كما تقدم، فكان الانتقال من طرف في داخله إلى طرف عسيرا لولا ما دبروا من وسائل التسهيل، وفي جملة ذلك سكة الحديد تكاد تحيط بأطراف المعرض كله، وطولها 3265 مترا، كانت الأرتال تجري عليها بسرعة 17 كيلومترا في الساعة، وجعلوا لهذا الخط البديع داخل أرض المعرض خمس محطات يقف القطار في كل منها، وملؤه الأفراد من الذين يتنقلون بين هذه المحطات البهية برخيص الثمن لا يزيد عن نصف فرنك، يحسبها المرء قليلة في جنب اللذة التي يشعر بها من ركوب قطار كهذا في أجمل مواضع الحضارة وبين أبهى المناظر وأفخم آيات الارتقاء، ولكن هذه السكة مع غرابتها وجمال المشاهد المحيطة بها لم تكن أحسن ما ابتكروا من طرق الانتقال في أرض المعرض، بل إنهم صنعوا طريقة أغرب منها وأعظم ترى بيانها فيما يجيء: «الرصيف المتحرك» هو آية الغرابة الكبرى، ودليل التفنن البديع في وصل أجزاء المعرض بعضها ببعض وتقريب المسافات بينها ونقل الأفراد من جانب إلى جانب، كان نزهة النفوس وجاذب الخواطر وموضوع الحديث والاستحسان في جميع الأوقات. ولقد تسابقت أقلام الأدباء والبارعين إلى وصف هذا الرصيف المتحرك وبعض محاسنه، ولكن الذي نشر منه بالعربية إلى الآن لم يكف لتصوير الحقيقة بتمامها حتى يفهم القارئ معنى هذا الرصيف البديع وكيفية حركته التي كانت شاغلا للأكثرين.
ولبيان ما تقدم عن هذه الآية الكبرى من غرائب المعرض أقول: إنه شكل في باريس شركة بنت جسرا (كوبري) من خشب، طوله 3370 مترا، ولكنه كان مع هذا الطول له منظر يقرب من الاستدارة، وقد أقاموا هذا الجسر على عمد متينة ضخمة من الحديد والخشب، وكان علوه سبعة أمتار عن سطح الأرض، وبنوا فوق هذه العمد رصيفا من ألواح الخشب رصت بعضها إلى بعض حتى كأنها لوح واحد من الخشب، وركبوا تحت هذه الألواح عجلات صلبة، مثل عجلات السكك الحديدية تدور بقوة المجرى الكهربائي، وأنت لا ترى حركتها من تحت قدميك ولكنك ترى نفسك واقفا فوق الرصيف أو جالسا إلى أحد الكراسي الموضوعة عليه، وقد قسموا هذا الرصيف ثلاثة صفوف أو أرصفة، أحدها إلى جانب الآخر، ولا يبعد الرصيف منها عن التالي له إلا مقدار قيراطين، وكان الرصيف الأول أو هو الصف الأول من هذا الرصيف المتحرك ثابتا لا يتحرك، وعرضه متر وعشر المتر، وأما الرصيف الثاني وعرضه متر وتسعون سنتيمترا، فكان يتحرك سائرا بسرعة 4 كيلومترات في الساعة، والثالث وعرضه متران يتحرك أيضا بضعفي سرعة الرصيف الثاني - أي 8 كيلومترات في الساعة - فكان الركاب إذا أرادوا الذهاب على الرصيف المتحرك من مكان في المعرض إلى مكان يشترون تذكرة الانتقال من الرصيف، ثم يخطون إلى الرصيف الثاني المتحرك بالسرعة المعتادة، وهي سرعة الماشي في الطريق، ويتقدمون إلى الرصيف الثالث السريع، فإذا شاءوا وقفوا وإن شاءوا جلسوا إلى الكراسي، ويخيل لهم أن المكان ثابت بهم؛ لأنهم لا يرون له حركة ولا يشعرون بقلقلة ولا رجرجة ولا ضجة ولا غوغاء، ولا تصفير ولا عثير مثل الذي ينشأ عن الركوب في أرتال سكة الحديد، كل ذلك والرصيف سائر بهم يتنقل على ضفة السين ما بين هاتيك المباني الفخيمة والمشاهد العظيمة والحدائق الغناء والقصور الشماء والزخارف الحسناء، فهي سياحة قصيرة ليس لها نظير فيما تجتازه أرتال السكك الحديدية في جميع الأقطار.
ولقد كان الراكبون في الرصيف المتحرك يرون المعرض برمته تقريبا خلافا للواقف في جانب منه ويمرون بالبواخر السائرة في النهر فتزيد المشاهد التي تعرض عليهم في هذا السفر الشهي، وكان الرصيف المذكور دائم التحرك لا يبطل انتقاله في جوانب المعرض من الصباح إلى المساء والناس تنتابه ألوفا، هؤلاء يصعدون على الطريقة التي تقدم وصفها، وهي طريقة التدرج من الرصيف الثابت إلى المستعجل، وهؤلاء ينزلون على عكس الطريقة المذكورة؛ أي إنهم ينتقلون من الرصيف الأخير إلى الثاني ومنه إلى الأول الثابت حيث يريدون النزول. وقد جعلوا حركة هذا الرصيف في أبهى بقاع المعرض وأعظم جوانبه، وكان يجتاز هذه المسافة في 25 دقيقة، ويمكن أن يقف عليه 13400 شخص في آن واحد، وكان إقبال الناس على هذا الرصيف الجميل عظيما، وكثر حدوث النكات والحوادث المضحكة عليه في كل يوم، فإن زمرا من الناس كانت تجيء معا للانتقال عليه، فإذا انتقل بعض الرفاق قبل غيرهم إلى الرصيف المستعجل سبقوا رفاقهم الذين يسيرون بسرعة الرصيف البطيء، فتنقسم الزمر ويبعد الرفاق عن الرفاق، وهم لا يرون حركة توجب هذا الانفصال. ويقوم المتأخرون منهم عدوا حتى يدركوا المتقدمين، وكان بعضهم - ولا سيما الصغار - يركضون إلى الوراء فوق الرصيف - أي في جهة تخالف جهة سيره - فيتعبون من الجري، وهم على ما يرون ما زالوا في مواضعهم لا ينتقلون، وكان لهذا الرصيف تسع محطات، ولكنه لم يجعل تلك المحطات للوقوف؛ لأنه كان دائم الحركة، إنما الركاب كانوا يدخلونه أو يخرجون منه في تلك المحطات، وكان المتفرجون من الكبار والصغار مئات على جوانب هذا الرصيف، والمصورون أبدا هنالك يأخذون رسوم الراكبين، وقد عرضوها بعد أيام المعرض بالسنماتوغراف، أو هي طريقة الصور المتحركة في كثير من الأقطار، فكان الناس يرونها كأنما هم في أرض المعرض واقفون أمام الرصيف المذكور.
الرصيف المتحرك.
هذا أهم ما يقال في الرصيف المتحرك، وهو بدعة المعرض ونقطة بهائه، وقد بنته الشركة التي بنت سكة الحديد الكهربائية وكان رأس مالها أربعة ملايين فرنك.
وقد فطنوا إلى طرق أخرى كثيرة غير هذه لتسهيل الانتقال على الزائرين، ووضعوا ألوفا من المقاعد والكراسي في شوارع المعرض وميادينه وطرقه، كان الذين يتعبهم الانتقال الطويل يستريحون عليها بزهيد الأجرة، وكان في هذه الطرق نوع من الكراسي المتحركة يجلس إليها المرء مستريحا ومن فوقه المظلة تقيه من المطر أو حر الشمس، ومن ورائه خادم يدفع الكرسي فيسير على عجلات صغيرة إلى حيث يريد الراكب الوقوف. وعلى الجملة فإنهم أظهروا مزيد الاهتمام براحة الزائرين، فلم أسمع بشكوى مدة هذا المعرض العظيم.
المعرض المصري:
كان في أرض المعرض العام غير القصور الرسمية التي تقدم ذكرها معارض أخرى خصوصية شكلت شركات شتى للقيام بها، وأهمها وأوفرها إتقانا المعرض المصري بنته شركة رأس مالها 40 ألف جنيه على شكل هيكل مصري قديم في خارجه، وعلى شكل خان أو وكالة من الداخل، مثل خان الخليل في مصر لبيع الحلي والمصاغات العربية، وكان فيه مرسح عربي على شكل قاعة في هيكل مصري قامت على أعمدة ضخمة، مثل عمد هيكل دندرة في قنا من مديريات القطر المصري، أو هيكل بعلبك من بلاد الشام، وزينت بالألوان المصرية على يد ذوي خبرة بهذا الفن، وكان مسطح هذا المرسح وحده 1000 متر يمثل به الرقص المصري. على أن هذه الشركة وشركات أخرى سواها خسرت في هذا المعرض بدل الربح المنتظر؛ ذلك مع أن المعرض المصري كان عظيم الإتقان، حتى إنه عد بين قصور الممالك، ولكن الخسارة جاءت من كثرة ما في هذا المعرض من المشاهد والمعارض واتساع جوانبه، حتى إن الناس كانوا يملون بعد رؤية الأشياء العمومية، أو لا يبقى لديهم وقت لبقية الفروع، وقد حدث لي ما أيد هذا الظن في ذهني، فإني يوم وصلت باريس قصدت رؤية المعرض المصري قبل كل الأشياء، فحال دون مرادي ألف منظر فتان، وألف موضع بديع سبقت إليه، فلم أتمكن من دخول القسم المصري إلا في زيارتي الثالثة لأرض المعرض، ولا ريب أن غيري تخلفوا عنه لمثل هذا السبب، فكان ذلك داعيا إلى الخسارة كما تقدم القول.
باريس القديمة:
من المعارض الخصوصية التي بنتها الشركات معرض باريس القديمة، بنوها في أرض لا تقل مساحتها عن 6000 متر مربع، وأقاموا فيها أشكال البناء والتنظيم لتمثيل حالة باريس كما كانت من مائة سنة، فكان في جملة ذلك الكنائس والأسواق والمنازل على شكلها في أول القرن التاسع عشر تماما، ووضعوا هنالك أيضا زوارق وسفنا شراعية، مثل التي كانت تمخر في نهر السين في ذلك الحين. كذلك المراسح أقاموها على المثال القديم، وقام الممثلون والممثلات بتشخيص الروايات التي كانت شائعة يومئذ وعلى طريقة ذلك الزمان وأزيائه، والمدارس القديمة على نسق العصر الغابر كان الأولاد فيها بملابس القدماء ، فكان ذلك كله فرجة للناظرين تقاطر عليه الناس بالألوف وعشرات الألوف، وكان فيه لذة لطلبة العلم بأحوال الناس من قدم وتذكر الآباء والأجداد على الحالة التي درست الآن، فما بقي لها ذكر إلا في مثل هذا المعرض أو في كتب التاريخ.
القرية السويسرية:
ومن أجمل ما جادت به القرائح وولدته علوم المهندسين في هذا المعرض قرية سويسرية خطر لاثنين من أهل مدينة جنيف أن يشيداها في أرض المعرض وساعدتهما حكومة سويسرا على إتمام هذا الاقتراح البديع؛ لأنه كان بمثابة إعلان لمحاسن سويسرا المشهورة يشوق الناس إلى زيارة تلك البلاد وزيادة عدد السائحين، وبالتالي زيادة الأرباح لحكومة سويسرا وأهلها مما ينفق أولئك السائحون، وهو نظر أولي الحصافة ورجال التدبير وشأن كل حكومة ساهرة على مصلحة البلاد. وقد تم بناء هذه القرية على أبدع منوال، فجاءت مثالا ساحرا لما في بلاد سويسرا من السهول والأودية والجبال والبحيرات والشلالات والبيوت، وكانت القرية السويسرية في المعرض كأنها قطعة حقيقية من أرض سويسرا، تسرح الأبقار الضليعة والماشية في مراعيها، وتمرح الصبية والفلاحون في ربوعها، وتنحدر المياه العذبة من شلالها، حتى إن الناظر لا يميز بينها وبين قرى سويسرا المشهورة بجمال مناظرها البهية، وآيات محاسنها الطبيعية التي ذاعت أخبارها في الخافقين. وقد صنعوا المراعي وجاءوا لها بالبقر والغنم والماعز ترعى فيها على الطريقة الطبيعية، وأتوا بالفلاحين عيالا وبيوتا برمتها من أهل سويسرا أقاموا في تلك القرية الصناعية كأنهم في الوطن المحبوب، وأنشئوا معملا للجبن على أشكاله مما يصنع في قرى سويسرا، ومحلا لبيع اللبن الشهي يغني فيه ثلاثة من رعاة سويسرا أغاني بلادهم الجبلية، وبيتا يمثل البيت الذي بات فيه نابوليون العظيم في حملته المشهورة على إيطاليا عن طريق جبال الألب في سنة 1800، وأنشئوا أيضا محلا لمصارعة الرعاة السويسريين على طريقة بلادهم، وكثيرا من المناظر التي يمكن أن يتصورها ذهن القارئ إذا رجع إلى الفصول السابقة عن هذه البلاد. وفي طرف هذه القرية مثال من جبال الألب جاءوا لها بحجارة صنعت على مثال صخور الألب ولونها ، ورصعوها بالزرع والنبت مما نما في سويسرا نفسها، ونقلوه بترابه في البراميل وأوجدوا نوعا من الشلال ينصب ماؤه من قمة الجبل إلى واد بديع المنظر، وكان في ذلك الجبل مثال من مراعي سويسرا الخصيبة وبقولها الخضلة وماشيتها الضليعة وحرجة من الشجر، وغير هذا مما بلغت نفقاته أكثر من مليون فرنك، وكان في جملة المشاهد المعدودة بين غرائب المعرض الكبير.
قصر الأزياء:
كان المعرض على وجه الجملة ممثلا للبشر في حالتهم الحديثة يوم إنشائه، وفي الحالات السابقة أيضا، فهو أعظم مدرسة نشأت في الأرض للعلم بأمور الإنسان في جميع الأزمان؛ ولهذا أوجدوا بين أجزائه جزءا يعرف بقصر الأزياء جمعوا فيه نصبا وتماثيل للرجال والنساء من أهل كل عصر وملة، وألبسوا تلك النصب ملابس الأمم المختلفة حسب أزيائها في كل من العصور المشهورة حتى إذا دخل الزائر رأى البشر أمام عينه من قرون وأجيال على أشكالهم، كأنما هو ساح الأرض في زمانه وفي زمان الأقدمين معا بزيارة هذا المعرض العظيم، وقد نسقوا تلك الأزياء حسب أجناس أصحابها ووضعوا كل فئة في غرف فرشوها برياش يشبه رياش الأيام التي وجدت فيها تلك الأزياء، وأكثر ما عرضوا في هذه الغرف أزياء النساء ما خلا قليل منها، مثل نابوليون الكبير بزيه وشكله الطبيعي، وهنري الرابع ملك فرنسا وغيرهما. وكان في الدور الأول من هذا القصر غرفة للأزياء المصرية القديمة على يمين القادم طليت بالألوان المصرية، وفيها امرأة تردت بثوب رقيق يتلاءم بهواء مصر وحرها، وشكلها مصري من النوع القديم المعروف، وقد جعلت تحدق بحاو أمامها يقلب الحيات بين يديه والثعابين، وتجاه الغرفة المصرية غرفة لأزياء الرومانيين القدماء، وفيها النساء الرومانيات بجلابيبهن الضافية وشعرهن المعقوص وشكلهن البديع، وقد وجهن الأنظار إلى خطيب يلقي عليهن القول البليغ على عادة الرومانيين القدماء. وفي الدور الأعلى قاعة للأزياء الرومية على عهد مملكة القسطنطينية، وفيها مثال ملكة من ملكات القسطنطينية بملابسها الفاخرة تستقبل الضيوف من السيدات، وهن بأزياء ذلك العصر المشهور بكثرة الزخارف الألوان. ويلي ذلك أزياء الفرنسيس أنفسهم في العصور الماضية كلها، وأمثلة من شهيرات النساء في هذه العصور بملابس أزمانهن، ومن أشهرهن جوزفين زوجة نابوليون الأولى، مثلوها هنا بثوب التتويج، وهي تخيط سلعة وأمامها قرينها يتأمل ويفكر، وملابسها فاخرة نفيسة أكثرها بيضاء موشاة بالذهب رسوما تشبه النحل، وعلى كميها صفوف من الألماس، وثمن هذا الرداء عشرة آلاف فرنك، وكان فوقه رداء آخر من القطيفة الحمراء مبطن بفرو غالي الثمن من روسيا قيمته مائة ألف فرنك، وقيمة تطريزه بالذهب 16800 فرنك، وحذاؤها قطيفة بيضاء مطرز بالذهب أيضا. وقس على هذا بقية الأزياء في كل أدوار التاريخ الفرنسوي حتى أيام المعرض، والمقام ضيق عن الإسهاب في وصفها والتطويل.
مثال البندقية:
وقد صنعوا مثالا في المعرض لمدينة البندقية في إيطاليا، فأنشئوا الترع وفيها الزوارق الخاصة بتلك المدينة الحسناء (جوندولا)، وأقاموا من حول هذه الترع أبنية وشوارع كأنها البندقية نفسها، مثل قصر الدوجات، أو هم الحكام القدماء لتلك المدينة، وكنيسة مار مرقص والميدان الفسيح الكائن أمامها، وحوانيت شتى يباع فيها الزجاج الملون آنية مختلفة الأنواع من صنع المعامل المشهورة في البندقية، وكان بعض الصناع يصنعون شيئا من هذه الآنية في الحوانيت المذكورة على مرأى من الزائرين.
بعض الغرائب:
ومن هذا القبيل أنهم صنعوا كرة طول قطرها 46 مترا، جعلوها على شكل الكرة الأرضية ومن حولها القمر والكواكب تدور في أفلاكها وحول محورها الدورات المعلومة، وكل ذلك بواسطة آلات، مثل آلات الساعات، وصنعوا أيضا نظارة عظيمة مقربة للأشباح كانوا يرقبون القمر بها ويرونه كأنه على مقربة من الناظرين، وهنالك قاعة القلب ملأوها بالمرائي التي تعكس المنظر مقلوبا، أسفله أعلاه، وأعلاه أسفله، فكنت ترى كل شيء في هذه الغرفة مقلوبا حتى الأشخاص، أرجلهم من فوق ورءوسهم من تحت، يرون ذلك ويخرجون ضاحكين مقهقهين. وقاعة الرقص كان فيها جماعات شتى من الراقصين والراقصات على كل الأنواع، منها الرقص القديم لليونان والرومان والمصريين والعرب والصينيين، وهؤلاء كانوا إذا انتهى دورهم بالرقص أبدوا للحاضرين التحية على طريقتهم؛ أي إنهم يركعون ويقبلون الأرض وينصرفون، خلافا للغربيين الذين يكتفون بالانحناء المعلوم . ومن هذا القبيل أيضا صورة السفر حول الأرض في مكان جمعوا فيه رسوم الأقطار، وكانت المناظر المتتابعة تمر أمام الرائي من داخل نظارات متوالية تمثل جهات الأرض، كان الرائي متنقل بنفسه يرى مختلف الديار، مثل مرسيليا تمر أمامه بمينائها، وما فيها من بواخر التجار، وطولون في مائها البارجات الحربية وعدن وبومباي ونيويورك، وغير هذا يتمثل أمام المتفرج على أهون سبيل. ومن هذا أيضا معرض الفواكه والخمور جمعوا فيه خمورا وأثمارا من كل الأقطار، حتى إني رأيت رابية فيه من تفاح أستراخان في بلاد الروس. وكان هذا المعرض كبيرا وله سقف مرتفع من الزجاج، وفيه لكل مملكة قسم تعرض فيه أهم الخمور التي تصنع في تلك المملكة، مثل الوسكي لإنكلترا والنبيذ الحلو لإسبانيا، والبيرا للنمسا والشمبانيا والكونياك لفرنسا، وهم يعرضون عليك خمورهم هنا ويقدمون منها مثالا ويعطونك جداول بما عندهم وأثمانها ترويجا لبضائعهم على عادة التجار الغربيين.
المعرض في الليل:
إذا كان المعرض مجموع غرائب وبدائع في النهار، فإنه كان آية البهاء في الليل وفتنة للأنظار، وإن أنواره المتلونة التي لا تعد كانت عجيبة ساحرة للأفكار، ما رأى الراءون أبهى منها ولا أحسن في جميع الأقطار، كانوا إذا غابت الشمس وأرخى الليل سدوله يعوضون عن أم الأنوار بألوف وعشرات الألوف من المصابيح الكهربائية في كل موضع من جوانب المعرض، وقد نسقوا هذه الأنوار على طرق بلغت غاية ما تروم النفوس من الجمال الفتان حتى إنك إذا تنقلت بين هاتيك الصروح المنيفة والآثار المرصوفة والنفائس الحسناء والحرجات الغضيضة الفيحاء والطرق الباهرة الغناء، وجدت الكل في حلل من الأنوار التي تعشقها العين والنفس، وقد تفاوتت ألوانها وتبدلت من حين إلى حين تتبدى لك المناظر من دونها صورا متغيرة من عالم الغيب، فما أنت إلا في أرض مسحورة تتجلى لك الغرائب فيها من حيث لا تدري، وتنطبع في ذهنك من هاتيك الآيات البينات صور ورسوم لم تخطر لك من قبل في بال، وليس ينسيها مرور الأعوام عليك والأحوال.
كان برج إيفل غريبة من غرائب الدهر في الليل؛ لأنك إذا رأيته في النهار حسبته طودا من الحديد، وأما في الليل فإنه كان قطعة من الذهب الوضاح رصعت بالجوهر الوهاج؛ لأنهم مدوا الأسلاك الكهربائية وأوصلوها بالمصابيح الملونة في جميع أجزائه من أسفله إلى قمته الباسقة على علو 300 متر عن سطح الأرض، فكانت تلك الأنوار تتألق وتسطع كأنها الكواكب في كبد السماء، وكذلك البوابة الأثرية أبدعوا وأجادوا في تنسيق مصابيحها الملونة وعددها 3000 نور، وقنطرة إسكندر الثالث زينوها بنحو 1200 نور، وفعلوا مثل ذلك في كل صرح وحرجة وبركة وطريق، فما كنت ترى في الليل إلا أنوارا وراء أنوار ترتاح إليها نفسك ويعجز عن وصف بهائها اللسان.
قصر الماء:
ولقد كان لهذه الأنوار أبدع المناظر وألطف أنواع التأثير؛ إذ تسطع من قصر الماء الغريب، حتى إن كثيرين من الذين زاروا هذا المعرض حسبوا قصر الماء في الليل أغرب غرائبه، وأبهى آيات محاسنه التي لا تحصى ولا تعد، ولا عجب فإن قصر الماء هذا كان من مدهشات الأمور، ومما يسحر الألباب ويدعو إلى التأمل بمحاسن الطبيعة ومقدرة الإنسان، وأنه كان غريبة من غرائب هذا المعرض بلا مراء. ولقد تفنن الكاتبون بكل لسان في وصف هذا القصر العجيب، ولست بذاهب أني أقدر على الإجادة في الوصف أكثر مما فعلوا، وهم مع كل الذي قالوا لم يفوا هذا المنظر المدهش عشر حقه من دقة الوصف والإطناب؛ ذلك أنهم بنوا قصر الماء هذا على شكل قوس طولها 130 قدما وارتفاعها 70 قدما، وصنعوا لها كثيرا من الأبواب والمخارج والكوى والنوافذ، وطلوها كلها ببهي الألوان، ورصعوا كل هذه الجوانب بالمصابيح الكهربائية، فكان عددها 5000 مصباح، إذا جاء الليل وأطلق فيها النور سطعت ولمعت كأنها الجواهر الغالية الحسناء أو الكواكب اللامعة في السماء. على أن هذا لم يكن منتهى الإعجاز في قصر الماء، بل إن الماء نفسه عد غاية الغرابة والإتقان ومعجزة الجمال في هذا المنظر الشهي؛ لأنهم بنوا قصر الماء على أكمة من الأرض، وجعلوا لها درجات ومساطب صخرية يخرج الماء من أعلاها فيتدفق في هذه الجوانب عن علو 20 مترا وبعرض عشرة أمتار، ثم ينصب في بركة واسعة ومقداره 1900 لتر في كل دقيقة.
وفي وسط هذه البركة نحو 60 أنبوبة يتصاعد الماء منها، ثم يعود وينصب في البركة، وفي دائرها وجوانبها تماثيل وحوش من الرخام يخرج الماء أيضا من أفواهها، فما كنت ترى إلا مياها متدفقة بين تلك المناظر الحسناء. ثم إذا جاءت الساعة التاسعة من الليل بدأ موعد السحر الحلال وآية الجمال الذي يحدث في النفوس فتنة ويشرح الصدور؛ ذلك أنهم كانوا في هذه الساعة ينيرون قصر الماء بالأنوار وعددها 5000 في جوانبه، ويطلقون الماء فيتدفق في تلك العيون والنوافذ التي ذكرناها، ثم يبدءون بإرسال الألوان الشهية البهية على تلك المصابيح، وعلى الماء المتساقط أيضا من جميع الجوانب فترى القصر وماءه حينا كله أخضر ثم يبدلون اللون، فإذا هو أحمر فإذا هو أزرق فإذا هو بنفسجي؛ ولهذا التغيير تأثير ساحر ومنظر لا يعرف قدره إلا من يراه؛ لأنك ترى جداول الماء أمامك تتدفق وهي حمراء أو خضراء، وقد يجعلون بعضها أحمر والبعض أخضر، أو يجعلون النقط المتساقطة من موضع واحد ألوانا تفرح القلوب وتدعو إلى الطرب والإعجاب؛ ولهذا كان الناس يتسابقون إلى رؤية هذا المنظر الفتان من قبل موعده، ويتألبون ألوفا شاخصة عيونها إلى قصر الماء حين تدنو ساعة هذه الأنوار وهذه الألوان، فما ترى إلا استحسانا ولا تسمع إلا استصوابا وإعجابا من الواقفين، وقد بنوا هذا القصر البديع في شارع تروكاديرو، وهو الذي قام في وسطه برج إيفل وفيه خمسون ألف نور، وفي الطرف الآخر قصر التروكاديرو لا تعد أنواره، فكنت ترى الناس كل ليلة في هذا الشارع تعد بعشرات الألوف، وقد عن إليها أن تنتقل من بؤرة المحاسن الباهرة وتبرح هذا المكان العجيب.
قصر خداع البصر:
هو موضع أجادوا في تسميته باسم الأوهام أو خداع البصر؛ لأنه كان من آيات التفنن التي تخدع الأبصار ولكنها تسر النفوس، بنوه قصرا وراء قصر الكهربائية، وله قبة كبيرة تحكي قبة الجامع، وقد صنعوا هذه القبة وجدران القصر كلها من الداخل قطعا من المرايا الصغيرة لصقوا بعضها إلى جانب بعض، فكان الناس يدخلون إليها وهم لا يعلمون الشيء الذي سيظهر لهم، وأذكر أني لما دخلت هذا الموضع كان المتفرجون معي نحو 200 نفس على الأقل، فلما دخلنا وتكامل عددنا أضاءوا المكان بالنور الكهربائي، فكان كل نور ينعكس في كل مرآة وفي بقية المرائي وصور المتفرجين تعددت تعددا هائلا؛ لأنها كثرت بهذا الانعكاس فكنت تظن أن أهل الأرض جميعهم حشروا من وراء تلك المرائي وما هم إلا تكرار صورة الواقفين معك، ويخيل لك أنك ترى فضاء واسعا أو عالما جديدا كله أنوار في أنوار لا نهاية لها إلى آخر ما ترى العين، وهو منظر جميل مؤثر في النفوس.
قصر البلور:
ويذكر من هذا القبيل قصر البلور أيضا بني كله من الزجاج السميك بأرضه وسقفه وجدرانه وسلمه ودرجاته وجميع أجزائه، وقد بنته شركة من أصحاب معامل الزجاج، وكان أكبر آيات التفنن فيه أنهم كانوا ينيرونه من تحت الزجاج، فترى الجدران والكراسي والسقوف والأرض وجميع ما في هذا القصر زجاجا منيرا، كأن النور يخرج من الزجاج؛ لأنك لا ترى مصدره، أو كأنك جالس في وسط مادة جديدة شفافة لامعة يصدر النور منها وأنت في حيرة من هذا التفنن الغريب، وكانت أجرة الدخول إلى هذا المكان فرنكا، وإقبال الناس عليه يستحق الذكر.
معرض الأندلس:
شكلت شركة مهمة للقيام بعمل يمثل حالة بلاد الأندلس حين كانت في يد العرب، واستأجرت هذا المكان ومساحته 5000 متر مربع من أرض المعرض، وبنت له بوابة للدخول طويلة العماد على شكل باب القصر العربي في إشبيلية من بلاد الأندلس، ويلي هذا الباب حوش أو رحبة، مثل حوش السباع المشهور في قصر غرناطة، وفيه النقوش العربية نقلا عما في القصر المذكور، يضيء من ورائها النور الكهربائي حتى يرى المتفرجون تلك الرسوم والكتابات العربية بأجلى بيان، وقد أقاموا في هذا المعرض الأندلسي مرسحا (تياترو) للراقصات الأندلسيات والإسبانيات، وعددهن أكثر من خمسين راقصة تتهادى بملابس الإسبان البهية، وترقص وهي تنقر على الصنج في يدها ، أو تلوح بمنديل وتنشد الأنغام المطربة أو الحماسية على الطريقة الإسبانية المشهورة. ويلي هذا مرسح عربي واسع زخرفوه بالأشكال العربية، وكانوا يمثلون فيه حالة العرب أيام استيلائهم على إسبانيا، من ذلك حفلة عرس عربي، وفي جملة فصوله موكب الزوج قادم، وفيه رجال بالملابس العربية المقصبة وقد ارتدوا الرداء المعروف بالبرلس من الحرير، واعتقلوا الرماح والأسلحة الأخرى، وركبوا الجياد العربية بسروجها العربية المذهبة، ويتبع ذلك موكب الزوجة وهي داخل هودج يحمله جملان زينا بالجوخ الأحمر المقصب والصدف تحت قيادة رجال من العرب، وكان الممثلون يدورون مرارا داخل المرسح بهذين الموكبين، حتى يرى الناس جليا صورة الأعراس العربية القديمة، وينتهي بذلك الفصل الأول من فصول التشخيص في المرسح الأندلسي. وأما الفصل الثاني فكانوا يمثلون فيه حربا بين العرب والإسبان بملابس القومين في زمان تلك الحروب، وكان المكان محاطا بالحوانيت، والطرق بنيت ضيقة على الشكل العربي، حتى إن المرء لا يخرج منه إلا وقد ارتسمت في ذهنه صورة من حالة العرب في أيام دولهم الزاهرة وعزهم في بلاد الإسبان.
وليمة المشايخ:
رأت حكومة فرنسا أن تعمل بالكرم الفرنسوي المشهور في سنة المعرض وتكرم مشايخ البلاد وعمدها؛ فدعتهم ليشهدوا محاسن ذلك المعرض، وأولمت لهم وليمة عظيمة كبيرة لا بد أن تبقى في التاريخ من ولائم البشر المعدودة؛ لأنها لم يحدث لها نظير في التاريخ الحديث، وقد لبى الدعوة يومئذ 22995 شيخا تواردوا إلى باريس من كل جهات فرنسا، وأعدت لهم الوليمة في حديقة التويلري المشهورة، حيث ضربت المضارب والسرادقات وصفت الموائد صفوفا صفوفا، ولكل مديرية من مديريات فرنسا صفوف معلومة وضعت في موضع من الحديقة يضاهي موقعها في خارطة فرنسا، وكتبت أسماء المديريات والجهات أمام كل قسم من هذه الموائد حتى يهتدي المدعوون إلى مواضعهم في ذلك الزحام الشديد، ولو أن تلك الموائد وضعت صفا واحدا لما كفاها شارع كبير من شوارع باريس؛ لأن طولها يبلغ إذ ذاك 7000 متر على الأقل، ولا حاجة إلى القول بأن الخادمين والطهاة والندل وسواهم بلغوا في هذه الوليمة عددا عظيما لا يقل عن 3000، منهم 300 طاه و150 رجلا اشتغلوا يومين من قبل الوليمة في إعداد أدوات الطعام كالشوك والملاعق والسكاكين، ولزم لهم أن يمدوا تلفونا بين الموائد والمطبخ تسهيلا لطلب الألوان، وقد بلغ عدد الصحون التي استعملوها في هذه الوليمة 176 ألف صحن و50 ألف ملعقة وقدم في خلال تناول الطعام 66 ألف رغيف و1500 ديك و2500 بطة و2500 كيلو من السمك و3000 كيلو من لحم البقر و4000 طير، وقد شرب المدعوون 22 ألف زجاجة من النبيذ الاعتيادي و11 ألف زجاجة من النبيذ الفاخر و7000 زجاجة من الشمبانيا و10 آلاف زجاجة ماء. والظاهر أن هذه الخمور لعبت برءوس أصحابنا المشايخ حتى إنهم لما انتهوا من الطعام والشراب؛ ذهبوا إلى المعرض وقد وضعوا جدول الألوان الذي يضعه الغربيون على الموائد، هذا في قبعته وهذا في زر سترته، وساروا على هذا الشكل كأنما هم يعلنون ما أكلوا وما شربوا، فكان ذلك داعيا إلى تضاحك الجمهور وتبادل النكات الهزلية، مثل الدعاء بطول العمر للمشايخ، وطلب اللذة لحضراتهم فيما يأكلون، وغير هذا من النكات التي اشتهر بها القوم الفرنسيس.
عيد 14 يوليو:
معلوم أن يوم 14 يوليو هو يوم الجمهورية الفرنسوية وعيد الحرية لتلك الأمة المجيدة؛ لأنه تذكار يوم تخلصت الأمة من الحكم الاستبدادي في سنة 1789 وسادت قوة الشعب، حين ثار الشعب على حكومة الملك لويس السادس عشر وحارب جنده، فتمكن في يوم 14 يوليو من تلك السنة من فتح قلعة الباستيل والاستيلاء عليها، وكانت تلك القلعة سجنا للمجرمين السياسيين الذين يزجون بأمر الحكومة الاستبدادية وموضعا للظلم، فلما سقطت بين يدي الشعب عد سقوطها يوم النصر لمبادئ الجمهورية، فيومه عيد الحرية إلى الآن، والفرنسيس يحتفلون به في كل مكان، وهم يقيمون الزينات الفاخرة في حديقة الأزبكية في مصر يومئذ - كما يذكر القراء - ويفعلون ما في الإمكان أينما كانوا في البر أو في البحر يوم 14 يوليو المذكور. وأما الاحتفال السنوي في باريس فإنه أبهى من كل ما يصنعون في المدن الأخرى لما أنها عاصمة الدولة ومركز العز والحضارة، فهم احتفلوا بهذا العيد في سنة المعرض احتفالا زاد في الأبهة والفخامة عن كل ما تقدمه؛ لأن السنة كانت مشهورة، وباريس يومئذ مثابة أهل الأرض أجمعين، فما كنت ترى في تلك المدنية الزاهرة في ذلك العيد إلا الراية الفرنسوية كبيرة فوق الدور والحوانيت والأشجار، أو صغيرة في رءوس الرجال والنساء والأولاد وملابسهم، سواء كانوا من الفقراء أو الأغنياء، وما مرت عربة أو حافلة ولا ظهر منظر في ذلك اليوم إلا وفيه راية الجمهورية احتفالا بهذا العيد، وقد استعرضوا قسما من الجيش في ساحة لونشان المشهورة، وحضر الاستعراض رئيس الجمهورية وأكابر دولته وسفراء الدول، ورصعت تلك المساحة بالسرادقات البهية الفخيمة وملئت الطرق والجوانب بالعربات وأفراد الناس حتى إن الأشجار لم تخل من المتسلقين الذين أقاموا فيها لرؤية الاستعراض.
ولما أقبل الرئيس لوبيه في الساعة الثالثة بعد الظهر بموكبه الحافل خف الوزراء والقواد من سرادقاتهم لاستقباله، فلما استقر في مكانه رفع علم الجمهورية فوق رأسه، وأطلقت المدافع، وهتفت جماهير الناس بالدعاء له وللجيش، ثم بدأ الاستعراض بأمر من وزير الحرب، وجعلت فرق المشاة والفرسان تمر تباعا بأزيائها المختلفة ونظامها البديع، وكلما وصلت فرقة أمام موضع الرئيس حيته، وكان رجال المدافع في آخر الجنود المستعرضة فلما مروا بعرباتهم الثقيلة ومدافعهم الفخمة ضج الناس بدوي الاستحسان لهم، وكان منظر الفرق عامة غاية في الجمال والانتظام، ثم انتهى الاستعراض وجعلت هذه الفرق تعود إلى ثكناتها أمام كل فرقة منها الموسيقى العسكرية، وعاد رئيس الجمهورية إلى قصره وهو في كل موضع يحيي الجمهور ويحيونه بالهتاف ورفع القبعات، وبقي الناس كل ذلك النهار في هرج وحماس وطرب عظيم، حتى إذا جاء الليل وأضيئت الأنوار التي لا تعد في المعرض والمدينة، كانت باريس كأنها شعلة من نار تتوقد بما فيها من بدائع السحر الحلال، ومدت الموائد في أطراف الطرق والرحبات، فكان الناس ينتابونها للأكل والشرب وسماع الأنغام، ويقوم كثير منهم للرقص والمخاصرة في وسط الميادين، وقد بطل النقد وعم السرور، وسار حكم العيد على الجميع. وكان في أجمل مواضع باريس في تلك الليلة بعد المعرض ساحة الكونكورد (الاتحاد) المشهورة، حيث اتجهت الأنظار إلى تمثال الألزاس واللورين، وهما الولايتان اللتان سلختا من فرنسا وملكتهما ألمانيا بعد حرب سنة 1870، وقد أقامت لهما الجمهورية هذا التمثال بعد الحرب على شكل أختين متعانقتين، وغطى الجمهور شكلهما بالسواد إشارة إلى الحداد على فقدهما وضياعهما من قبضة فرنسا. وكان نشيد المارسليين الحماسي المشهور ينشد حول هذا التمثال في كل حين، والناس ينشدونه متأثرين متحمسين، وقد اشتد زحام الناس مدة الليل في شوارع باريس وطرقها؛ لأن الناس رأوا أن الليل صار نهارا بما ضاء من الأنوار في كل منزل وحانوت وسكة، فخرجوا بألوفهم يتمشون ويشاركون الآخرين في الفرح بالعيد ويتفرجون على تلك الأنوار والمشاهد التي تسحر الناظرين.
وإني في الختام أقول إني شهدت معارض شتى في هولاندا وأميركا وفرنسا، والذي أرى أن المعارض الباريسية تزيد رونقا وأهمية عن كل المعارض التي تقام في المدن الأخرى، ولا عبرة باتساع المعارض الأميركية الأخيرة؛ فإن ذلك الاتساع لم يجعلها أهم من معارض باريس ولا أجمل، وباريس نفسها تعد معرضا عاما لأنواع الحضارة وطوائف البشر؛ فهي أبدا مثابة الكبراء والموسرين ومتنزه السائحين من كل قطر وملة، ليس يمكن أن تجاريها مدينة أخرى في هذه المزية؛ نظرا إلى ما اشتهر عن باريس من المحاسن، وإلى قرب مركزها البديع من أكثر ديار المتمدنين.
فيشي
هي المدينة التي اشتهرت بمياهها المعدنية على اختلاف الأشكال، توزع منها على سائر الأقطار، وينتابها ألوف الناس في كل عام من كل صوب، وبعضهم من أهل هذا القطر لمعالجة داء المعدة والكبد بمياهها، إما شربا أو استحماما حسب شور الأطباء. ذهبت إليها من باريس والمسافة بينهما بسكة الحديد سبع ساعات، فإذا بها مدينة قامت في سهل فسيح منبسط يحكي أراضي القطر المصري، لا حزن فيها ولا واد، وقد بنيت على ضفتي نهر اسمه آليه، يتدفق ويسيل في الشتاء من ماء المطر، فإذا جاء الصيف جف أكثر الماء، ورأيت قاعه وما فيه من حصى ورمل مثل كثير من الأنهر التي تفيض بماء الأمطار. ومعظم ما نعلم عن تاريخ هذه المياه المعدنية في فيشي، أنه كان في هذه الجهة دير لرهبان السيلستين، كانوا يعرفون نفع المياه التي تخرج من تلك الينابيع، بعضها بارد وبعضها حار، ويعالجون مرضاهم وبهائمهم بهذه المياه، فاتصل الأمر بأطباء باريس وعرفوا مزية ماء فيشي، حتى إن أطباء الملك لويس الرابع عشر استحضروا منها مقادير بالبراميل، وعولوا عليها في شفاء الأمراض، فثبت حينئذ نفعها، وبدأ الناس يعرفون طرق الانتفاع منها، وزاد في شهرتها أن مدام سفينيه الكاتبة المشهورة زارت فيشي سنة 1676، وطفقت ترسل منها الرسائل الرنانة الشهية بإنشائها اللطيف، فلما شاعت تلك الرسائل أصبحت فيشي كعبة المستشفين. ولما كانت أيام نابوليون الأول أمر هذا القائد الذكي ببناء مستشفى في مدينة فيشي وحمامات لجنوده، وبنى الإمبراطور نابوليون الثالث قصرا فيها لقرينته الإمبراطورة أوجيني أقامت فيه زمانا، وما زال القصر على حاله، وهو الآن ملك أحد الأطباء.
أما ينابيع هذه المدينة المعدنية فثمانية، بعضها بارد والبعض حار، من ذلك نبع الكران كريل، ماؤه حار بدرجة 44 سنتغراد، وماء أوبيتال وهو دافئ بدرجة 31، وماء سيلستين بارد درجته 12. وقد أظهرت الحكومة عناية كبرى بتحسين هذه المدينة، فأنشأت من زمان طويل روضة غناء في وسطها، لها سور من الحجر علوه نحو متر، ولها أبواب عديدة لا تقفل، وقد غرسوا في جوانبها باسق الشجر الجميل من الصنوبر والكستناء، ونظمت الطرق البهية في وسطه لتمشي فيها جماهير الناس والأفراد بعد شرب المياه أو تستريح على مقاعدها، وفي القهاوي الكثيرة الموجودة فيها، ويحيط بهذه الروضة دائرة من الفنادق لا يقل عددها عن أربعين، وهي متلاصقة متوالية يتصل أحدها بالآخر اتصالا، فكلما جاء الصباح خرج المستشفون من هذه الفنادق، وسار كل منهم إلى النبع الموصوف لدائه، وأكثر الينابيع على مسيرة عشر دقائق من دائرة هذه الفنادق، وقد أحاطوا بعضها، مثل الكران كريل وأوبيتال التي تباع مياهها في كل الصيدليات بجدار من العمد الثخينة منفصل بعضها عن بعض، ومن داخلها بنات يمشين على القباقيب العالية؛ حذرا على أرجلهن من البلل ، وهن يأخذن من الناس أقداحهم؛ إذ يقف الناس خارج دائرة العمد المذكورة فيملأنها بالماء ويناولنها للشاربين من طاقات صغيرة صنعت لهذا الغرض، وإذا لم يكن مع الشارب قدح أعطينه الماء بقدح من عندهن. ويتبع الناس في مقدار الماء المشروب وكيفية شربه أمر الأطباء، حتى إن بعضهم يشرب من نبع قبل الظهر ومن نبع آخر بعده، وإذا كان الماء حاميا مثل الذي درجته 44 شربوه مصا، كما يشرب الشاي والقهوة. وأكثرهم يتحتم عليهم التمشي ساعات معلومة بعد شرب هذه المياه وتناول الطعام، وإذا جاء أحد الشاربين بشيء للفتاة التي تخدمه في هذه الينابيع، أخذت الفتاة ماله ووضعته في علبة ليقسم المجموع كله على الرفيقات بالسواء في آخر النهار.
الحمامات:
إن ماء فيشي يفيد في الشرب وفي الاستحمام أيضا، فهم بنوا عدة حمامات على مقربة من الينابيع التي سبق ذكرها، وجعلوها ثلاث درجات؛ حتى يتمكن الأغنياء والفقراء من الانتفاع بمائها، ومع أن هذه الحمامات بنيت من وقت قريب؛ فإن الحكومة الفرنسوية أعدت مشروعا لهدمها وإعادة بنائها لتوسعها وتزيد معدات الراحة فيها للمستشفين، وهي - أي الحمامات - ملك الحكومة تؤجرها للشركات. وفي هذه الحمامات أنواع كثيرة، فمنها البرك ومنها المغاطس الباردة والحارة، ومنها الراشات المختلفة ينام العليل تحت إحداها على سرير فيتساقط عليه الماء رشا، ويصيب كل جسمه مدة عشر دقائق تقريبا، يدأب فيها الخادم على دلك الجسم حتى إذا انتهى ذلك، وقف العليل وصوب إليه الخادم أنبوبة كبيرة ذات ثقوب يندفع الماء منها بقوة شديدة، والواقف أبدا يدور، فإذا انتهى من ذلك سار إلى خادم آخر ينشف الجسم ويمده على الطريقة المشهورة عند الفرنجة باسم «مساج»، وهو لفظ منقول عن العربية؛ لأن التمسيد والمسح والدلك وما يشبه هذا من عوائد العرب في الحمامات. وإليك إحصاء يظهر منه مقدار النفع من حمامات فيشي وينابيعها؛ فإنه قدم في سنة 1852 إلى هذه المدينة 6823 نفسا بقصد الاستشفاء، فلما جاء عام 1862 صار عدد القادمين 17401، وزاد بعد عشر سنين فصار 25524، وفي سنة 1882 بلغ 42702 حتى إذا جاءت سنة 1899 كان عدد الزائرين 80000، وهو تقدم مستمر ظاهر للعيان.
وفي هذه المدينة معامل يصنع فيها الملح والأقراص من مواد مياهها المعدنية، وتباع في جميع الصيدليات، وفيها مواضع كثيرة للتصدير تملأ الزجاجات فيها بالماء المعدني مئات وألوفا كثيرة كل يوم، وترسل في القطارات إلى جميع الأقطار، وعدد الذين يذهبون للفرجة على هذه المواضع ليس بقليل. وفي هذه المدينة من المتنزهات والملاهي ما يجعل السكن فيها هينا على المستشفين؛ أهم ذلك الكازينو، وهو بناء فخيم على بعد خطوات قليلة عن الحديقة يمكن أن يضم 1000 متفرج وتمثل فيه الروايات المفرحة والهزلية. وهنالك قاعة للرقص فسيحة أناروا سقفها بعشرات من المصابيح الكهربائية، فهي تسطع كالنجوم في قبة السماء، وهنالك أيضا قاعات مشهورة للعب الميسر وقاعات للجرائد والكتابة، وعندهم جريدة تنشر أسماء القادمين إلى فينشي كل يوم وأخبار السياسة والتجارة. وللكازينو ميدان واسع يشرف على الروضة التي سبق ذكرها، وفيه كثير من المقاعد والكراسي يجلس الناس إليها ويسمعون الموسيقى كل يوم بعد الظهر، وليس هذا كل ما في فيشي؛ لأنها أصبحت مثابة المتنزهين وملتقى المتفرغين من عناء الأعمال، كما أنها مقصد الطالبين للعلاج، فهي فيها - غير ما تقدم ذكره - روضة أخرى أنشئت في أيام نابوليون الثالث، وفيها شجر الكستناء والصنوبر والدلب، وقد نظمت هذه الروضة على ضفة النهر، وأنشئت بها مغارس الأزهار اللطيفة يعنون بها شديد العناء، فالناس يختلفون إلى هذه الروضة الحسناء ألوفا يتمشون كل يوم بين صفوف الشجر أو يجلسون إلى المقاعد القائمة في وسط الأزهار البهية والرياحين. وهم يقيمون حفلة لسباق الخيل مرة كل عام في فيشي، فيأتيها المتفرجون من باريس وسواها لرؤية هذا السباق. وقد كان وصولي إلى فيشي في يوم 15 أوغسطس، وهو يوم عيد السيدة العذراء، عم الناس فيه دليل السرور، فرأيت أن زيارة هذه المدينة على الجملة تملأ البدن عافية والنفس سرورا، ولا يخرج المرء منها إلا شاكرا ما لقي من أسباب الصحة، والصحة أساس الحياة وهناء الوجود.
بين فيشي وجنيف:
برحت فيشي في قطار قام في الساعة العاشرة صباحا، فبلغ جنيف بعد 9 ساعات - أي الساعة السابعة بعد الظهر - وكان ذلك على طريق ليون، حيث ينتظر القطار نصف ساعة؛ لتمر الأرتال الذاهبة إلى باريس ومرسيليا، فدخل بعض الركاب قاعة الطعام، وأخذ بعضهم من المطعم سلالا صغيرة خفيفة من القش النظيف الجميل، في كل منها اللحم والدجاج، ونصف زجاجة من النبيذ والخبز وأقراص الحلوى والفواكه نوعين، وأقراص الشوكولاتة بدل القهوة، وأقراص النعنع بدل الشراب، وأدوات الأكل من شوك وسكاكين وصحون وفوط من الورق النظيف، كل ذلك بأربعة فرنكات فقط، تأكله وترمي بقيته من نافذة القطار وهو سائر.
أما مناظر الطريق بين هاتين المدينتين، فإنها مما لا تمل النفس رؤيته؛ فكلها بدائع طبيعية كالتي سبق وصفها في كثير من فصول هذا الكتاب، وصفوف من الشجر غرست على طرق هندسية تروق للناظرين، ولا سيما حين كان القطار يقرب من ضفاف الرون. ولما قربنا من حدود فرنسا وسويسرا عند مدينة بل جارد تنوعت ألوان الغرس والزهر، فكانت الأرض جنات تجري من تحتها الأنهار، والأعشاب والأزهار كأنها الجواهر الحسناء تبهر ببهائها الأنظار، وجبل سافوا يزيد في جمال هذه المناظر والوقار. ولما بلغت مدينة جنيف ذهبت توا إلى فندق البوسطة، ونزلت في غرفة تطل على بحيرتها المشهورة، وكان الليل قد أرخى سدوله فبتنا ليلتنا فيها. فلما أصبح الصباح علي في تلك الغرفة فتحت شباكها فتجلى لدي منظر بديع فتان لم أر أشهى منه وأبهى في كل سياحاتي؛ لأن البحيرة النقية البهية كانت تحت طاقة غرفتي، وفيها الباخرات الجميلة تنقل ألوف السائحين والمتفرجين، ومن ورائها مباني جنيف وحدائقها الموصوفة، ويلي ذلك مناظر جبال جنيف مما ترى وصفه في الفصل الذي يجيء.
جنيف
هي قاعدة سويسرا الفرنسوية، ويعد تاريخها جزءا من تاريخ سويسرا العام، فنكتفي هنا بالقول إنها تولاها أمير ألماني حين دخلت في حوزة ألمانيا في القرن العاشر، فوقع النفور بين هذا الأمير وبين الأسقف؛ لأن الأمير استقل بالأحكام فأغضب الأسقف وهو يومئذ ذو نفوذ عظيم، فوقع معظم الضرر من هذا التنافس على الأهالي الذين سئموا الحالة ودعوا الكونت سافوا - وهو أمير جبل سافوا المجاور لجنيف - ليريحهم من الاثنين، فلبى الرجل الدعوة وقد لقب خلفاؤه بلقب دوك سافوا، ومن نسله أمراء البيت المالك في إيطاليا الآن، أطلق عليهم اسم موطنهم الأصلي، وهي عادة البيوت المالكة في أكثر الممالك الحديثة، مثل آل كوبرج وآل أورليان وآل هوهنزولرن، وغير هذا كثير ومعروف.
ولمدينة جنيف مأثرة على الإنسانية وفضل على أهلها؛ لأنها نشأت فيها الحركة التي أدت إلى وجود جمعيات الصليب الأحمر، وهي مركز هذه الجمعيات إلى الآن؛ فقد كان جرحى الحروب في أوروبا إلى سنة 1846 يعاملون معاملة سيئة، ويقاسون مر الآلام، فعقد في تلك السنة مؤتمر جنيف الأول، وسن فيها قانون خفف ويلات الحروب وقلل متاعب الجرحى والمرضى، وهو الآن سنة كل الدول في حروبها الحديثة، نذكر هنا أهم بنوده زيادة في البيان، ومنها ما يجيء: (1)
تعتبر جميع المستشفيات الثابتة والنقالة في الحرب على الحياد، فيلزم على الجانبين حمايتها ومراعاتها ما دام فيها جريح أو مريض. (2)
أن رجال الدين والأطباء وخدمة المستشفيات عامة يعدون على الحياد. (3)
يجوز لخدمة المستشفيات أن يبقوا على عملهم في معالجة المرضى والجرحى بعد أن يخرج جيشهم من موضع وجودهم ويحتله العدو، وإذا شاءوا الانسحاب بعد ذلك ساعدهم قائد العدو على الخروج، ولا يأخذون معهم في هذه الحالة غير أمتعتهم الخصوصية. (4)
يجب المحافظة على جميع المرضى والجرحى والاعتناء بهم، بقطع النظر عن جنسهم أو دينهم، ويحق للقواعد أن يسلموا الجرحى والمرضى بعد الاتفاق بين الفريقين، حينما تسمح الأحوال.
هذه أهم الشروط التي اتفقوا عليها سنة 1846، وقد جعلوا الصليب الأحمر علامة هذه الجمعيات؛ لأنه علامة جمهورية سويسرا التي ابتكرت هذا النظام، والشعار المذكور كثير في مصر يلبسه عمال المستشفيات في الجيش الإنكليزي ويطبع على عرباتهم، وقد أبدل بالهلال الأحمر في الجيش المصري ومستشفياته، وقد جروا على هذه السنة في كل حرب حتى إنه كلما نشبت حرب تألفت جمعيات الصليب الأحمر من أهل الأقطار الباقية على الحياد، وأرسلت عمالها وبواخرها وأدويتها لخدمة المتحاربين على السواء.
وسكان جنيف مع ضواحيها نحو 80 ألفا، نصفهم من البروتستانت، وكلهم يتكلمون الفرنسية، والسبب في تكاثر البروتستانت هنا مذبحة يوم برثلماوس المشهورة التي حدثت في فرنسا سنة 1572، حين هرب جون كالفن وبعض الذين أصابهم اضطهاد وخيم، وقام هذا الرجل خطيبا في المدينة يلقي الأقوال الحماسية حتى ضم الأهالي إلى رأيه وحملهم على اعتناق مذهبه وطرد أسقفهم الكاثوليكي، فكثر أهل هذا المذهب من ذلك الحين. والمدينة على الجملة جوهرة من جواهر سويسرا، وهي من أجمل مدائنها، يحدها من الشرق والغرب والجنوب إقليم سافوا الذي ذكرناه، وقد كان ملكا لأمراء سردينيا - وهم ملوك إيطاليا الحاليون - فأهدته حكومتهم لفرنسا سنة 1860 جزاء مساعدتها لفكتور عمانوئيل الثاني على توحيد إيطاليا، وجعلها مملكة واحدة له ولنسله من بعده. وقد امتاز أهل جنيف من قدم بصياغة المعادن والجواهر وبعمل الساعات؛ فهم يصدرون منها كل سنة ما تبلغ قيمته 10 ملايين فرنك أو تزيد، وأول ما صنع من الساعات التي تدار بلا مفتاح كان في هذه المدينة. ولها شهرة بمدارسها أيضا؛ لأن التعليم فيها على قواعد قويمة حتى إن الطلبة يؤمون مدارسها من جميع الأقطار. وهي من قدم مثابة الأدباء، نبغ فيها الكاتب الفرنسي المشهور جان جاك روسو، وأقام فيها الشاعر الإنكليزي اللورد بيرون والقصاص الفرنسي لامارتين، وكتبوا فيها كثيرا من ذائع مؤلفاتهم.
وقد بني قسم من جنيف - وهو الأهم - على ضفتي بحيرتها المشهورة التي سنفرد لها فصلا خصوصيا. وأما القسم الآخر فبني على نهر الرون الذي يخرج من طرف البحيرة وعليه 8 جسور أو قناطر، أهمها جسر مون بلان، يذهب الناس عليه إلى الأحياء المبنية على ضفة البحيرة أو النهر. وجنيف مثابة السائحين والزائرين، قل أن يذهب امرؤ إلى سويسرا إلا ويقصدها؛ لأن موقعها بديع وهواءها طيب، وأسباب المعيشة فيها هينة، وليس فيها مع كل متنزهاتها وملاهيها عيوب المدن الكبيرة الداعية إلى الانهماك وإضناء القوى. والجبل القريب منها مرصع بالضياع العامرة والفنادق الحافلة بالزائرين، قد تقيم فيها العائلات برخيص الثمن، وتتمتع بلذيذ المأكول الذي لا يدخله غش؛ فإن لبنها وعسلها مما تضرب به الأمثال، وإذا أردت أن ترى شكل المدينة عامة فقف على جسر مون بلان الذي سبق ذكره تر البحيرة البهية تمخر فيها الباخرات المزخرفة، وإلى الضفتين صفان من شجر الدلب، تليهما الفنادق والمنازل الحسناء. ومن وراء هذا الجسر يرى الواقف كيف يخرج نهر رون الذي يروي قسما عظيما من أراضي فرنسا، فإذا سار المرء قليلا من هذا الجسر إلى الضفة اليمنى رأى تمثال دوك برنسوك، وهو من أفخر آثار الصناعة الحديثة في أوروبا كلها، كان سبب إنشائه أن هذا الأمير الألماني جار برعاياه فطردوه سنة 1830، فلجأ إلى جنيف وأقام فيها بقية أيامه، حتى إذا توفي سنة 1873 وهب المدينة عشرين مليون فرنك، فأقاموا له هذا الأثر الجميل بمليوني فرنك داخل حديقة صغيرة، وصرف الباقي في تحسين المدينة. ويليه الكورسال، وهو مثابة النزلاء والسائحين، فيه مواضع للمقامرة، ووراءه متحف إريانا فيه آثار سويسرية. وكل هذا الطريق يرى السائر إلى يمينه البحيرة وباخراتها، وإلى يساره صفوف البناء المنسق والحوانيت الملأى بصناعة السويسريين، مثل الحلي والجواهر على أنواعها، ويمكن الوصول من هنا إلى قصر البارون روتشلد وحديقته بتذكرة تعطى في الفنادق مجانا. وفي هذا القصر من بدائع التماثيل الرخامية ما يستوقف الأنظار.
هذا مجمل ما في الضفة اليمنى. وأما الضفة اليسرى من البحيرة فلا بد للذهاب إليها من الرجوع إلى جسر مون بلان واجتيازه؛ حيث يرى المرء عند طرفه قهوة كورون يختلف إليها الناس ألوفا، وجماعة النزلاء المصريين على نوع أخص. وعلى مقربة منها تمثال الاتحاد الوطني، وهو عبارة عن فتاتين ضمت إحداهما الأخرى تمثلان ولاية جنيف وبقية الولايات السويسرية حين انضمامها سنة 1815 بعد سقوط نابوليون الأول الذي استولى على جنيف في جملة أملاكه. وبقرب التمثال حديقة تعرف بالحديقة الإنكليزية، وهي من بدائع الموجودات تصدح الموسيقى فيها عصاري كل يوم، وتقام حفلات راقصة في الليالي المقمرة يأتيها أهل الطرب من جميع الأنحاء؛ ليمتعوا الأنظار بمنظر البحيرة وفسقيات هذه الحديقة، وهي يخرج الماء من نحو 30 حنفية فيها، ويندفع من صخور صناعية إلى علو 60 مترا، وقد يلونون الماء ليلا فيكون له منظر يطرب النفوس. وفي هذه الحديقة منظر يمثل شكل مون بلان (الجبل الأبيض)، يرى الناس فيه هذا الجبل وغرائبه بالمنظار إذا لم يمكنهم المسير إليه. ويمكن المسير من هذه الحديقة إلى متنزه أوفيف، وهو مجموع مطاعم وحدائق ومناظر شتى، تروق للألوف الذين ينتابونها في الليل والنهار.
وقد انتهينا الآن من وصف المناظر القائمة على ضفتي البحيرة، فعد إلى جسر مون بلان لنصف ما قام في مدينة جنيف على ضفتي نهر الرون، وهي متصلة بهذه القناطر أو الجسور . وأول ما تجد في طريقك ميدان مولار تباع فيه الأزهار على أنواعها، وفيه المحطة العمومية للترامواي الممتد إلى أطراف المدينة. واستمر على المسير من هنا تبلغ محلا بني فيه توربين، وهي آلات ميكانيكية لها قوة 4200 حصان، تدور من جري الماء عليها وضغطه، فتوزع منها المياه على المدينة، وتنار بالكهربائية وتدار بعض المعامل، وكل هذا بالقوة الكهربائية المتولدة من الحركة التي يولدها دفع الماء على هذه الآلات. ويمكن الوصول من هنا إلى موضع ملتقى النهرين، وهما نهر الرون الذي نحن بشأنه، ونهر آفر يجري معه، ويفرق بين النهرين لونهما؛ لأن الرون ماؤه أزرق كالفيروز الشهي، ونهر آفر أغبر فإنه يخرج من الجبل، ويجرف كثيرا في سبيله من المواد فيتعكر ماؤه. ويمكن المسير من هذا الموضع إلى متنزه الباستيون، وهو جميل كثير المراسح والملاعب والمناظر الحسناء، وهو من المواضع التي تقضى فيها الأوقات ولا تمل النفوس، والانتقال من طرف في جنيف إلى طرف هين يسير؛ لأن فروع الترامواي كائنة في كل جانب، والعربات كثيرة أينما سرت.
جبل ساليف:
هو أبهى ضواحي جنيف، لا يأتيها سائح إلا ويقصده، وقد جعله الأهالي مثابتهم في أيام الآحاد؛ لأنهم يبلغونه بسهولة وأجرة قليلة بعربات الترامواي إلى سفحه، ثم بقطار سكة الحديد إلى أعلاه. وقد ذهبت إليه في الصباح في رتل الترامواي مارا بين الحارات والأحياء داخل المدينة، وكروم العنب وبساتين الفواكه في ظاهرها حتى بلغت محطة أترامبية، وهي بدء سكة الحديد، فدخلت القطار وسار متعوجا متعرجا ملتفا بين هاتيك الصخور والأعشاب، وكان منظر البحيرة من دوننا بهيا، ورائحة العطر تتضوع من أشجار الصنوبر والكستنا، وحرجاتها كثيرة في تلك الوديان التي أشرفنا عليها من القطار، وبلغنا المحطة الأولى في الجبل واسمها مونتيه وهي على علو 750 مترا عن سطح البحر، فيها الفنادق الفاخرة تشرف على الوادي يقيم فيها المصطافون وينزلون منها إلى المدينة متى أرادوا، أو يصعدون أعلى الجبل في القطار، كما فعلنا حين عاد القطار إلى التثني والتعوج بين تلك المناظر الساحرة، حتى بلغنا محطة الثلاث عشرة شجرة، وهي آخر المحطات في أعلى الجبل ارتفاعها 1112 مترا، تفرق الركاب منها في أراض فرشت بالعشب السندسي، ولم تخطط فيها الشوارع؛ محافظة على جمال الطبيعة. وكان بعضهم يجمع رواميز من أعشاب ذلك الجبل وفراشه؛ ليحفظ منها مجموعا يفخر به مثل مجموع طوابع البوسطة. وعندهم في هذه المحطة خيل وحمير لمن أراد التنقل وانتياب أعلى المواضع. والمشي في الجبل كله هين؛ لما أنه متدرج الانحدار، فليس فيه مشقة في الصعود والنزول، وقد جعلوا له طريقا آخر إلى المدينة رجعت بها حتى أرى بقية المناظر المحيطة بهذا الجبل البهي. وكان القطار يسير على حافة لا يفصلها عن الوادي غير مترين، وقد اجتاز نفقا رأيت النور فيه خلافا لأمثاله؛ لأنهم جعلوا له نوافذ إلى الوادي يدخل منها النور والهواء، ولما انتهينا من هذا النفق وصل القطار إلى منبسط من الأرض فتركناه وعدنا بعد الظهر إلى المدينة، فكان يوم هذه النزهة من أجمل الأيام، وهي تستغرق يوما كاملا.
بحيرة جنيف:
ويقال لها ملكة البحيرات، طولها 45 ميلا وعرضها 8 أميال ومساحتها 225 ميلا، وماؤها أزرق نقي كماء البحار الكبرى، ولا مثيل له في البحيرات الأخرى. وهذه البحيرة تنقص في الشتاء وتزيد في الصيف مما يذوب وينصب فيها من جليد الجبال، وتمخر فيها الباخرات والسفن على أشكالها. وقد قامت على جوانبها 16 مدينة بهية زاهرة، بعضها في فرنسا والبعض في سويسرا، وسيأتي الكلام عنها. وفي هذه البحيرة أسماك شتى يأتون ببعضها من بعيد في البراميل ويلقونه فيها لينمو ويتكاثر، هذا غير طيور الماء التي تحوم حول البحيرة وتحط فيها، ولمنظرها بهاء معروف. والبحيرة هذه هي مدينة جنيف، كما أن البوسفور هو الآستانة - وقد قلت ذلك في حينه - وهي فاصلة بين سويسرا وفرنسا، فالباخرات تنتقل بين هذه المدائن من قطر إلى قطر، كما تنتقل بواخر البوسفور من الشاطئ الأوروبي إلى الشاطئ الآسيوي. وقد أنجزت السياحة في هذه البحيرة فكانت على النسق الذي يجيء.
ركبت باخرة كبيرة من الرصيف الذي قتلت فيه إليزابيث إمبراطورة النمسا في 10 سبتمبر سنة 1898، يدلونك إلى المحل الذي حصلت الواقعة فيه مؤشرا عليه بعلامة. ولهذه البواخر مقاعد في الطبقة العليا منها، وهي أبدا ملأى بالمسافرين والمتنزهين، هذا يتأمل مناظر البلاد، وهذا يحدق بنظره في بعض الأشياء، وهذا يقرأ أو يسمع قول الدليل، والكل في حديث دائم بكثير من ألسن الأمم المتمدنة. والناس في البر يتأملون هذه البواخر ومن فيها أيضا، حتى إن السفر في هذه البحيرة يعد من ألذ النزهات. وقد قامت الباخرة الساعة 9 صباحا محاذية للشاطئ السويسري، فوقفت في فيرسوا (1)، وهي قريبة من جنيف تكثر فيها الفنادق الصغيرة الرخيصة للعائلات، وكلها هادئة أمامها الحدائق المنظمة، وقامت الباخرة بعد ذلك إلى كيوبيت (2)، ومنها إلى سيلي (3)، ثم إلى مينون (4)، وكل هذه المدن تبدأ من طرف الشاطئ وترتفع ارتفاعا متدرجا، وفيها كثير من كروم العنب والفواكه، حتى إنه لا يخلو بيت من حديقة له صغيرة، ولمجموعها منظر جميل من البحيرة يأخذ بمجامع القلوب. ودارت الباخرة بعد ذلك فانتقلت إلى الشاطئ الفرنسوي، ووقفت في تولون (5)، ثم سارت إلى إيفيان (6)، ثم رجعت إلى الشاطئ السويسري ورست في لوزان (7)، وكان المسافرون يصعدون وينزلون في كل بلد، ولحركتهم لذة يشعر بها الركاب. وتقدمت الباخرة بعد لوزان إلى فيفة (8)، ثم إلى مونترو (9)، ثم إلى شيلون (10)، وهي في طرف البحيرة عند حدود فرنسا وسويسرا. وقد وضع علم كل جمهورية في جهتها، ثم دارت الباخرة على اليمين إلى شاطئ فرنسا فوقفت في بوفرة (11)، فمدينة سان جنجولف (12)، ثم ميلري (13)، ثم تورون (14)، ثم أمفون (15)، ثم دوفين (16)، وهي آخر محطة رجعنا منها إلى جنيف فبلغناها الساعة 9 من المساء، فكأنما هذه السياحة استغرقت 11 ساعة، وكانت نزهة لا تمل منها النفوس. وفي البواخر أطعمة ومشروبات من كل الأنواع، وفي البر ما بين ضفة البحيرة والمرتفعات طرق بهية جميلة، زرعت فيها صفوف الدلب، والناس يتمشون فيها أو يسيرون بالعربات والدراجات بين الأغصان الملتفة والمناظر البديعة، ولهم خطوط ترامواي في هذه الطرق أيضا تسهل الانتقال.
ويجدر بكل سائح في هذه المواضع الجميلة أن يقضي يوما في البحيرة متنقلا على مثل ما قدمنا، ثم يزور مدينتي لوزان وإيفيان، وهما أجمل ما رصعت به ضفاف البحيرة بعد جنيف. وقد فعلت ذلك وذهبت إلى لوزان، وهي في الجانب السويسري، سكانها نحو 40 ألفا، تعد من أجمل المدن منظرا وهواء وموقعا، وقد بنيت على تلال وهضبات شهية، وفيها المستشفيات والمدارس ودور العجزة وغير هذا مما اختاروها بسبب ما اشتهر عن حسن موقعها وطيب الهواء. وزرت مدينة إيفيان أيضا، وهي فرنسوية مشهورة بمائها المعدني؛ فلذلك يكثر الذاهبون للاستشفاء بمائها - وقد وصفت غير مرة كيفية المعيشة في هذه المواضع، فلا حاجة إلى التكرار - ولا يقوم قطار من إيفيان إلا وفيه عربات عديدة من مائها يصدرونه إلى جميع الجهات. وأكثر الذين يأتونها من أهل فرنسا، وهي كثيرة القصور والحدائق الغناء، فيها دوالي العنب معلقة ما بين شجرة وشجرة، والعناقيد مدلاة ما بين تلك الأشجار، وفيها كثير من شجر التفاح والكمثرى وغيرهما، وفيها الفنادق الكثيرة تقام فيها المراقص الحافلة، كما يجري في فنادق مصر مدة الشتاء. وقد زرت أحد ينابيعها المعدنية البهية فألفيته مثل ينابيع النمسا وغيرها مما ورد ذكره وتفاصيله في فصول أخرى من هذا الكتاب.
صخر ناي:
هو صخر شاهق اشتهر بهذا الاسم، وقد قام على جبل باسق، فعلوه عن سطح الأرض 2040 مترا، ذهبت إليه بباخرة البحيرة عن طريق مدينة جليون في الشاطئ السويسري، وكان معي سياح كثيرون، في جملتهم حضرة الدكتور حبيب خياط وقرينته من مصر. وهم يصلون إلى هذا الصخر في سكة من الحديد طولها أربعة أميال ونصف، يلزم لمسيرها صعدا ساعة ونصف، وأما النزول فيكفيه نصف ساعة، وقد نحتوا هذه السكة في الجبل من أسفله وأقاموا حواجز من الخشب (درابزين) إلى جانبي هذه السكة في طول الطريق، والقطار يمشي فيها كأنه صاعد صعودا عموديا، وإلى يمينه وشماله أودية عميقة لها منظر مهيب. وبعد أن سار هذا القطار زمانا دخل في نفق تحت الجبل، فخرج منه عند محطة كو، وهي على ارتفاع 1200 متر عن سطح الأرض، أقيمت فيها الفنادق الكبرى تشرف على البحيرة وهاتيك الأودية والجبال، وينتابها الناس لقضاء أيام الحر الشديد. وسرنا من هذه المحطة صعدا والقطار يعرج فيها ويتعوج ويلتف حتى دخل نفقا آخر طوله 82 مترا، ثم خرج منه إلى محطة جامان وعلوها 1500 متر، ثم عاد إلى المسير ودخل نفقا ثالثا طوله 267 مترا وخرج منه. وكان في كل مسيره ملتفا متعرجا مرتدا، تارة يسير إلى اليمين وطورا إلى اليسار، ونحن في داخله كأننا في قبة طيارة حلقت في الجو، فإذا هي بين الأرض والسماء، وقنن الجبال محيطة بنا عشرات عشرات من جميع الجهات، وشعرنا عند ذلك العلو الشاهق بشدة البرد، ورأينا الضباب مخيما فوق الرءوس، فما عتمنا أن وصلنا المحطة الأخيرة حتى أسرعنا إلى الفندق لنشرب شيئا يدفئ الأبدان. وتفرجنا زمانا على ذلك الصخر المرتفع وما يحيط به من المناظر، ثم رجعنا في القطار كأننا نهبط من عل حتى بلغنا أسفل الجبل، وركبنا الباخرة في البحيرة فعدنا بها إلى جنيف، وكان زمان الذهاب والرجوع 13 ساعة، شعرنا في خلالها أننا في أرض غريبة ومنظر عجيب فتان.
الجبل الأبيض:
هو أعلى جبال أوروبا، ويقال له سلطان الجبال، ارتفاع قمته العليا 4810 أمتار، وهو أبدا تكسوه الثلوج، وله قمم كثيرة ما بين كلسية وصوانية وحجرية وترابية، يتخللها أودية عظيمة تتراكم الثلوج فيها أيضا، وتنصب منها الجداول والشلالات. وقد كان أمر هذا الجبل مجهولا إلى أوائل القرن الماضي، فدأب الأفراد والجمعيات العلمية على انتيابه وقياس أبعاده واكتشاف مجاهله، وتسمية أجزائه والجبال التابعة له، وهي كثيرة، مثل جبل المسلة، وجبل قتب الجمل، وجبل الأهرام، وغير هذا، حتى أصبح الآن كله معروفا، لا يجهل الناس منه شبرا، وهم الآن في كل سنة يصعدون أعاليه، فبعضهم يبلغ أعلاها والبعض ما دونها بقليل، وكلهم يأخذون الأدلاء معهم والمرشدين، ويمسكون بالحبال حتى إذا زلت القدم بسائر في تلك القنن العسيرة لم يهو إلى حضيض أحد الأودية ويلق الفناء. وأكثر الذين يفعلون ذلك من الإنكليز؛ لأنهم اشتهروا بهذه المخاطرات، وهم يتنافسون في تسلق هذا الجبل، فلا يمر عام حتى تدون الجرائد أسماء القتلى منهم الذين يروحون شهداء المخاطرة وحب العلم واكتشاف المجهول؛ فإن أسباب العطب هناك كثيرة، فإما أن تزل القدم أو تزلق على أملس الجليد، أو أن ينهال أجرف من الصخر أو التراب أو الجليد فيودي بمن يقع في طريقه، أو تنشق الأرض المتجمدة تحت الأقدام من ذوبان بعض جليدها فيغور الذي يطأ تلك الأرض. ومن أمثال هذه الحوادث المكدرة أن شابا سويديا كان يرتقي إحدى هذه المرتفعات، فرأى زهرة أسرع ليقطفها ويبقيها معه؛ تذكار تلك الرحلة لوالدته، فزلت به القدم وهوى إلى هوة عمق الثلج فيها 50 مترا وفارق الحياة. ولما علمت والدة الشاب بهذا الخبر جاءت بنفسها وصعدت إلى محل حتفه والأدلاء معها، ثم تقدمت إلى تلك الزهرة حذرة متأنية، فقطفتها وعادت بها مع جثة ابنها إلى الوطن. وقد رسموا طرق السير في هذا الجبل من بعد هذه الحوادث، فالسياح يمرون في الطرق المرسومة فوق الثلج المتراكمة في الوادي.
وقد التقينا في جنيف بحضرات سعاد بك وكيل دائرة دولة البرنس جميل باشا طوسن سابقا، وراشد بك من أعيان مصر، فاتفقنا معهما على زيارة الجبل الأبيض مع ما في ذلك من العناء، فذهبنا في قطار وقف في عدة قرى سويسرية، ثم وصل مدينة لفايه بعد 3 ساعات، وكان معنا سياح أكثرهم من الإنكليز والأميركان قاصدين رؤية الجبل الأبيض أيضا، فتناولنا الغداء جميعا في مطعم المحطة، ثم ركبنا عربة كانت تنتظرنا وتجرها ستة جياد قوية بدينة فقامت في طريق خصت بهذه العربات، ولا تسع غير واحدة منها بعد واحدة ، وكانت العربة تلف وتتعرج وترتد وتدور حسب المعتاد في كل طرق الصعود إلى الجبال، فلما مضى على هذه الحالة خمس ساعات بلغنا بلد شاموني، وهي في أسفل الجبل الأبيض، ولا حاجة إلى القول إن المناظر التي شاهدناها في هذه الساعات الخمس كانت من بدائع الطبيعة بلا مراء. والمسافة بين جنيف وشاموني 8 ساعات، فهي قريبة من بلد الأنس، ولكنها كانت إلى عهد قريب - أي من نحو 50 سنة - بلا ساكن فأصبحت الآن مثابة حسناء يقصدها نحو خمسة آلاف زائر كل عام ليتقدموا منها إلى قمة الجبل، وقد قامت فيها الفنادق الكبرى، بعضها يلي بعضا؛ لتفي بحاجات هؤلاء السائحين، وكثير منهم لا يتعدون هذه الجهة، بل يكتفون بما يرون أمامهم من القمم والمناظر الفتانة، ولكنني كنت من الذين عولوا على رؤية هذه المناظر وبلوغ آخرها، فبت مع الذين عزموا عزمي ليلة في شاموني، وقضينا ليلة أخرى للراحة والاستعداد ثم اشترينا الأحزمة وجوارب الصوف تلبس فوق الحذاء منعا للزلق، وأخذنا لكل منا عصا في آخرها حديد كالحربة يغرز في الثلج؛ حتى يتكئ السائر عليه ولا ينقلب فيحل به العطب. واكترى كل منا بغلا وكان معه دليل أيضا، وفي صباح اليوم التالي تقدمنا على هذه البغال صعدا بسير رويد، وكانت الطريق ضيقة لا تكفي لأكثر من جسم البغل، وكان مرورنا متعرجا حسب العادة، والمناظر من دوننا في هذه الشعاب والمسالك والأودية مما يخلب الأبصار، ولا سيما هذه الصخور الهائلة المقدار، منها حجر من الصوان أراه لنا الدليل وطوله 15 مترا. وبعد أن سرنا أربع ساعات على ظهور البغال بلغنا محطة مونتافير، وهي آخر ما يمكن الوصول إليه على المطايا، علوها 640 قدما، وربما عجب القارئ إذا ذكرنا له أننا وجدنا في هذه الطريق العسيرة المحفوفة بالبرد والأخطار بعضا من السيدات - يغلب على الظن أنهن أميركيات - كن سائرات في تلك المواقف على الأقدام، وهن يفتخرن بمثل هذه المخاطرات، ويؤثرن المشي على الركوب مغالاة في الفخر والمباهاة، والبرد هنا شديد والهواء يجلد الأبدان. وقد بنوا في مونتافير فندقا صغيرا تباع فيه السلع الصغرى تذكارا لهذا الموضع، وأكثرها من الخشب كالأفاريز الصغيرة وسكاكين الورق وحجارة الألماس الصخري، وهي باهرة اللمعان كأنها الجوهر الحقيقي وحجارة عين الهر، وفي سويسرا كثير من هذين النوعين يصوغونه بالذهب ويبيعونه في أشهر المدن. وقد التقينا في هذا الفندق ببعض مندوبي الصحافة قادمين من معرض باريس، وفي جملتهم حضرة الأمير أمين أرسلان مندوبا من صحف البلاد العثمانية، وكان معه نواب صحف الصين واليابان وغيرهما، وأما مصر فلم تندب صحفها أحدا في ذلك المؤتمر. وكثير من السائحين يبلغون هذا المكان ولا يمرون فوق بحر الجليد.
وأما بحر الجليد هذا، فهو موضع غريب على مقربة من مونتافير، وهو عبارة عن واد عظيم ما بين جبلين شاهقين، وقد غطى الجليد أرضه فجعلها كالبحر منظرا؛ ولذلك أطلقوا هذا الاسم عليه، وطول هذا الوادي أربعة أميال ونصف، وعرضه ميل وربع ميل، فلما جاء وقت الذهاب إليه قمنا مع القائمين، وسرنا في أول الأمر نحو ربع ساعة حتى إذا بلغنا طرف هذا البحر المتجمد لبسنا جوارب الصوف فوق الأحذية، وأمسكنا بالعصي التي في طرفها حراب يسارنا، وأمسك بنا الأدلاء باليمين، فسرنا على هذه الطريقة فوق منبسط من الماء المتجمد، وقد نقروا فيه مواضع صغيرة هي إشارات إلى حيث يلزم أن توضع القدم، وتأملنا ساعتئذ منظر هذا الموضع، فإذا هو بديع يولد مهابة في النفوس، وهو بلا مثيل بين المناظر التي ينتابها السائحون، ولا سيما إذا تأمله الواقف في وسطه كما فعلنا حين بلغنا موضعا يقال له البئر، وهو مكان تشقق فيه الجليد وجرى من تحته الماء، والناس يجرون فوق هذا المنظر ويعجبون. وبينا نحن نتأمل هذه البئر العجيبة نبه السياح والأدلاء أذهاننا إلى منظر بعيد، هو جرف من التراب انهال من الجبل الأبيض على مرأى منا، وتطاير غباره فكان كالغيم والضباب في ذلك الجو الرفيع.
المرور من بحر الجليد.
وظللنا على المسير حتى بلغنا الطرف الآخر بعد ثلث ساعة بوجه التقريب، وكانت الحجارة الصوانية الكبرى مبعثرة هناك، وهي متساقطة من جبل شابو القائم أمامنا، فجعلت أنتقل من حجر إلى حجر حتى وصلت آخر الجليد، وهو في الأرض بأسفل الجبل المذكور، ولكنني لحظت في تلك الساعة أن كل السائحين عادوا من بئر الجليد السابق ذكرها إلى الفندق في نفس الطريق التي سلكناها ونحن قادمون، وبقيت أنا وحدي مع بعض من الرفاق فلم أدرك العلة في ذلك لأول وهلة، وعدت مع رفاقي إلى المسير على الأقدام في لحف جبل شابو حتى التقينا بجبل آخر من الحجر الصواني الساطع يلمع كأنه المرآة، وقد قام على شكل عمودي تقريبا كأنه الجدار أسفله في بحر الجليد وأعلاه في القمة، ولا بد من اجتياز هذا الجبل العسر لإتمام الرحلة، فهم وجدوا طريقا سموها «موفه با» - أي المسلك الوعر - وطريقهم هذه عبارة عن نقر في هذا الجبل، غرزوا به قضيبا من نحاس، فكنت أسير على هذه الحفر وأمسك بذلك الحديد وأنا على غاية من التأني والحذر، وكان وجهي لا يبعد أكثر من نصف متر عن هذا الجدار، وورائي بحر الجليد، ولكنني لم ألتفت إلى الوراء عملا بنصيحة الدليل. وقد أدركت في هذا الموقف الحرج سبب رجوع السياح من بئر الجليد؛ لأن المسير هنا خطر على السائرين، وقد استغرق معنا في هذا المكان نحو خمس دقائق تقريبا، فلما انتهينا منه فرحنا بالفرج وحمدنا الرحمن الرحيم، ورأينا أمامنا خصا تباع فيه المشروبات، فاسترحنا قليلا في هذا الخص، وهو ترى منه الجبال المحيطة بهذا الموضع - وقد ذكرنا بعضها - ويرى أيضا منتهى بحر الجليد، وهو قائم كالجدار يخرج منه نهر آفر وينحدر بسرعة، وهو الذي يسير مع نهر الرون من جنيف وقد سبق ذكره، وعلو هذا الجدار من 10 أمتار إلى 15 مترا، وهو يزحف في بعض الأحيان ويتقدم من ثقل الجليد وراءه، فهم يضعون علامات من الحجر لمواضع انتقاله، وقد سرنا من هذا المكان على الأقدام في طريق أنشئ بلحف الجبل، وطوله نحو ثلث ساعة، والتقينا أثناء المسير هنا بجبل آخر صواني، لون حجره أزرق، قام عموديا كالجدار أيضا، وعلوه 1200 متر، وعرضه 400 متر تقريبا ، تنحدر من أعلاه مياه صافية كالزلال، وهي تجري على كل عرضه، ولها منظر بديع، شربنا من هذه المياه بأيدينا؛ لأن منظرها شهي، والشرب منها يحلو للنفوس. وما زلنا على المسير حتى انتهينا من المسالك العسيرة، ورأينا البغال واقفة بانتظارنا حسب اتفاق سابق مع الأدلاء، فركبنا ظهورها وسرنا في واد من شجر الصنوبر تلتف أغصانه بعضها على بعض حتى إنها تحجب نور الشمس في بعض أجزاء هذه الغيضة الحسناء. ولما هبطنا على ظهور المطايا إلى سطح الأرض ظللنا على المسير بين عمائر السويسريين ومزارعهم وبساتينهم ومراعيهم الغضة، نمتع الطرف بمنظر هذه الأكواخ التي قامت على عمد من الخشب، ومن تحتها فراغ حتى إذا جرت السيول لا تجرف الأكواخ بما فيها، ولها سطوح من القرميد المتدرج في الصعود، لا تستقر عليه المياه من الأمطار الكثيرة. وكنا نعجب بالمواشي والأبقار الضليعة تتنقل بين هذه الأعشاب والمرابع البهية حتى إذا جاءت الساعة 7 مساء عدنا إلى شاموني بعد سفر 12 ساعة، وقد أعيانا التعب من المسير في أعسر مسالك أوروبا الجبلية، وأغرب مواقع الطبيعة الفخيمة التي تؤثر في الصدور.
وبقينا يوما آخر في شاموني طلبا للراحة، ثم عدنا إلى جنيف من طريق غير الذي سلكناه في المجيء، فقمنا في حافلة مثل عربات الأمنبوس صعدت الجبل بنا متعرجة ملتفة حسب العادة، وأكثر مسيرها على ضفة نهر آفر الذي يخرج من بحر الجليد وقد مر ذكره. ورأينا أن النهر ضيق المجرى، سريع كثير الصخور الزرقاء في مجراه، فهو سلسلة شلالات صغيرة لها دوي عظيم. وكانت الحافلة تنساب بين هذه المشاهد الساحرة للعيان، وتدخل من نفق إلى نفق، وكلما برزت من أحدها تجلت لنا المحاسن التي لا يصفها قلم أو لسان، أو تمر فوق جسور من الحديد علقت من طرف في تلك المرتفعات إلى طرف حتى بلغنا جهة تعرف باسم تريان، وهي في واد شاهق علوه 4250 قدما، وقنن من الجبال المكسوة بالثلج من حولها تعد بالعشرات، منها جبل يدعى مسلة البرج علوه 11585 قدما، والثلج في جوانبه إلى أبعاد بعيدة له منظر كاللجين حتى أطلقوا عليه اسم الفضية لهذا السبب، ومن هنا تتصل الطرق بشعاب سان برنار المشهورة بديرها وكلابها التي تنقذ المسافرين من الموت تحت الجليد، وهي في الطريق الذي سلكه نابوليون حين هاجم إيطاليا وفتحها في أوائل عهده بالحروب. وفي تريان هذه فندق أقمنا فيه ريثما استرحنا وتغذينا ثم أبدلنا خيل العربة وعدنا في طريق يعرف باسم الرأس الأسود، ومررنا في طريقنا بجبل الطير فنبه الأدلاء نظرنا إلى قمته التي كنا عازمين على بلوغها، فإذا بالنسور محلقة من فوقه، وهو على علو 8655 قدما. وكنا في كل هذه الطريق نرى شجر الصنوبر منسقا أحسن تنسيق صفوفا فوق صفوف، كأنها عولجت بالمقراض، وبعض هذه الأشجار ينمو فوق الصخور. ولقينا في الطريق صغارا من الصبية والبنات يبيعون أزهارا برية وفاكهة حتى بلغنا مدينة مارتيني، وهي تتصل بجنيف بسكة الحديد وبعدها عن تريان 4 ساعات وعن شاموني 8، واجتزنا المسافة بين مارتيني وجنيف بسكة الحديد في 3 ساعات مررنا فيها بجبل سان موريس الشهير، وكانت مناظر الجبال والوديان والبلاد كلها بين شاموني وجنيف في طريق الذهاب والإياب معا مجموع غرائب وبدائع طبيعية تخلب الألباب، وكثير من السياح يكتفون بالمناظر التي يمكن الوصول إليها بالعربة وسكة الحديد لحد شاموني فلا يعبئون بزيارة الجبل الأبيض مشيا وركوبا على البغال كما فعلنا؛ لأن في ذلك مشقة لا تخفى على القارئين.
من جنيف إلى مرسيليا:
لما انتهيت من هذه السياحة البهية في 31 أوغسطس قمت من جنيف إلى مرسيليا في قطار سكة الحديد مخترقا بلاد سافوا الجبلية، وهو يخرج من نفق ويدخل في نفق حتى اجتاز السابع، وبلغ مدينة بيل جارد، وهي واقعة على حدود فرنسا وسويسرا - كما قلنا في فصل غير هذا - وفيها جمرك فرنسوي يشددون فيه ويدققون في تفتيش عفش المسافرين؛ لأن أكثرهم يأتون بالأشياء المصنوعة في سويسرا، وهي عليها رسوم جمركية في فرنسا. وأما الذي يتنقل في مدائن سويسرا فإنه يستريح من عناء الجمارك وتفتيشها أينما سار. وقد قام القطار من بيل جارد في أرض فرنسا فبلغ ليون في الساعة 4 بعد الظهر، وجاء القطار السريع من باريس بعد نصف ساعة، فركبناه وسرنا به إلى مرسيليا، حيث بلغناها الساعة 10 من المساء، فكانت مدة السفر من جنيف إلى مرسيليا عشر ساعات.
وكان الغرض من حضوري إلى مرسيليا أن أذهب منها إلى الجزائر، وهي بلاد عربية قديمة العهد، لها تاريخ ممتزج بتواريخ مصر والشام يهم قراء اللغة العربية، وعليه عزمت على السياحة في بلاد الجزائر ووضعت لها خلاصة تاريخية حسب عادتي؛ ليكون المرء على بينة مما يقرأ عنها، وهي خلاصة مفيدة، بدأتها من عهد الفينيقيين فالرومانيين والفندال والروم والعرب والأتراك والفرنسويين، وأسهبت في الأسباب التي أدت إلى قيام وسقوط كل دولة على حدتها.
الجزائر
خلاصة تاريخية
رأيت صعوبة في جمع هذه الخلاصة التاريخية لما أن الكتب العربية، مثل تاريخ ابن خلدون وأبي الفداء مطولة، وكتب الإفرنج تسرد الأسماء العربية على طريقة بعيدة عن الصواب، ولكنني جمعت هذه المواد الآتية من عدة مؤلفات للعرب والأوروبيين.
يبدأ تاريخ الجزائر المعروف على عهد أجدادنا الفينيقيين، وقد تلاهم الرومانيون في حكم تلك البلاد ثم الفندال ثم الروم ثم العرب ثم الأتراك، ثم الفرنسويون، وهم أصحاب البلاد الآن. وكانت البلاد تعرف باسم ليبيا على عهد الرومانيين، وأهلها الأول من البربر يعيشون عيشة القبائل المنحطة، ولكنهم اشتهروا بالبأس والشدة فلم يخضعوا خضوعا صحيحا لأمة ملكتهم، ولم يأخذوا عنها شيئا من علومهم وحضارتهم، بل إنهم بقوا على عبادة الوثن ما خلا بعضهم دانوا بالإسلام بعد استيلاء العرب على بلادهم، وحدث كثيرا أن البلاد جزئت بين الفاتحين حتى إن هذه التجزئة ظهرت من عهد قريب - أي على عهد الأمير عبد القادر - حين تقرر أن يكون بعض البلاد له والبعض لفرنسا، ولم ترسم خريطة تامة للبلاد إلا من بعد إبعاد الأمير عبد القادر واستيلاء فرنسا عليها برمتها.
وقبل أن أذكر أمر الفينيقيين في هذه البلاد، أقول إن بلاد فينيقيا الأصلية كانت تمتد من وراء صور في شطوط الشام إلى رأس الخنزير على مقربة من اللاذقية. وكان في جملة المدائن الفينيقية صور، وهي العاصمة القديمة وصيدا وحيفا ويافا وبيروت وعكا وطرابلس واللاذقية، وكلها ثغور بحرية كما لا يخفى. وكان لهذه الأمة مراكز في أعالي الجبال، مثل رأس الكرمل فوق حيفا، ورأس النافورة والرأس الأبيض ورأس الدامور فوق صيدا، ورأس نهر الكلب فوق بيروت، ورأس الشقعة فوق طرابلس، والرأس البسيط فوق اللاذقية، حتى إنهم لما كثر عديدهم أوغلوا في داخلية البلاد وآثارهم كثيرة في قرى لبنان وجبال النصيرية فوق اللاذقية، وكانت جزيرة أرواد ما بين طرابلس واللاذقية من مراكزهم المهمة ، قيل إن اسمها هذا فينيقي بقي على حاله إلى اليوم، وفيها آثار لهم كثيرة إلى الآن.
وأما كيفية استيطان الفينيقيين لأقطار أفريقيا الشمالية، مثل تونس وطرابلس الغرب والجزائر ومراكش، فيقال فيه أن أميرة اسمها ديدون - وقيل في كتاب سيرة القديسين إن اسمها إليشير - هربت من وجه أخيها بجماليون ملك صور الذي قتل زوجها طمعا بثروته حوالي سنة 860 قبل المسيح، وأبحرت إلى حيث لا تدري، ومعها حاشية وأعوان، حتى ألقتها الأقدار عند موقع مدينة تونس الحالي، فألقت عصا الترحال فيها، واشترت أرضا من زعيم قبيلتها، وقيل إنها احتالت على هذا الزعيم وادعت أنها لا تريد غير بقعة صغيرة حتى إذا باعها واستقر بها النوى جعلت تتوسع في امتلاك الأرض مع أعوانها، وبنت مدينة قرطاجة المشهورة على مقربة من تونس، ثم تبعها أقوام من أهل وطنها فعمروا تلك الجهة تعميرا، وبنوا فيها بعض القلاع وأقاموا يتاجرون في البحار والأقطار، ولكنهم لم يسمع عنهم شيء غير الاشتغال بالتجارة مدة ثلاثة قرون بعد إنشاء مدينتهم إلا بعد خراب مدينة صور عاصمة فينيقيا الأصلية، حين فتحها بختنصر ملك بابل حوالي سنة 574 قبل المسيح، ودك معالمها وخرب ما فيها، فرحل الناس منها ومن بقية المدن الفينيقية إلى قرطاجة؛ لأنها بلغت في ذلك الزمان منزلة تذكر من التقدم والنماء. وكان أهل هذه المستعمرة جميعهم يشتغلون بالتجارة حتى عمال الحكومة منهم، وكانوا يعلمون الأهالي المجاورين لهم طرق المتاجرة والأرباح، ولم يهملوا الزراعة، بل إنهم أتقنوها وعلموا الأهالي طرق الانتفاع منها، وفرضوا على المزروعات مالا قليلا لا يمنع الناس من الانقطاع لها، وبذلك خدموا المدينة ورقوا حالة الأقوام المجاورة لهم، وبنوا المدائن والطرق، منها ما هو باق إلى اليوم ومطروق، مثل طريق الصحراء إلى السودان؛ فإنها طريق القوافل إلى هذا النهار. كذلك الصناعة حذقوا بعض فروعها، وقد عثروا على آثار كثيرة من الحلي الذهبية والفضية صنع الفينيقيين، تشهد لهم بالتفنن والذكاء، وهي الآن في متحف قرطاجة، وسنعود إليه. وكان لهذه المستعمرة جيش، معظمه من غير العنصر الفينيقي؛ لأن شبانهم كانوا يستأجرون أفرادا من أهل أفريقيا للقيام بهذه الخدمة عنهم، واشتهروا بحكومتهم الجمهورية مع أنهم عاشوا في عصور الاستبداد والحكم المطلق، فكان لهم مجلس (سناتو)، أعضاؤه مائة ينتخبون من الشعب كل سنة، وهم حكام المستعمرة وقضاتها ووزراؤها معا؛ لأن مجلسهم كان يشهر الحروب، ويعقد المحالفات ويقضي في مسائل الناس. واتسع نطاق تجارتهم في جميع الأنحاء فبنوا المواني الواسعة وأكثروا من السفن ترتاد البحار، حتى إنهم بلغوا شطوط البلطيق في الشمال وشطوط البحر الهندي وخليج فارس في الجنوب، وقيل أكثر من ذلك مما لم تؤيده الآثار والأخبار، وكانوا يذهبون بسفنهم إلى مصر؛ ليشتروا منها الحبال والقماش لمراكبهم والورق والقمح وغير ذلك، واختلفوا إلى ثغور البحر الأحمر حيث كانوا يأتون بالتبر والأفاوية والعطور والبخور، وكانوا في كل هذه المواضع يعطون الأهالي بدل هذه الأشياء أقمشة من صنع بلادهم، ملونة أكثرها باللون الأرجواني، وهم أول من اهتدى إلى صنعه وبعض الأدوات المعدنية من الحديد والنحاس، والرصاص كانوا يستخرجونه من إقليم توميد، فاشتهروا بهذا بين طوائف الأقدمين.
وكان مجلس الشيوخ مشرفا على شئون البلاد قرر أن تستولي الجمهورية على كل القرى والمدن الواقعة على شاطئ البحر الشمالي، وفي جملتها موقع الجزائر الحالي، وكل ما أمكن امتلاكه بين جبل طارق في آخر البحر المتوسط من ناحية الغرب إلى أطراف بلاد طرابلس وما يقابلها، وكذلك بعض أجزاء أوروبا من جنوب إسبانيا إلى حدود مرسيليا، واستولوا أيضا على جزيرتي سردينيا وكورسيكا، وجزء في صقلية ومالطة، وكانوا يستولون على كل هذه الأقطار بالتداخل السياسي والتجارة بدل الحرب، وهي طريقة الإنكليز في بعض ما ملكوا من الهند وسواها في التاريخ الحديث. ولكن هذا السؤدد لم يدم زمانا لأهل قرطاجة؛ لأن دولة رومية بدأت تحسدهم على هذه النعم وتطمع في اختلاسها منهم، وكان بدء الخصام بين الدولتين ثورة في مدينة صقلية؛ إذ طلب فريق من أهلها الانضمام إلى جمهورية رومية، وأراد الآخرون أن يبقوا تحت راية قرطاجة، فقامت الحرب الأولى بين الجمهوريتين، وكان الفوز في أوائلها للقرطاجيين، لما أن سفنهم الحربية كانت أكثر عددا وإتقانا، ولكن أهل رومية أسرعوا إلى بناء سفن جديدة على شكل السفن القرطاجية، فانتصروا بها واستولوا على جزيرة صقلية وجزيرة سردينيا، ثم توجهوا إلى قرطاجة ففتحوها عنوة مع أن قائدها أميكلار أبلى بلاء حسنا، وقاوم الأعداء زمانا طويلا، ولكنه قتل في إحدى المعارك وخلفه ابن أميكلار، وهو شاب في الثانية والعشرين من عمره، والقائد العظيم المشهور باسم هنبال أو (هنبعل) الذي يعده الناس إلى هذا الزمان من أكبر العارفين بأصول الخدمة الحربية؛ فإن هذا البطل الهمام دخل بلاد الرومانيين بجيش أكثر من أهل إسبانيا، وفاز في كل المعارك التي حدثت له مع أعدائه حتى إنه بلغ سور رومية، وأصبحت تلك الدولة العظيمة في خطر كبير، فما عرفت كيف تخلص من عدوها القاهر حتى فطنت إلى طريقة كانت هي القاضية؛ ذلك أنها جردت جيشا تحت قيادة رجل من سراتها، وسيرته على قرطاجة ليضايقها حتى يضطر هنبال إلى الخروج من بلاد إيطاليا والذهاب إلى وطنه ليدافع عنه، وقد تم ذلك لرومية، وعاد هنبال على كره منه بعد أن أفنى معظم جيشه في المعارك الطليانية التي دامت 14 سنة، وأبقت لهذا البطل الفينيقي أعظم ذكر في تاريخ الحروب، ولا سيما أنه كان أول قائد اجتاز جبال الألب بجيش جرار، وما فعل فعله في الزمان الحديث غير نابوليون الفاتح المشهور، قيل إن هنبال بكى حين جاءه أمر السناتو بالرجوع للدفاع عن وطنه؛ لأنه كان قد أقسم أن يدخل رومية ويهد أركانها، فما تم له المراد، ورجع بعد أن أفنى من جيشه 60 ألف بطل وبقي معه 40 ألفا فقط، وكان غيظه شديدا حين بلغ الوطن، ووجد أهله في خمول ورخاء لا يهتمون للدفاع عن استقلالهم، وقد انغمسوا في تجارتهم وصناعتهم حتى إنهم توسلوا إليه أن يعقد صلحا مع الأعداء بدل من أن يتحمسوا معه. وكانت خزانة حكومتهم فارغة من المال وليس لديها رجال يصلحون لإنجاد الجيش المحارب، بينا أن جيش رومية كان يزيد ويشتد من يوم إلى يوم، وقائده شيبيو يعتز ويضمن النصر ، فطلب هنبال مقابلته، وكان الرجل معسكرا على بعد أيام عن قرطاجة، فلما تقابل القائدان طلب شيبيو شروطا ثقيلة تقضي على حياة قرطاجة، فأبى هنبال قبولها، وتقدم الفريقان للحرب القاضية، والتقيا عند قرية اسمها زاما، وهنالك دارت رحى القتال الشديد، وبذل هنبال جهده في إدارة جنوده وهم يومئذ 40 ألفا، ولكنه كثر عليه العدد حتى قتل من رجاله نصفهم عدا من أسر، فأمرهم بالتراجع إلى المدينة، وعاد في اضطراب وأسف عظيمين زادهما ما لقي من فتور الهمم بين قومه واستسلامهم للأقدار، وكانت هذه الموقعة في سنة 203 قبل المسيح.
هنبال.
ورأى هنبال بعد هذه الكسرة أن دولة قومه زالت، وأنه لا بد من قتله إذا بقي في بلاده ففر منها وذهب إلى سورية، حيث أكرمه ملكها أنطيوخوس وأعلى مقامه؛ لأن الملك المذكور كان كارها للرومانيين، ولكن هنبال كره الحياة بعد ذله فتجرع سما ومات غريبا، واستسلم أهل قرطاجة بعد غيابه فسلموا كل سفنهم وأسلحتهم للرومانيين، وعدد السفن 500 أضرم القائد شيبيو فيها النار فأضاءت الفضاء بنارها أياما، ثم عاد بالأسلاب والغنائم إلى رومية حيث قابله قومه بالإكرام العظيم. واشتدت وطأة الحكام الرومانيين بعد هذا الانتصار على أهالي قرطاجة، حتى إنهم تآمروا مع الأهالي على خلع نير الطاعة، ومن ثم شبت الحرب القرطاجية الثانية مع رومية، وانتهت بالخضوع التام وضم قرطاجة وما يتبعها إلى أملاك الرومانيين، وكانت هذه الحرب شديدة الأهوال؛ لأن أهل قرطاجة ذاقوا طعم الاستبداد الروماني فتجند رجالهم ونساؤهم للحرب تحت قيادة أسدروبال، وجدوا في بناء السفن حتى إنهم كانوا يهدمون المنازل؛ ليبنوا المراكب بأخشابها ولا تفوتهم فرصة الانتقام والاستقلال، وجعلوا معابدهم معامل لصنع السلاح والتمرين، واستخدموا النساء والأولاد في عمل المهمات الحربية، وباعوا حلي نسائهم؛ ليشتروا بها ذخائر للحرب، وقطعت النساء شعورها؛ حتى تجعلها حبالا للسفن الحربية، وأظهر القوم غاية الأنفة والحماسة الوطنية حين أقبل الرومانيون عليهم بالجنود والسفن الحربية، فحصروا مدينة قرطاجة وأقاموا على الحصار سنتين وهم لا يتقدمون خطوة، وأهل المدينة ينسلون تحت جنح الظلام من حين إلى حين للبطش بجموعهم، ويأتون غرائب الصبر والإقدام في الدفاع عن الوطن العزيز، حتى إذا كانوا في سنتهم الثالثة من سني هذا الحصار قل الزاد داخل المدينة، واشتد الكرب والضيق، فجعل الرومانيون يوالون الهجمات، وهم أبدا على ازدياد مما يأتيهم من النجدات، واستمروا ستة أيام بلياليها يكرون ويهجمون، والمحصورون يردونهم بعزم الأبطال الأشداء، حتى تيسر لهم الدخول من سطح أحد المنازل المتطرفة، وجعلوا ينتقلون منه إلى السطوح الأخرى فوق ألواح من الخشب وضعوها لهذا الغرض، وأهل المدينة يضربونهم بقلب شديد، ولكن الدفاع لم يغن فتيلا؛ لأن الرومانيين تكاثروا في السطوح ودخلوا الشوارع ثم أضرموا النار في منازل المدينة، فرأى القائد أسدروبال أن الآخرة دنت، وأنه لم يبق بد من التسليم أو الفناء؛ فذهب إلى جهة القائد الروماني وبيده غصن زيتون علامة التسليم، ولكن زوجته سمعت الناس يقولون إنه خان الوطن بهذا التسليم، فهاج دم النخوة في عروقها، وبلغت بها الحماسة الوطنية مبلغ الجنون حتى إنها اقتادت ولديها، أحدهما باليمين والثاني بالشمال، ودخلت بهما الهيكل، ثم نادت بالناس فتبعوها كبارا وصغارا، وهنالك قالت لأهل وطنها إن الموت خير من التسليم للعدو، وأشارت بأن يحرق الهيكل وهم فيه فرضوا بما قالت، وأضرموا النار في موضعهم فالتهبت النار واحترقت هذه المرأة الشريفة مع ولديها وبقية أولئك الأبطال الكرام.
ولما استولت الجنود الرومانية على المدينة أكملت المصاب بالنار أيضا، عملا بأمر السناتو، فأحرقت المدينة العظيمة بكل ما فيها، وبقيت النيران تأكل تلك المنازل والقصور أسبوعا بأكمله، والناس داخل المدينة يتعذبون ويموتون حتى إذا فر أحدهم تلقاه الرومانيون بسلاحهم وقتلوه، وكان منظر ذلك الحريق الهائل وصراخ المحروقين والمعذبين يفطر الأكباد، ولكنه لم يؤثر في جنود الرومان؛ لأنهم لما انتهوا من أمر النار وخربت المدينة صدر لهم الأمر بدفن الموتى من أعدائهم فجعلوا يدفنون الحي مع الميت، وبهذا قضي على أعظم جمهورية شرقية قامت في التاريخ القديم، وكان مصابها الأخير في عام 146 قبل المسيح.
القرطاجنيون يستهلكون بالدفاع عن وطنهم.
وقد كانت قرطاجة عروس المدائن في زمانها ودار الأنس والصفاء والعز واليسار، بلغ عدد سكانها 700 ألف نفس، كثر فيها الأغنياء وأصحاب الذكاء، وكانت جوانب قرطاجة حافلة بالمعابد الفخيمة والقصور المنيفة والمتنزهات الجميلة، وهي مدة أجيال مصدر الصناعة والعلم ومرجع أصحاب المتاجر من جميع الأصقاع، وقد سادت وشادت خمسة قرون، كانت فيها مثال الحكمة والعدل، وبنت قواعدها على أساس الحكم الجمهوري، ونبغ من أهلها العظماء والكرام ورتع الأهالي في ظل عدلها، فما شكوا ظلما ولا هبوا لثورة في كل تلك القرون، وما زالت آثار هذه المدينة العظيمة على مقربة من ضواحي مدينة تونس الحالية، وقد بني فوقها مدن سيدي بومدين ومدينة المرسي؛ حيث قام قصر الباي، وغير هذا مما سنذكره في فصل سياحتنا التونسية.
السلطنة الرومانية
لما استولت رومية على بلاد قرطاجة جعلت ولايتها لرجل من سراتها اسمه ميشبسا، وهو جعل مقر حكومته في مدينة سيرتا (قسنطينة الآن)، وسار على خطة القرطاجيين في أنه عمر البلاد بالنازحين من أهل بلاده، وساعدهم على الارتحال ألوفا، وحاول أن يعلمهم طرق الإتجار مع الأهالي، ولكن أهل البلاد كانوا يكرهون الرومانيين بسبب أثرتهم واستبدادهم بعد الذي ذاقوا من حلاوة العدل القرطاجي. وبدأ هذا الوالي يبني القصور والمعابد في عاصمته الجديدة، وجر المياه إليها من المواضع البعيدة وبنى لبعضها القناطر على شكل قناطر الملك بيبرس في مصر، وبعضها باق إلى اليوم مع أنه مر 3000 سنة على بنائه. وكانت مدة حكم هذا الوالي 30 سنة، توفي بعدها، وقسم الملك قبل وفاته بين ولديه همبسال والدربال وابن أخيه جوجورتا، وكان هذا الأخير ذا شهرة وإقدام وطمع شديد، خدم الدولة الرومانية في بعض حروبها، ولما صار واليا طمع بملك ابني عمه، فأرسل رجلا إلى همبسال قتله واضطر الآخر إلى الفرار من وجهه حتى إنه قصد رومية؛ ليرفع أمره إلى السناتو فيها، ولكن جوجورتا أسرع إلى إرسال الوفود إلى رومية وزودها بالهدايا لبعض أعضاء المجلس، فلم يمكن الحكم لألدربال، بل إن المجلس أرسل وفدا إلى الولاية الأفريقية ليقسمها بين الرجلين، فكان القسم الأهم بحكم هذا الوفد لجوجورتا بسبب هباته ورشاويه. ولكن هذا الطماع لم يكتف بكل ذلك بل هو أشهر حربا على ابن عمه حال رجوع الوفد لسبب صغير، وحاصره في بلده، فرأى الدربال أن يعمل بشور البعض ويطلب مقابلة خصمه على شرط ألا يؤذيه، فوعده جوجورتا بذلك، ولكنه غدر ساعة المقابلة وقبض على ابن عمه وقتله أشنع قتلة، ودخل مدينة قسنطينة فنكل بكبارها وأكثر من الفظائع، حتى إن أهل رومية لما بلغتهم الأخبار لم يطيقوا صبرا على أعمال هذا الرجل، ولم يقدر حزبه على إيقاف تيار السخط، فأعلنت الحرب على هذا الطاغية، ودامت 7 سنين أظهر جوجورتا فيها مقدرة كبرى على الحيلة والتخلص، حتى إنهم أطلقوا عليه اسم هنبال الثاني.
ولكن أهل رومية عادوا إلى الشكوى من عجز دولتهم كل هذه المدة عن إخضاع أحد الولاة، وكان السبب في ذلك أن اثنين من القواد الرومانيين أهملا بدواعي الرشوة التي قدمها جوجورتا، فعين السناتو قائدا جديدا اسمه ماريوس، عرف بالعفة والإقدام، وكان معه جيش من أبطال الرومانيين، فضيق على جوجورتا في الحرب حتى اضطره إلى الفرار والالتجاء إلى حميمه والي مورتانيا (هي الآن إقليم وهران)، ولكن هذا الوالي خاف بطش رومية فسلمها صهره وأخذ جوجورتا أسيرا إلى العاصمة، حيث قضى بقية عمره في العذاب والشقاء جزاء سيئاته الكثار. وكان الرومانيون يهتمون كثيرا لهذه الولاية الأفريقية؛ لأن نصف القمح والزيت الذي يلزم لرومية كانوا يشحنونه من أراضي قرطاجة، وكان على هذه الولاية رجل فاضل عادل اسمه جوبا، ألف كتبا مفيدة، وأحسن السياسة في الناس وطال حكمه 54 سنة، فخلفه ابنه بطليموس وكان ضعيفا سيئ التدبير منغمسا في الملذات، فهب الأهالي للثورة عليه تحت قيادة رجل من زعمائهم اسمه تكفارنياس، كان قد انتظم في سلك الجيش الروماني حتى يتعلم الفنون الحربية، فكان خصما عنيدا لرومية، أرسلت عليه جيشا يقوده إيرونيوس ودامت الحرب زمانا؛ لأن الزعيم الوطني كان يلوذ بالقفار كلما أصابه انكسار في الحرب، ولكن القائد الروماني جعل مالا للذي يأتيه بهذا العاصي ميتا أو حيا، ثم عرف بوجوده في جهة أوزايا فباغته فيها، ونكل به وبجيشه في ساعة الفجر، وكان في هذه المعارك ما يشبه حوادث الحرب الحديثة التي حدثت بين جنود فرنسا والأمير عبد القادر الجزائري، وسيأتي بيانها. ولما استتب الأمن لرومية وخلصت من الثائرين، قسمت أفريقيا الشمالية، وعينت لكل ولاية واليا، وكان ذلك سنة 343 بعد المسيح. وقد ذهب القيصر أوغسطس بنفسه إلى هذه الولاية، ولما رأى موقع قرطاجة أمر بإعادة بنائها مخالفا أسلافه في ذلك، ولكنه اشترط ألا يزيد علو أسوارها عن مترين. ولما كانت قرطاجة بديعة الموقع فإنه لم يمر زمان حتى عمرت وكبرت وصارت ثالثة المدائن في السلطنة الرومية، لا يتقدمها في الأهمية غير رومية وإسكندرية، وذلك بعد الخراب السابق بنحو مائتي عام.
وتعاقب الولاة الرومانيون على هذه الولاية، فما كان لأحدهم أمر يستحق الذكر على نوع أخص غير القيصر أدريانوس، فإنه ذهب إلى أفريقيا بنفسه، وأنصف وعمر وشاد حتى إن الرومانيين بقوا كل مدة حكمهم يذكرون أيام هذا القيصر وآثاره، ولكنهم لم يزيدوا على أعماله شيئا. وكان في هذه البلاد جماعة كبيرة من اليهود نزحوا من فلسطين بعد أن فتحها القيصر نيطس ودمر عاصمتها أورشليم، وأما النصرانية، فإنها دخلت البلاد على يد قرطاجي اسمه ترتولين وخلفه مار أوغسطينوس المشهور، فنشر مبادئ النصرانية بين الأهالي وبنى الكنائس وملجأ للعجزة في مدينة هبون - وسيأتي الكلام عنها وعن الأساقفة - وأتى غير ذلك كثيرا من آيات الحض والإرشاد. وقد كان القياصرة والحكام الرومانيون يضطهدون النصارى هنا على عادتهم في تلك الأزمان، ويعذبونهم بالطرق الوحشية المعروفة في تاريخ النصرانية مدة القرون الأولى، وقد ظل القياصرة يتعاقبون حتى قام الإمبراطور فلانتين، وأشرك معه أخاه فالانس سنة 365 مسيحية، وكان ذلك العام بدء انقسام السلطنة الرومانية وتجزئتها؛ لأن الأخوين تقاسماها فخص فلانتين الولايات الغربية، جعل مدينة ميلانو في إيطاليا قاعدتها مؤقتا، وخص فالانس الولايات الشرقية وأقام في القسطنطينية. وحدث بعد ذلك أن الفندال تقدموا على ولايات السلطنة الرومانية في حكم الإمبراطور فلانتين الثالث وهو يومئذ قاصر تحت وصاية أمه بلاسيد، ودخلوا إسبانيا، فذهب بونيفاس معتمد السلطنة في الولايات الغربية إلى إسبانيا وقابل ملك الفندال، واتفق معه على احترام الحدود حقنا للدماء، وحدث أنه رأى ابنة آريوسيه بارعة الجمال في بلاط الملك فاقترن بها، وكان هذا موافقا لرغائب الملك؛ لأنه سهل عليه دخول أفريقيا.
سلطنة الفندال
هم القوم المعروفون بالبربر، خرجوا جيوشا جرارة طامية من بلاد البلطيك في شمال أوروبا، وجاءوا بلاد جرمانيا العليا حيث تنصروا على مذهب آريوس، ثم تقدموا للغزو والفتح فشنوا الغارة على فرنسا، أو هي بلاد الغول في سنة 406، وتقدموا منها إلى إسبانيا فملكوها، وكان جندريك أحد ملوكهم فيها هو الذي امتلك ولايات أفريقيا من الرومانيين، وخلفه ابنه جنسريك، وهو ذو شهرة عظيمة بالدهاء وفنون الحرب، أراد أن يستولي على قرطاجة، فسير عليها جيشا عدده 80 ألف رجل مع نسائهم وأولادهم، كانوا من الهمج الفقراء، فلما بلغوا تلك المدائن الرومانية العامرة ورأوا ما فيها من العز والنعم تمادوا في السلب والنهب، وقام ملكهم إلى قرطاجة. ومع أن بونيفاس ذكره بوعده ألا يتعدى الحدود، فإن كلامه راح سدى، واضطر أن يهرب من وجه الملك إلى مدينة هيبون الواقعة على شاطئ البحر، وجاءت في خلال ذلك نجدة من ملك الروم في الآستانة فلم تفد في رد جموع الفندال، وعلى ذلك نزل أهل المدينة في مراكب الروم وهجروها فدخلها الفندال، ولم يبقوا بها حجرا على حجر، وكان ذلك سنة 432. واستبد جنسريك بعد ذلك بالملك، وكان آريوسيا شديد الوطأة على المسيحيين، وحاول مرارا أن يحملهم على اعتناق المذهب الآريوسي، وفتح مدينة قرطاجة بلا عناء كبير في سنة 439، وابتز مال أهلها، وعذب الكثيرين منهم حتى يسلموه ما خبئوا من الأموال والكنوز. وكان هذا الملك الفندالي شديد الاهتمام للعفاف والصيانة فشدد الوطأة على كل متزوج بغير الطرق الشرعية، ومنع الحفلات الدينية في الشوارع، وكان على الجملة رجلا عظيما قويا مخالفا لأكثر أهل النصرانية فيما يعتقدون.
وظل جنسريك يطمع بتوسيع الملك، حتى إنه قام إلى صقلية واستولى عليها؛ فذعر أهل رومية والقسطنطينية من انتصاره، وتحالف الإمبراطوران عليه، فأرسل الإمبراطور ثيودوسيوس جيشا عدده 30 ألفا من الآستانة في سنة 491، أخذهم جنسريك بالحيلة، ووهمهم أنه أرسل وفدا إلى إمبراطورهم بطلب الصلح، وكان في الحقيقة قد أرسل جيشا للسطو على ثغور بلادهم، فلما اتضحت الحقيقة اضطر الجيش الرومي إلى الرجوع؛ ليحافظ على بلاده، فبقيت صقلية لملك الفندال، وهو أعد فيها أسطولا قويا وجيشا عظيما للاستيلاء على رومية، وساعده اختلال أحوالها وسوء تصرف الإمبراطور على مراده؛ لأن الإمبراطور فالنتين المذكور كان قد أتى أمرا معيبا مع زوجة واحد من أعضاء السناتو فقتله العضو المذكور، وأكره الإمبراطورة على الاقتران به، وأصبح صاحب السلطان، ولكن الإمبراطورة انتقمت منه بمخابرة ملك الفندال سرا حتى إذا جاء بجيشه استولى على عاصمة العالم القديم بلا قتال ولا عناد كبير، ثم أمر بنهبها وإحراقها، وجمع النفائس والغوالي من كنائسها وقصورها ومتاحفها وعاد بها إلى قرطاجة، ومعه الإمبراطورة وبنتاها في جملة الأسرى، فلما بلغ عاصمته عفا عن الإمبراطورة وإحدى البنتين، وأرسلهما إلى الآستانة، وزوج الثانية لابنه أوتريك.
وقد كان لاستيلاء الفندال على رومية تأثير عظيم ألقى الرعب في القلوب، حتى خاف أهل القسطنطينية أن يأتي دورهم، ولا سيما بعد أن استولى جنسريك على جزر صقلية وسردينيا وكورسيكا، وسير أسطولا هاجم بعض مدن آسيا الصغرى، فهب ليون إمبراطور الروم للدفاع، وأرسل أسطولا فيه مائة ألف محارب تحت قيادة أحد أعوانه يدعى باسيليكوس، وأمر جيشا بريا أن يقوم من مصر لمعاونة الأسطول على محاربة الفندال، فوصل الأسطول إلى ثغر بوتا (عنابة)، ورسا فيه، وكاد يقضي على الأعداء ، ولكن جنسريك عاد إلى الحيلة ولاطف رجال هذا الأسطول، وأولم الولائم لهم، وقرب مراكبه من مراكبهم، وأوهم القوم أنه ذاهب إلى القسطنطينية بنفسه ليتفق مع إمبراطورهم حتى إذا أنسوا بلطفه دس بين مراكبهم صنادل مملوءة بالمواد الملتهبة ليلا، وتنحت مراكبه بعد إضرام النار في الصنادل فاحترق معظم الأسطول الرومي، واضطرت البقية إلى الفرار، ورجع القائد باسيليكوس إلى القسطنطينية، وقد خاف من غضب الإمبراطور، فلجأ إلى كنيسة آيا صوفيا. وكان الجيش الرومي يتقدم من البر حتى إذا قرب من العدو علم بما أصاب الأسطول، وكان فيه معظم القوة، فأركن إلى الفرار وعاد إلى مصر سنة 467، وخلا الجو لملك الفندال حتى اضطر ملك الروم أن يعترف به سلطانا لرومية والغرب على شرط أن يحترم دين المسيح. وتوفي جنسريك سنة 477 في قرطاجة، وهو في أوج عزه ومجده، وترك سلطنته لابنه أوتريك.
وقد بدأ الضعف يظهر في سلطنة الفندال حالما توفي جنسريك الفاتح؛ لأن ابنه أوتريك انغمس في الرذائل، وزاد في الجور والظلم وقتل ألوفا من الناس في جملتهم المطران الآريوسي الذي احتج على مظالمه. وظل خلفاء جنسريك في جور وبطر وإسراف إلى أن كانت أيام الإمبراطور يوستنيانوس في القسطنطينية، واستغاث به بعض المسيحيين من حكومة الفندال، فعقد مجلسا من أكابر دولته، كان أكثرهم على ترك الحرب خوفا من شدة الفندال وبأسهم، ولكن قائدا اسمه بلزاروس خالف الباقين وأثبت لهم أن القوم الفندال أضاعوا بسالتهم السابقة وانغمسوا في الملذات فصار الانتصار عليهم مضمونا؛ ولذلك أقروا العمل برأي القائد بلزاروس وإشهار الحرب، وأعد جيش وأسطول عدد سفنه 500 ورجاله 20 ألفا تحت أمر هذا القائد، وسار وراءه أسطول آخر فيه 100 مركب و2000 شاب من المتطوعين في سنة 533، وهي السنة السابعة من حكم الإمبراطور يوستنيانوس، ووصلت هذه السفن جزيرة صقلية بعد ثلاثة أشهر، ثم انتقلت إلى شطوط أفريقيا على مقربة من ثغر قرطاجة، فهب ملك الفندال للدفاع واسمه يومئذ جيلمر.
وكان بلزاروس شديد الوطأة على المعتدين من جنوده، لا يسمح لهم بالاعتداء على الأهالي حتى أمال الأهالي إليه ، فلما دارت رحى الحرب كسرت فيالق الفندال وهرب ملكهم إلى هبون فحاصر فيها. وتقدم بلزاروس بعد هذا الانتصار على قرطاجة فقابله أهلها بسرور عظيم؛ لأنهم كانوا قد ملوا جور الفندال، فدخلها بأبهة كبرى، وأقام في قصر ملوك الفندال، وذهب إلى كنيستها فصلى مع المسيحيين من أهلها وهم في طرب عظيم ثم، اهتم لتحصين قرطاجة فأشغل جيشه وجيشا من الأهالي مدة شهر في البناء والحفر والتحصين استعدادا لهجمات الفندال، وكان ملكهم قد بدأ يستعد الزحف عليه، واستدعى أخا له من سردينيا ؛ ليعاونه على حشد الجيوش وقيادتها، فلما بلغت جنودهما قرطاجة قام بلزاروس لمقابلة أعدائه ونشبت حرب عنيفة قتل فيها أخو ملك الفندال، وظهر الضعف في جيشه حتى إنه لزم الفرار وترك قناطير مقنطرة من النفائس والتحف والذخائر غنيمة باردة للروم، وكان أكثر هذه الغنائم أصله من رومية، فأخذها القائد الرومي وعاد بها إلى الآستانة. فلما سمع به الإمبراطور يوستنيانوس فرح فرحا عظيما واهتزت جوانب القسطنطينية طربا، ولكن الدسائس بدأت على القائد الفاتح حسب العادة، وجعل الخصوم يتهمونه بالعمل على امتلاك أفريقيا، وباختلاس الجواهر والنفائس التي لا تعد من غنائم حربه مع الفندال، غير أن بلزاروس لم يحفل بهذه المساعي، بل دأب على إتمام حربه مع الفندال حتى لا يبقى لسلطانهم أثر، وعلم أن ملكهم جيلمر فر إلى جبل أدوغ (سنذكره في فصل السياحة)، فأرسل وراءه قائدا اسمه فاروس حاصره في ذلك الجبل مع أصحابه وهم في فقر وضنك شديد.
وتقدم بلزاروس بعد ذلك على بقية الولايات الأفريقية ففتحها بلا مقاومة، وفي جملتها إقليم طرابلس، وهو آخر ملك الروم في شمال أفريقيا، واستولت مراكبه على جزر البحر أيضا، فما بقي غير الملك في جبل أدوغ، إلا أن هذا الملك المنكود الحظ اشتد الفقر عليه، وقيل إنه رأى ابن أخيه يوما يخاصم أحد أولاد القرويين الفقراء على لقمة من خبز الشعير فحزن لهذه الحالة وبكى، ثم أرسل يعلم القائد الرومي بعزمه على التسليم لبلزاروس القائد العام على شرط أن يحسن معاملته، وبذلك انتهى أمر هذا الملك وأخذ أسيرا إلى قرطاجة حيث قابله بلزاروس وفرح بتسليمة وأخذه معه إلى الآستانة، فأكرمه الإمبراطور وعين له راتبا وأسكنه في قصر، وبذلك دالت دولة الفندال بعد كل تلك القوة وحلت محلها دولة الروم في ولايات أفريقيا. وقد احتفل ملك الروم وشعبه بهذا الانتصار احتفالا عظيما، وأتوا بملك الفندال لابسا حلته الأرجوانية، فأمروه أن يركع أمام يوستنيانوس وزينت المدينة كلها في المساء. وفي الغد سار القائد المنصور في الشوارع حسب عادتهم، تحيط به الزينات وآيات النصر والطرب، وكان ملك الفندال سائرا وراء الفاتح الذي جعل ينثر الذهب والفضة على الجموع، وانقضت سلالة جنسريك بموت جيلمر.
سلطنة الروم والبيزانس
لما استتب الأمر لدولة الروم في أفريقيا، تقرر في مجلس القسطنطينية أن يعين لها وال عام، فوقع الانتخاب على صالومون لهذا المنصب، وهو قائد محنك يحبه الشعب، وذهب هذا الوالي الجديد إلى محل عمله فوجد حال وصوله أن الأسقفيات المسيحية نقصت في الأقاليم السبعة (ما بين طنجة وطرابلس) إلى 210 بعد أن كانت 690 أسقفية، وأن الأهالي جعلوا يظهرون العدوان والتمرد، وأنهم اعتدوا في كثير من المواضع حتى تقدموا لحد أبواب قرطاجة، فأرسل إلى زعمائهم يذكرهم بإنصاف بلزاروس ونعمه لهم، ويقول إنهم إذا ظلوا على العدوان كانت آخرتهم مثل آخرة الفندال. وكان جوابهم شديدا، حتى إنه اضطر أن يقوم لمحاربتهم بعد أن خطب في عساكره وحضهم على حسن البلاء. والتقى صالومون بالأهالي العصاة على مقربة من أحد الجبال، ومعهم ألوف من الجمال صفوها اثنين اثنين على شكل مربع؛ لتكون سورا يقيهم سلاح الروم، وكان مع العصاة عدة من النساء يساعدن في العمل ويداوين الجرحى، فلما دار القتال تمكن الروم من اختراق مربع الثائرين، ودخلوا معسكرهم فقتلوا منهم نحو عشرة آلاف، وقتل من الروم ألفان. وفي الليل تراجع الفريقان وفر العصاة إلى الجبل، عادة الأهالي في هذا القطر في كل حروبهم القديمة والحديثة، يعتصمون بالجبال أو يلجئون إلى القفار حين يشتد عليهم أمر العدو. فلما كان الغد عاد القتال على غير جدوى، فاهتم صالومون للأمر واختار ألفين من أشد رجاله؛ ليتسلقوا الجبل في الليل ويدخلوا معسكر الأعداء، وأوصاهم بالحذر حتى إذا كان الليل دخلوا حسب أمره، وانسلوا بين العصاة، فلما دنت ساعة الفجر هبوا يقتلون العصاة من كل جانب حتى أهلكوا عشرة آلاف منهم، وأسروا أكثر من هذا العدد، وعادوا إلى قرطاجة بالأسرى فباعوهم بأرخص الأثمان.
على أن هذه الثورة ما كادت تخمد حتى ظهر روح الشر من جديد بين الأهالي، وقام صالومون للقتال مرة أخرى، فتمكن الآريوسيون في غيابه عن المدينة من إغراء حاميتها الرومية على التمرد، فاختل نظام الجنود وقاموا يعيثون فسادا في أحياء المدينة، وعم السلب والاعتداء حتى اضطر الوالي حين بلغه الخبر أن يترك الأعداء، ويعود إلى المدينة، ولكنه رأى أنهم ينوون الإيقاع به، فتركهم وعاد إلى الآستانة سنة 537. ولما عرف الإمبراطور يوستنيانوس بهذه الحالة عين ابن أخيه جرمانوس ليصلح الحال؛ فذهب هذا الأمير بمفرده إلى قرطاجة، ولما بلغها ألقى في الجنود خطابا بليغا ردهم فيه إلى الطاعة، وأعادهم إلى الأمانة للإمبراطور. وكان الأمير زكيا حازما فأبطل المظالم والمغارم ودفع الرواتب المتأخرة إلى الجنود، وشدد في معاقبة المعتدين وكافأ الأمناء والمجدين، فرتعت البلاد في بحبوبة الأمن، ولكن الإمبراطورة تيودورة - وهي زوجة يوستنيانوس - كانت تكره جرمانوس، فظلت على الوشاية به إلى عمه حتى عزله، وأعاد صالومون للولاية مرة أخرى سنة 589، فلما عاد الرجل إلى قرطاجة رأى أن أحوالها متحسنة، فأرسل وراء ولدي أخيه، وهما سيروس وسرجيوس، ولى الأول إقليم قسنطينة والثاني إقليم طرابلس، وكان الشابان بلا مقدرة ولا ذكاء، أهملا شئون الحكومة ارتكانا على صولة عمهما الوالي العام. وحدث أن زعماء القبائل في ولاية سرجيوس جاءوا لمقابلته؛ لينالوا الخلعة، وهم يثمنونها كثيرا، فأكرمهم الشاب ودعاهم إلى مائدته، ولكنه غدر بهم وأمر بقتلهم بعد الطعام، وهم 80 شيخا وزعيما، فما نجا منهم غير واحد دار في البلاد يحدث أهلها بخيانة سرجيوس حتى هيج الأهالي كلهم عليه، فقاموا يدا واحدة لطلب الانتقام من الحاكم الخائن؛ ففر سرجيوس إلى قرطاجة وتبعته جموع الثائرين حتى إذا قربت منها بعث صالومون يطلب الزعماء ليكلمهم في الصلح، فقالوا إنهم لا يثقون بوعد الروم وأيمانهم، وأنهم لا يصدقون صالومون إلا إذا عاقب ابن أخيه أولا على تلك الخيانة الكبرى. وعلى هذا دار القتال بين الفريقين، وكان فيه النصر للأهالي، وقد كبا الجواد بصالومون في وسط المعركة، فوقع بين الأعداء ومات مقتولا.
والظاهر أن سوء التدبير في القسطنطينية عجل بزوال ملك الروم؛ لأنه لما علم الإمبراطور بموت صالومون عين سرجيوس واليا عاما مكانه، مع أن سرجيوس هو أصل هذه الفتنة وسببها، وزاد الرجل عتوا وصلفا حين أتاه الأمر بتعيينه للولاية، فاشتد ظلمه على الأهالي، وقاموا لمحاربته تحت رئاسة زعيم من زعماء قبائلهم اسمه أنتالاس، وكان هذا الزعيم قد كتب إلى الإمبراطور يرجوه أن يعين غير سرجيوس للولاية إذا شاء أن يبقي بلاد أفريقيا له، فلم يسمع الإمبراطور له قولا وظل على رأي الملكة تيودورة، فزاد سرجيوس ظلما وبغيا حتى عم الاضطراب، وعقد مجلس في القسطنطينية تقرر فيه أن يعين مستشار للوالي سرجيوس، فكان ذلك إرضاء للملكة فعينوا سريا من الكبراء اسمه آريونيدس، وهو زوج بنت أخت الإمبراطور، وذهب هذا المستشار مع بعض القوات والأعوان إلى قرطاجة، فلما بلغها رأى أن الحالة عسيرة، وأن الهياج عام والثورة كبرى، فقام في الحال لرد الأعداء الذين كانوا قد قربوا من المدينة، ودعا سرجيوس للذهاب معه، فأبى الوالي أن يذهب وبقي مع حظياته في القصر مع دنو الخطر واشتداد الخطب.
ووقع القتال بين جيش الحكومة والثائرين، فكان النصر للعصاة، وارتدت الجنود إلى المدينة، ولجأ المستشار إلى كنيسة عند البحر على أمل أن ينجو منها بنفسه ويعود إلى القسطنطينية، ولكن هياج البحر أوقفه عن المسير، ولما علم أنتالاس رئيس العصاة أن المستشار الرومي في الكنيسة، سأل الأسقف أن يدعوه لمقابلته، وتعهد بألا يؤذيه، فذهب آريونيدس برداء الأسير لمقابلة هذا الزعيم، وركع أمامه، ولكن الرجل رفعه عن الأرض وأكرمه ودعاه إلى مائدته، ثم بعد الطعام أمر بقتله، فانتقم بذلك من الروم لإخوانه الذين قتلهم سرجيوس . وكان هذا المصاب في سنة 592، ولما علم الإمبراطور بهذه الأمور أصدر أمرا بعزل سرجيوس، وكان هو قد هرب وذهب إلى القسطنطينية، وبقيت ولايات أفريقيا في اختلال واضطراب حتى قيل في تاريخ بروكوبوس أحد مؤرخي الروم، إن عدد الناس في تلك الولايات نقص 5 ملايين نفس في عشرين سنة على عهد الدولة الرومية من الحروب المتواصلة التي لم تبطل يوما واحدا، ومن المهاجرة الدائمة إلى الجزر وغيرها، وانتشرت الفوضى بعد هذه المدة حتى إن الولاة أو بعضهم خرجوا عن طاعة السلطنة، وفي جملتهم قائد اسمه غريغوريوس استقل بولاية طرابلس، وكان طماعا فرض الرسوم الرابية على الأشخاص والأراضي حتى إنه جعل رسما على استنشاق الهواء؛ لكي يجمع لنفسه الأموال. وما برحت حكومة الروم في اختلال وضعف على هذه الحالة حتى ظهر أنه لا بد من تغيير الحالة، وكان زمانهم زمان ظهور الإسلام وانتشاره السريع، فانتقلت أفريقيا من قبضة الروم إلى قبضة العرب، كما ترى في الفصل التالي.
السلطنة العربية
لما نهض العرب نهضتهم العجيبة في بدء الإسلام تطلعوا إلى كل ما يلي بلادهم من الأقطار، وفي جملتها ولايات أفريقيا الشمالية التابعة لسلطنة الروم، فكان أول عمل لهم في فتحها على عهد عمر بن الخطاب وعامله عمرو بن العاص والي مصر، فإنه تقدم من هذا القطر إلى برقة سنة 22 هجرية، فصالحه أهلها على الجزية. ثم سار منها إلى طرابلس وحاصرها ففتحها عنوة، وولى عليها وعلى برقة حكاما من العرب ورجع إلى مصر، وعزل عمرو بن العاص من ولاية مصر على عهد الخليفة عثمان بن عفان، فخلفه عبد الله بن سعيد بن أبي سرح العامري الذي زحف بأمر الخليفة لفتح بقية الأقطار الأفريقية بأربعين ألف محارب سنة 29 هجرية/647، وكان صاحب تلك البلاد يومئذ غريغوريوس الذي سبق ذكره، واسمه عند العرب جرجير، فاستعد لمقاتلة القادمين بجيش من الروم والرومانيين والبربر وبقية السكان، وبلغ عدد جيشه فيما يقال مائة ألف مقاتل، وأرسل عبد الله بن سرح قبل القتال وفدا إلى جرجير يعرض عليه أن يعتنق الإسلام أو يدفع الجزية، ولكن الرجل نفر وأبى وأقسم أن يزوج بنته للذي يأتيه برأس القائد العربي. فلما رجع الوفد إلى عبد الله بدأ الهجوم وشدد القتال حتى هزم جرجير وجيشه وشد عبد الله بن الزبير على جرجير فقتله وتزوج بنته بعد أن ملك العرب مدينة سبيطلة عاصمة تلك البلاد، ونهبوها وسبوا ألوفا من أهلها. وتقدم المسلمون بعد ذلك في البسائط والضواحي، ووقع بينهم وبين البربر والروم عدة حروب، ثم رأى القائد عبد الله أن جنوده قلت، وأن الحروب متواصلة مع أهل البلاد، فرضي بما جمع من الغنم وعاد إلى مصر.
ولما صارت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان استأنف العرب هجومهم على أفريقيا، وعين ابن خديج الشكوني من مصر لفتح أفريقيا سنة 45 هجرية/653، وكان في جيشه عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان، وكثير غيرهم من سراة العرب وأمرائهم، ففرقهم خديج وأرسل مع كل منهم جيشا لفتح الجهات، ففتحوا جزيرة صقلية ومدينة جربة وغيرهما، ثم قفل خديج راجعا إلى مصر، وعين مكانه عقبة بن نافع سنة 47ه، وكان رجلا باسلا هماما، زحف بجنوده واستولى على قسم كبير من بلاد المغرب، وهو الذي اختط مدينة القيروان وجعلها مقام جيشه، وبنى فيها القصور والثكنات وأحاطها بسور منيع، وبنى الجامع المشهور باسمه، فيه 500 عمود من الرخام.
ولما علم إمبراطور القسطنطينية بما أصاب ولاية أفريقيا أرسل إليها أسطولا، وفيه جيش كبير، وحدثت معركة ما بين الروم والعرب عند القيروان، دارت الدائرة فيها على العرب، فقتل القائد العربي ونحو 300 من كبار الصحابة وجمع غفير من التابعين، فيهم أبو المهاجر، وهو من أشهر قواد العرب يومئذ، فتقهقرت بقية العرب إلى برقة، وصدر أمر الخليفة معاوية بتعيين زهير بن قيس بدل عقبة، وبقيامه لمحاربة الأعداء والأخذ بثأر عقبة، فزحف بجيش صغير من العرب سنة 67ه، فانتصر في أول الأمر، ولكنه بينا كان راجعا إلى مصر لقيه أسطول الروم فقاتله وانتصر عليه وقتله مع جملة من أكابر جيشه، فسكت العرب بعد هذه الكسرات زمانا عن فتح أفريقيا إلى أن كانت خلافة عبد الملك بن مروان في دمشق، فبعث إلى حسان بن النعمان - وهو يومئذ والي مصر - أن يخرج إلى أفريقيا، وأرسل إليه المدد فزحف إليها سنة 79ه، وتقدم منتصرا حتى بلغ مدينة قرطاجة ففتحها وأمر بتدميرها فخربت عن آخرها، وكان في ذلك بدء السلطنة العربية وآخر دولة الروم في أفريقيا.
وقد تعاقب الولاة والقواد من العرب بعد ذلك على حكومة أفريقيا أو ما ملكوا منها، فلا حاجة إلى ذكرهم، ولكننا نشير إلى أشهرهم، وهو موسى بن نصير، كان والي هذه البلاد من قبل الخليفة الوليد بن عبد الملك الأموي سنة 88ه، وهو الذي دوخ المغرب وأثخن في البربر، وفتحت بلاد الأندلس في أيامه، وقد ذكرنا ذلك في فصل إسبانيا، وحدث كثير من الاضطراب والخلل فيما تلا أيام موسى بن نصير، وكثر العزل والتنصيب بين الولاة والحكام في عهد الخلفاء الأمويين والعباسيين معا، فقد تولى هذه البلاد زمانا في أوائل الفتح العربي بنو عبيد، وهم الذين فتحوا صقلية ودام ملكهم 112 سنة هجرية. ثم قام الإمام المهدي ودام حكمه إلى سنة 322 هجرية. ولما توفي خلفه ابنه المنصور، وخلف هذا ابنه المعز لدين الله الذي أرسل جوهرا إلى مصر حين علم بوفاة كافور الشهير فيها، وكان جوهر آمن عماله وقواده، فجاء جوهر سنة 360ه، ودعا لمولاه بالخلافة في القطر المصري، ثم أرسل إليه الكتب يحثه على المجيء إلى مصر، فجاءها سنة 362ه. ويعلم القراء أن جوهر هذا هو الذي بنى مصر الحديثة في موقعها الحالي والأزهر، وبدأ استحكامات القلعة، وكان مركز المدينة قبل ذلك في موقع مصر العتيقة الآن، ولما جاء الخليفة المعز لدين الله من الغرب إلى مصر أسس فيها الدولة العبيدية، فكان هو أول خلفاء هذه الدولة ولا حاجة إلى الإسهاب عنها هنا؛ لأننا في تاريخ الغرب. وترك الرجل في المغرب عند حضوره إلى مصر قائدا اسمه بلكين الصنهاجي، فانتقلت حكومة المغرب إلى يوسف بلكين بن زيري الصنهاجي السابق الذكر، وهو رأس الدولة الصنهاجية، اشتهرت بكثير من الحروب الداخلية في بلاد أفريقيا، وحدث لبعض أمرائها حروب مع خلفاء مصر العبيديين؛ لإعراض أمراء المغرب عن الدعوة بالخلافة للعبيديين واعترافهم بها لبني العباس. وربما كان أشهر الأمراء الصنهاجيين آخرهم، وهو الأمير حسن الذي طالت مدة محاربته لمملكة صقلية على عهد صاحبها روجير، وقد خلفه على إمارة المغرب المولى أبو محمد عبد الواحد مؤسس الدولة الحفصية، وآخر رجال هذه الدولة الحسن بن كنوت، مات سنة 748، خلفه بعد موته يوسف بن تاشفين، وهو من الذين اشتهروا في أواسط التاريخ الإسلامي، عرف بكرم الخلق وعفة النفس وبالدراية في الحروب، وقد أبلى بلاء حسنا في مقاتلة البلاد التي لم تخضع للوحدة الإسلامية في أفريقيا الشمالية، وردها إلى الطاعة، وبنى مدينة مركوك، واسمها بالفرنسوية ماروك، ولعلها أصل الاسم مراكش المتداول الآن، وخلفه ابنه علي الذي ظهر في أيام عدة من مدعي المهدوية، وبعضهم جمعوا الناس إليهم وحاربوه، فبدأت من ذلك العهد فتن وقلاقل وحروب داخلية بين العرب في بلاد المغرب، يطول شرحها وتقل فائدة سردها، ولكنها لم تنته إلا بنهاية الأحكام العربية في تلك البلاد ودخول البلاد في قبضة الأتراك، كما ترى في الفصل التالي.
السلطنة التركية
في سنة 1510 مسيحية أتت سفينة من جزيرة مدلي (مثلين)، ورست في ثغر جيجل على مقربة من قرية الجزائر، وكان في السفينة أخوان، أحدهما اسمه عروج والثاني خير الدين، وهو قائد البحر المشهور بغزواته والذي اهتزت أوروبا لذكره وفعله، واسمه في تاريخها بارباروسا أو ذو اللحية الحمراء. وكان الأخوان مدربين على الملاحة من صغر، فأقاما يصنعان السفن في الثغر الذي ذكرناه حتى توفر عندهما عدد كبير منها، فجعلا يهاجمان سفن الإفرنج وينهبان ما فيها ويأسران رجالها في عرض البحار، وكان رجال خير الدين يزيدون عددا من حين إلى حين، حتى إن شيخ الجزائر - وهو يومئذ سالم بن تومي - دعا خير الدين لمساعدته على طرد الإسبانيين الذين كانوا قد استولوا على قسم كبير من الجزائر بعد أن طردوا العرب منها، وبنوا قلعة على شاطئ القرية ، فقبل خير الدين هذه الدعوة، واشترك مع حليفه في محاصرة القلعة 20 يوما حتى فتحها، وأخرج الإسبانيين منها في سنة 1516، ولما دخلها رأى أنه لم يبق من رجالها غير عشرين، وزعيمهم شاهر سيفه لا يريد التسليم، وهو ذو مهابة وجمال، فعرض خير الدين عليه الإسلام وأبى، فأمر بضربه وجلده حتى مات معذبا وهو ينادي بالمحافظة على دينه.
وعظم أمر خير الدين في الحال بعد هذه الواقعة، فكبرت آماله وطمعت نفسه، وأمر رجاله الأتراك بقتل سالم بن تومي حليفه، فقتلوه وحل هو محله، وقد غضب العرب لما أصاب شيخهم، فحاولوا الأخذ بثأره، ولكن خناجر الأتراك أرهبتهم وردتهم إلى الطاعة، فاستبد خير الدين بالأمر وجعل عمال حكومته كلهم من الأتراك. ولكن السلام لم يستتب زمانا؛ لأن إسبانيا عزمت على استرجاع قلعتها، فجردت أسطولا عدد سفنه 80، وفيه 8000 جندي تحت قيادة الجنرال دي فيرو، تقدم على قرية الجزائر، ونزل بجنوده إليها بلا مقاومة من العرب والأتراك، ثم قسم جيشه أربعة أقسام، فكان ذلك علة انكساره؛ لأن خير الدين أوجد الحماسة في صدور رجاله، ثم جعل يهاجم العدو فرقة بعد فرقة وهو يفل مواكبها تباعا حتى كسرهم شر كسرة، وألجأ بقيتهم إلى الاعتصام بالسفن البحرية حيث دهمتهم العواصف ولانوا، فكادت تجهز على الأسطول ومن فيه، ونجا بقية قليلة عادت إلى وطنها لتخبر بهذا الانكسار.
وزاد خير الدين رفعة بعد هذا النصر الباهر، فبينا هو يفكر في توسيع ملكه علم أن بوحمو صاحب تلمسان (سنذكرها في سياحتنا) اختلف مع أخيه مسعود، فأرسل خير الدين أخاه عروجا ليستلم المدينة باسم السلطان، وقام عروج بالأمر فطرد بوحمو من المدينة وولى مسعودا مكانه بلا مقاومة من الأهالي، ففر بوحمو إلى الأملاك الإسبانية وطلب مساعدة أهلها، ووعد حاكمها في وهران بالذهب الوفير، فأنجده الحاكم ببعض رجاله سار بهم وبمن التف حوله من العرب الناصرين له، وحصر تلمسان 26 يوما، كان عروج في خلالها مقيما في القلعة مع كبراء المدينة حتى ضاق صدره من شدة الحصار، فخرج يوما بمن معه من أحد الأبواب معولا على الفرار، وتأثره الأعداء فجعل يلقي لهم المال والتحف وهو فار ليلهيهم عن مطاردته، ولكن هذا لم يجده نفعا؛ لأنهم أدركوه وقتلوه وقطعوا رأسه فأرسلوه إلى الحاكم الإسباني في وهران، وبهذا عاد بوحمو إلى تلمسان بعد أن تعهد بدفع جزية سنوية إلى الحاكم الإسباني مقدارها 12000 دوكا من الذهب. وقد أثر مقتل عروج في أخيه خير الدين، وجعله يخاف على نفسه، فجمع إليه قواد العرب وحرضهم على منازلة النصارى، وأرسل وفدا إلى الآستانة ليعرض حال المدينة على السلطان ويطلب حمايته ومعونته، فعاد الوفد من الآستانة بأمر من السلطان سليم الأول يقضي بتعيين خير الدين حاكما للجزائر وإعطائه لقب بك، وجاءه 2000 جندي من الأتراك الأشداء.
وقد أصاب خير الدين في خوفه من إسبانيا؛ لأن ملكها كارلوس الخامس أرسل جيشا تحت قيادة الماركيز دي مونكاد لمحاربته، عدده 7500 جندي انتقلوا في 60 سفينة، فلما قربوا من ثغر الجزائر نزل بعضهم إلى بر قريب، وأقام قائدهم ينتظر النجدة من بوحمو حليف الإسبانيين. فبينا هو في الانتظار هبت عواصف حطمت 26 سفينة من أسطوله، وأغرقت 4000 من جنوده، ففر ببقية قواته إلى الجزر الإسبانية، وفرح خير الدين فرحا لا يوصف بهذا النصر الجديد، حتى إنه هم بالانتقام من صاحب تلمسان الذي كان السبب في قتل أخيه، فزحف عليه بجيش قوي، ولما قرب من تلك المدينة علم أن صاحبها مات وترك ولدين يتنازعان الملك فطردهما منها، وضمها إلى أملاكه، وعاد إلى الجزائر بعد أن ترك حامية فيها.
ولما ذاع خبر استيلاء خير الدين على تلمسان خاف سلطان تونس - وهو يومئذ مولاي محمد الحفصي - أن يتقدم هذا القائد عليه ويملك بلاده أيضا، فتقدم لمحاربته بجيش كبير، وكان مولاي محمد واسع الثروة فاستخدم بعض ماله في إغراء بعض من مشايخ الجزائر على موالاته سرا ضد خير الدين، ولكن خير الدين أدرك المكيدة فدعا المشايخ المذكورين إلى جامع بدعوى أنه يريد مشاورتهم، ولما صاروا داخله أقفل الأبواب عليهم، وأمر رجاله الأتراك فقتلوهم عن آخرهم كما فعل محمد علي بالمماليك في مصر، وتقدم بعد ذلك لمحاربة سلطان تونس فحاربه وظهر عليه، وألجأه إلى الفرار، فلما استراح خير الدين من هذا العدو تفرغ للسطو في البحار على عادته السابقة، فغنم كثيرا من سفن الإفرنج، وهاجم صقلية وسردينيا وإسبانيا، فعاد منها بالغنائم والسبايا. ثم توجه بأربعمائة من الحور والولدان إلى الآستانة، وكان سلطانها يومئذ سليمان القانوني المشهور، فأمر بإكرامه وأحسن وفادته وأعطاه رتبة قبطان باشا. وبعد أن أقام مدة في الآستانة على الرحب والسعة عاد بجنود تركية وسفن جديدة وعرج على تونس في رجوعه؛ لينتقم من صاحبها، فاستولى على تلك المدينة باسم السلطان.
واستمر خير الدين باشا على السطو في الثغور والبحار حتى أقلق راحة أهل أوروبا وأرعبهم، ولا سيما أهل صقلية وسردينيا وبعض إيطاليا، فعرض الناس أمرهم على البابا، وقداسته أشار على ملك إسبانيا بمقاتلة القرصان، وكان ملك إسبانيا الذي سبق ذكره أعظم ملوك أوروبا يومئذ، فجمع كارلوس 400 سفينة حشد فيها 25000 جندي، وقادهم بنفسه لمحاربة خير الدين باشا، ولما وصل الجيش الإسباني وبدأ القتال حدث أمر لم يكن في الحساب، هو أن 25000 رجل من النصارى كانوا أسرى في قلعة تونس، فلما علموا بقدوم إخوانهم كسروا أبوابها وخرجوا يقاتلون عساكر خير الدين فأوقعوهم بين نارين وجيشين من الأعداء، فاضطر خير الدين أن يفر إلى مدينة الجزائر بحرا، وأرسل جيشه إليها برا، فوقعت تونس في يد الملك كارلوس ونصب فيها مولاي حسين الحفصي أميرها السابق وحليف الإسبانيين أعيد إلى الإمارة على أن يدفع جزية سنوية إلى إسبانيا مقدارها 12000 دوكا من الذهب، ويكون تحت سيادتها، ويمنع القرصان من السطو على مراكب الإفرنج.
ولما رجع ملك إسبانيا إلى بلاده عاد خير الدين إلى السطو على البحار والثغور من قاعدة الجزائر، فدخل كثيرا من مدن إسبانيا ونهبها، وأسر عددا من أهلها، وأسر سفينتين للبورتوغال في عرض البحر، وذهب إلى مدينة نابولي المشهورة بثروتها، ثم إلى البندقية فجمع منهما تحفا وأموالا وجيشا من الأسرى، ثم إلى مدن أخرى بلغت جملتها 25 مدينة، وكانت طريقته واحدة في كل موضع، هي أنه يرسو أمام المدينة ليلا ويدهمها في أول النهار، فالذي لا ينجو بنفسه من أهلها يقتل أو يؤخذ أسيرا. وطال زمان هذه الحالة، وعم القلق بسببها حتى إنهم بنوا أبراجا في الثغور يقيم فيها الحراس، إذا بصروا بسفن خير الدين باشا قادمة أنذروا أهل البلد استعدادا للفرار. وضاق صدر أوروبا من هذا القلق حتى إنها رجت السلطان سليمان أن يأمر خير الدين باشا بالامتناع عن السطو، وعادت إلى ملك إسبانيا فرجته أن ينقذها من هذا الرجل القدير، فعاد الملك كارلوس إلى الاستعداد لمحاربة خير الدين باشا والانتقام منه ، فجمع 516 سفينة في سنة 1541 وحشد 12000 من الجنود البحرية و22000 من الجنود البرية، وكان الأميرال أندريا دوريا قائد الأسطول، والماركيز كورتيز قائد الجيش، وفيهما مئات من سراة الإسبانيين ذهبوا للحرب متطوعين، وكان زحف هذه القوات في أول الشتاء، فجعل الناس ينذرون الملك كارلوس بتأجيله إلى أول الصيف، وفي جملة من أنذره البابا، ولكن الملك كان عجولا فقام بنفسه وبلغ شطوط الجزائر في أوائل أكتوبر سنة 1541، وبدأت جنوده تنزل إلى البر. ولما رأت الحامية التركية أن السفن قادمة من البحر استعدت بما في الإمكان، وأرسل قائدها حسن آغا يستنجد مشايخ القبائل، وكان أهل المدينة يومئذ قد سمعوا نبوءة منجم فحواها أن جيشا من الإفرنج جرارا يلبس الملابس الخضراء سيقدم على المدينة ويرتد عنها خاسرا، وأنه لا يملكها من الإفرنج غير أصحاب الملابس الحمراء، وقد صدقت هذه النبوءة بعد 300 سنة حين استولى الجيش الفرنسوي على الجزائر وملابسه حمراء حسب المعلوم. ولما نزلت جنود إسبانيا كلها إلى البر قسمها الملك أربعة أقسام، فجعل أحدها في حي مصطفى العالي، والثاني على باب عزون، والثالث على باب الويد، والرابع في جهة الحمى (وكلها ستذكر في فصل السياحة)، وأراد الملك من هذا التقسيم أن يحيط بالمدينة، ويرد النجدات عن بلوغها، ثم أمر مراكبه أن تقترب من البر ما أمكن؛ حتى تساعد في إطلاق النار على المدينة، وكان موقنا بالظفر؛ لأن الحامية لم تزد عن 6000 ومدافعها يومئذ أصغر من مدافع الإسبانيين، وأرسل الملك قبل القتال رسولا يطلب التسليم، فرده حاكم المدينة بالقول إنهم انتصروا مرتين على قواعد الملك، فيسرهم أن ينتصروا هذه المرة على الملك نفسه، فأمر الملك بعد هذا ببدء القتال، غير أن الدهر عانده؛ لأن السماء أمطرت في ليلة الهجوم سيلا مدرارا فأوحلت الطرق وغرقت الخيام وأضرت الذخائر، وجعلت حركات الجنود أمرا عسيرا. واشتدت الرياح بعد ذلك فأثارت الأمواج في البحر وحطمت السفن تحطيما، حتى كان جنود إسبانيا في البر يرون سفنهم تغرق، وهم في حالة يرثى لها من المطر والأوحال طول الليل، كل هذا والملك يهدئ روع أصحابه حتى إذا كان النهار وجدوا أنه غرق من الأسطول 150 سفينة، وأن الذين نجوا إلى البر من البحرية لقيهم العرب وقطعوا رءوسهم، وزاد الطين بلة أن معظم مئونة الجيش كانت في السفن التي غرقت، فأصبح الجيش الإسباني في موقف حرج، ولا سيما بعد أن تعطلت ذخيرته من المطر، وكانت حامية المدينة توالي ضرب النار، فأدرك الأميرال الإسباني أن الخطر على قومه عظيم، وأشار على الملك بالانسحاب فرضي الملك بذلك لما أيقن بالبلاء، وجعلت جنوده تتقهقر تاركة مدافعها وخيامها، وهي تسير تحت وابل من رصاص العرب والترك، وفي وسطها جمهور من الجرحى والمرضى حتى بلغت السفن ودخلتها، فعاد الملك إلى إسبانيا على هذه الحالة بعد أن فقد ربع قواته، ولم يلحق أذى بالأعداء. ومن ذلك الحين وقع أهل أوروبا في القنوط، وتركوا الأمور تجري في مجراها، واستمر خير الدين باشا على سيره، فرجع إلى مدائن صقلية وتوسكانا وإيطاليا، وجعل ينهب حسب عادته. ولما كان في مدينة رجبو الطليانية وقعت بنت الحاكم في يده، وهي فتاة بارعة الجمال فتزوجها بعد أن حملها على الإسلام، ولما ملأ سفنه من الأسرى ذهب بهم - وعددهم 7000 - إلى الآستانة، حيث قضى بقية عمره في راحة ونعيم إلى أن توفي عن 80 عاما في سنة 1547، وقبره في زاوية من حي بشكطاش إلى الآن.
خير الدين باشا.
ولما علمت حامية الجزائر بوفاة خير الدين باشا نصبت حسن آغا رئيس الوجاق حاكما محله ، وبعد وفاته عينت حجي آغا بدون مراجعة حكومة الآستانة، ولكن الدولة عينت حسن باشا ابن خير الدين باشا واليا للجزائر، وكان شابا نجيبا تعلم الذوق من الآستانة. فلما جاء الجزائر بنى فيها قصرا جاء برياشه من الآستانة، وبنى ديوانا لحكومته وحمامات ومستشفيات عمومية، وفتح الشوارع فاقتدى به ضباطه وجعلوا يشيدون المنازل الحسناء، أكثرها من الرخام الجميل. ولكن حسن باشا لم يتمتع بالولاية طويلا؛ لأن الحساد وشوا به للسلطان، وزينوا له أن الرجل عامل على الاستقلال فأمر بعزله، ولما علم حسن باشا بذلك ذهب بنفسه إلى الآستانة ليصلح الحال، فلما بلغها علم أنه معزول، وخلفه صالح باشا، كان رجلا ذا مهابة ودهاء وسياسة، فجعل يقسم القبائل بعضها على بعض ويقلل قوة الجنود، حتى إنه أدخل بعض أخصائه في مصاف الجنود ليستعين بهم على الاستئثار بالقوة، ولكنه توفي بالطاعون سنة 1556. وخلفه القائد حسن آغا برأي الوجاق لا بأمر الآستانة، ولكن الدولة عينت طقلي باشا، فلما وصل الجزائر حاول حسن آغا أن يمنعه من النزول إلى البر، ولكنه نزل بمساعدة القواصة الأتراك الذين خافوا سطوة الدولة، فأنزلوه في منتصف الليل حتى إذا كان الصبح أعلن أمر حلوله واستلم الأحكام، وزج حسن آغا في السجن فأذاقه العذاب ألوانا، ثم أقام على الحكم زمانا حتى قتله جنود الوجاق، فعينت الدولة مكانه حسن باشا ابن خير الدين باشا مرة أخرى، فلما عاد إلى الجزائر قوبل فيها بالاحترام الكثير، ورأى بعد مدة أن القوة كلها أصبحت في يد الجنود، فعزم على استخلاصها منهم، فجعل يتودد لرؤساء القبائل، وتزوج واحدة من بناتهم، وألغى الأوامر القديمة القاضية بمنعهم من اقتناء السلاح، فأحس رجال الوجاق بالغاية من فعله، وذهبوا إلى قصره فأوثقوه ونقلوه إلى سفينة ذهبت به إلى الآستانة، ونصبوا حسن آغا مكانه ومعه مساعد اسمه كوسى محمد. ولما علم السلطان بما فعل الجنود إهانة لعامله أظهر الغضب الشديد، ولكنه عمد إلى حسن السياسة، فأوفد من قبله حامد باشا من كبار دولته، حتى إذا وصل هذا المندوب إلى الجزائر أقنع الوجاق بأن السلطان يريد أن يعرف حسن آغا وكوسى محمد، ويقف على مقدرتهما بنفسه، فسلموهما له وذهب بهما إلى الآستانة حيث شنقا بعد الوصول، وأعيدت الولاية لحسن باشا مرة ثالثة في سنة 1563.
فلما بلغ هذا الوالي مقره تناسى جناية الوجاق، وأثار حربا على الإسبانيين في وهران حتى يجمع كل قوته على العدو الأجنبي، ولكنه كان يريد من هذه الحرب إبادة الوجاق بكل رجاله، فجمع كل عساكره و6000 آخرين من القبائل ذهب بهم إلى وهران برا وحاصرها، وفيها يومئذ 1200 جندي إسباني فقط، وشدد في مقاتلتها وتحريض جنوده على اقتحام الأهوال حتى إنه كان يتقدمهم في الكرات العنيفة، فلا يعود إلا وقد قتل من الجنود عدد كبير، ثم عاد حسن باشا إلى الجزائر ولم ينل طائلا من وهران، فلما استقر النوى بالجنود تآمروا عليه بدعوى أنه كان ينوي إبادتهم، وعزلوه وأرجعوه إلى الآستانة سنة 1567، وعين بعده محمد باشا واليا على عهد السلطان سليم الثاني، فذهب إليها مزودا بالأوامر القاضية ألا يدعو الوجاق إلى النفور منه، ولكن الرجل كان كريم الأخلاق لم يطق أعمال الوجاق، فاستعفى وعاد إلى الآستانة بعد سنة واحدة؛ فخلفه علي باشا، وأصله نصراني من أهل كورسيكا، وكان من كبار قواد الدولة العلية، لما وصل الجزائر قوبل بالإكرام وحيته المدافع من الطوابي البرية والبحرية ألف مرة ومرة، وأركب على جواد عدته من الذهب والفضة المرصعة بالفيروز، وسار رئيس الوجاق أمام موكبه بملابس بيضاء علامة الخضوع والمسالمة، فذهب توا إلى الديوان بين جماهير الأهالي، وكان بدء أعماله أنه خابر الدولة بالاستيلاء على تونس وحاكمها يومئذ الأمير محمد الحفصي تحت حماية إسبانيا، وكان يدفع إليها جزية والقبطان الإسباني يشاركه في الأحكام، فعمل السلطان برأيه وسير أسطولا من 500 سفينة تحت قيادة الأميرال قلج علي باشا، وكان قائد الجنود البرية في هذه الحملة سنان باشا، فوصلت المراكب إلى حلق الوادي، وهو ثغر يبعد عن تونس 16 ميلا، ووصل أيضا إلى تونس علي باشا والي الجزائر وحيدر باشا والي قيروان، ومصطفى باشا والي طرابلس الغرب، فذهب الكل لمقابلة سنان باشا وأخذوا منه المدافع، وساروا مع إبراهيم بك من سنجق مصر، ومحمود بك من سنجق قبرص، فأحاطوا بمدينة تونس وكان الإسبانيون قد امتنعوا بحلق الوادي وبالغوا في تحصينها، وأحاطوا المكان بخندق عميق لزم جنود الدولة أن تعبره، فاشتغلت ليلا ونهارا بردمه وانتشب القتال في تونس وحلق الوادي معا، وكانت المدافع العثمانية تقصف كالرعد والجنود تكبر وتهلل بصوت جهير حتى فتحت تونس بعد حرب 43 يوما قتل فيها من كل جانب نحو عشرة آلاف رجل، وكان ذلك سنة 1584، ولكن سنان باشا لم يضم تونس إلى ولاية الجزائر ، بل جعلها ولاية مستقلة وعين لها واليا ورئيسا للوجاق أعطاه خمسة آلاف جندي، ثم عاد إلى الآستانة ظافرا منصورا، وكان وجاق تونس يسطو على مراكب الإفرنج، مثل وجاق الجزائر حتى إنه أسر من أهل أوروبا من 25 ألفا إلى 30 ألف أسير، بنيت لهم السجون المخصوصة حشروا فيها حشرا، وكانوا يبيعون الأسرى في مدينة الجزائر على ثلاثة أشكال، أولها أنهم كانوا يأخذون الأولاد والنساء والبنات إلى ديوان الوالي ليختار منه من يريد لخدمته وخدمة بيته، وثانيها أنهم كانوا يسخرون البحرية الأسرى في الترسانات وأبنية الحكومة، فيعطى كل أسير مأكوله من الخبز والبرغل والزيت والبصل، وملبوسه قميصا ولباسا أسمر، وثالث الأنواع كان يقسم ما بين القرصان وعساكر الوجاق، ويباع أفراده ألوفا في السوق بطريقة المزاد؛ إذ يتقدم الدليل ويقرع الأرض بعصاه ثلاثا علامة البدء في البيع، ثم يدور بالأسير على المشترين ويفحصه كل منهم في جسمه وفمه؛ لئلا يكون ذا عاهة ويسأله عن حرفته وأصله وبلده، والذي يدفع الثمن الأكبر يأخذ الأسير ملكا له، وكانوا يعيدون المزاد أياما متوالية، ولكن الأسرى بلغوا ألوفا فلم يوجد عدد كاف من الشارين، فكانوا يسجنون الذين لا يباعون، ويضيقون عليهم الخناق.
ولما رأت دول أوروبا أنها عجزت عن إبطال هذه الحالة وإنقاذ الأسرى، جعل القسيسون يطوفون في المدن والقرى لجمع الأموال حتى تدفع فكاكا، ودعيت هذه الجمعية «جمعية الإحسان لفكاك الأسرى»، ولكن المال الذي كان القسوس يملكونه لم يكف لفكاك ألوف من الأسرى، فكانوا يعدون الباقين منهم بفكاكهم في العام المقبل، وكثيرا ما كان أهالي الأسرى يدفعون الفكاك فيذهب القسوس إلى الجزائر بالمال ويعودون بالأسرى، وقد حدث أن قسيسا فرنسويا دفع إلى الوالي 60 ألف فرنك فكاك فتاة كانت في قصره عبدة وعمرها 12 سنة، وكان الوالي قد عرف أنها عريقة في المجد، وأن جدها الجنرال بيرك الفرنسوي، أخذت أسيرة مع عمها وخادمتها في أثناء السفر من مرسيليا.
ودامت هذه الحالة سنين طويلة حتى كانت أيام لويس الرابع عشر ملك فرنسا المشهور، وعزم هذا الملك على سحق قوة القرصان ، فأعد 29 سفينة حربية ملأها بالمدافع الكبيرة، وسلم قيادتها للأميرال ديستره، فذهب هذا القائد في سنة 1688 ورسا أمام عاصمة الجزائر، وجعل يطلق القنابل عليها حتى بلغت جملة قنابله الكبيرة عشرة آلاف، فدمر قسما كبيرا منها، وأكره الناس على الفرار إلى الصحراء، ولم يكن عند الوالي مراكب مثل المراكب الفرنسوية، ولا مدافع كبرى مثل مدافعها؛ لأن فرنسا كانت قد أخذت في تحسين مراكبها ومدافعها، فحار في أمره وأرسل إلى الأميرال يدعوه للنزول إلى البر والنزال فيه، ويعيره بالجبن إذا بقي في المراكب فلم يعدل الأميرال عن إطلاق الكرات، وانتقم منه الوالي بقتل كل القسوس والأسرى الذين في المدينة، وفعل الأميرال فعله فقتل 17 تركيا كان قد أتى بهم من طولون وألقى جثثهم في البحر ليوصلوا إلى البر، ثم عاد إلى فرنسا على غير جدوى. ورأت أوروبا بعد ذلك أنه لا سبيل إلى إبطال هذه الحالة غير السياسة، فخابرت رئيس الوجاق - وهو الباي - بتعيين قناصل لها في المدينة، فرضي على شرط أن تدفع إليه المرتبات، فصارت صقلية تدفع مرتبا مقداره 2400 قرش، ومملكة البورتوغال 24000، ومملكة توسكانا 23000، وسردينيا 23000، وإسبانيا 24000، والنمسا 24000، ولم تقبل إنكلترا بدفع هذا الراتب، ولكنها تعهدت بتقديم هدايا بمثل هذه القيمة عند تعيين قنصلها، وكذلك أميركا وهولاندا والسويد والدنمارك كلها قبلت بهذه الشروط المهينة، فما أعفي منها غير البابا. ولكن دفع المرتبات لم يرد القرصان عن الاعتداء على مراكب الإفرنج، ولا سيما الإسبانيين، وهم أصحاب وهران في الجزائر من قدم، فلم تطق إسبانيا هذا التخصيص بالأذى؛ ولذلك أعدت 300 مركب وجردت 22000 جندي فيها استلم قيادتها أوريلي الأرلاندي، وهو من كبار أرلاندا وأصحاب الثروة فيها، زحف بهذه القوة على الجزائر سنة 1775، ولكنه لم ينزل جنوده إلى البر حالا، بل أضاع أسبوعا يمخر بمراكبه أمام المدينة، فجعل بكوات الأقاليم في هذه المدة يحتشدون برجالهم للدفاع عن المدينة، حتى إذا نزلت الجنود الإسبانية تعاونوا عليها ودحروها، فارتدت خائبة وعادت إلى إسبانيا، فرأت حكومة مدريد بعد هذا أن تترك وهران؛ حتى لا يبقى لها ما يدعوها إلى محاربة الترك والعرب بعد ما أصابها من خسارة المال والرجال.
وقد دامت هذه الحالة إلى سنة 1815 حين عقد مؤتمر فيينا لتسوية أحوال أوروبا بعد إبعاد نابوليون، وقد اتفقوا في ذلك المؤتمر على إبطال سطو القرصان وأسر الإفرنج، وإبطال المرتبات المالية لحكومة الجزائر، وكانت أميركا البادئة في هذه الحرب العوان على القرصان؛ لأن بوارجها أسرت 3 سفن قرصانية، وفي السنة التالية أرسلت إنكلترا أسطولا بقيادة اللورد أكسموث عدد قطعه الحربية 26، فذهب الرجل إلى ميناء الجزائر وطلب من الوالي عمر بك أن يرد الأسرى المسيحيين ويرد المبالغ التي قبضها من مملكتي سردينيا ونابولي من عهد قريب، أو يطلق المدافع على المدينة، فلما لم يأته الجواب أطلق مدافعه الضخمة، فاهتزت منها المدينة وخاف رجال الوجاق، فأشاروا على الوالي بقبول طلب الأميرال؛ فقبل وصرف الأشكال وعاد الأسطول الإنكليزي، وكان الجنود قد اتهموا الوالي بالجبن والخيانة؛ لأنه سلم للإنكليز فقتلوه في ديوانه. وخلفه خوجه باي، وكان ذا بطش شديد قتل 500 شخص في ثلاثة أشهر من أوائل حكمه، ومات بالطاعون فخلفه علي بك فحسين باشا، وهو آخر بابات الجزائر، سلم العاصمة لفرنسا سنة 1830، كما ترى في الفصل القادم.
الدولة الفرنسوية
كان علي باي سلف حسين باشا يبيع مقادير كبرى من القمح والشعير لدولة فرنسا منذ سنة 1798، حتى بلغ مجموع ما له عليها 14 مليون فرنك، وكان وسطاؤه في البيع تجار يهود يقال إنهم كانوا يشحنون الغلال المباعة لفرنسا في مراكب يوعزون إلى القرصان أن يضبطوها في البحر، فتعود الغلال إليهم ويبيعونها مرة أخرى لدولة فرنسا، وقنصلها يشكو للباي هذه الحالة، فلم يعره الباي التفاتا، وجعل يطالبه بالمال المتأخر على حكومته كلما قابله حتى تمت تسوية في سنة 1819، من مقتضاها أن الباقي على فرنسا للباي 7 ملايين فرنك. وفي سنة 1823 توفي علي باي وخلفه حسين باشا على الجزائر، فبدأ يطلب المال من فرنسا، ملحا على قنصلها في ذلك، وكتب مرة إلى وزيرها في باريز رأسا فلم يأته رد. ودامت هذه الحالة إلى شهر أبريل من سنة 1827، حين حدث أمر جلل كان بدء العدوان والحرب بين فرنسا والجزائر، ذلك أن قنصل فرنسا ذهب لمقابلة الباي بشأن مركب روماني أسره القرصان، وكان الباي يكره هذا القنصل، فقال له ما الذي يوجب تدخلكم والمركب ليس للفرنسويين؟ ثم ذكر له الدين، وقال إن وزير الخارجية لم يجاوبه بشأنه، فأجاب القنصل أن الوزير يرسل الرد عن يده؛ لأنه وكيل دولته في الجزائر فظن حسين باشا أن القنصل يقول له إن الوزير لا يتنازل إلى الرد عليه، وغضب غضبا شديدا حتى إنه رمى القنصل بمروحة أصابت وجهه، فخرج القنصل مهانا من ديوان الباي، وأنذر دولته بما حدث، فأمرته بالخروج من الجزائر دليل قطع العلاقات. ولم يحسن حسين باشا التدبير بعد هذه الحادثة؛ لأنه تصدى للتجار الفرنسويين في ثغور بلاده وطردهم منها مع أنهم كانوا يدفعون إليه 400 ألف فرنك في السنة قيمة الإذن لهم باستخراج المرجان، وهو يومئذ معدود من الجواهر الغالية، وتجارته رائجة، ولا سيما في بلاد الهند.
وهاجت فرنسا لما لحق قنصلها وتجارها في الجزائر، فندبت حكومتها الأميرال لابرونيير ليذهب إلى تلك المدينة، ويطلب من الباي الترضيات الآتية، وهي: (1) أن يذهب كل رجال الديوان الجزائري إلى سفينة الأميرال ويعتذروا له باسم الباي. (2) أن يطلق بعد عودتهم مائة مدفع ومدفع من القلعة. (3) أن يعوض على التجار الفرنسويين ما خسروا. (4) أن تنفذ المعاهدة القديمة بين فرنسا والباب العالي. ولما ذهب الأميرال لمقابلة الباي وطلب هذه الشروط دخل عليه بسيفه ولم يسلمه على الباب حسب العادة، وقابله حسين باشا جالسا على عرشه، وجعل يطالبه بمتأخر المال فرجع الأميرال مغضبا وهو يقول للباي إنه لا بد لفرنسا من نيل الترضية، وكان الباي يقول له إنه إذا كان عند فرنسا بارود ففي الجزائر منه شيء كثير. ولما أقلعت السفن الفرنسوية من ميناء الجزائر أطلقت عليها المدافع من القلعة، فعطلت بعض أجزاء سفينة الأميرال، فلم تجاوب السفن على هذه الإهانة الجديدة، ولكن قناصل الدول أذهلهم فعل حكومة الجزائر فذهبوا لمقابلة الباي وسألوه عما فعل، قال إن رئيس القلعة فعل ذلك بلا أمر منه ، وهو عذر واضح البطلان.
وما عتم خبر إهانة الأسطول أن بلغ باريس حتى أعلنت حكومة فرنسا الحرب على الجزائر، وأنذرت الدول كلها فعلمت أنها لا تنوي التداخل، وأخذت على حكومة مراكش عهدا أن تبقى على الحياد، وكان حسين باشا يؤمل المساعدة من إنكلترا وتونس ومراكش، فلما قطع أمله منها رضي أن يقوم بكل مطالب فرنسا، ولما تم جمع الأسطول الفرنسوي وعدد قطعه 104، عقد لواؤه للأميرال دوبره سنة 1830، وكان فيه من الجنود البرية 30 ألفا تحت قيادة الجنرال دي بورمون، وقام إلى الجزائر فالتقى بسفينة عثمانية تقل طاهر باشا الوزير العثماني كان قادما من الآستانة؛ ليقبض على حسين باشا بأمر السلطان وإيعاز من دولة إنكلترا، فألح الباشا على الأميرال الفرنسوي بالعدول عن الحرب ووعده برد شرف فرنسا على أهون سبيل، ولكن الأميرال استمر في سيره حسب أوامر دولته، وسار ظاهر باشا إلى باريس ليخابر حكومة فرنسا فيما جاء لأجله، ووصل أسطول فرنسا ثغر الجزائر، وكان معه ترجمان من أهالي بيروت اسمه جرجس جروة تبرع بالذهاب إلى العرب بمفرده، واقترح على الجنرال الفرنسوي أن يبعث معه منشورا يبين به نيات فرنسا السلمية وميلها إلى إعطاء البلاد لأهلها، وكان هذا الترجمان يعلم أن في مهمته خطرا، ولكنه آثر أن يفدي الجيوش بنفسه، وتقدم لهذا الأمر حتى إذا وصل محلة العرب قتلوه، فراح ضحية المروءة ومن ثم بدأت الجنود تنزل في جهة الحراش، وهو لسان ممتد في البحر طوله 11 ألف متر، وكان أحمد بك حاكم قسنطينة وحسن بك حاكم وهران ومصطفى بك حاكم نيطري ورؤساء القبائل، وفي مقدمتهم مصطفى بو مزراق قد تجمعوا برجالهم استعدادا للحرب، ورأس جنودهم إبراهيم آغا صهر الباي وجملة الجنود تحت قيادته 30 ألفا. وبدأ القتال على عجل فقتل في المعركة الأولى 600 من الفرنسويين و3000 من جنود الباي، وهرب قائدهم إبراهيم آغا إلى منزل له في الضواحي، فما خرج منه إلا بعد أن شفعت زوجته به أمام أبيها، وكان قد عزم على قتله فاكتفى بعزله، وعين قائدا موضعه بو مزراق، وأمر بالحض على الجهاد في الجوامع والطرق، ولكن هذا لم يرجع الفرنسويين عن متابعة الهجوم، فإنهم تقدموا على قلعة تعرف باسم مولاي حسن في أطراف المدينة ففتحوها عنوة بعد قتال شديد، فكان في ذلك القضاء على دولة الباي الذي أراد أن يحرق الجبخانة ويموت فيها بمن معه، ثم أذعن لنصح أعوانه فأرسل كاتب يده سيدي بو مصطفى إلى الجنرال الفرنسوي يطلب الصلح ويعد بالترضية، ولكن الجنرال رد الرسول وأوفد ترجمانه - وهو بولوني الأصل يعرف التركية والعربية - ليبلغ حسين باشا شروط التسليم التي يطلبها مكتوبة بالفرنسوية وقد ترجمت إلى العربية، وهذا نصها نقلا عن لسان الترجمان، قال:
إني لما وصلت الباب الجديد الموصل للسراي لم يفتح لي إلا من بعد مخابرات شتى من الداخل، وبعد دخولي وجدت نفسي محاطا بالجنود من الباشبزوق والأرناءوط والعرب، أسمعوني السباب والشتائم وهددوني بالسلاح وتبعوني في الطريق على هذه الكيفية لحد باب السراي، فبادر سيدي مصطفى وفتح لي الباب وأدخلني، فالتقيت في الحوش بكثير من القواصة، ولما دخلت الديوان وجدت حسين باشا جالسا إلى عرشه وأمامه وزراؤه وقوفا، وبعض القناصل جالسين على المقاعد، وكانت ملامحه تدل على الانفعال الشديد، فأشار بيده على الجميع أن يلتزموا السكوت، وأشار إلي أن أتقدم، فتقدمت وفي يدي الشروط، فوقفت أمام الباي وقرأت هذه الشروط بالعربية بصوت خافت، وهي:
أولا:
أن تسلم إلى الجيش الفرنسوي عاصمة الجزائر والقصر والقلاع والبنايات العمومية، وذلك من الغد الواقع في 5 يوليو سنة 1830 الساعة العاشرة صباحا، قال الترجمان: وما انتهيت من قراءة هذا الشرط الأول حتى سمعت ضجيجا وتهكما، وظننت أنهم سيضربونني بالسيف على رأسي من الوراء، ولكني وجدت رأسي ما زال موجودا على عنقي، وأسرعت بالقراءة.
ثانيا:
يجب احترام ديانة الجزائريين، ولا يجوز التداخل في أمورهم الخصوصية، ولا يجوز لأحد من العساكر الدخول في الجوامع. قال الترجمان: إن هذا الشرط أوقع الهدوء والسكينة ما بين الموجودين، حتى إن الباي نظر إليهم نظرة الاستحسان، وأشار إلي أن أستمر في القراءة.
ثالثا:
يجب على الباي والأتراك أن يتركوا العاصمة بأسرع ما يمكن من الوقت، فما انتهيت من قراءة هذا الشرط حتى سمعت ضجة من الموجودين ملأت جوانب الديوان؛ إذ قام الباي من مكانه وهو مصفر اللون ينظر إلى الموجودين أمامه وحوله نظرة الاضطراب والقلق، فما كنت أسمع إلا التهديد وعبارات القتل والموت من أفواه القواصة الذين شهروا سيوفهم فوق رأسي، فقلت في نفسي هذا هو القضاء المبرم، لولا أن الباي صرخ فيهم صرخة شديدة وأشار إلي أن أتمم القراءة.
رابعا:
يجوز للأتراك أن يأخذوا معهم أموالهم وأمتعتهم الخصوصية، وهم أحرار أن يذهبوا أين شاءوا. قال الترجمان: وبعد قراءة هذا الشرط الأخير اجتمعوا جميعا في ساحة الديوان للبحث فيما يوافق إجراؤه، فقسم منهم - وهم الفتيان الأتراك - أرادوا مداومة الحرب، ولكن أصحاب الكلمة المسموعة أثبتوا أنه ليس من وراء المقاومة إلا خراب البلد وهلاك أهلها، وبعد ذلك صدر أمر الباي أن يخلى الديوان، وما بقي فيه إلا هو ووزراؤه وأنا وسيدي مصطفى الذي كان يعيد قراءة الشروط لحسين باشا ويترجمها له على حسب هواه؛ لتخفيف ثقلها على الباشا الذي وقع عليها وسلمها لي، ثم أمر سيدي مصطفى والباش جاويش ومعه بعض العساكر أن يرافقوني إلى الباب الجديد، حتى إذا اقتربت من المعسكر الفرنسوي، وكنت في طمأنينة وأمان تركوني، ثم قابلت الجنرال وسلمته الشروط ممضاة، وفي تلك الليلة أصابتني حمى شديدة من الخوف كادت تقضي على حياتي.
وفي الغد استلمت العساكر الفرنسوية القصر والقلاع وأبواب المدينة والبنايات العمومية، قال قنصل الإنكليز للجنرال دي بورمون قائد عموم العساكر إنه يقدر ما كان من النقود في خزينة السراي بما لا يقل عن مائة وخمسين مليون فرنك، ولكن الإحصاء الرسمي الذي أمر الجنرال بإجرائه عن يد لجنة مخصوصة دل أن الذي وجد من المال بلغ خمسين مليون فرنك فقط، وكانت اللجنة قد طلبت الدفاتر قبل هذا الإحصاء من أمين خزينة حسين باشا، فقال إنه لم يكن عنده دفاتر منظمة، بل إن النقود تدخل وتخرج بأمر الباشا ودلها إلى أكوام العملة الذهبية من فرنسوية وإنكليزية ونمساوية متراكمة بعضها فوق بعض.
واستلم الجيش الفرنسوي مدينة الجزائر بكل ما فيها، فلجأ الباي إلى منزل خارج البلد، وذهب رؤساء القبائل وحسن بك حاكم وهران ومصطفى بك حاكم طيطري كل إلى محله. أما أحمد بك حاكم قسنطينة فإنه قال لإبراهيم آغا صهر الباي إنه قضى على حميه، والأوفق أن يأخذ أمواله ويتبعه فتبعه ومعه سبعون ألف مجر، ولكن أحمد بك سلب هذا المال منه فاضطر الرجل أن يعود من حيث أتى، وطلب حسين باشا مقابلة الجنرال فقابله في ديوان الحكومة، وكان ساعتئذ كالضيف والجنرال صاحب المحل، فبعد الحديث اختار حسين باشا أن يذهب إلى لفورنو من مدن إيطاليا، فأعدت له سفينة حربية نقلته من الجزائر مع عائلته، وهو يبكي على ملك ضاع ودولة دالت، وعز قضى فيه 12 سنة، وكان ذلك آخر عهد الجزائر بحكم البايات الذين استمرت دولتهم من سنة 1517 لغاية سنة 1830، وكان حسين باشا ينوي الحج إلى مكة بعد ذلك الانكسار، وقد وردت عنه حكاية في بعض الكتب ربما كانت صحيحة، هي أنه جاء الإسكندرية في عهد واليها محمد علي باشا، وكان محمد علي قد أرسل مرة يرجو حسين باشا ألا يؤذي التجار الفرنسويين، وذلك بطلب من حكومة فرنسا، فلما سمع حسين باشا قول المندوب المصري أجابه: قل لسيدك أن يأكل فولا، واستمر على عناده مع الفرنسويين، ثم قدر له الانكسار على ما علمت، والرحيل إلى الإسكندرية، فأكرمه محمد علي ودار به على جنوده ومواقعه ليفرجه عليها، وهو يبدي العجب من أين جاء كل ذلك؟! حتى إذا سأل هذا السؤال قال له محمد علي: إن هذا كله من أكل الفول.
ولما وصلت أخبار النصر إلى باريس طرب الناس لها وسروا، وأنعمت الحكومة برتبة مارشال على الجنرال دي بورمون، وحدثت مناوش صغرى بعد هذا مع بعض أهالي الداخلية لم تسفر عن نتيجة، ولكن الجيش الفرنسوي لم يوغل في البلاد؛ لأن حكومته أرادت الاكتفاء بالمدن البحرية، وربما أرادت أن تترك بقية البلاد يومئذ للدولة العلية؛ ولذلك أرسل القائد العام تجريدة صغرى إلى ثغر عنابة تحت قيادة الجنرال دامرمون، وتجريدة أخرى إلى وهران تحت قيادة ابنه الكولونيل دي بورمون (وسيأتي ذكر المدينتين في فصل السياحة)، فسلمت عنابة بلا قتال، ولكن العرب قاتلوا في أطرافها وهزموا، وسلمت وهران بلا قتال أيضا. وبينا كان الجيش الفرنسوي في ذلك بلغه أن ثورة سنة 1830 حدثت، وأن الملك لويس فيليب نصب على العرش بدل الملك شارل العاشر فجمع القائد العام جنوده في عاصمة الجزائر وسافر إلى باريس، وخلفه الجنرال كلوزيل.
ولما وصل القائد الجديد إلى الجزائر علم أن سلطة فرنسا منحصرة في الثغور، وأن القبائل عاملة على العناد وطلب الاستقلال مع حكام الأقاليم الذين سبق ذكرهم، وكان رؤساء الدين أبدا يحضون الناس على الجهاد، حتى إنهم نبهوا حكومة تونس إلى الخطر المحدق بها من فرنسا، وسعوا في إقامتها مع حكومة مراكش لمساعدتهم، فاهتم القائد الفرنسوي، وخطب في جنوده موضحا لهم الحالة، ونظم إدارة المدينة مستعينا بأفاضل الجزائريين وبعض الفرنسويين، وطلب من وزير الحرب في باريس أن يزيد جيشه إلى 18 ألفا وكان الباقي عنده 10 آلاف، فكان جواب الوزير أن قوته تكفي لإخضاع الجزائر، وعليه قام الرجل لقمع الثورة، فلما بلغ بليدا سلم أهلها له ورجوه ألا يدخل بلدتهم فأبى إجابة الطلب، وحارب العرب المتجمعين في أطرافها فطردهم منها ثم تقدم إلى الميدية - وهي في وسط الجبال - فاستولى عليها بعد قتال شديد، ولكن الأهالي استمروا على مضايقته بالمهاوش والمناوش، ولم يكن عدد الجنود الفرنسوية كافيا لإخضاع البكوات، فعاد القائد إلى عاصمة الجزائر وأبرم اتفاقا مع باي تونس أن يبقى على الحياد، ولكنه تعب من مخالفة وزير الحرب له في كل ما يفعل، فاستقال من القيادة وعاد إلى بلاده.
الأمير عبد القادر الجزائري.
وعين الجنرال تريزل سنة 1831 قائدا عاما في الجزائر، فحاول إصلاح الإدارة وإبطال الاختلاس فيها، وقام لمحاربة العصاة، فلم يفلح في أول الأمر، ولكنه عاود الكرة، وجرد حملات على عنابة ووهران، وقام هو بنفسه لفتح الميدية فرجع عنها مرة أخرى وأصاب عامله في عنابة فشل أيضا؛ لأنه أركن إلى تركي خدعه وأوقع جنده في المهالك، وكذلك حملة وهران عادت إلى الجزائر بالخسران. فلما علمت فرنسا بهذا فصلت الإدارة عن القيادة العسكرية، فجعلت الموسيو بيشون حاكما والجنرال روفيكو قائدا سنة 1832، وقد فاز هذا القائد بفتح ثغري وهران وعنابة بعد قتال كثير.
وحدث في خلال هذه الحوادث أنه ظهر زعيم في جهة بسكرة على حدود الصحراء، اسمه محيي الدين من قبيلة هاشم، جعل يحض الناس على الجهاد في محاربة الأجانب؛ فأثر صوته في القبائل، وعرضت عليه أن يقودها للحرب فآثر الرجل أن يبقى في زاويته، وجعل ابنه عبد القادر أميرا وقائدا لتلك القبائل، بدعوى أنه رأى في المنام أن ابنه المذكور سيكون أميرا للعرب، فنودي بإمارة عبد القادر يوم 2 ديسمبر سنة 1832 في محفل حفيل، وكان هذا الشاب قد تربى في مدرسة القليعة وتضلع في العلم والفقه والشعر يجالس العلماء ويباحثهم، وله بينهم منزلة سامية على حداثة سنه، وكان طلق اللسان قوي الجنان مشهورا بين الفرسان، تبعه 12000 مقاتل من العرب إلى مدينة وهران؛ ليطردوا الفرنسويين منها، فلما بلغوها قاتلوا قتال الأبطال، ولكنهم لم يتمكنوا من الاستيلاء على المدينة مع قلة حاميتها؛ لأن مدافع الفرنسويين كانت تصب نارا حامية، ولا أمكن الحامية أن تخرج لمقاتلة العرب بسبب كثرتهم، فانقضى القتال على غير جدوى، ولما وصلت هذه الأخبار إلى باريس صدر أمر حكومتها بعزل قوادها في الجزائر، فعين الجنرال فوارول قائدا عاما، والجنرال البارون ده ميشيل قائدا لحامية وهران، ووصل القائدان الجديدان إلى مواضعهما في سنة 1834، فتجدد القتال في أطراف وهران، ولكن الفرنسويين رأوا أن الأمير عبد القادر غاب عن معسكره في أثناء الحرب لعلة لم يفهموها، فاتضح يومئذ أنه عرف بوفاة والده في بسكرة فذهب إليها لإقامة الفروض المعتادة، وعاد في شهر أوغسطس من تلك السنة وعادت الحرب أيضا، ولكنها لم تعد بفائدة لأحد الطرفين، فرأى الجنرال ده ميشيل أن يخابر الأمير عبد القادر في المصالحة، وندب الأمير كاتب يده المدعو ميلود لمفاوضة الجنرال في ذلك، وكان هذا القائد - أي البارون دي ميشيل - من سراة فرنسا ووزير الحرب يومئذ صديقه لا يخالف له رأيا، فهو وافق على المعاهدة التي أبرمها هذا القائد مع الأمير عبد القادر بدون مراجعة القائد العام في عاصمة الجزائر حسب الأصول. وخلاصة المعاهدة المذكورة: (1) أن الحرب تبطل من يوم التوقيع على المعاهدة. (2) يتبادل الطرفان ما عندهما من الأسرى. (3) يكون للأمير عبد القادر مندوب في وهران ولفرنسا مندوب في بسكرة. (4) لا يجوز للفرنسويين أن يسافروا في داخلية البلاد إلا بتذكرة يعلم عليها الأمير أو من يقوم مقامه، ولا يجوز للعرب دخول المدن البحرية التي احتلتها فرنسا إلا بتذكرة يعلم عليها الحكام الفرنسويون. (5) تعطى الحرية المطلقة للأديان والمتاجر، وفي جملتها المتاجرة بالسلاح.
ولما اشتهر أمر هذه المعاهدة وعلا ذكر عبد القادر كثر حساده ومبغضوه من العرب، وتألبت بعض القبائل لمحاربته، وأهمها قبيلة بني عامر، وهي أكثر القبائل عددا في بلاد الجزائر، فلما التقت جنود القبائل بجنود الأمير عبد القادر هزمت جنود الأمير واضطر عبد القادر إلى الفرار، فلما علم القائد الفرنسوي بذلك، وكان يدري أن أعداء عبد القادر نقموا عليه؛ لأنه عاهد الفرنسيس وهادنهم ولم يعتدوا بمعاهدته، مده بالرجال والسلاح حتى إن الأمير رجع إلى محاربة هؤلاء الأعداء المتحدين عليه وكسرهم شر كسرة، وعاد إلى مقامه الرفيع وعلا شأنه بين الجميع، ولكن زمان الراحة لم يطل؛ لأن القائد العام في الجزائر غضب من عقد معاهدة وهران بلا اطلاعه ولا أمره؛ فأرسل إلى وزير الحرب يعترض على هذا الصنيع ويقول إن المعاهدة المذكورة جعلت عبد القادر أميرا حاكما في الجزائر وهو عدو فرنسا، وكان الواجب على البارون ده ميشل قائد حامية وهران أن يساعد أعداء عبد القادر على سحقه، وأقام ينتظر الرد من حكومته على هذا الاعتراض، وهو في خلال ذلك دائم التنافس والتحالف مع الموسيو بيشون الحاكم الملكي حتى صدر أمر الوزارة بإقالة الاثنين، وتعيين الجنرال ديرلون قائدا عاما في بلاد الجزائر، فلما وصل هذا القائد الجديد أقال الجنرال ده ميشل من القيادة في وهران، وزاد حاميات المدن البحرية، وشكل فرقة من الفرسان الوطنيين سماهم جنود الزواف، وهم يعرفون بهذا الاسم إلى اليوم، ودفع مبالغ طائلة إلى بعض رؤساء القبائل؛ لكي يحملهم على موالاة فرنسا؛ وللبقاء تحت طاعتها. فلما علم الأمير عبد القادر بهذا أرسل إلى رؤساء القبائل يحذرهم من الانتماء للأجانب والرضى لسيادتهم، وأرسل إلى القائد العام يقول لهم إن المسلمين لا يمكنهم الخضوع لدولته، فاستعد الفريقان لمعاودة الحرب، وأصدر القائد العام أمره إلى الجنرال تريزل قائد وهران الجديد بالقيام لمحاربة عبد القادر، وكان الأمير قد قام لمقابلة الأعداء وفتك بسرية تنقل إليهم العلف، ثم تقدم بثمانية آلاف مقاتل، وكان مع القائد الفرنسوي 2500 رجل فقط، فانتشب قتال شديد بين الطرفين، دارت الدائرة فيه على العرب، واضطر عبد القادر إلى الفرار، ولكنه أعاد الكرة في أحد الأيام بينا كانت الجنود الفرنسوية تتغدى، فهزمها شر هزيمة، وأسر منها 20 رجلا، وقتل عددا كبيرا، وحملها على الفرار إلى ثغر أزرو؛ لتكون تحت حماية البواخر الحربية، وكان هذا الانكسار علة عزل الجنرال تريزل بأمر القائد العام، وتعيين الجنرال دارلانج مكانه، ولكن هذا العزل لم يرق لوزير الحرب؛ لأن قائد وهران بذل غاية ما في الإمكان، فعزل القائد العام وعين الجنرال كلوزيل قائدا وحاكما عاما في بلاد الجزائر.
ولما وصل هذا الحاكم العام الجديد رأى أن الأحوال سيئة، وأن نفوذ فرنسا قل بين الأهالي، وأن الأمير عبد القادر أصبح الحاكم المطلق في داخلية البلاد إلى حدود مراكش ، فجعل همه إصلاح الأحوال، وانتقى بعض الأمناء من كبار الأهالي فعينهم حكاما وعمالا في المدن الواقعة تحت حكم فرنسا، وأرسل اثنين منهم إلى مواضعهما، فعاد الاثنان منها بداعي كثرة المعادين لحكومة فرنسا في الجبال، وقام القائد العام بنفسه ليفرق شمل هؤلاء الأعداء ومعه 5000 جندي، ولكنه حين بلغ أرضهم رأى أن جيشه لا يكفي لمحاربتهم فصبر ريثما جاءته النجدات من فرنسا، وتقدم لفتح بسكرة وهي مسقط رأس الأمير عبد القادر، فذهب عن طريق وهران بحرا، وسير جيشه منها 4 فرق، كان في إحداها الدوك دورليان ابن ملك فرنسا ومجموع قواتها 11000، ورأى الأمير عبد القادر أن القوة كبيرة عليه هذه المرة فأرسل يخابر القائد الفرنسوي بالصلح، ولم يقبل القائد، بل هاجم جيش الأمير وجعل يفوز عليه ويدحره، والأمير يتقهقر من أمامه حتى وصلت جنود فرنسا إلى قرية بسكرة فتقدم رؤساء القبائل وعرضوا الطاعة على القائد الفرنسوي فقبل، وطلب منهم رأس عبد القادر واعدا بثلاثين ألف فرنك للذي يأتي به، وكان الدوك دورليان من أكثر الجنود بسالة في هذه المواقع، ولكنه عاد إلى فرنسا على عجل؛ لأنه أصيب بالحمى فودعه القواد والجنود بالهتاف والإكرام العظيم. وفي سنة 1836 قام القائد العام في أثر عبد القادر فأدركه عند مدينة تلمسان في أطراف الجزائر وحاربه، فكسره كسرة هائلة وعاد إلى مدينة الجزائر بمائتي أسير، ومنها أرسل منشورا إلى القبائل يعلمها بانكسار عبد القادر، فأسرع بعضها إلى إعلان الطاعة وبقي البعض الآخر مصرا على ولاء الأمير، وبهذا انقسم الجزائريون بعضهم على بعض، وكان فريق منهم يحارب الفريق الآخر مع الفرنسويين، وقد حدث هذا في معركة الميدية سنة 1837، حين سير القائد العام بعض جنوده والقبائل المتحابة لمحاربة علي مبارك عامل الأمير عبد القادر فكسرته وبددت شمل رجاله، وكذلك حدث وراء وهران في تلك السنة حين قام قائد المدينة مع بعض القبائل لإعادة الكرة على الأمير عبد القادر، وفازوا عليه وفرقوا مواكبه بعد قتال شديد.
وقد سر أهل فرنسا سرورا عظيما من هذه الأخبار، ورأت الوزارة أنه لم تبق حاجة إلى الجيش العديد في الجزائر؛ فأرجعت بعضه رغما عن احتجاج القائد العام، وكان في هذا دافع جديد للأمير عبد القادر إلى معاودة القتال؛ لأنه طمع ببقية الجيش الفرنسوي، فتقدم بسبعة آلاف مقاتل على وهران، وقابله قائدها بثلاثة آلاف فدارت الدائرة على الحامية الفرنسوية، وجرح قائدها ورجع الجيش إلى وهران بعد أن قتل منه خلق كثير، فكان لهذا الانكسار تأثير شديد في فرنسا، وعادت حكومتها إلى تقوية جيشها في الجزائر، فسيرت النجدات تحت قيادة الجنرال بوجو، وهو من أشهر قواد فرنسا، وصل وهران في سنة 1827 بستة آلاف مقاتل، واستعد لمحاربة الأمير عبد القادر، وأما الحاكم العام فإنه ذهب إلى باريس في خلال هذه الحوادث، وعرض الحالة على الوزارة بوجه عام وخيرها بين امتلاك الجزائر كلها أو الاكتفاء بالثغور منها، أو الخروج من كل البلاد، فتقرر الاستيلاء على البلاد كلها، وعاد الحاكم العام إلى الجزائر يستعد لحرب عمومية شديدة، وأراد التقدم إلى قسنطينة للاستيلاء عليها (وسنذكرها في فصل السياحة)، وكان حاكمها أحمد بك، وقد استبد الرجل بحكم قسنطينة وابتز مال أهلها وشدد العقوبات لأقل هفوة، وبنى له قصرا جميلا في المدينة وجامعا على مقربة من القصر، وكانت جنود فرنسا تتقدم من ثغر عنابة لفتح قسنطينة ومعها الدوك دورليان السابق ذكره، وعددها 7000 من الفرنسويين و1500 من العرب والأتراك الموالين تحت قيادة يوسف بك التونسي، فسار الكل في أيام الأمطار الغزيرة والأوحال وطغيان الأنهر، وكان السير من أعسر الأمور، زاده خيانة بعض المكارين الوطنيين ووقوع الجيش في المتاعب، حتى إن القائد قال في تقريره للوزارة يومئذ إن حملة موسكو المشهورة لم تكن أكثر عذابا من سير جيشه من عنابة إلى قسنطينة، على أنهم بلغوا المدينة بعد أن فقدوا ضابطا و10 صف ضباط و116 جنديا، وأقام القائد حولها يعاين مواقعها وأبوابها وأسوارها وكان يؤمل دخول المدينة من أحد أبوابها القديمة، ولكنه لم ير حركة دفاع أو مقاومة من حاميتها في أول الأمر، فحسب أنه يستولي عليها بلا قتال. وبينا هو ينتظر قدوم المندوب ليخابره بالتسليم رأى راية الحرب، وسمع نداء القوم بالجهاد وتقدم قائد اسمه ابن عيسى لمقاتلة الفرنسويين في أكمة احتلها القوم واسمها تل علي. وأما أحمد بك حاكم المدينة فبقي فيها مع فريق من الجنود التركية. وبعد أن قاتل ابن عيسى قتالا شديدا هزم وارتد إلى المدينة وأوصد الأبواب، وعاد ابن عيسى فخرج مرة أخرى إلى ساحة القتال وهزم أيضا، فرجع إلى المدينة وصدر أمر القائد العام الفرنسوي إلى الجنرال تريزل بإطلاق القنابل على أحد الأبواب، واسمه باب القنطرة، كان يؤمل الدخول منه، وبينا هو يتفرج على فعل مدافعه أطلق العرب رصاص بنادقهم دفعة واحدة على الهاجمين؛ فأصابت الجنرال تريزل رصاصة قتلته، ولكن هذا لم يثن عزم القائد العام فوجه مدافعه إلى باب آخر، وقتل أمام ذلك الباب ضابطان و15 جنديا وجرح 79 من الفرنسويين، ودام إطلاق المدافع أربعة أيام على أسوار قسنطينة حتى نفد ما كان منها مع الجيش الفرنسوي، ورأى قائدها أن الاستمرار على الحرب لا يفيده، فأمر جنوده بالتقهقر والرجوع، وتبعها أحمد بك وابن عيسى يضربان في ظهورها ويزيدان متاعب السير في تلك الأوحال، وكان جملة من قتل في هذه الحملة المشئومة 11 ضابطا و443 جنديا وجرح 16 ضابطا و304 جنود، هذا غير ما أصاب القوم من الأمراض وأهوال الطريق في الذهاب والإياب، فلم يقل عدد الموتى عن 2000 محارب، وكانت نتيجة هذا الانكسار أن الحاكم العام استعفى؛ لأن حكومة فرنسا لم تمده بكل ما أراد من القوات، وسافر إلى باريس مع الجنرال بوجو، فلما وصلاها عينت الحكومة الجنرال دامرمون حاكما عاما، وأعادت بوجو إلى قيادة موقع وهران.
ووصل الحاكم العام دامرمون عاصمة الجزائر في أوائل سنة 1837، وكان الجنرال بوجو قد ذهب من طريق آخر إلى وهران، وهو يقول لبعضهم إنه مفوض من وزير الحرب في باريس بمخابرة الأمير عبد القادر رأسا، وعقد صلح يحفظ شرف فرنسا، فلما بلغ وهران أرسل إلى مشايخ القبائل يتهددهم بإحراق الزرع والمحصولات إذا جردوا سلاحا على فرنسا، وأوعز إلى يهودي اسمه دوران بالذهاب إلى محل الأمير عبد القادر واستطلاع رأيه في أمر الصلح، فكانت نتيجة هذا أنهم عقدوا معاهدة في 3 مايو من تلك السنة، هذه زبدة شروطها: (1)
يعترف الأمير عبد القادر بسلطة فرنسا في الجزائر. (2)
يحدد إقليم وهران ما بين البحر وجبل الأطلس في داخلية البلاد. (3)
لا يجوز للأمير أن يعتدي على الحدود الفرنسوية. (4)
لا يجوز لأحد الطرفين أن يتداخل في شئون الخاضعين للطرف الآخر في دائرة نفوذه. (5)
لا يعارض المسلمون في منطقة فرنسا في بناء الجوامع أو حرية دينهم. (6)
يتعهد الأمير عبد القادر بتوريد 30000 كيلة جزائرية من القمح كل سنة و20000 كيلة من الشعير و5000 بقرة للجيش الفرنسوي. (7)
يجوز للأمير أن يشتري ما يلزمه من السلاح، ولكن من معامل فرنسا فقط. (8)
تعطى مدينة تلمسان بقلعتها ومدافعها للأمير عبد القادر. (9)
يجوز لرعايا الطرفين أن يقيموا أينما شاءوا في الجزائر بلا معارضة. (10)
يجوز لرعايا الطرفين أن يشتروا الأراضي في المنطقتين. (11)
لا يجوز للأمير أن يتنازل عن شيء من أرضه لدولة غير فرنسا. (12)
يجوز لكل فريق أن يعين له وكيلا سياسيا في منطقة الفريق الآخر.
هذه خلاصة المعاهدة، اهتم الأمير عبد القادر على أثرها بإنشاء معامل السلاح والبارود، وضرب نقودا على أحد وجهيها «هذه مشيئة الله عليه توكلت» وعلى الوجه الآخر «السلطان عبد القادر ضرب في تكرمة»، وتكرمة بلدة أنشأها عبد القادر بهذا الاسم. وأرسل الجنرال بوجو صورة هذه المعاهدة إلى وزير الحرب فأبى رئيس الوزارة - وهو يومئذ الكونت موله - أن يقرها، ولكن وزير الحرب أرسل مندوبا من قبله إلى وهران بلغ الجنرال أن الملك راض عن المعاهدة، وأنه سيرسل صورتها إلى الحاكم العام في الجزائر ليقرها بإمضائه، وكان الجنرال بوجو قد طلب مواجهة الأمير عبد القادر على مسافة بضع ساعات من وهران، وذهب إلى المكان المعين ببعض جنوده فبلغه والأمير لم يأته بعد، فما وصله إلا بعد 3 ساعات ومعه نحو 200 من رؤساء القبائل على فاخر الجياد بكامل سلاحهم وزخرف ملابسهم، فكان منظرهم جميلا جدا فتقدم الجنرال ومد يده للسلام على الأمير، ولكن الأمير أسرع وترجل وجلس إلى الأرض، ففعل القائد فعله ثم دار بينهما الحديث الآتي: - اعلم يا عبد القادر أني ضمنتك أمام ملك فرنسا بحسن السلوك. - لا تخف، إن ديننا يأمرنا بالصدق فيما نقول. - هل أمرتم بإرجاع العلاقات التجارية مع عاصمة الجزائر والمدن البحرية؟ - لا، ولكنني أفعل حين أستلم تلمسان وقلعتها حسب الشروط. - لا يمكن تسليمها إلا بعد مصادقة الملك على المعاهدة. - أفلست إذا مفوضا بعقدها؟ - نعم، إني مفوض، ولكنه لا بد من تصديق الملك والتصديق خير لك؛ لأنه ربما أتى بعدي قائد عبث بها إذا لم يصدق الملك، وأما بعد تصديقه فالعبث بها أمر مستحيل. - إذا لم تسلمني تلمسان فلا تعد هذا معاهدة منا ، بل اعتبر أننا في هدنة. - صحيح، ولكنك أنت الرابح من إطالة زمان الهدنة؛ لأني لا أحرق الزرع في خلالها. - مهما تحرق فإنه يبقى عندنا مقادير من الحبوب تكفينا في كل حين. - لست أظن هذا صحيحا؛ فإن قبائل كثيرة رجتني ألا أحرق زرعها وحاصلاتها.
فتبسم عبد القادر من هذا القول، ولما علم من الجنرال أنه يلزم ثلاثة أسابيع على الأقل لورود المصادقة من الملك أبدى إشارة الملل، وقال إنه لا يعيد العلاقات التجارية إلا عند المصادقة النهائية على المعاهدة، ورأى الجنرال بوجو أن استطراد الحديث ربما أدى إلى ما لا يحمد، فقام يريد الانصراف، وبقي الأمير جالسا يكلم الجنرال بصوت خافت، والجنرال واقف وكان يريد من هذا ما أراد من إبطائه في الحضور للمقابلة، وهو التظاهر بعلو المقام وعدم الاعتداد بالقائد الفرنسوي؛ فلحظ القائد مراده، وقال له بلسان الترجمان إنه إذا قام القائد الفرنسوي وجب عليه أن يقوم هو أيضا، فوقف عبد القادر في الحال، وانصرف الرجلان على غير نتيجة من المقابلة.
ولما علم الحاكم العام دامرمون بمعاهدة بوجو وعبد القادر زاد به الغيظ، وكتب إلى وزير الحرب ينذر فرنسا بالذل من الموافقة عليها، ويجعل القبائل الموالية لها تحت إرهاب عبد القادر، ويجعل لهذا الأمير دولة مستقلة مثل فرنسا، وكان في الصحف والنواب فريق عظيم على رأي الحاكم العام قاموا ينددون بهذه المعاهدة، ويقولون إن فرنسا أزالت السلطنة التركية من الجزائر لتخلق فيها سلطنة عربية قوية تعضدها مراكش وغيرها، وهولوا في الأمر حتى اضطرت الوزارة أن تجيب طلب الحاكم العام وتعضده بكل ما يريد، وقررت الاستيلاء على بلاد الجزائر كلها بصورة نهائية، وأرسلت تجريدة جديدة كان في جملة قوادها الدرك دي نمور من أمراء البيت المالك في فرنسا، وسارت هذه الحملة الجديدة إلى عنابة، حيث عقد مجلس الحاكم العام دامرمون والدوك دي نمور والقواد ومشايخ القبائل الموالية لفرنسا، فقرروا أن يؤجل الزحف على الأعداء إلى أول الصيف حتى لا يصيب الجنود ما أصابهم في الحملة السابقة، ولكنهم عادوا وقرروا الزحف في أول أكتوبر - سنة 1837 - فقامت الحملة من نفس الطريق الذي اتبعته الحملة السابقة، ووصلت أمام قسنطينة في اليوم السادس من الشهر المذكور، فصدر أمر القائد العام إلى قسم من جيشه باحتلال جهة المنصورة، وهي من ضواحي المدينة، والقسم الآخر بأن يحتل تلال علي، وعند ذلك رأوا الراية الحمراء فوق القلعة والنساء على سطوح المنازل تحض الرجال على الدفاع والاستقتال، وكان ابن عيسى قائد العرب خارج المدينة، وأحمد بك قائدهم داخلها.
وبينا كانت العساكر تستعد لدخول المدينة من ناحية تلال علي أطلق العرب رصاصهم فقتلوا ضابطا وبعض الجنود، وهجم ابن عيسى من جانب آخر على الفرنسويين فقاتلهم قتالا شديدا، ولكنه تقهقر وعاد إلى المدينة بعد عدة ساعات، فقرب الفرنسويون مدافعهم إلى مسافة 300 متر من باب القنطرة، ودام القتال من تلك الجهة طول النهار، ونزل المطر مدرارا حتى إذا عادت الجنود الفرنسوية للمبيت وجدت المضارب بركا وأوحالا، وعاود الفرنسويون إطلاق القنابل على المدينة في 9 من الشهر المذكور، وضموا مدافعهم كلها إلى جهة واحدة، هي جهة تلال علي بعد عناء شديد من نقلها في الوحل، وظلوا على هذا الحال إلى يوم 12 من الشهر المذكور حين جمع القائد العام كل قواته في التلال المذكورة، وأراد التعجيل في فتح هذه المدينة فخطر له أن يخابر أهلها وأرسل إليهم جنديا تركيا بكتاب عربي، فذهب الجندي، وفوق رأسه العلم الأبيض حتى إذا بلغ سور المدينة ألقوا إليه حبلا وبلغ الكتاب، ثم عاد في اليوم التالي بجواب شفاهي معناه أن الأهالي عندهم ما يكفيهم من القوت والذخيرة، وأنهم عولوا على الدفاع إلى الفناء، فأعجب القائد العام ببسالتهم، ولكنه عول على مقاتلتهم إلى الختام، ثم خطر له أن يمعن في الأمور، ويعيد معاينة المواقع قبل إعادة الهجوم العام، فتقدم بمفرده وفي يده منظار يعاين به تلك المواقع، وحذره الجنرال روليه من هذه المخاطرة، فلم يرتد حتى أطلقوا عليه قنبلة من السور أصابته في تلك الحالة، فخر قتيلا، وتولى القيادة مكانه الجنرال بيريجو رئيس أركان الحرب، فما عتم أن بدأ القيادة حتى أصابته رصاصة أودت بحياته أيضا، فوقع إلى جنب رئيسه ميتا، فأصاب الجيش الفرنسوي من فقد القائدين بلاء عظيم، وأسقط في يد الجنود، وكادت أحوالهم تتضعضع لولا وجود الدوك دي نمور معهم، وهو أمير عاقل هدأ روع الجنود في الحال، وسلم القيادة للجنرال فاله، فقام هذا القائد الجديد بمداومة الحرب وصوب كل مدافعه على الباب الذي ذكرناه، وكان أحمد بك قد وضع وراءه أكياس الرمل فلم يفده ذلك، لأن مدافع الفرنسويين ظلت تنسف السور وما وراءه حتى اخترقته، وفتحت بابا رأى الفرنسويون داخل المدينة منه، وعند ذلك صدر أمر القائد إلى جنوده بدخول المدينة، فدخلوها بعد أن قتل منهم عدد كبير على الباب، وفي الطرق التي ساروا منها إلى القلعة؛ لأن الطرق كانت ضيقة وقد تجمعت نساء العرب على سطوحها ترمي الفاتحين بالحجارة واللعنات، واختبأ الرجال في الحوانيت ووراء الجدران، وكان العرب يتصيدون الفرنسويين برصاصهم من شرفات المنازل وأسطحة الجوامع والمآذن أثناء ذهابهم إلى القلعة حتى إذا بلغ الفرنسويون القلعة التحموا وأعداءهم بقتال شديد يهول وصفه، فكان الفرنسويون يقاتلون بحرابهم والعرب بسيوفهم ونساء العرب بالخناجر والطبنجات، فكان يوما عصيبا وقتالا شديدا عجيبا، فيه تفانى الفريقان وعلت الصيحات، ولا سيما من نساء العرب، واشتد الهول، فما حقنت الدماء وبطل البلاء إلا حين دخل الفرنسويون قلعة المدينة واستولوا عليها، ثم أداروا مدافعها على المدينة فجعلوا يطلقونها على الأحياء، ويفتكون بأهلها الفتك الذريع. وكان القائد العام والدوك دي نمور قد دخلا قصر أحمد بك بعد أن فر الرجل منه. فلما هدأت الحال وبطل القتال طلبا قاضي المدينة وأمراه أن ينشر في المدينة وجوامعها أن الفرنسويين لا يتعرضون للدين ولا لعوائد البلاد، وأن احتلالهم عائد على البلاد بالخير، ففعل وكان هذا آخر حرب الفرنسيس لامتلاك مدينة قسنطينة.
وبرح الجنرال فاله قسنطينة بعد أن ترك فيها حامية، ونظم إدارتها الملكية والعسكرية، وعاد إلى عاصمة الجزائر في أواخر سنة 1837، فلما بلغها علم أن عبد القادر اتحد مع أحمد بك، وأن الاثنين هيجا القبائل لمعاودة العدوان، وأن القبائل المذكورة تقدمت على بلدة بليدا، وهي تبعد ساعات قليلة عن العاصمة - وستذكر في باب السياحة - وبعضها زحف على الثغور الكائنة في قبضة فرنسا، وأرسل القائد جنودا على الهاجمين، فدارت رحى الحرب في إقليمي قسنطينة ووهران مدة عامي 1838 و1839 على غير جدوى حتى ثبت للقائد العام أنه لا يمكن احتلال الجزائر نهائيا إلا إذا قضي على الأمير عبد القادر؛ فأرسل يقول ذلك لحكومته وطلب منها 70000 جندي لهذا الغرض. وبينا هو يعلل نفسه بنيل الحكومة العامة جزاء فتح قسنطينة وإجابة سؤاله، جاءه من وزير الحرب أن الجنرال بوجو - الذي سبق ذكره - عين حاكما وقائدا عاما للجزائر، وأنه وضع تحت أمره 75 ألفا من المشاة و13500 من الفرسان، وأنه كلف سحق عبد القادر مهما كلف ذلك من العناء.
وصل الحاكم العام بوجو عاصمة الجزائر في أوائل سنة 1840، فبادر حال وصوله إلى إنذار القبائل بسوء العقبى من البقاء على العناد، ودعاها إلى تسليم سلاحها للدولة الفرنسوية، وأتبع ذلك بالزحف من وهران وقسنطينة والعاصمة معا، وكان الفريق الكبير تحت قيادته، والكل مجدون في أثر عبد القادر حتى إذا بلغوا الميدية علموا أنه في الجبل ومعه 15 ألفا من الجنود المشاة وعشرة آلاف من الفرسان، فتأثروه وأدركوه، ودارت الحرب معه سجالا، فكسروه شر كسرة، وحملوه على الفرار إلى الصحراء، وكان الجنرال لامورسيير في أثناء ذلك قد قام بجيشه من وهران والتقى بمبارك البلقاني - وهو مستشار عبد القادر ونصيره - معه 400 مقاتل فكسره أيضا، واستولى على ماله وأمتعة جيشه، وأكرهه على الفرار ووزع المال والأمتعة على القبائل الموالية. ثم إن الجنرال بيريجو قائد إقليم قسنطينة التقى بأحمد بك فقاتله وهزمه شر هزيمة، وكان ذلك آخر العهد بهذا الحاكم التركي؛ فإنه لم يسمع عنه شيء بعد هذه المعركة، وفوق هذا فإن القبائل الموالية لفرنسا قاتلت القبائل المعادية لها وظهرت عليها، فكان النصر عاما شاملا ولكنه لم يعد بالمطلوب؛ لأن عبد القادر فر بمعظم رجاله، وعاد الجنرال بوجو إلى عاصمة الجزائر؛ ليستعد لحملة جديدة تقضي على خصمه، حتى إذا كان عام 1843 قام بقوة كبرى ومعه رؤساء القبائل الموالية يرشدونه إلى محل العدو، وحدث أن بعض العرب كمنوا له في الطريق وأطلقوا عليه عدة رصاصات على حين غرة فقتلوا الجواد من تحته، وأما هو فنجا، وجد رجال القبائل وراء هؤلاء الفاعلين فأدركوهم وقتلوهم عن آخرهم. وأرسل القائد العام طليعة يقودها الدوك دومال ابن الملك لويس فيليب رجالها 600 فارس و1300 رجل، ومعها المدافع الخفيفة ومئونة 20 يوما تحملها 800 جمل، فالتقت هذه الطليعة بعبد القادر في أطراف الصحراء وقاتلته قتالا شديدا، كثر فيها صراخ النساء وعوليهن، وعظم البلاء حتى فاز الفرنسيس، وكانوا يظنون أن عبد القادر وقع في يدهم، فإذا هو قد فر مرة أخرى من وسطهم، وقد رأيت صورة هذه المعركة في قصر فرسايل المشهور، وكان لها تأثير عظيم في فرنسا، وكان من نتائجها أن القبائل المتذبذبة أذعنت لفرنسا، ولا سيما أن عدد الأسرى فيها من المغاربة بلغ 3000، تسعة أعشارهم نساء. ولما كان الدوك دومال قد أسرع في الهجوم، فهو لم يترك وقتا لعبد القادر حتى يفر بما معه، ولكنه ترك أوراقه وخزينته وأمتعته الثمينة، والعلم الذي كان يرفع أمامه وكثيرا من عدده وبغاله، فكان كل هذا غنيمة عادت على الدوك دومال بالفخر العظيم، وقد قابله القائد العام حين رجوعه ظافرا وحياه معانقا له، وهنأه برتبة مارشال، وهنأ الزعيم العربي مصطفى بن إسماعيل برتبة جنرال أنعم بها ملك فرنسا عليه، ولكن هذا الزعيم لم يهنأ بهذه الرتبة زمانا؛ لأنه قتله العرب في كمين حين كان راجعا بالغنائم إلى وهران، وعمره يومئذ 80 سنة.
وعاد القائد العام والدوك دومال إلى العاصمة فطلب نجدة جاءته حتى صار عدد جيوشه أكثر من مائة ألف جندي، وكان عبد القادر قد ضاقت به المسالك بعد هذه الكسرات، حتى إنه دخل بلاد مراكش؛ ليطلب المعونة من أهلها ويحضهم على المجاهدة مع قومه، فدخل مدينة وجدة - وستذكر في باب السياحة - وأرسل إلى السلطان سيدي عبد الرحمن يعرض عليه أن يضم الجزائر إلى أملاكه، ويجعله عاملا له عليها، فأرسل السلطان في 20 مايو من سنة 1844 قائدا اسمه ابن الكناوي معه 7000 جندي انضموا إلى عبد القادر ورجاله وهم 500، فأسرع القائد العام من الجزائر لمقابلة هذه القوة، ولكنه تحاشى الدخول في حرب مع سلطان مراكش؛ حتى لا يتسع خرق القتال، فأرسل ياورا لمقابلة القائد المراكشي ومخابرته بالصلح، وبهذا عين يوم 15 يونيو موعدا للمقابلة على ضفة جدول صغير اسمه أسلي، فلما جاء الموعد ذهب الرجل ومعه حاكم تلمسان والقاضي والمفتي وبعض العلماء، فما بدأ الحديث بين بوجو وابن الكناوي حتى تداخل الضباط المراكشيون وعلت أصواتهم وكثرت الجلبة حتى تعذر سماع الحديث بين القائدين، ولكنهم سمعوا صوت البنادق، ورأى القائد الفرنسوي أن العرب تحمسوا يريدون القتال، ولم يقدر ابن الكناوي على ردهم، فأمر جنوده بالقتال، وبهذا عادت الحرب وانجلت تلك المعركة عن فوز تام للفرنسويين، وفر المراكشيون إلى بلادهم والفرنسويون وراءهم يضربون في ظهورهم حتى غابوا عن الأنظار، ولكن هذا الانتصار لم يرجع المراكشيين عن الشر؛ لأنهم عادوا في أواخر السنة المذكورة تحت قيادة ولي عهد مراكش، واسمه سيدي محمد عبد المؤمن، وهم عشرة آلاف راجل وخمسة عشر ألف فارس ومعهم 11 مدفعا، وعسكروا على ضفة نهر أسلي، وكانت فرنسا قد أرسلت بوارجها إلى طنجة تحت قيادة البرنس دي جوانفيل، فلما بلغ ذلك الثغر أرسل إلى سلطان مراكش يلومه على محاربة فرنسا بدون علة أو إنذار سابق، وطلب منه عزل حاكم وجدة وطرد الأمير عبد القادر من مراكش، وأعطاه مهلة 15 يوما إذا انقضت ولم يجب سؤاله أطلق المدافع على الثغر، فورد عليه الرد من السلطان بأن الاعتداء كان من القائد الفرنسوي ولم يشر إلى بقية المطالب؛ ولذلك أطلقت المدافع على ثغري طنجة ومداغور، فأحدثت فيهما ضررا كبيرا.
قلنا إن جيش مراكش تحت قيادة ولي العهد عسكر على نهر أسلي، وكان الجنرال بوجو يتقدم على هذه الجهة ومعه 8500 من المشاة و1400 من الفرسان، فلما بلغها نصح للقائد المراكشي أن يعود إلى بلاده بلا قتال، فلما أبى الرجل أمر القائد بوجو جيشه بالهجوم ففعلوا وفتكوا بالمراكشيين وبددوا شملهم وجعلوهم يهربون طلبا للسلامة، فكان هذا خاتمة القتال بين فرنسا ومراكش وعدل، المراكشيون عن الانتصار للأمير عبد القادر، وعظم قدر الجنرال بوجو بعد هذه المعركة، فأعطي لقب دوك أسلي، وعاد إلى عاصمة الجزائر قرير العين كثير الافتخار.
وتفرغ الجنرال بعد هذا لإخضاع القبائل المتمردة من أهل الجزائر، مثل قبيلة أولاد رباع، سير عليها الكولونيل بلبسيه، فلما دخل أرضها فرت القبيلة من وجهه إلى كهوف قديمة العهد من أيام الرومانيين واعتصموا بها، فحاول الكولونيل أن يخرجهم منها بالنصح فأبوا وآثروا الموت في تلك الكهوف على التسليم، حتى إذا نفدت حيلة الكولونيل أمر رجاله أن يحيطوا المغائر بأعشاب ويضرموا النار فيها على أمل أن يخرج القوم متى أحسوا بالنار، ولكنهم أصروا على البقاء حتى هلكوا عن آخرهم هلاكا شنيعا، وكان عدد الموتى لا يقل عن 600، وكان ذلك في منتصف شهر يونيو من سنة 1845، وكان لهذه الحادثة أسوأ وقع في فرنسا؛ لأن نفوس أهلها نفرت من هذه القسوة الوحشية، وأنكرت هذا الصنيع، وهب النواب والكتاب للتقريع والتنديد بكل لسان، فقابلوا ما بين الأتراك الذين حكموا الجزائر بنفر من المتطوعين ولم ينفقوا عليها شيئا، وبين فرنسا التي جردت عليها أكثر من مائة ألف جندي منظم، وبلغت نفقات حكومتها فيها مائة مليون فرنك كل سنة، وما زال تيار التنديد مندفعا حتى استقال الجنرال بوجو من منصبه إرضاء للجمهور، وذهب إلى باريس ليدافع عن نفسه، فبقي الجنرال لامورسيير حاكما عاما مكانه في 24 أوغسطس من السنة المذكورة، وكان عزل بوجو من أحب الأمور إلى الأمير عبد القادر؛ لأن الأمير كان يخاف شر هذا القائد، ويحسب أكبر حساب لتدبيره في الحروب.
ودخلت سنة 1846 والجنود مشتبكة بالحرب مع أهل الجزائر في كل مكان، والنصر غير معروف لأحد الجانبين، وحدث في هذه السنة أن شيخ قبيلة السواحلية أخبر القائد الفرنسوي في جهته أن الأمير عبد القادر دخل أرضه، وكان الشيخ يضمر الشر للفرنسويين، فلما سمع القائد الفرنسوي بالخبر أرسل في الحال 250 جنديا وكلفهم القبض على الأمير، وكان معهم 60 فارسا، فلما بلغت هذه القوة موضعا اسمه سيدي إبراهيم وجدت عبد القادر كامنا لها بقوة كبيرة، ورأت أن العرب أحاطوا بها، فصاح القائد برجاله أن دافعوا عن أنفسكم حتى الممات، فقاتلت قتال الأبطال وأبت التسليم حتى هلكت عن آخرها تقريبا، ولكنها استمرت على الجهاد أياما، وما نجا منها غير 14 رجلا بلغوا المعسكر الفرنسوي بعد البلاء الشديد، وقصوا قصة هذه المجزرة الشنعاء، وبلغت أخبار هذه الحادثة فرنسا فكثر تضجر الناس من استمرار البلاء والشقاء في الجزائر ومن كثرة أهوالها الشنيعة، ووقعت الحكومة في حيص بيص لا تدري ماذا تفعل، حتى إنها أرسلت وراء الجنرال بوجو واسترضته وعرضت عليه القيادة العامة من جديد، فأفرغ الجنرال جعبة حقده على الوزراء الذين عزلوه، وأفاض في سوء حالة الجزائر من بعد عزله مؤيدا قوله بكتاب ورد إليه من صديقه الجنرال لامورسيير الذي حل محله، ونشر هذا الكتاب في الصحف بلا إذن الوزارة، فعد فعله خرقا لقانون المخابرات الرسمية، وجعل الناس يتحدثون بمحاكمة بوجو على هذه الفرية، فإذا بالحكومة قد أعادت تعيينه ووضعت بارجة حربية في خدمته تنقله إلى الجزائر، فاطمأنت القلوب وعادت الآمال بالنصر؛ لما كان لذلك القائد من الاحترام في نفوس الفرنسويين.
وصل بوجو في أواخر سنة 1846 فنشر إعلانات الشكر على جنوده، وإعلانات التحذير والإرهاب على القبائل المعادية لفرنسا، ثم قام في أثر عبد القادر بقوة كبرى فدخل إقليم وهران، وجعل الأمير يتقهقر أمامه من موضع إلى موضع، وهو لا يلقى من أكثر القبائل إلا صدودا وإعراضا، وجاء الدوك دومال من فرنسا في أوائل السنة التالية مصمما على أسر عبد القادر أو قتله، وإنجاز هذه الحرب التي طال عهدها، فهم في اقتفاء آثاره. وكان عبد القادر يلقى الملل من القبائل وخور العزائم، فثبت له أن البقاء على هذه الحالة محال، ورأى بعد التفكير الطويل أن يسلم لفرنسا مختارا، ويخلص من العناء الذي قضى فيه كل تلك السنين، وهي لا تقل عن عشرين، ثم أنه قطع الأمل من مساعدة إنكلترا ومراكش وقبائل العرب، فأرسل يطلب مقابلة الجنرال لامورسيير، وهو أقرب قواد فرنسا إليه ويخبره بعزمه على التسليم، فلما قابله بادر بتسليم سيفه وختمه في الحال علامة الخضوع وزوال السلطة، وطلب من القائد أن تعامله فرنسا بالحسنى، وأن ترسله إلى الإسكندرية ليموت في أرض إسلامه، وكان ذلك في أواخر سنة 1847.
وأخذ الأمير عبد القادر أسيرا إلى طولون في بارجة حربية، فبقي فيها مدة مع حاشيته في إحدى القلاع، وكان عدد من معه 88 شخصا، ثم أمرت حكومة فرنسا بتحسين حاله فنقلته إلى مدينة إمبواز، وأعطته قصرا له حديقة كبرى، وجعلت ضابطا برتبة ميرالاي، اسمه دوماس حارسا عليه، فلزم غرفته ولم يفارقها، حتى إن حارسه قال له مرارا أن يتمشى في الحديقة لاستنشاق الهواء مراعاة لصحته، ولكن عبد القادر كان يجيبه أن هذا الهواء ليس هواء الحرية. يروى أن وزير الحرب سأل الميرالاي دوماس ذات يوم ماذا يفعل عبد القادر كل يوم؟ فأجاب: إنه يستيقظ الفجر من النوم فيصلي صلاة الفجر ثم الظهر ثم العصر والمغرب والعشاء، وما بين أوقات الصلاة يقرأ القرآن، وحدث أن حكومة لويس فيليب انقلبت على عهد الثورة الفرنسوية الثانية سنة 1848 في باريس، وعبد القادر يومئذ في إمبواز فأحزنه هذا الانقلاب؛ لأن الدوك دومال ابن أخي الملك كان قد وعده بالنقل إلى بلاد إسلامية، وحدث في السنة التالية أن رجاله اشتجروا مع الحرس؛ إذ صمموا أن يخرجوا من أسرهم بالقوة، وهم يقولون للحراس إن سيدهم لم يؤخذ أسيرا بل سلم تسليما، وعليه طلب الأمير عبد القادر إلى باريس ليقابل رئيس الجمهورية - وهو لويس نابوليون الذي صار امبراطورا بعد ذلك - فذهب ولقي لطفا وإكراما زائدين من ذلك الرئيس الذي عرض عليه قصر التريانون في فرسايل أو الإقامة في بلاد شرقية، فآثر الشرق، ونال وعد الرئيس بإجابة طلبه، ثم خابر الدولة العلية في الأمر فتمنعت في البداية، وقبلت بعد مخابرة دامت سنتين أن يقيم الأمير ومن معه في مدينة بورصة، ولما جاء هذا الرد أراد البرنس نابوليون أن يزف هذه البشرى للأمير عبد القادر بنفسه فذهب إلى قصره والأمير غير عالم بما تم، ولما أخبروه أن البرنس ينتظره في قاعة الاستقبال خف إليه حالا فوقف البرنس له وعانقه ثم أعلنه بالخبر، ففرح الأمير كثيرا وشكر رئيس الجمهورية، وودعه مرارا مرددا آيات الشكر، ثم دخل إلى حريمه ليبشر من معه بهذا الخبر المليح.
وبعد هذا بأيام قليلة تقابل الأمير عبد القادر والبرنس نابوليون في الأوبرا الباريسية، وكانوا قد أعدوا له لوجا، واكتظ المكان بالكبراء والغادات ليروا هذا الأمير العربي ويراهم، فكانت الأنظار كلها متجهة إليه مدة التمثيل، ولما خرج بين الفصول ليقابل رئيس الجمهورية اصطف له الناس على الجانبين وحياه الرجال برفع القبعات والسيدات بإحناء الرأس، فسره هذا الإكرام؛ لأنه كان يخشى أن يعاملوه بغير ذلك بداعي أن أكثر العائلات فقد منها أفراد في حرب الجزائر، وقابله الرئيس هذه المرة أيضا بالإكرام العظيم مصافحا له على الطريقة العربية بتقبيل العارضين، ثم وعده بمقابلة رسمية بعد رجوعه من صيد كان قد استعد له، فلما رجع ذهب عبد القادر إلى قصره في سان كلو فقوبل بالحفاوة الكبرى، وحدث أنه رأى في القصر ساعة كبيرة تدل على الوقت في كثير من المدن المشهورة وفي جملتها مكة، فلما علم منها أن الساعة توافق ساعة العصر في مكة طلب أن يصلي، ثم جعل ساعته على حساب ساعة مكة، ولما انتهى من ذلك قابل رئيس الجمهورية، وقدم له قصيدة من نظمه بالعربية - لم أقف على نصها - وأهداه البرنس سيفا مرصعة قبضته بالجواهر قيمته 15000 فرنك، راجيا منه ألا يستعمله في محاربة فرنسا، ثم رجع عبد القادر إلى إمبواز واجتمع بوالدته فبشرها بالانتقال إلى بلاد إسلامية، وكان الفرح عاما في بيته ذلك النهار، وحدث قبل مبارحة الأمير إلى بورصة أن لويس نابوليون أصبح إمبراطورا، فحضر الأمير عبد القادر الاحتفال بتتويجه في قصر التويلري يوم 2 ديسمبر سنة 1852، ومن غرائب الدهر أنه في مثل هذا اليوم - أعني في 2 ديسمبر سنة 1832 - نودي بالأمير عبد القادر أميرا للعرب، وذلك منذ 20 سنة.
وسافر الأمير في أواخر سنة 1852 إلى الآستانة في باخرة حربية فرنسوية، فلما بلغها ذهب للصلاة في أحد الجوامع، ثم قصد سفارة فرنسا وسأل السفير أن يبلغ شكره لدولته على ما أتت معه من الجميل، ثم تشرف بمقابلة السلطان عبد المجيد، وتوجه إلى بورصة مع جماعة كثيرة من المغاربة تبعوه إليها، حتى إن مرتبه أصبح قليلا لا يكفيه، ولم يهنأ هذا الأمير بعيشة بورصة؛ لأن أهلها يجهلون العربية، ولم يحفلوا به حتى قيل إن واليها لما سئل أن يرسل إليه عربة، قال: ما بال هذا العربي لا يركب جملا! فطلب أن ينتقل إلى دمشق الشام، وأذن له بذلك بعد مخابرات بين فرنسا والباب العالي.
وتاريخ عبد القادر في الشام معروف، فإنه طابت له الإقامة فيها، وأحب أهلها وعاشر أكابرها، وأتى حسنة في سنة 1860 يخلدها التاريخ له إلى آخر الدهر؛ لأنه حمى ألوفا من الذبح حين ثار الأهالي على المسيحيين، وعرفت الدول بمروءته فأغدقت عليه نياشينها، وما زال يتقلب في نعم الشام وفضله يتدفق على ألوف من اللاجئين إلى ساحته حتى توفاه الله فيها في سنة 1888، وكان له يوم وفاته عشرة بنين وست بنات وخمس زوجات، فأما البنون فهم الأمير محمد باشا، ومحيي الدين باشا وكلاهما في الآستانة الآن، والأمير هاشم توفي في الجزائر، والأمير أحمد وهو في دمشق مع أخيه الأمير عبد الله، والأمير إبراهيم توفي في دمشق، وعلي باشا وهو الآن عضو مجلس الإدارة في ولاية سورية وصهر دولة عزت باشا العابد، والأمير عمر وهو أيضا في دمشق، والأمير عبد الملك في الآستانة، والأمير عبد الرازق في دمشق.
من مرسيليا إلى جزاير الغرب
إن السفر إلى الجزائر ممكن من مرسيليا إلى عاصمة ذلك القطر على أقرب الطرق، ولكنني اخترت الذهاب منها إلى وهران أولا لما أن وهران هذه واقعة على مقربة من مدينة تلمسان عند حدود مراكش؛ لكي أدخل مراكش منها، وعليه ركبت باخرة من سفن شركة ترانس أتلانتيك الفرنسوية، وكان في جملة ركابها عدد يذكر من الإسبانيين ذاهبين إلى وهران؛ ليسافروا منها إلى قرطاجنة، وهي مدينة إسبانية على شطوط إسبانيا الجنوبية تبعد عن وهران نحو 4 ساعات ، ومنها يتقدم المسافرون إلى داخلية إسبانيا، وكان سير الباخرة إلى الغرب، وقد قام على يمين وجهتها قلعة ديف، وإلى اليسار صخور رملية كأنها الرابيات، وبعد أن غابت مرسيليا عن الأنظار وسارت الباخرة في عرض البحر بقينا يوما على هذه الحالة حتى ظهرت لنا في الغد جزائر باليار، فجعلت الباخرة تسير أمامها، وهي من أملاك إسبانيا، مساحتها 5014 ميلا مربعا، وقاعدتها ماجوركا، وعدد أهلها 312655 نفسا. وحدث أن بعض آلات الباخرة تعطل عند هذه الجزر، فتعطل سيرها نحو ساعة ريثما أصلحت، واضطرب الركاب ولا سيما النساء منهم، فما هدأ الروع إلا بعد أن علموا حقيقة الحال، ولكن القوم عادوا إلى الاضطراب في الليل بسبب هياج البحر وتعالي أمواجه.
ولما كان صباح اليوم الثالث أطلت الباخرة على شطوط وهران، فرأينا جبل موجاجو وعلى قمته قلعة سانتا كروز بناها ماركيز إسباني بهذا الاسم سنة 1708، ولما بطلت أهميتها بنى الفرنسويون قلعة جديدة على الجبل المذكور. وقد أخبرني أحد ضباط الباخرة أنه يمكن للمرء أن يرى بعض ثغور إسبانيا، مثل قرطاجنة والميرية من هذا الجبل حين يكون الجو صافيا. ولما ألقت الباخرة مرساها في مرسى وهران كان قد مر علينا 40 ساعة في السفر من مرسيليا، وتأملنا المدينة عند ذلك، فإذا نصفها مبني على الجبل المذكور، وهو أجرد أقرع لا خضرة فيه ولا نبت، والنصف الآخر في لحف ذلك الجبل، فلا بد من السير صعدا، والدوران المألوف للذي يريد الذهاب من المينا إلى البلد؛ ولهذا ركبنا عربة من الفندق تجرها أربعة أفراس وجعلت تسير بنا الهوينا، وهي تتقدم صعدا بسير رويدة مرة تنثني إلى الشمال، ومرة إلى اليمين، ولحظت أن عربات العفش تجرها 6 أفراس، ولو قلت أحمالها بالنظر إلى صعوبة السير في هذه الطرق. ولما بلغت الفندق أرسلت نظري إلى البحر فإذا الباخرة التي جئت بها راسية في منخفض كأنه واد عميق.
وهران
في هذه المدينة حوالي 72738 نفسا من السكان، منهم نحو 36 ألفا من المسلمين، و24 ألفا من الفرنسويين، و8 آلاف من اليهود، والبقية خليط من الأجانب الشرقيين والغربيين، وهي قاعدة إقليم وهران، فيها الدوائر الإدارية والعسكرية، وتعرف عند الفرنسويين باسم أوران، ولعل اسمها محرف عن «خوران»؛ لأنها كانت في الأصل مبنية بين خورين تجري المياه فيهما مدة الشتاء.
ولا بد من القول هنا أن وصف مدائن الجزائر لا يتضمن ذكر العمائر الفخيمة والمشاهد العظيمة والمتنزهات البديعة كالتي ورد ذكرها في مدن أوروبا وأميركا، ولكن المزية هنا في اختلاف العناصر وأجناس البشر، مما يقل نظيره، وفي قيام المدن الداخلية على قمم الجبال يختلف علوها ما بين 600 متر و700، ومن حولها الأودية المتسعة كثيرة الزرع والغرس. ولكل من هذه المدن أسوار عالية يراد منها الدفاع ساعة اللزوم، مثل وهران هذه، لها سور يحيط بها وارتفاعه 5 أمتار، وقد جعلوا له 4 أبواب في جهات الأرض الأربع، فلا بد من المرور في أحد هذه الأبواب لداخل البلدة، والناس هنا تعرف أجناسهم من اختلاف ملابسهم، فالمسلم يلبس الطربوش المغربي الكبير وله زر (شرابة) طويل يبلغ الأكتاف تقريبا، فإذا لم يكن لطربوشه زر لف عليه عمامة بسيطة أو مجدولة كالحبل من شعر الجمال، وله صديري صدري بأزرار وحزام أحمر عريض، وسراويل فوق سراويل قصيرة إلى عند الركبة، ومن تحتها جوارب بيضاء صنع اليد، وحذاء أصفر مكشوف. ونساء المسلمين يبالغن في التحجب والتستر تلتف الواحدة منهن بحرام من الصوف فلا يظهر منها غير إحدى العينين، ولم ألتق مدة وجودي إلا بامرأة واحدة؛ لأن المرأة المسلمة لا تخرج من منزلها، وإذا ما دخلت بيت زوجها بقيت فيه إلى يوم الممات، ولم تتعرف بجاراتها من النساء، وفي ذلك مبالغة في الحجاب قليل مثلها في بقية الأقطار. وأما اليهود من أهل هذه المدينة فلبسهم يعرف بالعمامة البيضاء أو السوداء، والسراويل فوقها القفطان، وبعضهم يلبس الطربوش المغربي فوق الملابس الإفرنجية، ونساء اليهود يلبسن الفساطين البسيطة، ومن فوقها شال، وعلى الرأس منديل. ولليهود قوة سائدة هنا حتى إن يوم السبت يعد بمثابة العيد في المدينة، يقفل فيه قسم كبير من المخازن والحوانيت، وتجلس نساء اليهود أمام البيوت بالملابس المقصبة والحريرية وبأنواع الحلي.
ويكثر العنصر الإسباني في وهران وإقليمها؛ لأن إسبانيا استولت عليها نحو 250 سنة، وأما الآن فإن المنظر الأهم فيها لجنود فرنسا؛ لأنها الدولة المالكة ولجيشها شهرة في نظامه وهندامه، والفيلق الفرنسوي المعسكر في الجزائر يعد طليعة الجيش في كل حرب تقع لدولته في الشرق، مثل مدغسكر أو الصين؛ ذلك لأن هذه الجنود لها قدرة على احتمال الحر ومتاعب السفر، ولها شهرة بالبسالة تضرب بها الأمثال.
وتقسم وهران أحياء عديدة، يربط بعضها ببعض خطوط ترامواي متصلة إلى جميع الأطراف، ومركزها العمومي موضع يعرف باسم ميدان السلاح هو أحسن نقطة في المدينة، وقد جعلوه في وسطها مستديرا متوسط الاتساع، وفيه أشجار من العناب والنخل والخروب تنمو مع المعالجة الدائمة؛ لأن الأرض صخرية والماء قليل. وفي طرف هذا الميدان بناء الحكومة فيه المصالح الأميرية وقلم الجوازات وقلم المواليد والوفيات، وقد وضعوا عند مدخل هذا البناء أسدين كبيرين من الرخام الأبيض. ارتقيت الدور الأعلى من هذا البناء على سلم من الرخام الأبيض والأصفر كالموجود في جامع قلعة مصر، وأصله من مديرية بني سويف، كما أن أصل هذا السلم في بناء وهران من مقلع إلى جانبها. وفي الطرف الآخر من هذا الميدان ناد للضباط لا يدخله سواهم، وقد بني داخل حديقة صغيرة تصدح الموسيقى العسكرية فيها كل يوم بعد الظهر، وقد تقام فيه حفلات يدعى إليها الأعيان والوجوه. وفي وسط الميدان تمثال سيدي إبراهيم يمثل حادثة تاريخية، هي أنه لما كانت الحرب سجالا بين الفرنسويين والأمير عبد القادر صاحب الجزائر في سنة 1845، أحاطت جنود الأمير على كثرتها بشرذمة من رجال الفرنسيس، فصاح القائد الفرنسوي برجاله ألا يسلموا وأن يدافعوا حتى الممات، فقتلوا عن آخرهم أبطالا مجاهدين، ونصب هذا التمثال في سنة 1898؛ لإحياء ذكرهم، كما ذكرت في فصل التاريخ. والأثر عمود من الرخام، في أعلاه تمثال غادة حسناء تمثل فرنسا، وفي يدها قلم كتب على العمود بحروف الذهب هذه العبارة: «دافعوا حتى الممات.»
وفي هذا الميدان محطة الترامواي العمومية، ومنه تتفرع أحسن شوارع المدينة، بدأت الفرجة بأحسنها، وهو شارع سيجين، على اسم أحد القواد الفرنسويين، يشبه شارع الموسكي في مصر بحركته التجارية المهمة وكثرة المختلفين إليه من وكلاء المعامل الأوروبية، ولا سيما معامل ألمانيا، يعرضون مصنوعاتها على التجار الأجانب والوطنيين، ويشترون منهم أنواع الجلد والصوف والشمع. ولما انتهيت إلى آخر هذا الشارع سلكت شارعا آخر ينتهي إلى ضاحية باسم غامبتا، وفيه تمثال السياسي الشهير المعروف بهذا الاسم، كتب على قاعدته أنه تذكار من أهل وطنه العارفين فضله، وهنالك حانات يختلف إليها جماهير الناس، وهي تشرف على الوادي الكائن تحت المدينة، وسرت أيضا ذلك النهار في شارع سفاستوبول، فانتهيت منه إلى قرية المغاربة، واسمها عند الفرنسويين قرية العرب، رأيت الأولاد يلعبون في طرقاتها، والرجال جالسين أمام الأبواب، والقرية واطئة الموقع، ولكنها نظيفة قد لا يخلو منزل فيها من شجرة تين أو عناب أمامه؛ طلبا للظل وفرارا من أشعة الشمس الكاوية. وأمامها قرية العبيد إذا دخلها المرء حسب نفسه في داخلية السودان. وعلى مقربة من ميدان السلاح جامع الباشا، بناه محمد باشا حاكم وهران سنة 1791، وتهدم على ممر الأيام، فذهب وفد من أهالي المدينة إلى باريس يرجو الإمبراطور نابوليون الثالث بترميمه على نفقته؛ فأذن وكتبوا على بابه هذه العبارة: «إن نابوليون الثالث أمر بترميم هذا الجامع سنة 1857.» قرأتها ودخلت الجامع، فوجدت فيه أروقة ملبسة بالقيشاني الأزرق ، وفيها مدرسة للصبيان، وفي داخل الجامع مغاربة التفوا بالأحرمة بعضهم في صلاتهم والبعض نائم، وقد دعاني شيخ هذا الجامع للصعود معه إلى الصومعة، أو هي المئذنة، ففعلت ورأيت البلدة بكل ضواحيها من ذلك المكان.
وزرت بعد ذلك الأحياء السفلى من المدينة، يسمونها بذلك تمييزا لها عن الأحياء العليا. وهذه الأحياء مثل بلد قائم بنفسه، سرت في شارع كليبر، منها وشارع ملاكوف وشارع الجمهورية، وكلها أسماء فرنسوية حلت محل الأسماء العربية القديمة، حسب عادة الفرنسويين في أملاكهم، وقد زرعوا بعض الشجر في هذه الأحياء السفلى، فنمت فيها خلافا للأحياء العليا. ويتصل بها متنزه يبتدئ من رأس المدينة، اسمه لتانج على اسم قائد فرنسوي تفرد في حرب الجزائر، ثم صار حاكما لإقليم وهران. ويمتد هذا المتنزه إلى الأحياء السفلى متعوجا ملتفا، فيرى السائر فيه البحر ونهر الرحى - سمي بهذا؛ لأن الرحى أو المطاحن أقيمت عليه في أيام العرب وكانوا يديرونه بضغط الماء - وقد غرسوا في الصف الأيسر من هذا المتنزه أشجارا من الرمان والتين والزيتون.
ويقال على الجملة إن هواء وهران على غاية الجودة، وهو ناشف خال من الرطوبة، وقد زرت مدة إقامتي فيها عدة أماكن غير التي ذكرتها، ولكنها لا تهم القراء، وتركتها بعد ذلك قاصدا تلمسان، وهي على بعد 165 كيلومترا، يجتازها القطار في 5 ساعات، وكان أول هذه المسافة سهلا فسيحا لا ترى العين آخره، زرعت فيه الحبوب والكروم وأشجار التين والزيتون، وكثرت فيه القناطر الحديدية فوق جداول الأنهر، وفيه عدة ينابيع يتفجر الماء من أرضها، وتروى بمائها المزارع والأغراس. وظللنا على هذه الحالة حتى بلغنا بلدة أبي العباس، وهي في منتصف الطريق، اسمها بلسان المغاربة بلعباس، وتعد مركز قبيلة بني عامر التي اشتهرت بالحرب تحت قيادة الأمير عبد القادر؛ ولذلك رأت حكومة فرنسا في سنة 1850 أن تجعلها من مراكز الجيش الفرنسوي، فهي اليوم مدينة فرنسوية محضة، فيها مياه كثيرة من نهر مخارة، وأرضها خصبة طيبة فلا يقل سكانها الآن عن 27000 نفس. ووقف القطار في هذه المحطة نصف ساعة انتهزت فرصتها وركبت عربة دارت بي في الطرق والشوارع، فألفيتها نظيفة زرعت أشجار الدلب إلى جانبيها مثل شوارع مرسيليا، ولها تياترو يأتون له بجوق فرنسوي كل سنة، وفيها سوق على شاكلة أسواق المدن الأوروبية. وعدت إلى القطار في موعد قيامه، فعاد بنا إلى المسير في واد بين جبلين، وفيه نهر تليتات، مثل كل أنهر هذه البلاد، أو بلاد الشام، وهي جداول قليلة المقدار.
تلمسان
وأما تلمسان فإنها من أجمل مدن الجزائر الداخلية، وجدت في بقعة من الأرض تكثر فيها ينابيع الماء، فهي ملأى بالحدائق والبساتين، تزرع فيها كل أشجار فرنسا وأثمارها، ولمنظرها عامة رونق وبهاء، يبلغ عدد سكانها الآن حوالي 35000، منهم 3500 فرنسويون، و4500 يهود، والبقية من الأهالي . وقد بنيت على جبل ارتفاعه ألف متر، ومن حوله الأودية مرصعة بالقرى تحكي مناظر جبل لبنان. وفي المدينة وضواحيها مواضع ومتنزهات كثيرة تستحق الذكر، مثل غاب بولونيا والشلال وبلدة سيدي أبي مدوين وجامعها المشهور، ومدينة المنصورة بنيت سنة 530 هجرية/1145 مسيحية. وبداخلها قلعة يسمونها قصر المشورة؛ لأن العرب كانوا يعقدون المجالس فيها للمشاورة، وقد دخلناها من باب عال متسع فوقه ساعة فلكية من الساعات العربية القديمة، كان لها شهرة مثل ساعة ستراسبرج في هذه الأيام، ولكنها تخربت من طول الزمان، وقد جعلوا هذا الموضع الآن مركزا للإدارة العسكرية الفرنسوية، وبنوا فيه أبنية كثيرة على النسق الأوروبي. ولهذه القلعة ساحة داخلية طولها 500 متر، وعرضها 300، ولها سور سمكه 3 أمتار تقريبا. ومما يروى عن محاسن هذا القصر في أيام العرب، أن يوسف بن تاشفين أمر بأن توضع في ساحته شجرة من الفضة، وفيها الطيور على أشكالها من الفضة أيضا، وأنها تتحرك وتخرج أصواتا كلما هب عليها الهواء.
وسرت في شارع فرنسا من شوارع هذه المدينة، ما بين أبنية ذات دور واحد وصفوف من الحوانيت تباع بها السلع الإفرنجية والعربية. وفيها القهاوي، بعضها للفرنسويين، والبعض للعرب، وهم يجلسون فيها على مقاعد من الجريد، ويشربون القهوة من فناجين كبيرة من غير ظرف، والأولاد أمامهم يلعبون أو يمرنون الكلاب على النباح، وبعض الأولاد يلبس العباءة البيضاء أو اللبدة أو المركوب الأصفر، وبعضهم حفاة أو عراة، وقد لحظت أنهم ذوو شدة وعناد لا يسمعون كلام الرجال الذين ينتهرونهم ويردونهم عن الصياح، ورأيت بعض المراكشيين الذين يأتون هذه المدينة يستغربون نور الغاز وأعمدته، فيتسلقها بعضهم ويضعون يدهم على النور؛ ليروا إذا كان من نار تحرق أو لا. وفي طرف هذا الشارع ميدان الجمهورية، أذنت الحكومة للأهالي أن يبيعوا فيه السلع والخضر والفواكه، فهم يبسطونها في أرضه مدة النهار ويغسلون الأرض عند الغروب، ثم ينصرفون. وعلى مقربة من هذا الميدان متحف دخلته فرأيت فيه كثيرا من الآثار العربية، وجد أكثرها في جوار هذه المدينة. وفي جملة ذلك الذراع الذي قرر طوله يوسف بن تاشفين، ما زال يعرف باسم ذراع الملك، وهو قياس الناس في أعمالهم يرجعون إليه منعا للغبن، والذراع المذكور من زجاج فرض عليه النصف والثلث والربع وبقية الأجزاء، وجده ضابط فرنسوي في قيصرية «سوق» تلمسان، فنقل إلى هذا المتحف، وعلق فيه داخل غطاء من البلور فيراه الراءون ولا يمسونه، وهو من الآثار النفيسة، حتى إن فرنسا فكرت حينا في نقله إلى اللوفر في باريس، ولكنها عادت وأبقته في موضعه الحالي.
وفي المتحف المذكور حجارة على شكل القنابل صنعت من الرخام الأبيض والأزرق، طول الواحد منها متر، وعرضه نصف متر، ووزنه من 100 كيلو إلى 130، ومنظرها يقرب من منظر قوالب السكر، أو قنابل المدافع في المدرعات الحربية، وبعضها كرات مستديرة وكلها من الرخام، كانت تلقى على الأعداء في زمان الحصار، وهناك كثير من حجارة القبور أو هي التي تكتب عليها أسماء المتوفين وتاريخ وفاتهم، منها حجر كتب عليه اسم أبي عبد الله سنة 760. ورأيت هنا مدفعا من الرخام الأبيض يحشى بالبارود فيه من ثقب في طرفه، وأظنه نادر المثال؛ لأن المدافع لا تصنع من الرخام، وتجاه هذا المتحف الجامع الكبير، وهو بقية ما بقي من 61 جامعا كانت في تلمسان دليل ما كان لها من الأهمية السابقة. وبناء هذا الجامع متين كغيره من جوامع هذه البلاد ، فربما بقي قرونا أخرى بعد الآن، وسقفه واطئ كغيره في بلاد المغاربة، وهم لا يبنون الجوامع الشاهقة كالتي نعرفها في مصر وبلاد الدولة العلية، وقل أن يزيد ارتفاع جوامعهم عن 25 مترا أو 30. والجامع الذي نحن بصدده قائم على 13 قنطرة، وهي قائمة على 72 عمودا مستدقا من الرخام، وله ثمانية أبواب وسقفه من خشب السنديان طلي باللون الأسود، وقناطره كلها مطلية بالجير الأبيض الناصع، وليس يخلو الجامع من بعض المصلين في كل حين، ولكنه يكثر اجتماع الناس فيه للتحدث بشئونهم العمومية، وهم يقعدون على شكل دائرة ويتكلمون بصوت خافت، وعليهم أدلة الوقار والخشوع، وهم لا يأنفون من دخول الزائرين جامعهم، إذ كانوا من غير المسلمين. وأما مآذن هذه البلاد فإنها تختلف عن المآذن العالية المستدقة التي نعهدها هنا، بل إن أكثرها واسع قليل الارتفاع يستريح المرء في صعوده. وقد صعدت مئذنة هذا الجامع فأشرفت منها على المدينة كلها، وهي عادة لي أينما كنت أرتقي هذه المرتفعات؛ حتى أرى المدن بشكلها التام، وأنصح لكل سائح أن يتبع هذه الخطة؛ لأنها تفيده في رؤية المناظر أينما كان.
المنصورة:
وعزمت في هذا النهار على زيارة ضواحي تلمسان الجميلة، فركبت عربة بلغت بها المنصورة في نصف ساعة تقريبا، وهي بلدة بناها أبو يعقوب سنة 702 هجرية - أي سنة 1302 مسيحية - وغزاها من بعده فريق من العرب فهدموها عن آخرها. وقد كانت المنصورة في أيام عزها كثيرة القصور، واسعة التجارة مع الأقطار العربية المجاورة، ولكنني ما رأيت منها حين وصولي إليها غير سورها العالي، طوله 400 متر، وقد تخرب أكثره الآن، وبقيت آثار أبراجه القديمة التي كانوا يحاربون الأعداء منها، ومن موجبات الأسف أن آثار المدينة لم تحفظ كما يفعل القوم المتمدنون في بقايا مدنهم القديمة؛ لأن أرضها صارت كروما للعنب، وما أبقوا منها غير الجامع وساحته وبركة الوضوء، والجامع لم يبق منه غير باب كبير عني الفرنسويون بحفظه، فأقاموا حوله سياجا من قضبان الحديد، وهو يشبه باب جامع السلطان حسن في مصر. وفي هذه الجهة تربة سيدي محمد السنوسي ، فإنه توفي هنا سنة 859 هجرية/1489 مسيحية. وقد دهنوا القسم الواطئ من القبة بالجير الأبيض، والقسم الأعلى مدهون بالأخضر، وفي داخل القبة طبول وأعلام خضراء وحمراء عليها آيات وعبارات دينية. وبينا أنا راجع من طريق غير الذي جئت به رأيت حيا جميل الشوارع كثير الحدائق والأغراس، والناس فيه من الأوروبيين، فعلمت أنهم نحو 100 عائلة من الفرنسويين نزحوا من بلاد الألزاس حين استولت ألمانيا عليها بعد حرب 1870، وقد أعطتهم الحكومة هذه الأرض فزرعوها وعمروها، وهم يستخرجون الخمر من كرومها ويبيعونه لمعامل بوردو. وقد بقيت سائرا في العربة حتى دخلت حرجة دعيت باسم غاب بولون المشهور في باريس، فيها شجر الصنوبر مرت عليه القرون حتى علت فروعها وتشبكت أغصانها، فأصبحت قوسا يسير من تحته المتنزهون إما في العربات أو الدراجات أو على الخيل، وأكثرهم من الضباط الفرنسويين يمتطون الجياد العربية الكريمة، وقد اعتنوا بأمر الحدائق في هذه الجهة وجاءوا ببذور الأثمار من فرنسا، مثل الخوخ والكمثرى وغيرهما، فنمت في أرض الجزائر نموا عظيما.
أبو مدوين:
يقول لها الأهالي بومدوين، وهي مدينة تستحق الذكر في الضواحي، بلغتها بالعربة بعد مسير نصف ساعة، فإذا بها بنيت على أكمة، وطليت كل بيوتها بالجير الأبيض، ومن حولها صفوف الرمان والزيتون والعناب والتين، فمنظرها عن بعد جميل شهي. وقد سميت المدينة باسم سيدي أبو مدوين، وهو عالم ولد في إشبيلية من مدن الأندلس سنة 520 هجرية/1126، وتلقى دروسه في مدرستها الكبرى، ثم جعل يلقي الخطب فيها وفي قرطبة حتى انتقل إلى فاس عاصمة مراكش، فلما علم به المنصور سلطان تلمسان وسمع بكراماته، أرسل يدعوه إليه فلبى الدعوة، ولكنه توفي في الطريق، ودفن في هذه الجهة فسميت باسمه، وبني له فيها ضريح قامت المدينة من حوله.
ولما قام السلطان محمد الناصر خليفة المنصور بنى له جامعا عظيما حوى شيئا كثيرا من دقائق الصناعة العربية، وهو الآن من مشاهد الشرق المعدودة يأذنون بالدخول إليه مرتين في الأسبوع لغير المسلمين، ولا بد من أمر خصوصي في بقية الأيام من ضابط فرنسوي قابلته حين كنت هنالك واستأذنته في دخول الجامع، فأمر كاتبه أن يحرر لي الإذن، والكاتب مغربي متعمم يلبس المركوب الأحمر والجبة، ويعرف لغة الفرنسيس، فكتب لي الأمر بالعربية، وسرت به حتى إذا ناولته لشيخ الجامع وعرف أني قادم من مصر، وهي طريق الحجاز تنهد وقال لي إن أمنيته الكبرى أن يتمكن من أداء فريضة الحج قبل وفاته. وحدقت بباب هذا الجامع قبل أن أدخله فإذا هو من الأبنوس مصفح بصفائح من النحاس المذهب، وعليها كتابات دينية، وله حلقات ومطرقة من هذا النحاس المذهب أيضا، فذكرني ذلك بكنيسة مار مرقص في فنسيا وبابها.
وقد قام هذا الجامع على أربعة قناطر في طوله، وأربعة في العرض، وللقناطر عمد مستدقة من الرخام ملئت بالنقوش الدقيقة البديعة كأنها شغل الإبرة أو حفر أهل الصين على العاج، وكل عمود تختلف نقوشه عما في العمود الآخر، وجدران الجامع منقوشة على هذا الشكل أيضا، ذكرتني بنقوش السراي الحمراء في غرناطة وذكرها مشهور. والسقف عروق من خشب الأبنوس ممتدة من قنطرة إلى قنطرة تحكي سقف ديوان الأوقاف في مصر، والمحراب قائم على عمودين مستدقين من الرخام، وقد نال هذا الجامع شهرة عظيمة في أوروبا حتى إنهم يرسلون إليه الوفود حينا بعد حين لتنقل رسومه العربية دليل اعتبارهم لصناعة العرب، وقد رأيت فيه أميركيا يفعل ذلك، وعلمت أنه جاء من قبل متحف نيويورك لينقل رسوم هذا الجامع إلى ذلك المتحف النفيس.
وأما ضريح سيدي أبي مدوين فإنه إلى جانب الجامع، نزلت إليه بعض درجات فإذا الأرض مبلطة بالرخام الأبيض، والقبر مغطى بالحرير الأحمر المزركش بالذهب، وحوله حاجز من نوع المشربية، وفوقه سراج لا يطفأ نوره في الليل أو في النهار، وأعلام مختلفة الألوان، كتبت عليها الآيات الدينية. ولا يخلو هذا الضريح من الزائرين والذين يقدمون النذور من رجال هذه الجهة ونسائها، وبعضهم يعود ومعه شيء من ماء البئر المجاورة للضريح على زعم أنها تشفي من السقام. ورأيت هنالك نساء تصلي وقد التفت كل منهن بحرام ومنظرهن غريب، فما هن إلا أحرمة تتحرك، وعلمت من شيخ الجامع أن الصلاة فيه جائزة للعجائز، وأما الفتيات فإنهن يصلين في البيوت. وللجامع أوقاف كثيرة كانت مهملة قليلة الريع، فلما جاء الفرنسويون تولوا إدارة هذه الأوقاف وأجروها للأهالي، وجعلوا ينفقون على خدمة الجامع ومدرسته من إيراد المجلس البلدي.
الشلال:
ومن متنزهات تلمسان الشلال، يبعد نحو نصف ساعة أيضا بالعربة، وقد رأيت الماء فيه يخرج من صخور مرتفعة حمراء، وينصب في بحيرة يجري بعد ذلك منها ويروي الأراضي. وفي هذا المكان كثير من الحانات والملاهي، بعضها للأهالي والبعض للأوروبيين. ورأيت أولادا من المغاربة واقفين على هذه المرتفعات حيث ينحدر الماء، وهم ينتظرون إشارة الناس بالسقوط إلى البحيرة طلبا للبخشيش، وكنت أظن ذلك محالا بالنظر إلى علو المكان عن الماء، ولكنني ما لبثت أن رأيتهم يفعلون ذلك ويهوون أرجلهم إلى الأسفل ثم يسحبون إلى البر. وبعض المغاربة هنا يلبسون نوعا من القبعات الكبيرة من القش فوق ملابسهم المغربية، ويقولون إنها مظلة للوقاية من الشمس والحر بدل المظلات الإفرنجية.
مراكش
لا بد لي من الإشارة في خلال هذا الفصل إلى سلطنة مراكش أو المغرب الأقصى، وقد تقدم لي القول إن مدينة تلمسان التي كنت في شأنها واقعة على الحدود بين الجزائر ومراكش، وليس بين القطرين اتصال بسكك الحديد ولكنهم عندهم عربات ثقيلة تجرها الخيل والسفر فيها عسير، هذا غير أن المواضع التي يمكن الوصول إليها من الجزائر قليلة، وهي خالية من الفنادق للمسافرين، والأمن فيها غير مضمون حتى إن القوم يسلبون القادمين إلى بلادهم من الجزائر في كثير من الأحيان، فتتأثرهم الجنود الفرنسوية إلى ما وراء الحدود، وتقبض عليهم في أرض مراكش وتعيدهم بما سلبوا إلى تلمسان للمحاكمة فيها. وقد ذهبت إلى مدينة وجدة من مدن مراكش، وهي التي حدثت فيها معركة مدة حرب الفرنسويين مع الأمير عبد القادر الجزائري، فإن أهل مراكش قصدوا نجدة الجزائريين فلاقاهم الجنرال بوجو وحاربهم عند وجدة فكسرهم شر كسرة. وقد سارت بنا العربة إلى وجدة في سهل كثر عثيره واتسع نطاقه، يلزم لاجتيازه أيام وأسابيع، وأرضه حمراء تزرع قمحا وشعيرا وتروى من الأمطار، وبصرت من بعيد بمرتفعات لم أعلم ما هي، فقيل لي إنها سرب من الجمال تعد بالألوف، وقد عودوها أن ترعى في تلك المرابع بلا راع، ثم تعود إلى القرى من نفسها في آخر النهار. وغاية ما يقال في وجدة إنها صغيرة حقيرة، وإن حالتها مثل حالة كل المدن المراكشية، فمنازلها واطئة ليس لها إلا دور واحد، وطرقها ضيقة قذرة، ولسان أهلها عربي مراكشي لا يفهمه العربي من الأقطار الأخرى، وهم يلتفون بجلابيب الصوف فوق قمصان وملابس من القطن، وحالتهم العمومية تدل على الانحطاط. ولما رأيت أن التوغل في مراكش أكثر مما فعلت غير ممكن ، عدت إلى مدينة تلمسان عملا بنصيحة صاحب الفندق.
وعلمت بعرس في تلمسان عند رجوعي، فذهبت إليه مع ترجمان الفندق؛ لأرى عوائد القوم في الأفراح، فرأيت أن العريس ذهب إلى الحمام واستأجره في ذلك اليوم له ولأصحابه، لا يدخله سواهم، ثم سار من الحمام إلى الجامع، حيث كان المدعوون - واسمهم في الجزائر المعرسين - فسرت في الموكب، وكان في أولها المشاعل، ومن ورائها ستة يزمرون بالمزمار ورجل ينقر على الطبل، وأنغامهم شجية تروق للآذان. ويلي الموسيقى الشمعدان، وهو عصا ثخينة يحملها اثنان من طرفيها، ولها ثقوب تقرب من الأربعين عدا، وفي كل منها شمعة، ووراء الشمعدان العريس على فرس مسرج بسرج مقصب، وله شراريب من القصب، ولجامه من حرير مقصب أيضا، ويحيط بالعريس أقاربه وأصحابه، وراءهم جوقة موسيقى فيها قانون وعودان وكمنجة وقيثار، وهم يضربون عليها بلا غناء، وكانوا كلما بلغوا بيت أحد الوجهاء يعزفون نغما للرقص، فيبدأ حصان العريس بالرقص؛ أي إنه يرفع يديه ويقف على رجليه ويشير برأسه ذات اليمين وذات اليسار علامة السلام، ثم طأطأ رأسه إلى الأرض وقبلها علامة السلام. واستمر الموكب على هذه الحالة حتى بلغ بيت العريس، فترجل الرجل وسار إلى غرفته والأصحاب من حوله يلقون الهدايا بين يديه من نقود وأسلحة وأقمشة، وكنت أنا في جملتهم، وكانت الموسيقى في أثناء ذلك تصدح في صحن الدار أدوارا وموشحات يلذ سمعها، وكان مقدم الموسيقيين يهوديا يضرب على الكمنجة والبقية من المسلمين، وكانوا يقدمون الشاي والدخان والقهوة للحاضرين، وقد سرني أمر لحظته في أثناء الغناء، وتمنيت لو يقتدي المصريون بأهل الجزائر في هذا الأمر، هو أن القوم لا يضجون ولا يصيحون في ساعة الغناء، بل هم يسمعون منصتين متلذذين، وقد يقول أحدهم: «طيب الله عليكم» حين ينتهي الدور، وأحسن من ذلك أن الأولاد وصغار البنات كانوا في جملة السامعين، وهم يتحدثون بصوت خافت؛ حتى لا تعلو ضجتهم على السامعين، وهم يحلقون للأولاد شعر رأسهم، أو يتركون لهم خصلة في القمة يلبسون فوقها الطربوش المغربي، ومن دونه سترة قصيرة من نوع «الكبران»، وسراويل وحذاء أصفر. ولصغار القوم هنا نجابة وحسن وسيماء الوقار والإقدام، ولبعضهم عيون زرقاء، وليس في خلقتهم تشويه كالذي يكثر بين صغار المصريين. وأما البنات فإن محاسنهن تستلفت الأنظار، فلا تتعب العين من النظر إليهن، ولأجسامهن قوة واعتدال، ولا سيما في الأذرع والصدور، وهن يظهرن مكشوفات إلى سن السابعة في هذا السن، ويلبسن عزيزية على الرأس تختلف عن المستعمل من نوعها في تونس والجزائر، وتشبه الهرم في شكلها؛ لأنها واسعة من أسفلها، وعلوها نحو ربع متر، وهم يزركشونها بالقصب والبرق الصغير لتلمع وتبرق. وجلباب النساء هنا أحمر في أكثر الأحيان من الشيت أو الحرير، والحذاء أحمر مزركش، أما النساء فكن مصطفات فوق السطح، واحدة لصق الأخرى، وهن ملتفات بالبرانس من الرأس إلى القدم، فلا تظهر إلا عين واحدة لكل منهن حتى ترى بها ما يرى الآخرون.
من تلمسان إلى عاصمة الجزائر:
ركبت القطار من تلمسان إلى عاصمة الجزائر والمسافة بينهما 16 ساعة، وكان القطار يخترق سهولا فسيحة، فيها كروم العنب، بعضه للشمبانيا والبعض للبوردو من أشكال الخمر. وفيها القمح والشعير والعدس والحمص، ومن الشجر التين والزيتون والعناب. ويخرج الماء في بعض المواضع من ينابيع قامت على مجاريها أشجار الحور والصفصاف، وتكثر الأضرحة للأولياء في الطريق وكلها مطلية بالجير الأبيض. ويجري أولاد المغاربة وراء القطار في مسيره جري الغزلان، وهم حفاة تحت نار الشمس الكاوية وعلى رءوسهم الطرابيش المغربية. وهنالك مزارع لأناس من الفرنسويين أو للأهالي، وكل هذه الأراضي تشبه برية الشام التي تزرع قمحا وشعيرا وتروى بماء المطر، وتشبه أرض الصعيد في مصر أيضا؛ لأنها سهل منبسط يكتنفه جبلان من هنا ومن هنا، والجبال قاحلة جرداء، ووقف القطار في محطات كثيرة العدد حتى إذا كان الظهر دعي الركاب للغداء في القطار، فقدموا لنا طير الحجل مقليا ومشويا، وهو كثير في هذه البلاد، ومن الفواكه البطيخ والقاوون وكلاهما طعمه لذيذ. وأكبر المدن التي وقف فيها القطار أورليان فيل ومليانة، وقد حدث في أثناء المسير وقطارنا يجتاز تلك السهول والحزون أن أحد المسافرين صاح بالآخرين أن انظروا نهر الرون، وهو اسم نهر مشهور في فرنسا فحدقنا، وإذا بنا نرى نهرا ماؤه يجري مع أنه ليس في تلك الجهات أنهر، فعلمنا أنه السراب، وتأملته بالعين والمنظار معجبا لهذا المشهد البديع الذي يعسر الفرق بينه وبين الصحيح. ووقف القطار أول المساء في مدينة البليدا، وهي على مسيرة ساعة واحدة من عاصمة الجزائر، ثم في محطات أخرى حتى بلغ تلك العاصمة، وقد جن الليل وخيم الظلام.
الجير أو عاصمة الجزاير
فيها الآن من السكان حوالي 110 آلاف، منهم 44 ألفا من الفرنسويين، و36 ألفا من المسلمين، و92 ألفا من اليهود، و10 آلاف من أجناس أخرى يغلب بينها العنصر الطلياني، بني قسم منها على شاطئ البحر، وقسم على هضبة تعلو 400 متر تقريبا عن سطح الماء. وأبنيتها قائمة من ضفة الماء إلى قمة تلك الهضبة صفوفا متوالية في الارتفاع، فهم يبلغون الأحياء العليا منها على درج أو بطرق ملتفة طويلة، والقادم إلى المدينة من البحر يراها بأكملها أمامه بكنائسها وجوامعها وحدائقها وطرقها ومنازلها واحدا واحدا، فمنظرها جميل في النهار وفي الليل حين تسطع الأنوار من هذه المباني المتدرجة على أبهى الأشكال. وأول الشوارع المهمة شارع الجمهورية، يبدأ عند ضفة البحر وتجري فيه العربات والترامواي من جميع الأنواع. والقادم إلى هذه المدينة ينزل في الجمرك الكائن على الشاطئ، ويسير في شارع فسيح فوق الضفة حوالي 10 دقائق، ثم يدور في الطرق الملتفة حتى يبلغ مركز العاصمة هذا إذا كان راكبا. وأما المشاة فإنهم يرتقون سلما درجاته نحو مائة، فإذا هم في قلب المدينة على أهون سبيل.
أما وصف هذه المدينة فسأتبع فيه الطريقة التي جريت عليها في وصف مدينة باريس؛ أي إني أبدأ بالطرق المهمة واحدا واحدا، فأصف كلا منها إلى آخره بدل أن أتنقل تنقل الدليل الفرنسوي لهذه العاصمة وغيرها من موضع إلى موضع، ومن حي إلى حي حتى يحار القارئ في معرفة موضعه وكيفية الانتقال. وقد بدأت هنا بشارع الجمهورية، وهو الشارع الأول الممتد من البحر إلى آخر المدينة، كان اسمه شارع الإمبراطورة؛ لأن الإمبراطورة أوجيني وضعت أساسه على نسق شارع ريفولي في باريس سنة 1860، في رأسه ميدان يدعى ميدان الحكومة، وهو مستدير الشكل قامت فيه أحسن الفنادق والحوانيت، وفي وسطه تمثال الدوك دورليان نقش على قاعدته أنه تذكار من الجزائر والجيش سنة 1842. والشارع يمتد على طول المدينة فوق البحر، وقد تركوا جانب البحر منه بلا بناء حتى لا يحجب منظره وجعلوا الجانب الآخر صفا من الأبنية القائمة على قناطر تحتها أحسن الحوانيت والمطاعم والحانات، وفوقها منازل الأكابر والقناصل والشركات وبنك الجزائر. ويمر في وسط هذا الشارع خط للترامواي إلى أطراف المدينة، وهو متنزه العامة في ساعات العصر والغروب يتمشون فيه فوق ضفة الماء إلى موضع يقال له السكوير - وهو لفظ إنكليزي معناه الميدان - غرست فيه أشجار الزيتون والنخل، وعلى مقربة منه التياترو الكبير.
ويلي هذا الشارع لجهة الجبل شارع باب الويد، وهو ينتهي إلى شارع باب عزون، وكلاهما يخترقان قلب البلد، بني من القناطر إلى الجانبين، وقد رصت أرصفة الشارعين تحت القناطر بالسمنت الناعم، مثل أرصفة الإسكندرية. ودارت في الحوانيت حركة تجارية مهمة، حيث تباع الأبضعة الباريزية من جميع الأشكال. ويلي ذلك الشارع الثالث، يمتد إلى جهة الجبل واسمه لالير، فيه تجار البضائع الوطنية، وقد بنيت القناطر إلى جانبيه للوقاية من الحر والمطر، وهو يبتدئ من ميدان ملاكوف حيث قام قصر الحاكم العام الشتوي، وأصله دار حسن باشا، والأسقفية، وأصلها دار بنت الباشا، والمكتبة العمومية وأصلها دار مصطفى باشا. وقد بنوا في هذا الميدان كنيسة سنة 1890، جعلوها على الطراز المغربي، لها قبتان للأجراس كأنهما المآذن، والجدران لها خط أحمر وخط أبيض. ويليه شارع أسلي دعي بهذا الاسم تخليدا لذكر انتصار الجنرال بوجو على المغاربة في جهة نهر أسلي على مقربة من مدينة وجدة، وسمي القائد بعد ذلك الدرك أسلي. ويلي هذا الشارع لجهة الجبل أيضا حي اسمه مصطفى العالي، بني على سطح الجبل، وفيه منازل الأغنياء تشرف على المدينة والبحر، وهو أحسن أحياء هذه المدينة، وقد جعلوا شوارعه ملتفة متعوجة، مثل كل المواضع المرتفعة، وفيها قسم للترامواي وقسم للمشاة وقسم للعربات.
وقد ركبت عربة من ميدان الحكومة الذي سبق ذكره وجئت هذا الحي العالي حتى بلغت قصر الباردو، وهو القصر الصيفي السابق لولاة الجزائر، ويقيم الآن فيه الحاكم العام الفرنسوي رأيت عند بابه تماثيل الحكام الفرنسويين، ودخلت مع خادم عادته أن يدور القصر مع المتفرجين الغرباء ليرشدهم، وسرت في حديقة واسعة أكثر شجرها مما ينمو في البلاد الحارة، كالنخل وقصب الغاب والنارنج والبهار البري، ورأيت أن الدور الأول كله على النسق الشرقي، فيه الأروقة القائمة على عمد مستدقة، وأرضه مبلطة بالرخام الأبيض، والغرف تحت هذه القناطر متلاصقة صفوفا صفوفا، لا مدخل من إحداها إلى الأخرى، مثل بناء قصر شبرا، وتحت الأروقة أرائك من الحجر كانوا يضعون عليها المراتب والمخدات ليجلس الباي عليها أمام برك الماء.
وقد ارتقيت سلم الرخام إلى الدور الأعلى، فإذا بالجدران ملبسة بالقيشاني الأزرق، وعليها آيات دينية مكتوبة بالقيشاني الأبيض، فتأملت تلك الصناعة الدقيقة زمانا. وفي آخر السلم قاعة رحبة سقفها من عروق الأبنوس ممتدة وبارزة، وقد رصعت بالصدف والعاج على نسق قاعة ديوان الأوقاف في مصر، كما تقدم القول. ولهذه القاعة شبابيك كثيرة، إذا فتحت كلها غطت جميع الجدران، وكان لها مقعد عريض في دائرها يجلس فوقه البايات مربعين، فأبدل الآن بالكراسي والمقاعد الحديثة. وتلي هذه القاعة غرف أخرى تقيم فيها عائلة الحاكم العام في الصيف.
وخرجت إلى الحديقة فرأيت في طرفها من ناحية البحر كشكا قام على عشرة عمد من الرخام الأبيض، وهو مطل على البحر، وكل أجزاء المدينة، وقد كان هذا الكشك مثابة الباي في الزمان السابق، وعلى مقربة من القصر متحف جمعوا فيه آثارا قرطاجية ورومانية ورومية وإسبانية وعربية، أهمها الأسلحة ومعدات القتال القديمة وقطع رخامية من مدافن الرومان والعرب القديمة، منها مشهد كتب عليه باسم الله الرحمن الرحيم، وبأعلاه صورة عمامة، ومشهد آخر عليه عمامة مجدولة ولكنه طمست الكتابة التي كانت عليه.
وحي مصطفى العالي هذا مجموع دور فخيمة ومنازل للأغنياء ، تحيط بها الحدائق الغناء وكلها تشرف على البحر والمدينة، وفيه فنادق عظيمة ينتابها كثير من السياح لقضاء فصل الشتاء، وأكثرهم من الإنكليز يفضلها بعضهم على مصر؛ لما أنها قريبة من أوروبا، فبعدها عن مرسيليا 26 ساعة فقط، وهواؤها يشبه هواء القطر المصري. وقد حدث أني حانت مني التفاتة بينا كنت في هذا الحي، فرأيت ملكة مدغسكر في عربة مع تابعاتها من النساء، وهي حبشية اللون - يعلم القراء أن فرنسا استولت على جزيرتها بعد حرب شديدة ونفتها إلى هذه العاصمة من الأملاك الفرنسوية، وقد أجروا عليها رزقا وعينوا لها قصرا تقيم فيه إلى آخر الأيام - ورجعت عن طريق غاب فيه أشجار الصنوبر، وقد أطلقوا عليه اسم غاب بولون كالذي في ضواحي باريس.
وذهبت يوم الأحد بعد الظهر إلى حديقة عمومية في أطراف المدينة أصل اسمها الحما، ولكن الفرنسويين يسمونها حديقة ديسيه (أي التجربة والاختبار في غرس الأشجار)، وهي تبعد نصف ساعة بالعربة، وشكلها غريب؛ فإني سرت في أول الأمر مع السائرين في طريق مستطيل زرع إلى جانبيه قصب الغاب الفارسي، وطريق آخر مستطيل فيه شجر النخل المعروف في مصر باسم الدوم، يتفرع من ساق النخلة نحو خمس نخلات، وآخر فيه شجر النارنج والبرتقال، ثم طريق الجوز واللوز والدفل والمانيلا تتضوع منها رائحة تملأ الحديقة ، وقد نمت شجيرات الورد الأبيض، حتى إن بعضها بلغ قمة أشجار الحور متعرشا عليها، ورأيت دالية تعرشت أيضا حتى بلغت أعلى شجرة حور وتدلت عناقيد العنب منها، وفيها أيضا شجرة من التين الهندي كالتي في حديقة الأزبكية بمصر، وهي تتدلى أغصانها، فإذا اتصلت بالأرض تمت أشجارا جديدة متصلة بالشجرة الأصلية، ولو تركوها على حالها لغطت كل أرض الحديقة.
وتجاه هذه الحديقة حمامات بحرية يؤمها خلق كثير، فلا أسهب في وصفها هنا؛ لأني ذكرت أمثالها مرارا في فصول هذا الكتاب، ومن مشاهد الضواحي كنيسة نوتردام الأفريقية، بنيت على قمة جبل في شمال المدينة، ذهبت إليها بالعربة مسيرة نصف ساعة تقريبا، فمررت بحي سان أوجين أمام البحر، حيث أقيمت المنازل البهية، وكانوا يومئذ يبنون كثيرا منها؛ ليجعلوا هذا الشارع على مثال شارع الكورنيش بمرسيليا، ولما بلغنا أسفل الجبل تسلقناه إلى الجهة العليا، فإذا بمدينة الجزائر ظاهرة أمامنا بجميع الأجزاء ومنظرها من هنا جميل، ولما دخلت الكنيسة رأيت جدرانها مغطاة بأسماء أصحاب النذور، وهم يدفعون رسما على كتابة الأسماء، وقد ملئت بها الجدران، فكتبوا بقية الأسماء في أرض الكنيسة، وقد علقوا في تلك الجدران أدوات مصنوعة على شكل القلب أو العين أو اليد إشارة إلى الأمراض التي اعترت تلك الأعضاء، ونذروا النذور لشفائها. والكنيسة جميلة بنيت سنة 1872، وفي هيكلها صورة العذراء من الجبس الأسود؛ إشارة إلى سواد الإفريقيين، وعلى رأسها تاج مذهب فوقه صليب ويداها مبسوطتان إلى الأمام؛ لنجدة المستغيثين فهم يسمونها المنجدة. وفي الهيكل أيضا سيوف الأمير عبد القادر والجنرال بوجو أغمدت في القبض دليل السلام. والشموع أبدا موقدة هنا من المصلين وأكثرهم نساء فرنسويات، وخارج الكنيسة قبور الأساقفة أكثرها من الرخام.
وعدت إلى ميدان الحكومة فدخلت جامعا بالقرب منه، بناه الأتراك للمذهب الحنفي سنة 1070 هجرية/1660، وله قبة كبرى تحيط بها أربع قبات صغيرة على شكل جوامع الآستانة. والجامع كبير دهن بالجير الأبيض من داخله وخارجه، ما خلا المنبر فإنه من الرخام الأبيض، وقد رأيت لطفا من خدمة هذا الجامع وقابلت فيه السيد محمد بو غندورة مفتي الجزائر، فذكر لي المرحوم الشيخ محمد عبده وأثنى عليه، وأراني المصحف القديم المكتوب بخط اليد، وهو وقف هذا الجامع من حسن باشا، كتب سطر منه بالحبر الأسود وسطر بماء الذهب، ولولا أن الواقف اشترط ألا يخرج هذا المصحف من الجامع لأرسله سيادة المفتي إلى باريس ليرسم وتطبع نسخ كثيرة مثله. ولهم هنا طريقة الكنائس في جميع الصدقات من الزائرين والمصلين؛ لأنهم وضعوا صندوقا صغيرا على مقربة من الباب يضع فيه الناس ما شاءوا من النقود.
وعلى مقربة من الجامع الذي تقدم ذكره جامع آخر اسمه الجامع الكبير للمذهب المالكي، هو أقدم جوامع الجزائر، وقد بني قسم منه على 14 قنطرة قائمة على عمد من الرخام. ثم تركت الجوامع وتوجهت إلى حي المغاربة، وهو قديم الشكل لم يتغير بمرور السنين، يشبه بعض أحياء مصر الوطنية التي لم يطرأ عليها تغيير، وبعض شوارعه ضيقة حتى إن ترجمان الفندق كان يسير أمامي وأنا من ورائه، وأكثر بيوته من دور واحد لها من نوع المشربية والطرق، مبلطة بالحصى المتناثرة يعسر المسير عليها، وبعضها بنيت فوق أقبية فظلامها دامس وهواؤها غير طلق؛ ولهذا خرج أصحاب اليسار من المغاربة إلى الأحياء الأخرى، وبقيت الألوف الكثيرة على هذه الحالة، وعلى مقربة من هذا الحي أثر القلعة القديمة، واسمها عندهم القصبة، لم يبق الفرنسويون منها غير الغرفة التي حدثت فيها حادثة حسين باشا مع قنصل فرنسا، وقد تقدم ذكرها في مقدمة هذا الفصل.
البليدا:
هي مدينة جميلة طالما قرأت عنها وسمعت، ومع أنها واقعة في الطريق بين تلمسان والعاصمة فإني لم أعرج عليها من قبل، ولكنني رجعت إليها من مدينة الجزائر، وهي متنزه سكان العاصمة يذهبون إليها مسيرة ساعة تقريبا بسكة الحديد، ويعودون في آخر النهار، وقد سار بي القطار بين صفين من شجر الكينا في طول الطريق، وهذا الشجر كثير في الأراضي المنخفضة والمستنقعات؛ لأنه يحسن الهواء ويمنع انتشار الحميات. ولما بلغت هذه البلدة حسبت أني في أوروبا وليس في مدينة أفريقية؛ لأن الطرق نظيفة وعريضة يرشونها بالماء مرتين كل يوم، وفيها صفوف من شجر البرتقال، ولها ميدان اسمه ميدان السلاح غرست به أشجار البرتقال، والموسيقى تصدح فيه مرتين كل أسبوع، فيأتيها الناس أفواجا ولا سيما الضباط العسكريون، وهم لا تخلو منهم نقطة مهمة في هذه البلاد، عدد سكانها الآن حوالي 30 ألف نفس، وهي مبنية على رابية، ولها سور حولها مثل كل مدن الجزائر الداخلية، ولهذا السور أربعة أبواب. والمدينة تشرف على وادي متيحة بسبب ارتفاعها، فالواقف فيها يرى عدة مناظر جميلة في ذلك الوادي الطويل لا يبلغ النظر آخره، ويرويه نهر اسمه واد الكبير غير الينابيع التي تتدفق مياهها فيه، حتى إنهم أنشئوا حدائق للبرتقال كبيرة واسعة تشبه الحرجات العظيمة ، فلا تقل أشجارها عن مائة ألف، يصدرون منها نحو 5 ملايين برتقالة كل سنة إلى فرنسا وغيرها، وقد كان المهاجرون المسلمون من الأندلس هم الذين أدخلوا زراعة البرتقال إلى الجزائر، وكذلك زراعة الدخان، وهم يصدرون منه نحو مليون أقة كل سنة، وورقه يشبه ورق الدخان المصري أو الكوباني. ويحدق بهذا الوادي جبال بني صالح تعلو 1000 متر إلى 1200، وقد التقيت في فندق هذه المدينة ببعض من سياح الإنكليز معهم الخيام والسروج للنساء والرجال والتراجمة، ورأيتهم ينوون الذهاب إلى وادي شيلفا الوعر؛ ليتفرجوا فيه على القرود بحالتها الطبيعية، ويجوز للسائحين أن يقبضوا على صغار القردة إذا أمكن، ولكنهم لا يجوز لهم أن يقتلوا منها، وذلك حسب قرار المجلس البلدي، فذهبت مع هؤلاء السياح إلى الوادي المذكور، وكنا نمر تارة بين الصخور وطورا بين الأشجار البرية الغضة حتى بلغنا مكان القرود، فجعل الترجمان يرمي لها قطع الخبر والسكر، فظهر بعضها ما بين كبير وصغير تختطف الذي يلقى إليها ثم تختفي بين الأشجار فرارا وخوفا. وبعد أن سرنا نحو ساعتين عدنا للاستراحة في كوخ بني فوق عين اسمها عين السعادين، ومنها تقدم رفاقي إلى جبل بني عامر؛ ليقيموا فيه أسابيع وسط تلك المناظر الطبيعية، أما أنا فرجعت إلى البليدا ومنها إلى العاصمة.
علمت بعد وصولي في المساء أن الموسيو ماكس رجي رئيس المجلس البلدي المشهور بعدائه لليهود، سيلقي خطابا في التياترو الكبير؛ ليعلن للناس نتائج سفره الأخير إلى باريس. ولهذا الزعيم أنصار من النصارى والمسلمين يكرهون اليهود مثله، ويزعمون أن ثروة البلاد أصبحت في أيديهم بالطرق المالية التي ألفوها، فذهبت إلى هذا التياترو ووجدت الناس حوله مئات وألوفا، غير الذين تحصلوا على التذاكر ودخلوا قاعة الخطابة، فلما انتهى الرجل من خطابه داخلا جعل الواقفون خارج الباب يصيحون لتعش فرنسا وليسقط اليهود. والظاهر أن كره البعض لليهود بالغ هنا، حتى إني رأيت حانوتا في شارع باب عزون كتب على لوحه من الخارج أنه لا يخص اليهود ولا يعاملهم، وهو للمجوهرات وأدوات الذهب والفضة. ويقال على الجملة إن اليهود في قطر الجزائر يمتازون عن بني ملتهم في أوروبا، فهم أشداء، ولهم جمال عظيم، وقد عرفوا بالصلف والخيلاء، فلا يخالطون النصارى والمسلمين إلا قليلا، ويوم السبت في هذه المدينة مثل الأحد في غيرها، تقفل فيه الحوانيت والمحلات التجارية، وتظهر عليها هيئة البطالة. وقد زرت حي اليهود في اليوم التالي، وكان يوم عيد، فوجدت بعضا منهم يصلون في العيد، ورأيت أنه يختلف عن بقية معابد اليهود؛ لأنه رسم على جدرانه موسى الكليم وبيده لوح الشريعة، كتب عليه وصايا الله العشر الواردة في التوراة.
ولما عدت إلى ميدان الحكومة كان البريد قد وصل ووزع، فرأيت الناس يقبلون على مواضع بيع الصحف الباريزية ويتخاطفونها متلهفين لقراءة الأخبار، ويندر بين الأهالي من له عمل أو تجارة ولا يعرف الفرنسوية، وبعضهم يتكلمها بطلاقة توجب الإعجاب. وأما لغتهم العربية فالبعد بينها وبين عربية مصر والشام باعد، يدل على ذلك أني تعرفت بتاجر هنا أعطاني كتاب توصية بي إلى صديق له في قسنطينة، فلما تلاه علي لم أفهم منه شيئا، وحاولت قراءته فما قدرت؛ لأن حروفهم من النوع الكوفي المعلق وهو غير مألوف في هذه الديار. وملابس المغاربة هنا متنوعة، فأهل الطبقة الأولى يرتدون الملابس الإفرنجية والطربوش المغربي المعروف بزره الطويل يبلغ الكتفين، وبعضهم يلبس السراويل والدامر أو القفطان والعمامة، وأصحاب اليسار منهم يلبسون البرنس الأزرق من الحرير، وأما بقيتهم فالبرنس الأبيض، وهم يتأثرون من كل شيء لا يوافق مشربهم وذوقهم. أما النساء فلباسهن مستغرب يرتدين سراويلات بعضها فوق بعض من القماش الأبيض، ومن فوقها ملاية أو حرام تلتف المرأة به لفا، فكأنما هي برميل لا قوام لها ولا هندام، وهن يضعن البراقع البيضاء على الوجوه، ويندر أن تخرج إحداهن إلى الطريق، وكانت مدة إقامتي في هذه العاصمة عشرة أيام، يكفي نصفها للذي يطالع الكتب عنها قبل وصوله، ثم يدور للفرجة كما فعلت، وبرحتها بعد هذه المدة إلى مدينة في داخلية البلاد، اسمها قسنطينة، تبعد 15 ساعة بسكة الحديد.
من عاصمة الجزائر إلى قسنطينة:
مر بنا القطار في مناظر متنوعة، فكان تارة يخترق السهول والبطاح، وطورا يمر بالهضبات والحزون، ومعظم الأراضي زرعت فيها كروم العنب والقمح والشعير والحمص والعدس، والجبال قائمة إلى جانبي هذه السهول الحسناء، وأهم ما فيها مزارع الزيتون، وهي حرجات بعيدة الأطراف قد تكون بلا مثيل في الأرض؛ لأن مساحتها لا تقل عن 150 هكتارا - والهكتار كما لا يخفى عشرة آلاف متر - وهي تمتد من الساحل متدرجة إلى قمم الجبال وفي الأودية المتوسطة بين تلك الجبال، وأصل هذه الأشجار برية طعمت فصارت ذات إيراد كبير. ووقف القطار عند الظهر في محطة سيدي إبراهيم حيث تناولنا الغداء، وأتوا لنا بثلج طبيعي ينقله العرب من أعالي الجبال، ولما قام القطار دار الحديث على الأبواب المشهورة التي سنمر منها، ولها ذكر عظيم في أوروبا، حتى إن ملك إنكلترا الحالي لما أتى عاصمة الجزائر في شهر أبريل سنة 1905 ذهب إلى قسنطينة في قطار مخصوص؛ ليمر من هذه الأبواب، وهي عبارة عن صخور حمراء علوها 1008 أمتار، يخترقها واد هو طريق يمر فيه قطار الحديد، وطوله 40 كيلومترا، وقد ورد في التاريخ أن الرومانيين عجزوا عن المرور في هذه الأبواب أيام حربهم مع قبائل الفندال، وأن جنود الأتراك عبروا منها بعد أن دفعوا مبلغا إلى شيخ القبيلة، ولكن جنود فرنسا عبرت منها سنة 1839 تحت قيادة الدوك دورليان بعد أن قتل المغاربة عددا كبيرا منها. وقد دخل قطارنا هذا الوادي، وأنا أنظر إليه كالناظر إلى السماء فوقه، ثم خرجنا إلى الجهة الأخرى، ووقف القطار في محطة سطيف، وهي بلدة فيها 16000 ألف نفس، منهم 3000 فرنسويون، وقد تعشينا في هذه المحطة؛ لأن القطار وقف فيها نصف ساعة، ثم قام في جهة كلها أكام وهضبات، في وسطها طريق لا يزيد عن سعة العربات، وفي هذه الروابي شجر السنديان والبلوط والخروب، ثم سار القطار في سهل منبسط يحكي سهول القطر المصري، وتحده الجبال من هنا ومن هنا، وكان ينتقل من محطة إلى محطة حتى بلغ مدينة قسنطينة.
قسنطينة
اختلف كتاب العرب وأهل الجزائر في تسمية هذه المدينة، وذكرها ابن خلدون على مثل ما كتبناها هنا، وخالفه بعض الفرنجة وياقوت الشهير، فقالوا قسطنطينة، وهي مدينة جميلة أطلق الروم عليها هذا الاسم؛ لأنهم ملكوها في أيام إمبراطورهم قسطنطين، وقد بنيت على جبل صخري يطل على ما دونه من السهول المزروعة ومنظرها بديع. ولأهل هذه المدينة شهرة عظيمة في بلاد الجزائر؛ لأن أهلها دافعوا دفاع الأبطال عن مدينتهم حين حصرها الفرنسويون، وقد ذكرت ذلك في الخلاصة التاريخية، وعدد أهلها نحو 53 ألفا، منهم حوالي 28 ألفا من المسلمين، ونحو 18 ألفا من الفرنسويين، و5000 من اليهود والبقية من أجناس أخرى. وهي قاعدة إقليم يعرف باسمها، فيها جنرال فرنسوي وإدارات أميرية. وقد سرت في المدينة مع دليل الفندق، فرأيت أن المدينة لم تضع تقاليدها القديمة، ولم تنتقل تجارتها من يد الأهالي إلى يد الأجانب، وعندهم مناسج كثيرة للأقمشة الوطنية يعول أكثرهم عليها في اللباس، وقد حذقوا فن الدباغة واتسعت تجارة الجلود عندهم، وعندهم معاصر للزيت جاءوا بآلاتها من فرنسا، ولهم عملاء من أبناء أمتهم في مرسيليا ومنشستر؛ لبيع الصوف وإرسال الأبضعة المنسوجة. قصدت في أول الأمر قصر أحمد بك - وهو الحاكم الوطني الذي فر من وجه الفرنسويين كما ورد في المقدمة - فدخلته من زقاق ضيق وباب صغير، فإذا أنا في رحبة واسعة وحديقة كبيرة في وسطها، فيها الأشجار والأزهار كالورد والفل والياسمين، تتضوع منها الروائح الطيبة، وفيها بركة حولها الأغراس والأزهار، ويحيط بالحديقة رواق قام على عمد من الرخام، وتحت هذا الرواق قاعات وغرف، وفوقه الدور الثاني من البناء، وللقصر على الجملة منظر يشرح الصدر؛ لأن مساحته مع الحديقة 5600 متر مربع، وفي جدران القصر نقوش ليست بذات أهمية، قيل إن أسيرا نقشها على عهد البكوات فكوفئ بإخلاء سبيله، وهنالك المصطبة التي كان أحمد بك يجلس فوقها بعد أن تفرش بالبسط والمراتب، وأمامه الراقصات والمغنيات والعازفات بآلات الطرب على عادة أمراء العرب.
وعلى مقربة من القصر كنيسة كبرى أصلها جامع بناه أحمد بك المذكور بناء فخيما وله نقوش فخيمة، وقد قام هذا البناء على أربعة صفوف من الأعمدة الضخمة العظيمة، ربما كان أصلها من الهياكل الرومانية، ومثلها غير قليل في هياكل المصريين. وهنا المنبر والمحراب كلاهما من الرخام الأبيض، وفي الجدران آيات عربية، مثل «بسم الله الرحمن الرحيم. وبسم الله الحي»، فهم لم يغيروا شكل الجامع إلا قليلا حتى صيروه كنيسة وأضافوا الهيكل في الجهة الغربية، وأن الجوامع التي صارت كنائس في إسبانيا وغيرها، والكنائس التي صارت جوامع في الشرق كله كثيرة معروفة في كل مكان. وفي هذه المدينة عدة جوامع عظيمة، منها جامع صالح بك، بني سنة 1190 هجرية/1776، دخلته مع أحد المعارف المسلمين ورأيت جدرانه بعضها رخام أبيض، والبعض رخام أسود، ومنها أحمر سماقي وأبيض، والمحراب قطع من الرخام متعددة الألوان. ومنها الجامع الأخضر بناه حسن بك للمذهب الحنفي. والجامع الكبير وهو قديم جدا، يظهر أنه كان هيكلا للرومانيين؛ لأن فيه كتابات لاتينية إلى الآن، والجامع المذكور في دور أعلى صعدنا إليه فوق سلم، وهو نادر في شكل الجوامع، وقد كتبوا على أبوابه نقشا في الحجر عبارات، مثل:
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
و«علو الهمة من الإيمان»، وقد التقيت بجنازة للمسلمين ساعة خروجي من هذا الجامع، فإذا بالمغاربة ينادون بالشهادة بصوت عال، ويركضون ركضا وراء الميت بدل أن يسيروا الهوينا. ورأيت عرس القوم يسير أمامهم الطبل والمزمار، وعرسا لليهود ظهرت فيه النساء بكل وسائل الزخرف والبهرجة، مثل الطرطير والقصب والعزيزية الطويلة المقصبة على الرأس، وهن يكشفن السواعد والأذرع إلى حد الكتف حسب عادة هذه البلاد، وكانت العروس تحت ظلة مبرقعة الوجه.
وذهبت عند الغروب إلى حي المغاربة، فكنت أصعد وأنزل في أنحائه حسب شكل الأرض، ورأيت أن شوارعه ضيقة، ومنازله دور واحد تخطر فيها الجنود الوطنية لحفظ النظام، وتباع في دكاكينها المغربية «كوسكسو»، وهو الطعام الوطني عندهم.
نهر الرمل:
هو أهم الأنهار في قسنطينة، يتدفق ماؤه في الشتاء من المطر، ويدخل في البلد مسافة 3000 متر طولا بين صخور حمراء يبلغ ارتفاعها 500 متر، وهي قائمة كالجدار فوقه، وعرض مجراه 20 مترا فقط ، يعدونه من عجائب الكائنات، لما زار الملك إدورد السابع هذا القطر حضر إلى قسنطينة ليراه. وكان النزول إلى ضفته من أعلى هذه الصخور محالا، ولكن المجلس البلدي كلف أحد المهندسين فبنى ممرا من أعلى الصخور إلى ضفة الماء، وممرا آخر على طول المجرى مسافة 600 متر، وعرض هذا الممر نحو مترين، ورسم المسير في هذا الطريق فرنكان، ونزلت إليه مع الليل في سلم لولبية تحكي ما في المآذن حتى بلغته، وهو الخشب محكم الصنع، يسير المرء فيه والصخور فوقه ولها تأثير عجيب. وفي آخر هذا الطريق بركة من الماء الحديدي، رأيت بعض المغاربة يستحمون فيها حتى إذا انتهوا من الاستحمام تمددوا على حصر فوق مجرى الماء الخارج من بين الصخور، والتقيت هنا بأميركي جاء مع عروسه لقضاء شهر العسل، وأذكر أن السيدة ذكرت لي إعجابها بمناظر المغاربة، ولا سيما عيونهم السوداء وحواجبهم العريضة. وللنساء يومان من الأسبوع يأتين فيهما للاستحمام بهذه المياه الشافية، والظاهر أن هذا الحمام المعدني قديم؛ لأن في الصخور القريبة منه كتابات رومانية تدل أنهم كانوا يعرفون نفعه، وكتابات أخرى تدل أن الشهيدين يعقوب وماريوس قتلا في هذه المدينة أيام اضطهاد المسيحيين. وكان الرومانيون يعرفون هذا الإقليم باسم نوميديا، وكان أحد حكامهم المدعو سالوستوس يقيم في قسنطينة، وهو الذي بنى فيها القصور والهياكل تخربت بمرور الأعوام، وعني المجلس البلدي في هذه السنين بجمع آثارها، فعنده منها 500 قطعة وضعت في محل خارج المدينة يدخله المتفرجون برسم قليل. وضواحي هذه المدينة زاهرة زاهية لكثرة الماء فيها، يتفجر من عيون في الأرض، وقد أتوا لها بالأشجار المثمرة من فرنسا على أشكالها، فلها شهرة بالفواكه. ويحيط بالمدينة طريق عريض أنشأه الفرنسويون وغرسوا الأشجار إلى جانبيه، وكان المتنزهون في هذا الطريق يوم قصدناه بالعربة كثيرين، بعضهم على الخيل والبعض في العربات والدراجات، يمتعون الأنظار بمشاهدة الحقول والمزروعات المحدقة بالمدينة فيما يليها من الأودية والسهول. وقد اهتم المجلس البلدي بإنشاء متنزه على روابي علي، وهي من الضواحي التي سيكون لها شأن عظيم، وقد ذكرت في المقدمة ذكر المعارك التي جرت في هذه الآكام بين المغاربة والفرنسويين، وذهبت في اليوم التالي إلى ضاحية المنصورة، وقد ذكرتها أيضا في المقدمة، وهي طيبة التربة والهواء، رأيت بعض الفرنسويين يحرثون فيها ويفلحون، وفيها غاب من شجر الصنوبر جميل. وتوجهت بعد ذلك لرؤية القناطر التي بناها الإمبراطور جوستنيانوس البيزانتي، وهي تشبه القناطر التي بناها الملك الظاهر بيبرس في مصر في أواسط القرن السابع للهجرة والثالث عشر للميلاد المسيحي.
من قسنطينة إلى عنابة:
أقمت خمسة أيام في قسنطينة، ثم برحتها إلى عنابة، والمسافة بينهما بسكة الحديد 8 ساعات (وكان في نفس هذه الطريق ذهاب العساكر الفرنسوية لفتح قسنطينة كما ذكرت في المقدمة)، اجتازها القطار مخترقا عدة قرى ومشاهد، ووقف في محطة كالمة، وهي بلدة فيها نحو 7400 نفس، منها 1500 فرنسويون. وبدأنا نشعر بهواء البحر منها، وقد سار القطار بعد كالمة في كروم للعنب أرضها حمراء هي أحسن أراضي الجزائر، وطريقتهم في الكروم تختلف عن نظائرها في مصر والشام؛ فإنهم يقطعون رأس الأغراس كل سنة؛ حتى ينمو الساق ويتسع فتصبح كل دالية مثل الشجرة تتدلى منها العناقيد بيضاء وحمراء وسوداء، ثم وصل القطار محطة عنابة.
عنابة:
هي مدينة رومانية قديمة تعرف باسم بونا، ويكتبها الفرنسويون بون، ولكن العرب يسمونها عنابة؛ لكثرة ما فيها من شجر العناب، يبلغ سكانها الآن 34498 نفسا، منهم 12011 فرنسويون و8705 مسلمون و1311 يهود و12471 من الطليانية والإسبان والمالطية وسواهم. وموقعها جميل جدا على شاطئ البحر، ولها مينا مستدير بنته الحكومة الفرنسوية للبواخر، وهي لا تخلو المدينة من بعضها، تقوم من مرسيليا وتمر على المدن البحرية، مثل عاصمة الجزائر وجيجلي وبوجي وفيليب فيل وعنابة هذه، وبزرت وتونس لحد طرابلس، ثم تعود إلى مرسيليا. والبحر محيط بعنابة من ثلاث جهات، وشكلها منظم على الطريقة الفرنسوية، حتى إن الزائر ليظن نفسه في إحدى مدن فرنسا، من ذلك الميدان الأهلي، يمتد من تل في شمال البلد إلى رصيف المينا في الجنوب، يقرب من منشية الإسكندرية في طوله وعرضه، وقد غرست فيه أشجار الدلب أربعة صفوف، وأقيمت من حوله الأبنية العظيمة، مثل بناء المجلس البلدي، بني على أعمدة من الرخام الأسود اللماع، والتياترو يسع 800 شخص، وبنك الجزائر وشركات البواخر ومنازل الموسرين، وكل هذه الأبنية قائمة على قناطر تحتها الحوانيت والحانات والقهاوي. والحركة في هذا الميدان دائمة، ولكن الذين يخطرون فيه أبدا هم الفرنسويون من الرجال والنساء، فلا تسمع هنالك غير لغتهم، وتصدح الموسيقى العسكرية في هذا الميدان مرة في النهار ومرة في الليل، وفيه تمثال تييرس أول رؤساء الجمهورية الحالية، نصب في آخر الميدان من جهة الرصيف. والرصيف من المتنزهات الجميلة في هذا البلد، يختلف الناس إليه لاستنشاق هواء البحر وسماع الموسيقى في الليالي. ويتفرع من هذا الميدان عدة شوارع ممتدة من الشرق إلى الغرب، وكلها نظيفة زرعت في جوانبها الأشجار، ولكل منها اسم كبير من مشاهير فرنسا. وحي المغاربة هنا أنظف من كل أحياء المغاربة، يكنس ويرش بالماء كل يوم، ومنازله مبنية على النسق الأوروبي. دخلت المحكمة الشرعية في هذا الحي فرأيت القاضي بالملابس البيضاء والبرنس الحريري، وعلى صدره وسام لجيون دونور من حكومة فرنسا. وذهبت إلى المحكمة الأهلية أيضا، ورأيت بين أعضائها أفرادا من المغاربة درسوا الحقوق في فرنسا، ولها ترجمان مغربي ينقل أقوال الشهود والمتهمين بالفرنسوية للقضاة.
ولهذه المدينة ضواح جميلة، منها الكرنويل (الضفادع) واقعة على شاطئ البحر، وتتصل بها ضاحية أخرى اسمها الكورنيش على اسم متنزه في مرسيليا، وقد قمت في الأمنبوس وهو يذهب إلى هذه الضواحي من الميدان الأهلي كل نصف ساعة، ويسير إلى يمين البحر، وإلى الشمال المزارع والحدائق والهضبات البهية حتى يبلغ محل الضفادع، وفيه الحمامات للرجال والنساء والقهاوي والمطاعم، وكنت كثير التردد على هذا المتنزه أتفرج على البحر، وهو هنا على شكل جون، وفيه جزر من الصخور وجداول من الماء تصب في البحر بعد أن تمر في تلك الحدائق الحسناء.
ورافقني في هذا اليوم الموسيو ميرسينيه - وهو صاحب الفندق الذي كنت فيه وشقيق الموسير ميرسينيه التاجر في دمنهور، ووكيل قنصلاتو فرنسا فيها - فذهبنا إلى الضواحي الشرقية، وفي جملتها هيبو، وهي من المدن الرومانية القديمة، وقد ذكرتها في المقدمة. فحالما خرجنا من المدينة رأينا نهر بوجيمة، وهو يخرج من جبل أدوغ ويصب في البحر، وعليه قنطرة تمر فوقها العربات والناس، وله خزانات وأقنية من أعمال الرومانيين، والأرض هنا شديدة الخصب، ولكن الحر شديد مثله في كل ثغور أفريقيا الشمالية، فجميع العربات في هذا البلد من نوع اللاندو، لها نافذتان بقصد الوقاية من الحر. ووقفت بنا العربة عند بيت جميل لأحد الفرنسويين، له حديقة غناء، فاستقبلنا الرجل بالترحاب، وأرانا بعض الآثار الرومانية في حديقة كائنة في الحفر، فهو يقول إن مكانه كان معبدا قديما للرومانيين، وقد عرضت عليه إدارات المتاحف أن تشتري منه البيت والحديقة بأضعاف ثمنهما، والظاهر من التاريخ أن القديس أوغسطينوس كان مطران هذه المدينة، وهو توفي سنة 431، وأن الفندال هجموا في تلك السنة على دير للراهبات فأحرقته القديسة بارب بمن فيه تخلصا منهم. وقد بنيت كنيسة في هذه الجهة على أكمة بناها الكردينال لافجري المشهور (توفي سنة 1892) وجعلها لاسم القديس أوغسطينوس، فهي أجمل من كل كنائس اللاتين في القطر المصري، وبنى أيضا ديرا للراهبات باسم القديسة بارب ودارا للعجزة. وكل هذه الأبنية تحيط بها الحدائق الحسناء، وقد أنفق الكردينال عليها أموالا طائلة جمعها من الفرنسويين.
ويرى من الميدان الأهلي جبل أدوغ السابق ذكره، وقد ذكرت في المقدمة التاريخية أن ملك الفندال جلمر هرب من وجه القائد البيزانتي بلزاروس إلى هذا الجبل، وهو قائم إلى جهة الشرق علوه نحو 600 متر، وفيه حراج الصنوبر، فهو مصيف الأوروبيين من أهل المدينة، قصدته بالعربة فإذا هو مثل برمانا من قرى جبل لبنان، ويمكن الذهاب إليه من عنابة والرجوع إليها في نهار واحد.
من عنابة إلى تونس:
برحت هذه المدينة في القطار، وطريقه كالتي وصفتها من قبل، تكثر فيها غابات الزيتون، فوصلت بعد 4 ساعات محطة غار الماء، وفي اصطلاح الفرنسويين غارديما، وهي الحد الفاصل بين إمارة تونس وبلاد الجزائر، وفيها جمركان، أحدهما تابع لحكومة تونس والآخر لحكومة الجزائر، فدخلنا جمرك تونس حتى تفتش أمتعتنا فيه؛ لأننا كنا ذاهبين إليها، وأما القادمون من تونس إلى الجزائر فيذهبون للتفتيش في الجمرك الآخر. ثم قام القطار في أرض تونس، وهي منبسطة، غرس الفرنسويون في طرقها شجر الحور إلى جانبي خط القطار، فمنظر الطريق هنا جميل، وقد غرس أصحاب الأراضي حول أرضهم هذه الأشجار أيضا فزادت البلاد رونقا وجمالا. وبعد سفر ساعتين أو ما يقرب من ذلك بلغنا محطة تونس، فذهبنا منها توا إلى فندق جران أوتل في ميدان فرنسا.
السفر من تونس إلى طرابلس
لما بلغت هذا الفندق تعرفت بألماني من وكلاء البيوت التجارية كان ينوي الذهاب إلى طرابلس، فلما علم أني ذاهب إلى طرابلس ومنها إلى مالطة بعد أن أقيم في تونس زمانا، قال لي إن السفر من طرابلس إلى مالطة غير مضمون، وأما من تونس إلى مالطة فإن سير البواخر منتظم والمسافة قريبة، فعملت برأيه وذهبت معه في الغد إلى طرابلس على أن أعود منها إلى تونس، والمسافة بين الموضعين 543 ميلا أو 45 ساعة أو أقل حسب سير البواخر؛ لأن بعضها يقف في الجهات الواقعة بين المدينتين والبعض لا يقف، وقد وقفت باخرتنا في سوسة، وهي مدينة عدد سكانها 20 ألفا منهم 4000 أوروبي في جملتهم 1300 يهودي، هم أصحاب التجارة والصرافة. ولهذه المدينة تجارة غير قليلة ، أهمها تجارة الزيت والزيتون والجلد، وفيها حصون قديمة وقلعة أقامت فيها الحامية الفرنسوية.
قامت الباخرة بنا من سوسة إلى صفاقس، وهي بلد مهم عند الفرنسويين بعد بيزرت، عدد سكانها 34000 منهم 5000 أوروبيون، وقد قسمت قسمين، حي الإفرنج وحي العرب، وهو القسم الذي أطلقت عليه المدافع من بوارج فرنسا سنة 1881 واحتلته جنودها قبل غيره من بلاد تونس. وسارت الباخرة بعد ذلك إلى مدينة قابس في آخر حدود الولاية التونسية، بلغناها في الليل، وفي الصباح ظهرت لنا مدينة طرابلس والأهالي، يسمونها طارابلس، والكلمة يونانية (تريبولس)، ومعناها المدن الثلاث، مثل طرابلس الشام المدن الثلاث؛ أي أنفة وطرابلس والبترون، كلها كائنة إلى اليوم شمالي بيروت، وجاء في قاموس لاروس الفرنسوي أن المدن الثلاث المكونة لطرابلس الغرب في الزمان القديم كانت أيتا وسابراتا ولبتس. وقد دخلت هذه المدينة في حيازة الدولة العلية سنة 1714، وعدد سكانها نحو 40000 منهم حوالي 8000 يهود و4500 من أهل مالطة وإيطاليا. ولهذه المدينة تجارة مهمة؛ فإن القوافل تقوم فيها إلى داخلية السودان، وقد بنت الدولة فيها حصونا وضعت فيها حامية قوية ومدافع جديدة الطراز. وما كادت الباخرة ترسو حتى ازدحم فيها التراجمة وباعة الآثار القديمة، وهي كثيرة فيها؛ نظرا إلى ما تغلب عليها من الدول، وفيها إلى اليوم قوس نصر من الرخام بنيت على عهد القيصر ماركوس أوريليوس الروماني سنة 164 بعد المسيح. وقد سرت مع الدليل في أسواق المدينة، وهي لكل حرفة أو بضاعة سوق، ورأيت دار الوالي فيها مهيبة، ودور القناصل عظيمة أيضا. وأقمت يومين في طرابلس ثم عدت منها في هذا الطريق إلى تونس، وهو الطريق الذي جاء منه العرب وفتحوا الجزائر، كما فصلنا في فصل مر من فصول هذا الكتاب.
تونس
خلاصة تاريخية
إن القطر التونسي واقع في شمال أفريقيا، يحده من الشمال بحر الروم، ومن الشرق بحر الروم وطرابلس الغرب، ومن الجنوب الصحراء الكبرى ومن الغرب الجزائر. وتاريخه ممتزج بتاريخ الجزائر، وقد فصلناه من قبل، ولكننا تكملة للفائدة نورد هنا فذلكة موجزة من تاريخ تونس على عهد البايات، فنقول : «كانت الفتن والقلاقل دائمة في أبالة تونس، وكان الباي لا يعتم أن يتقلد منصبه حتى يعزل أو يقتل، ومن كان منهم ذا بطش يأمر بقتل كثيرين ليستتب له الأمر، فكانت البلاد في حالة من الفوضى حين تولاها حسين باي الذي تبتدئ الدولة الحسينية منه، وهي الدولة الحاكمة الآن.»
تولى حسين باي، وكان أبوه يوناني الأصل اعتنق الإسلام، وجعل الولاية إرثا في عائلته للأكبر سنا من أولاده، وقد حصل أن ابن أخيه علي نازع عمه الملك وحاربه وقتله وانتزع الولاية منه. وكانت مدة ولاية حسين من سنة 1705 إلى سنة 1740، قرأت في كتاب أن عليا قتل عمه بيده، فكان أبدا يراه في حلمه متألما متوجعا، ولم يهنأ بالولاية؛ لأن التونسيين ذاقوا طعم الراحة، والسير على أحكام القانون، فساءهم ما فعل علي بعمه حسين، وكانوا يودون أولاد المقتول، وهما محمد وعلي اللذان حاربا قاتل أبيهما ودخلا تونس بمساعدة الأهالي وقتلاه. وكانت مدة ولاية علي من سنة 1740 إلى سنة 1756، ثم نودي باسم أحدهما محمد باي لولاية تونس، وكان محمد هماما عالما، توفي بعد أن ولي الولاية من سنة 1756 إلى سنة 1759، وخلفه أخوه علي باي، فسار سيرا محمودا، وله مآثر يذكرونها إلى الآن، وكانت مدة ولايته من سنة 1759 إلى سنة 1782. وخلفه ابنه حمودة باي، وهو الذي حارب جمهورية البندقية، وكان لها الحول والطول في ذلك الزمان وحارب جيرانه الجزائريين، وكان معه على ما يقال خمسون ألف مقاتل، فدارت الدائرة على الجزائريين ثم تصالح الفريقان، وتوفي حمودة باي، وكانت مدة ولايته من سنة 1782 إلى سنة 1814. وخلفه أخوه عثمان باي، ولكنه لم يهنأ بالولاية؛ لأنه قتل في تلك السنة. وخلفه محمود باشا باي، كان محبا للسلم مع أوروبا والجزائر، وتوفي بعد أن حكم من سنة 1814 إلى 1824، وقام بعده ابنه حسين باي الذي عقد الشركات مع بعض الإفرنج لاستخراج المرجان في السواحل، وكانت مدة ولايته من سنة 1824 إلى سنة 1835. وحكم بعده أخوه مصطفى باي من سنة 1835 إلى سنة 1837. وخلفه ابنه أحمد باي، فنظم الجيش والبحرية وسار على خطة الوداد مع أوروبا ولا سيما مع فرنسا، فإنه ذهب إلى باريس وقوبل بالإكرام الزائد، ثم توفي سنة 1855. فخلفه ابن عمه محمد باي، ولكنه أظهر العدوان لفرنسا وحدثت له مشاكل معها، وكانت مدة ولايته قصيرة، أعني من سنة 1855 إلى سنة 1859، وخلفه محمد الصادق باي، وكان فاتر الهمة تاركا لوزيره مصطفى خزندار التصرف المطلق في تدبير شئون الحكومة، وكان هذا الوزير يقترض الأموال الطائلة من أوروبا بفائظ فاحش، قيل إنه جمع لنفسه ثلاثين مليون فرنك من هذه الديون وغيرها، فوقعت تونس في ارتباك مالي، واشتدت حاجتها إلى المال لدفع ماهيات الموظفين، فصبت المدافع النحاسية وضربتها نقودا دفعت منها إليهم وإلى غيرهم باعتبار قطعة النحاس قرشا صاغا.
وقد حدث مثل هذا في مصر أيام الخديوي إسماعيل ، فإنه صرف للموظفين بالحكومة جانبا من الماهية نقودا نحاسية بقيمة النقود الفضية. ولكن هذا لا يذكر أمام التقصير في دفع فوائظ الأسهم من حكومة تونس للمداينين الأوروبيين؛ لأنه نتج عن ذلك تشكيل لجنة دولية للنظر في المالية التونسية، كما حصل في مصر أيام إسماعيل باشا. ومما زاد الطين بلة أن المال المفروض على القبائل والأفراد والممتلكات زاد لتسديد فوائظ الديون، فنتج من ذلك ثورة، وخاف الأوروبيون على أرواحهم وأموالهم، فساقت فرنسا عساكرها من الجزائر إلى تونس واحتلتها بدعوى تعضيد الباي وصيانة أرواح وأموال رعاياها، ومنع تعدي قبائل التونسيين على أراضي الجزائر، وطلبت من محمد الصادق باي وضع ولاية تونس تحت حمايتها، وكان القنصل الفرنسوي في تونس المسيو روستان من أهل الحزم والقوة عرفه أهل الإسكندرية؛ لأنه ناب فيها عن دولته زمانا، وهو مثل المسيو تريكو الذي كان قنصل فرنسا الجنرال في مصر أيام تنازل إسماعيل باشا. وقد ذهب القنصل المذكور إلى قصر الباي ومعه العساكر، فخاف الباي ورضي بوضع ولاية تونس تحت حماية فرنسا، ووقع على المعاهدة في 12 مايو سنة 1881 في قصر السعيد. ومن وقتها صارت فرنسا صاحبة الحل والعقد، وعينت من قبلها وكيلا (رزيدان) أو هو المقيم أو الحاكم العام، ينظر في جميع شئون البلاد.
محمد الناصر باشا باي تونس.
ومن بعد مرور سنة توفي محمد الصادق باي، وكان علي باي على جانب عظيم من العلوم والمعارف عرف بالصلاح وطيبة القلب، وتوفي سنة 1902 فخلفه ابنه محمد عبد الهادي باشا باي. وبما أني تشرفت بمقابلة سموه في قصره في درمش في تونس حين كان ولي العهد، فترى الكلام عن سموه في وصف تونس. وقد أرسلت من مصر تلغرافا إلى سموه حين تولى تونس فيه تعزية وتبريك، وكانت مدة ولايته من سنة 1902 إلى سنة 1906، وخلفه ابن عمه الحالي سمو الباي محمد الناصر باشا، وله منزلة كبرى عند التونسيين والفرنسويين، وقد توسموا فيه خيرا، فذهب للحال مندوب من طرف الوزير المقيم الفرنسوي لقصر الباي الجديد في سيدي أبي سعيد ليقدم لسموه التعزية باسم الجمهورية الفرنسوية. وفي الغد جرت حفلة الولاية، وهي في تونس لها شأن عظيم فاقت كل الحفلات في عهد سمو الباي الحالي، ودامت طول النهار فاصطفت العساكر من فرنسويين وتونسيين على الجانبين. وكانت البلدة عن بكرة أبيها تتفرج على الموكب الذي قام من قصر الباي في سيدي أبي سعيد إلى قصر الباردو الرسمي في المدينة، وكان الباي جالسا في العربة الأميرية ووراءها العربات تقل آل البيت الحسيني ورجال الحكومة، فاحتشدت الناس ألوفا مؤلفة لتحيي الباي الجديد. فلما وصل الموكب إلى قصر الباردو (سنذكره في وصف تونس)، كان الناس يصيحون «فليعش سمو الباي» حتى دوى الفضاء بصياحهم، وعزفت الموسيقى سلام الباي، ثم دخل سموه قاعة العرش وجلس فوقه من حوله آل البيت الحسيني الكريم والوزراء والعلماء والمشايخ. وحين ذاك تقدم الباش شاطر ونطق بصيغة الولاية، ومن بعدها استقبل سموه رجال الحكومة العظام وقناصل الدول، ثم عاد بالعز والإقبال إلى قصره حيث تمت حفلة وجيزة قلد بها ابن عمه الأمير سيدي محمد الحبيب شعار ولاية العهد.
وقد أجمع الجميع من تونسيين وفرنسويين على حب سمو الباي الحالي واعتباره؛ لأنه طاهر القلب يحب بلاده حبا مفرطا، ويعمل على ترقية رعاياه وتقدم بلاده.
تونس
هي ترشيش القديمة، وقد أطلق عليها العرب اسم تونس بعد الفتح الإسلامي؛ لأنهم في ما روى أحد المؤرخين جاءوا هذه الجهة وأقاموا فيها مضاربهم، فسمعوا رهبان الروم في الليل ترتل الأنغام، وقالوا إن هذه بقعة تؤنس، فبقي لها هذا الاسم إلى الآن. وذكر ابن ياقوت أنه سأل بعض النصارى عن حقيقة اسمها، فقالوا إنها تنس، ومعناه ما تقدم. وقد اشتهرت في كتابات العرب باسم تونس الخضراء على حد قولهم حلب الشهباء ودمشق الفيحاء، وهي في منبسط من الأرض، تدور بها بحيرة من الشرق والشمال طولها 6 أميال، وعرضها 8 ومسافتها نحو 10، وعمقها لا يزيد عن مترين. وقد كان موقع هذه البحيرة أرضا تزرع فطغى عليها ماء البحر وصيرها بحيرة. ولما كانت بحيرة تونس قليلة العمق، فهم كانوا يلقون عناء في نقل الأبضعة إلى المدينة؛ لأن البواخر كانت ترسو في البحر وتفرغ أبضعتها في صنادل تسير في البحيرة إلى الكمرك، فتلافت إحدى الشركات هذا الأمر وحفرت ترعة في وسط البحيرة طولها 6 أميال وعمقها يكفي لأن تمخر البواخر، فهي الآن تدخل من هذه الترعة وترسو في الميناء الذي أنشئ لهذه الغاية، وتفرغ شحنها في الكمرك.
ويقدر أهل تونس الآن بحوالي 140000 نفس، منهم 70000 مسلمون و40000 يهود، وهم - أي اليهود - فيها وفي كل بلاد تونس طائفة كبيرة بسبب ارتحالهم إليها من فلسطين بعد خراب مملكة إسرائيل، وزاد عددهم أيضا من مهاجرة القوم إليها من إسبانيا حين طردهم المسلمون، وبقية السكان نصارى، منهم 11000 من إيطاليا و10000 من مالطة، فمعظم الأوروبيين فيها من هذين القطرين بسبب اقترابها منهما؛ فإن مدة السفر من تونس إلى مالطة 14 ساعة، وإلى صقلية من أعمال إيطاليا 12 ساعة.
وهواء تونس طيب على الجملة، يقرب من هواء سواحل الشام، والحر يشتد بها بسبب موقعها الجغرافي. وتقسم هذه المدينة إلى أربعة أحياء، هي حي المدينة، وحي باب سويقة في الشمال، وحي الجزيرة في الجنوب، وحي الإفرنج في الشرق. أما حي المدينة فله سور قديم فيه خمسة أبواب، هي باب سعدون في الغرب، وباب سيدي عبد السلام في الشمال وباب الخضراء في الشرق، وباب عليوة وباب الفتح كلاهما في الجنوب. ويقال على الجملة إن هذه المدينة من المدائن الجميلة؛ لأن تقدم البلاد وهمة الحكومة الفرنسوية ساعدا على تحسين شوارعها ومتنزهاتها، وساعدهم في هذا التحسين وجود أراض من بدء باب المدينة إلى شاطئ البحر، كانت فيما مر أرضا مهملة ينبع الماء في جوانبها فردموها وبني فيها حي الإفرنج الحالي، وفي أوله شارع اسمه شارع فرنسا تكثر فيه المخازن الكبرى، حيث تباع نفائس الأشياء الباريسية، وفيه الحانات الجميلة بعضها يلي بعضا، حتى إن المرء ليظن نفسه إذا قعد فيها أنه في قهاوي مرسيليا بشارع الكنابيير. وفي هذا الشارع النادي العسكري، تعزف الموسيقى فيه مرتين في الأسبوع، فتتزاحم أقدام القادمين إلى هذه القهاوي حتى لا يبقى فيها موضع خال في بعض الأحيان . ويتصل شارع فرنسا بشارع المينا أو حتى شارع البحر، طوله 5000 متر، وعرضه 60 مترا، وقد غرست في وسطه الأشجار على نسق يشبه ما في منشية الإسكندرية، ولكن المنازل فيه قليلة القيمة. وفي أول هذا الشارع إلى الشمال الكنيسة الكبرى، وإلى اليمين قصر الحاكم العام الفرنسوي (ريزيدان)، وفي آخر هذا الشارع تمثال المسيو جول فري، وهو الذي كان رئيس وزارة فرنسا حين احتلت جنودها بلاد تونس، صنعوه واقفا على قاعدة من الرخام، وإلى جانبه تمثال فتاة بيدها غصن زيتون علامة السلام، وإلى الجانب الآخر تمثال فلاح يحمل أدوات الزراعة بيده. والشارع المذكور ممتد من الشرق للغرب، تشطره عدة شوارع أخرى من الشمال إلى الجنوب، وقد أطلقوا أسماء الممالك على هذه الشوارع، مثل شارع روسيا، وشارع إنكلترا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا، وغير هذا من الأسماء.
والمدينة قسمان منفصلان، أحدهما إفرنجي، وهو الذي مر ذكره، والآخر عربي يفصله عن القسم الآخر باب كبير، دخلت المدينة العربية منه، ورأيت في أعلاه كتابات عربية، وتقدمت إلى الشوارع فألفيت أكثرها ضيق، ولكنها أكثر نظافة من الشوارع المصرية، ووجدت أن حوانيتها صغيرة نوعا، ولكنها ملأى بالأشكال والألوان، وقد راق لي منظر سوق الخضر والفواكه وحسن تنسيقها، وقد بنوا السوق العمومية هنا على شكل سوق الآستانة - ولو أنها أقل أهمية - وجعلوا أسواقا كثيرة تتفرع منها، لكل منها اسم الشيء الذي يباع فيها، مثل سوق البلاغجية أو هي لبيع الأحذية، وسوق العطارين تتضوع من حوانيتها روائح العطر. والورد في هذه البلاد معروف بالجودة وروائح المسك والبخور والند، وهم يوقدون بعض هذه الأصناف تشويقا للطالبين. وسوق الدلالين يدور فيها الرجال حاملين البسط والأحرمة على أكتافهم، وفي أيديهم الخواتم والحلي والساعات، وفي أعناقهم السلاسل يعملون على بيعها بالمزاد ذاهبين آيبين. وهنالك مخازن كبرى ووكالات تباع فيها المنسوجات الحريرية والبسط الصوفية والبرانس الحريرية الجميلة الألوان، ينتابها السياح ويشترون منها مقادير في كل عام. وعلى مقربة من هذه السوق جامع الزيتونة، وهو جامع قديم مشهور بني سنة 141 هجرية، وفيه المدرسة الإسلامية تلقي دروسها على الطلاب ، مثل الجامع الأزهر، ولكن دخول الجوامع غير مباح لغير المسلمين في كل بلاد تونس خلافا لبلاد الجزائر. وعلى مقربة منه جامع سيدي ابن العروس قام في موضع كنيسة إسبانية قديمة شهدناه من الخارج. وداومنا المسير حتى بلغنا القلعة، واسمها عندهم القصبة، وهي قديمة بناها الإسبانيون واحتلها الأتراك زمانا، وغير الفرنسويين هيئتها بعد احتلالهم، وهي الآن منزل الحامية الفرنسوية. ولهذه القلعة ذكر في التاريخ بحوادثها العظيمة، من ذلك أنه لما تقدم ملك إسبانيا كارلوس الخامس لفتح تونس في سنة 1535 كان في هذه القلعة عشرون ألف أسير من النصارى سجنهم خير الدين باشا، فكسروا الأبواب وخرجوا لمساعدة الملك على الدخول كما مر في المقدمة التاريخية. وقد ذكرنا أن المسلمين من أهل هذه المدينة 70 ألفا وربما كانوا أكثر، فهي فيها ساحات رحبة ولكنها خالية من الأغراس والأشجار وبرك الماء على النسق الإفرنجي، فكل ما هنالك بعض القهاوي يجلس الرجال فيها إلى مقاعد أو دكك من الخشب بعضها مفروش بالبسط والبعض بلا فرش، وهم يتربعون على هذه المقاعد بعد نزع الأحذية أو يقعدون على الكراسي يشربون القهوة وماء السوس، ولا يدخن منهم إلا القليل، وقد يجتمع حوالي ألف منهم في ساحة واحدة ولا سيما ساعة الغروب في ساحة جامع سيدي محرز، حيث ترى الهيئة التونسية على أتم أشكالها. ولما كانت الشوارع كلها ضيقة في الأحياء العربية لا تكفي لمرور العربات، فقد بنوا خطا لعربات الترامواي تجرها الخيل في محل السور القديم حول المدينة من خارجها، أوله عند باب المدينة الذي ذكرناه، ويمر على اليمين في شارع باب السويقة، فشارع المالطية فشارع قرطاجة، ثم يمر أمام القلعة ويتجه بعد ذلك شمالا إلى شارع الجزيرة حتى يبلغ باب المدينة من الشمال بعد مسير نصف ساعة يرى الراكب في خلالها هيئة هذه المدينة وشوارعها، واسم الشارع نجع.
قصر الباردو:
ذهبت في هذا اليوم إلى قصر الباردو، وهو لفظ إسباني معناه المتنزه، وقد مر وصف الباردو في فصل الكلام عن مدريد من هذا الكتاب. وأما باردو تونس فإنه كان قصر البايات في الزمان الماضي، موقعه إلى شمال تونس على مسيرة كيلومترين، وقد أحاطوه بسور بنوا من داخله عدة قصور ومنازل لهم وثكنة للجنود ودارا للقضاء وسجنا، وكل هذا داخل السور على طريقة القلعة في مصر مدة أيام محمد علي. وكان الباي ينتقل كل يوم من منزله إلى دار المحكمة أو الديوان، حيث يجتمع الوزراء والمشيرون بين يديه ويبتون في أمور البلاد، ولكن علي باشا - وهو الباي الأسبق - ترك هذا المكان بعد الاحتلال الفرنسوي، وبنى له قصرا في المرسى، سنعود إلى الكلام عنه. ولا شيء في الباردو من عظمة البناء وجماله غير أنه كثير الاتساع، يمل المرء من التجول في جوانبه؛ لأنه يدخل من ردهة إلى ردهة، ومن صحن إلى صحن ومن ممر إلى ممر، وفيها مسافات بعيدة. على أنني صعدت سلما من الرخام إلى جانبه من هنا ومن هنا تماثيل ثمانية سباع من الرخام الأبيض، وكان حارس القصر معي، وقد ولجت ردهة واسعة مبلطة بالرخام الأبيض وحولها رواق قام على عمد مستدقة من الرخام، قيل إنها نقلت من قرطاجة، وقد نقشوا على جدران هذا الرواق نقوشا عربية جميلة وآيات قرآنية. وتحت هذا الرواق قاعات، فهي تحكي قاعات قصر شبرا في مصر ورواقه، ودخلت ردهة ثانية مبلطة بالرخام الأبيض كالأولى، وفي وسطها بركة وحولها رواق قائم على 80 عمودا دقيقا وجدرانه ملبسة بالقيشاني الجميل أزرق وأخضر.
وأما القاعات فكثيرة العدد، أذكر منها قاعة كانت محكمة، في صدرها عرش كبير يرتقى إليه على ذروتين، وكله مذهب ومكسو بالحرير الأحمر، كان يجلس الباي إليه ومن حوله الكراسي الأخرى للأعضاء والأعوان. ومنها قاعة الاستقبال، وهي واسعة كبيرة، في صدرها عرش يرتقى إليه فوق ثلاث ذرى، وهو مذهب أيضا ومكسو بالقطيفة الحمراء، تتدلى منه شراريب القصب، وفي أعلاه الهلال والنجمة، وهما شعار الولاية التونسية. هنا تجري التشريفات التونسية الكبرى في أيام المواسم والأعياد؛ إذ يأتي سمو الباي بموكب حافل وهو بملابسه الرسمية وسيفه ونياشينه، ويقابل وفود المهنئين من رجال الحكومة الوطنيين والأجانب، وكلهم بالملابس الرسمية والنياشين. وعادة الوطنيين أن يقبلوا راحة الباي عند السلام خلافا للمصريين؛ فإنهم يقبلون ظاهر يد الأمير. وقد ذكر لي أحد التونسيين أن التشريفات عندهم مهيبة؛ لأن القادم يحيي الباي بما يليق بمقامه، فيصدر الباي أمره إلى أحد رجال التشريفات أن يبلغه الجواب. وقد زينت هذه القاعة من قدم برسوم الملوك والبايات بقدرهم الطبيعي داخل براويز مذهبة، منها صورة محمد باي وحسين باي وأحمد باي وصادق باي، هو الذي أمضى المعاهدة مع حكومة فرنسا في شهر مايو سنة 1881. وهنالك صورة فكتور عمانويل الثاني ملك إيطاليا ونابوليون الثالث وإمبراطور النمسا الحالي في سن العشرين، وهو السن الذي كان به يوم زار تونس. وأثمن هذه الرسوم صورة لويس فيليب ملك فرنسا، رسمت على قماش من معمل دوبلين الشهير، وثمنها لا يقل عن مائة ألف فرنك. وصحبنا الحارس بعد ذلك إلى قسم في القصر كان معدا لزوجات محمد باي الأربع الشرعيات، وفيه ردهة عظيمة أرضها رخام أبيض، وفي كل من أركانها الأربعة غرفة لإحدى الزوجات، ولهن جميعا قاعة عمومية عرفت بقبتها الشاهقة يسطع ذهبها الوهاج، وقد زخرفت بالمرائي الصغيرة، براويزها زرقاء وحمراء وبيضاء.
وعلى الجملة فهم بالغوا في إتقان هذه القاعة وزخارفها إكراما للزوجات المذكورات، وقد أصبحت هذه القاعة والغرف والردهات جزءا من المتحف العلوي، دعي باسم علي باي، جمعوا فيه كل ما في بلاد تونس من العاديات والآثار والنفائس التاريخية، ونقلوا إليه ما وجدوا من الفسيفساء من المعابد الرومانية، ورصوها في هذا المتحف على يد صناع من مهرة الطليان، وهي كثيرة بلغت مساحتها 137 مترا مربعا. وهنالك قبور قياصرة رومية وتماثيل، منها تمثال من حجر الصوان لأورفة من آلهة الموسيقى عند الأقدمين، وفي يدها قيثار، وحولها أشكال وحوش البر كأنها تسمع وتطرب لشجي الأنغام.
البرنس محمد الهادي بك:
وقد زرت في هذا اليوم سمو البرنس محمد الهادي بك ولي عهد تونس يومئذ وهو الباي السابق، كنت قد عرفته في فيشي من مدن فرنسا فتلطف - حفظه الله - وتنازل إلى دعوتي لزيارته إذا ما أتيت تونس، ذهبت إلى قصره في درمش، وهي من ضواحي المدينة على شاطئ البحر، فأرسلت بطاقتي، ولما دخلت عليه حياني باللطف والترحيب، وخاطبني بلسانه الطلق، وقد هابني منظره الوقور وقامته الطويلة وجبينه العالي وعيناه السوداوان البراقتان، يرى المرء من حديثه وملامحه في الحال مقدار ذكائه وإقدامه. ولجنابه شهرة في الاقتدار السياسي والإداري والمالي، وفي حل المعضلات. زار باريس مرارا وقصدها في هذا العام أيضا بالنيابة عن والده في معرضها العام، فقابله رئيس الجمهورية بما يليق بمقامه السامي من الإكرام، وأنزله ضيفا كريما في القصر الذي أضيف به شاه العجم. ولما مثلت بين يديه استدعى أنجاله الكرام وعرفني بهم، فلما انتهت المقابلة رافقني هؤلاء الأنجال إلى حديقة القصر، وفي بعض أنحائها لهم الخيول المطهمة العربية تحكي الغزلان في رشاقتها وسرعة المسير. وقد برحت القصر شاكرا ما لقيته من لطف أصحابه الفخام.
البرنسيس ناظلي هانم:
وزرت في هذه المدينة أيضا دولة البرنسيس ناظلي هانم، وهي من صاحبات المقام الخطير بين أميرات البيت الخديوي الكريم، كانت في قصرها في حلق الوادي حيث تم عقد زواجها بحضرة السري سليل الكرام خليل بك بو حاجب، وقد تنازلت - حفظها الله - ودعتني للطعام بعد أن قابلتني بالإكرام، فسمعت من درر أقوالها وشهدت من صائب آرائها ما شهد به قبلي العارفون واشتهر عن هذه الأميرة الكريمة بين الشرقيين والغربيين. وكنت مدة إقامتي في تونس أتردد إلى هذا البيت الكريم، فتعرفت به بالشاب النبيل السيد شاذلي بكوش ابن بكوش باشا الذي كان ناظر خارجية تونس، وله قصران فخيمان، أحدهما في مدينة سيدي أبو سعيد على شاطئ البحر، والثاني في إريانا من ضواحي تونس في جهة الشمال، وهو القصر الذي ذهبت إليه مع السيد شاذلي، وقد رأيت من هذا الشاب ذكاء وعلما، وهو من الذين درسوا الحقوق في باريس، وحالما دخلت القصر رأيت أدلة النعمة والترف؛ لأن كل جوانبه مبلطة بالرخام الأبيض، وقاعاته فسيحة بديعة فرشت بفاخر الطنافس ونفيس الأطالس، وفي جملة رياشها حرير دمشقي أحمر معرق مضى عليه نحو 50 سنة وهو كأنه جديد الآن. وتمشيت مع هذا الشاب السري في حديقة القصر، فإذا هي ملأى بأشكال الشجر والزهر من أفريقية وأوروبية، وبعضها نادر المثال. ومن سراة تونس المعدودين آل بيرم وبو حاجب وعياد، وهي بيوت كان لها صولة في الأيام الماضية، وكان أفرادها الحاكمين، وأهل الطبقة العليا من التونسيين يلبسون الملابس الإفرنجية، ولكن طرابيشهم مغربية لها أزرار طويلة تصل إلى الأكتاف. وقد صار الشبان يلبسون الآن الطربوش الإسلامبولي المعروف. وأما النساء فخروجهن نادر، وهن تضرب الأمثال بعفافهن ورزانتهن. ونساء اليهود من الطبقة الأولى يلبسن مثل الإفرنجيات، وأما نساء الطبقة الوسطى فإنهن يلبسن سراويلات بعضها فوق بعض حتى تصبح الواحدة منهن مثل البرميل، ومن فوق الكل شال أحمر إفرنجي أو برنس تونسي وعزيزية طويلة على الرأس.
بلفيدير:
لا بد للفرنسويين أينما حلوا من متنزهات ينتابونها كما ينتاب أهل باريس غاب بولونيا وغيره، وهم ذوو همة في تحسين المدن حتى إن مدن فرنسا ولو صغرت لتعد من أجمل مدائن الأوروبيين. وقد وجدوا على مقربة من تونس في جهة الشمال أرضا بعضها مرتفع والبعض منبسط، فجعلها المجلس البلدي متنزها أطلق عليه اسم بلفيدير - أي المنظر الجميل - وقرر أن ينفق عليها 20 مليون فرنك، وقد قصدت هذا المتنزه فإذا هو مثل المتنزهات الفرنسوية في رسم أشكاله وشجره وغرسه ومناظره، وقد بلغت قمته بالعربة فرأيت منها مدينة تونس كلها بيضاء ناصعة؛ لأنهم يطلون جميع جدرانها بالكلس الأبيض، وتظهر الضواحي أيضا من هذه القمة واضحة واحدة بعد واحدة على شاطئ البحر.
الضواحي:
والضواحي كثيرة حول تونس لما أن البحر يحيط بالمدينة من الشرق والشمال، وقد بنيت على ضفافه المدن الصغرى، مثل حلق الوادي وخير الدين وقرطاجة والمرسى وسيدي أبو سعيد. ومدت إحدى الشركات الطليانية سكة حديد من المدينة إلى هذه الضواحي، طولها 16 كيلومترا، فاشتراها الفرنسويون بثمن بالغ؛ حتى تكون المصالح كلها في يدهم، وتبدأ هذه السكة من حي الإفرنج، حيث يقوم كل ساعة في النهار والليل، ويكثر الركاب ولا سيما في الليالي المقمرة. وإليك بيان هذه الضواحي واحدة بعد واحدة حسب وضعها الطبيعي:
حلق الوادي:
واسمها عند الفرنسويين لاجوليت، كانت مرفأ تونس القديم، ولكنها ضاعت أهميتها بعد حفر الترعة في وسط البحيرة وبناء الميناء الجديد، ولكن حسن موقعها على شاطئ البحر وإنشاء سكة الحديد أعاد إليها الرونق السابق، فقامت فيها الأحياء الجديدة على شاطئ البحر، ويعد أهلها الآن بستة آلاف.
خير الدين:
دعيت باسم خير الدين باشا وزير تونس، وهو الذي صار الصدر الأعظم في الدولة العلية وله هنا قصر. وهي مدينة صغيرة يكثر قصادها للاستحمام بالحمامات البحرية، وقد جعلوا قصر خير الدين فندقا وملهى، فالناس تنتابه عند الغروب لتناول الطعام والشراب في الموائد الممدودة على شاطئ البحر، وفي الليل يدخلون التياترو، وكل الشخصيات فيه من يهوديات تونس المعروفات بالملابس المزوقة الحسناء.
قرطاجة:
لها شهرة من أيام الفينيقيين كما ذكرنا في المقدمة التاريخية، وهي قريبة من محطة سكة الحديد، ذهبت مع دليل كان يدلني إلى حدود قرطاجة القديمة من الجهات الأربع، وكل الأراضي المتاخمة لها تزرع الآن قمحا وشعيرا، وهي أراض يكفي النظر إليها للعلم بما كانت دولة قرطاجة عليه من الثروة والقوة، حتى إنها حاربت سلطنة الرومانيين، ثم دالت دولتها، فما بقي من آثارها إلا الساحة التي كان جمهور الرومان يؤمها في مدائنهم، وتعرف باسم فورم، وفيها حتى الساعة أعمدة أو قطع منها مبعثرة في جوانب الأرض. وفي صدر هذا الموضع كنيسة صغيرة تتلى فيها الصلوات أحيانا للشهداء الذين قتلوا في هذه الساحة حين كان الرومانيون يضطهدون النصارى ويطلقون عليهم الضواري في مثل هذه المواضع، وكان الرومانيون يعدون الفرجة على هذه المشاهد من أعظم المسرات. وزرنا الصهاريج الرومانية، وهي مبنية بالطوب الأحمر وكلها طويلة قليلة العرض غير عميقة، وربما كان عدم عمقها من رسوب الأكدار والغبار فيها مدة هذه القرون، حتى إنها كادت تساوي سطح الأرض، وقد جعلها الفلاحون في هذه الأيام مساكن لهم أو زرائب لمواشيهم. وذهبت من هنالك لأرى آثار الكردينال لافجري، وهو كاهن فرنسوي عظيم، وقد بنى متحفا عظيما جمع فيه آثار دول قرطاجة ورومية وبزانتيوم وإسبانيا والعرب والترك، جعلوا أقساما، في كل منها ألوف من هذه الآثار، وفيه قبور قياصرة رومية نقشت أسماؤهم عليها ولا سيما المواقع التي فازوا فيها. وهنالك مطاحن حجرية وآلات فلكية وأسلحة قديمة كثيرة الأنواع، ومصابيح وحلي ونقود من الذهب والفضة والنحاس والزجاج، وهي - أي نقود الزجاج - نادرة المثال. وفيه موازين وأقفال ومفاتيح رومانية من الخشب كالتي تستعمل في قرى مصر والشام الآن، وأشياء أخرى لا تعد. وإلى جانب هذا المتحف الكنيسة بنيت سنة 1842، حيث مات ملك فرنسا لويس التاسع، وهو المعروف باسم القديس لويس سنة 1270 عند رجوعه من بعض الحروب الصليبية؛ لأنه زار المطعونين حين تفشى الوباء فمات به وأقاموا له التمثال. وقد بنى الكردينال لافجري في سنة 1890 كنيسة كبرى لها ثلاثة أبواب، وهي قائمة على صفين من عمد الرخام مذهبة الرءوس، وفيها كثير من آنية الذهب والفضة، تراها العين كيفما اتجهت في ذلك البناء، وأنفقوا أموالا طائلة في زخارف السقف، وكتبوا أسماء المتبرعين لها بالمال على الجدران، فهي بالجملة من الكنائس الفخيمة لا نظير لها بين كنائس اللاتين في مصر وإسكندرية مع أنها لا يؤمها للصلاة إلا قليل من الرهبان، ومن يقصدها من نصارى تونس مرة كل سنة في عيد مار لويس. وفي هذه الكنيسة قبر الكردينال لافجري بانيها، وتمثاله وضع بعد وفاته فوق القبر متكئا وبيده كتاب، كل ذلك عمل من الرخام الأبيض الناصع.
وفي قرطاجة فندق صغير، فيه نحو عشرين غرفة لمندوبي الجمعيات العلمية وغيرهم، وهم يأتون من أنحاء أوروبا فينقبون زمانا ويبحثون ثم يعودون لنشر خلاصة ما رأوا من الآثار. ولكن أنقاض هذه المعابد والقصور وأجزاءها فرقتها الأيدي من زمان طويل، حتى إنهم يقولون إن كل معابد تونس من جوامع وكنائس بنيت من حجارة المباني القديمة في قرطاجة، وكأن هذا لم يكفها حتى إنهم نقلوا كثيرا من بقايا القدماء إلى مالطة وصقلية وبنوا بها ما عندهم من الكنائس والقصور، فما بقي من تلك العظائم غير أراض زراعية للرهبان يؤجرونها للفلاحين، فسبحان مغير الأحوال !
المرسى:
لما احتل الفرنسويون تونس وبسطوا حمايتهم عليها ترك علي باي قصر الباردو، وتوطن المرسى مع أهل بيته في قصر بناه، وقد رأيت العلم التونسي يخفق عليه دليل وجوده في القصر وهو توفي فيه. وليس لهذا القصر جمال ظاهر، ولكنه بني في أرض واسعة كبيرة، وله باب بالغ العلو، يقف أمامه رجال الحرس الخصوصي للباي يلبسون مثل جنود الدولة العلية، غير أن طربوشهم تونسي له شرابة طويلة وحلية من القصب فوق جهة الجبين هي شعار تونس. فترى هؤلاء الجنود يخطرون أمام القصر والناس تمر من الساحة الكبرى التي تحكي ساحة قصر عابدين، يريدون الذهاب إلى القهاوي الواقعة على شاطئ البحر.
سيدي أبو سعيد:
وهذه مدينة صغيرة جميلة بنيت على مرتفع فوق ماء البحر، وبعدها عن المرسى قليل، تكثر فيها كروم العنب والزيتون الشهية في وسطها البيوت البيضاء، وهواؤها جيد صحي، فأغنياء المسلمين بنوا فيها المنازل أو استأجروها لقضاء أشهر الصيف فرارا من حر تونس، وهو يشتد كثيرا في فصل الصيف.
حمام الأنف:
إن كل ما تقدم ذكره من الضواحي واقع إلى شمال مدينة تونس ما خلا هذه؛ فإنها في الشمال الغربي، وهي تعد المتنزه العمومي للمدينة، يقصدها الناس بسكة الحديد. وقد ذهبت إليها يوم أحد حين تكثر القطارات، فكنت أرى البحر في الطريق إلى الشمال والمزارع البهية إلى اليمين، وفي طرفها جبل أبي قرنين سموه بهذا الاسم؛ لأن له رأسين كالحراب في أعلاه وعلوه 640 مترا. ولما نزلنا في المحطة سرت مع الرفاق في طريق رصع بالحصى، وإلى جانبه المنازل الصغيرة كلها ذات دور واحد ومنظرها يشرح الصدور، حتى بلغت شاطئ البحر بعد مسير ربع ساعة، فإذا بهم قد أنشئوا على ضفته طريقا عظيما غرسوا فيه الأشجار الأفريقية والأوروبية إلى الجانبين، يسير فيه الناس لاستنشاق هواء البحر النقي. وفي هذا المكان تياترو بني على النسق المغربي، رأينا فيه جوقا فرنسويا من المغنين والراقصين، وهم يأتون بمثل هذا الجوق في كل صيف. وهناك فندق وملهى وكازينو وحمامات كالتي توجد في كل المصايف البحرية في سائر الأقطار.
من تونس إلى مالطة:
وفي هذا اليوم برحت تونس، فقامت الباخرة في ترعة البحيرة السابق ذكرها، وكانت تسير الهوينا سير البواخر في ترع السويس، وجعلت مناظر تونس تضمر وتتضاءل حتى غابت عن العيون. ولما دخلت الباخرة عرض البحر جدت في المسير وكان الليل قد بدأ فدخلنا غرفة الطعام، ووجدنا فيه رجالا من وكلاء البيوت التجارية ذاهبين إلى مالطة لشراء الخروج (دانتيلة) منها؛ لأن هذا الصنف رخيص في مالطة جيد الصنعة، تصنعه بنات الفقراء بأيديهن ويبعنه برخيص الأثمان. وظهرت جزيرة مالطة في الصباح بحصونها والمدافع فيها مصوبة إلى جهة البحر، والبوارج الإنكليزية رأسية في موضعها، وبواخر التجار في ميناء لها آخر، وقد كان شكل هذه الجزيرة ودخول الماء في خلال أرضها مكونا لأحسن المواني الطبيعية تضارع مواني بورسعيد وإسكندرية، وهي التي أنفقوا عليها الملايين، وقد ملكت دولة إنكلترا هذه المواني المعدة لمرادها بلا نفقة من أدلة حظها المشهور. وحالما رست الباخرة صعد الطبيب في يده الإنجيل والصليب، وجعل يطلب من كل راكب أن يقسم أنه لم يأت من مصر، حيث انتشر الهواء الأصفر، فلما جاءني أبرزت شهادة من قنصل إنكلترا في تونس تدل بأني تركت مصر من نحو ثلاثة أشهر، وكنت سائحا في أوروبا والغرب، فكان يلمسني بالصليب مرارا، وهو يتلو علي الأيمان بأني لست قادما من مصر، ولعل القوم يعذرون في هذا التشديد؛ لأن التاريخ يدل أن الطاعون والهواء الأصفر يفتكان في جزيرتهم فتكا ذريعا، وليس لهم ملجأ غير تلك الجزيرة يفرون إليه.
مالطة
خلاصة تاريخية
احتل هذه الجزيرة أجدادنا الفينيقيون الذين اشتهروا بمتاجرهم، وأطلقوا عليها اسم أوجاجية، وهو لفظ معناه الملجأ، وليس العلم بتاريخ استيلائهم على مالطة ميسورا؛ لما أن تاريخهم كله غامض قليل الآثار، وربما كان ذلك في أواخر القرن الثاني عشر قبل المسيح ثم أخذها منهم الرومانيون في سنة 316 قبل المسيح وأقاموا فيها 700 سنة. قال ديودور المؤرخ الشهير إن الجزيرة نمت وتقدمت في تجارتها وثروتها مدة الرومانيين نموا عظيما، وقد ورد ذكرها في الإنجيل، حيث قيل إن بولس الرسول كان مسافرا في سفينة جنحت به عند هذه الجزيرة في خليج اسمه خليج مار بولس إلى الآن، وهم يحجون إليه ويتباركون من الاغتسال بمائه، وكانت حادثة هذا الرسول على عهد طيباريوس قيصر رومية في سنة 58 مسيحية، وهو أقام في الجزيرة ثلاثة أشهر، وأدخل إليها الدين المسيحي ونصب فيها أسقفا يدعى بوبليوس. وبقيت مالطة في حوزة الرومان قرونا - كما تقدم - ثم انتقلت إلى سلطنة القسطنطينية سنة 355 مسيحية على يد قايد بيزانتي اسمه بليزاروس، وأطلق عليها في ذلك العهد اسم مليتة - أي العسل - لكثرة هذا النوع فيها يومئذ، ثم دخلت الجزيرة في حوزة العرب سنة 870، فتحها قائد اسمه محمد بن الأغلب وأطلق قومه عليها اسم مالطة بدل مليتة، فهو اسمها عندنا إلى اليوم. وقد فتك العرب يوم هذا الفتح بأهل الجزيرة فباعوا من نسائها وأولادها عبيدا بقيمة 5000 أوقية ذهب، وبنوا حصونا جديدة فيها لرد هجمات الأعداء. وقد بقيت مالطة للعرب إلى سنة 1090 حين قام الملك روجر وأكره حاكمها العربي على الرحيل بأولاده وأهل بيته. ولما كانت سنة 1194 اقترن هنري الثاني إمبراطور ألمانيا بالأميرة كونستانس بنت الملك روجر، فأهداها أبوها جزيرة مالطة مهرا. وأصبحت الجزيرة بعد ذلك من أملاك قياصرة ألمانيا، وظلت على ذلك 72 سنة تقدمت في خلالها ونمت، حتى إنها قويت على جمهورية بيزا ودمرت أسطولها. وفتحها في سنة 1266 الأمير شارل إنجو شقيق لويس التاسع ملك فرنسا، فبقيت في يد الفرنسويين حتى سنة 1284 حين فتحها الإسبانيون وبقوا فيها إلى سنة 1520، وكان ملك إسبانيا يومئذ وإمبراطور ألمانيا معا كارلوس الخامس المشهور تنازل عن مالطة لفرسان مار يوحنا، وهم أشهر من استولى على هذه الجزيرة، وأبقى فيها من الآثار، فنحن نورد زبدة تاريخهم هنا موجزين.
كان في القدس رهبان بنوا مستشفى للمرضى، وكانوا أبدا عرضة للاعتداء من المسلمين حين مدتهم رومية بنجدة من الرهبان المسلحين عرفوا بالرهبان الفرسان، كثروا وبعدت شهرتهم، حتى إن أهل أوروبا كانوا في كل بلد يوقفون لهم الأموال والأملاك، فزادت ثروتهم زيادة كبرى، ولكنهم قوي عليهم المسلمون وطردوهم من القدس، فساروا تحت قيادة زعيم لهم اسمه فولك دي فيلاري إلى جزيرة رودس سنة 1310، واستولوا عليها بعد معارك شديدة بينهم وبين المسلمين واليونان معا، فبقيت في حوزتهم قرنين. وهاجمهم السلطان محمود الثاني بأسطوله سنة 1480، فمات قبل أن ينال منهم منالا، ولكن السلطان سليم الثاني رد الكرة عليهم سنة 1522 بجيش عرمرم يزيد عن مائة ألف مقاتل، ودام الحصار الشديد خمسة أشهر، استغاث رئيس الفرسان في آخرها بملوك أوروبا، فلم يغثه غير كارلوس الخامس الذي ذكرناه مرارا؛ فإنه تنازل للفرسان عن جزيرة مالطة، فخرجوا من رودس وأتوا مالطة في العام المذكور، ولكن الأهالي لم يسلموا للفرسان إلا بعد أن أقسم قائدهم - وهو يومئذ فيليه آدم دي ليل - ألا يعارضهم في لغتهم وامتيازاتهم، وكان هذا القسم فرضا على كل رئيس بعده للفرسان.
وزاد غنى الفرسان في أوروبا الكاثوليكية في هذا العهد من الأوقاف الكثيرة حتى بلغ 50 ألف جنيه في السنة، وهو إيراد كبير جعل الجزيرة دولة قوية بثروتها وجنودها وسفنها وأسلحتها، فجعلت تسطو وتحارب وتوسع نطاق ملكها، وشنت الغارة على جزائر الغرب، وهي قريبة منها، وسيرت أسطولا لضبط السفن العثمانية التي كانت تمخر بين الآستانة وتونس، حتى اضطرت السلطان سليمان أن يهم للانتقام منها، فجرد عليها سنة 1565 جيشا وأسطولا تحت قيادة مصطفى باشا، ومعه 180 مركبا و38300 محارب و62 مدفعا، وكان قائد الفرسان في ذلك العهد شجاعا باسلا اسمه لافاليتا، له دراية بفنون الحرب ومعه 474 فارسا من إخوانه، و8100 محارب يعضدهم الأهالي.
فلما وصل الأتراك بدءوا بمحاصرة الجزيرة في الحال وإطلاق المدافع عليها، ففتحوا الحصن الأول بعد شهر، ورفعوا عليه راية آل عثمان، وعدوا ذلك دليل الفوز التام، ولكنه ورد على مالطة نجدات قوية من إسبانيا وإيطاليا، فارتد الأتراك عنها بعد حصار وحرب داما أربعة أشهر، ورجع مصطفى باشا إلى الآستانة وهو يقول إن هذه الطفلة - أي مالطة - لا تعادل الخسارة الكبرى التي لحقت بجيشه؛ لأنه قتل من عساكره نحو 25 ألفا ومن الفرسان 200 ومن بقية جنود مالطة 3000 ومن أهل الجزيرة 7000.
ولما انتهت هذه الحرب رمم رئيس الفرسان الحصون فبنى لنفسه قصرا جميلا على إحدى ربوات مالطة، وفعل بقية الفرسان فعله، وتمثل بهم الأهالي أيضا، فما مرت أعوام حتى قامت فوق تلك الأكمة فاليتا عاصمة مالطة الآن، واسمها من اسم هذا القائد المشهور، وقد توفي هذا القائد بالرعن في شهر مارس من سنة 1750، ودفن في كنيسة مار يوحنا، فبكاه الجميع. وخلفه بطرس دل مونته في القيادة، وهو رد الأتراك عن الجزيرة مرة أخرى؛ لأنهم هاجموها في السنة الأولى من حكمه، وحاصروها، ولكن قائدهم رجع في الحال حين علم أن المدافع في حصون مالطة وأسوارها تعد بمائة وستين مدفعا كبيرا من النحاس. وفي سنة 1590 جاءت سفن من الشرق ورست في مالطة، فأدخلت الطاعون إليها وفتك بأهلها، فكان عدد الوفيات به 4000. وفي سنة 1622 توفي قائد الفرسان ألوفيو، وحصرت تركته الخصوصية فكانت 20460 جنيها و2000 خادم وخادمة. وكان رئيس الفرسان إذا ذهب في عيد أو موسم إلى الكنيسة يركب مركبة تجرها 6 بغال تكسوها أقمشة مزركشة بالذهب، ولها قيمة كبرى ويسير بموكب عظيم أمامه 16 فتى من أبناء الأشراف، لا يزيد عمر أحدهم عن 16 سنة على الجياد المطهمة، ووراء المركبة 400 من الفرسان على الأقدام، وغير هذه من آيات الفخر والأبهة التي لم يأتها ملك أو قيصر كبير، وكأن ذلك أوجب البابا أن يقول إن هؤلاء الفرسان نسوا أو تناسوا أنهم رهبان.
وقد اشترى الفرسان في سنة 1650 أملاكا واسعة في أوروبا، فتنعموا بإيرادها زمانا، ولكن الطاعون عاد إلى الجزيرة سنة 1675 فقتل من أهلها أحد عشر ألفا، وتلاه زلزال في سنة 1693 دمر وزاد الخراب. وكانت مراكب الأتراك والمغاربة تكثر الاعتداء على مالطة في ذلك الزمان، حتى إن المراكب التركية التقت سنة 1709 بسفينة الأميرال المالطي وفيها 500 نفس فأغرقتها بمن فيها، وكان في مالطة نحو 4000 مسلم تخلفوا فيها من قدم فلما علموا بانتصار إخوانهم عقدوا اجتماعا سريا تعاقدوا فيه على أن يقوموا في ساعة معينة ويذبحوا جميع الفرسان، وجعلوا عيد بطرس وبولس موعد هذه الفعلة؛ لأن الفرسان يجتمعون يومئذ في الكنيسة، ولكن مكيدتهم ظهرت ؛ لأن ابنة فلاح جاءت من مزرعتها وأخبرت الفرسان بالمكيدة، فقبضوا على 60 من المتآمرين وأعدموهم.
وفي سنة 1768 أمر قائد الفرسان - وهو يومئذ بنتو - بطرد الجزويت من مالطة وضبط أديرتهم وأملاكهم، فلما وصل المطرودون إلى فرنسا وأخبروا رهبان طريقتهم بما جرى لهم أضمروا السوء لرهبان مار يوحنا، ونشأ عن مساعيهم المتواصلة أن مجلس الشورى في باريس قرر سنة 1792 إبطال طريقة الفرسان ومحو آثارها من فرنسا، فضبطت الحكومة أملاك الفرسان، وكانت خسارتهم كبيرة؛ لأن أوقاف طريقتهم كانت شيئا يستحق الذكر في بلاد الفرنسيس، وإيرادها لا يقل عن 50 ألف جنيه في العام. واقتدت الدول الأخرى بفرنسا، مثل ألمانيا ونابولي وإسبانيا، فكلها ضبطت أملاك الفرسان، وكذلك إنكلترا البروتستانتية، فأثر ذلك في رهبان مالطة أشد تأثير وأوقعهم في الارتباك؛ لأنهم كانوا في حاجة إلى إيرادهم من تلك الممالك؛ ولذلك عمدوا إلى أخذ الأواني الذهبية من الكنائس وضربوها نقودا رغما عن معارضة الأتقياء من أهل مالطة الذين بدءوا يتضجرون من حكم الفرسان، ولا سيما بعد أن أوقف الفرسان صرف الرواتب.
وساءت الحالة الداخلية كثيرا حين ظهرت مراكب الدولة الفرنسوية أمام مالطة سنة 1798 تحمل نابوليون وجيشه إلى مصر، وكان عددها 36 سفينة حربية و470 سفينة أخرى لنقل المهمات، هاجمت الجزيرة فقاومها الفرسان وعددهم يومئذ 400 فقط وعدد جنودهم 6000، ولكن القوات الفرنسوية تغلبت عليهم فدخلت جزيرتهم من 12 مكانا في 10 يونيو سنة 1798؛ فاضطربت مالطة بمن فيها لدخولهم، واشتد الهياج والقلق، ودام الفاتحون في مخابرة أصحاب الجزيرة من ساعة دخولهم في الفجر إلى آخر النهار حين سلمت لهم الجزيرة على شروط أمضيت في السفينة الفرنسوية المسماة لوريان - أي الشرق - وخلاصتها حفظ امتيازات المالطيين، ودفع مرتب إلى رئيس الفرسان - وهو يومئذ هوبش - وإلى رفاقه الفرسان عن سنة كاملة، على شرط ألا يذهبوا إلى فرنسا ولا يدخلوا أرضها في حال من الأحوال. وكان في الجزيرة يوم احتلها الفرنسويون 1200 مدفع و40000 بندقية ومليون ونصف رطل من البارود. وكان قائد الفرسان المذكور ضعيفا فيما يقال، وقد بلغ من العمر عتيا فترك مالطة ومعه 12 فارسا، وسافر في سفينة نمساوية إلى تريستة، ومنها إلى بطرسبورج، وماتت طريقة الفرسان معه بعد أن بلغت من السؤدد ما تقدم وصفه في هذا الفصل. وكان أول قائد للفرسان من حكام مالطة فيليه آدم دي ليل، بدأ حكمه سنة 1532 وآخرهم هوبش انتهى حكمه سنة 1798، فمدة استيلائهم على الجزيرة 276 سنة.
ولما تمكن الفرنسويون في مالطة جعلوا يمحون آثار الفرسان، فاحتلوا قصورهم وأزالوا شعارهم، ثم مدوا أيديهم إلى آنية الكنائس الذهبية، ولم يقم نابوليون في مالطة طويلا؛ لأنه برحها في 21 من شهر يونيو المذكور بعد أن ترك فيها الجنرال فوبوا ومعه 3000 جندي وخمس بطريات من المدافع، وتقدم هو إلى الإسكندرية. وأساء الفرنسويون سلوكهم في مالطة بعد سفر نابوليون؛ لأنهم سلبوا كنيسة في المدينة القديمة، فقام الأهالي عليهم في 12 سبتمبر من تلك السنة وذبحوهم ليلا وهم 65 نفسا حامية تلك الجهة، وأرسل الجنرال فوبوا من فاليتا نجدة تقتص من الأهالي حين بلغه هذا الخبر، فاعترضت جنوده ألوف من الفلاحين في الطريق وأحاطت بها من كل جهة، ولم يحدث قتال بين الفريقين، ولكن المالطيين انتهزوا هذه الفرصة وأرسلوا للأميرال نلسون قائد الأسطول الإنكليزي الذي كان يتأثر أسطول نابوليون؛ فجاء حالا وحصر الجزيرة وأطلق المدافع على حاميتها الفرنسوية. وكان المالطيون محيطين بالمدينة من كل جهة ليمنعوا عنها الزاد، فأقام الفرنسويون على الحصار، ورأى نلسون أنه لا يمكنه الانتظار فترك قوة أمام مالطة تحت قيادة السير إسكندر بال، وسار بأسطوله وراء نابوليون حتى التقى بأسطوله عند أبي قير على مقربة من الإسكندرية، حيث حدثت المعركة المشهورة التي دمر بها أسطول الفرنسيس. وأما السير إسكندربال فإنه أقام على حصار مالطة نحو سنة على غير جدوى، وأظهر الجنرال فوبوا الفرنسوي في خلال الحصار مقدرة وبسالة زادتا قدره، ولكنه رأى أن الأهالي موالون للأعداء، وقد قطع الزاد والمدد عنه من البر والبحر فسلم في أوائل أبريل سنة 1799 للقائد الإنكليزي واسمه الجنرال بجوت. فلما استولى الإنكليز على الجزيرة وزع بجوت إعلانا على الأهالي قال فيه إن جلالة ملك إنكلترا لا يريد الاستيلاء على مالطة، ولكنه يقيم فيها حامية لحفظ الأمن والنظام، وتعهد بحفظ استقلال المالطيين وحريتهم في الدين واللغة والعوائد والأملاك، وأخبرهم أيضا في هذا المنشور أن إنكلترا أرسلت 4000 جنيه إلى الآستانة فكاكا للأسرى المالطيين، فرضي الأهالي عن هذا الإعلان، ولما جاء الأسرى فرحوا بلقياهم فرحا عظيما، وأظهروا كل ولاء للإنكليز. على أن إنكلترا ضمت هذه الجزيرة رسميا إلى أملاكها بعد 14 سنة بمقتضى البند السابع من معاهدة باريس سنة 1814.
وكان أول حاكم إنكليزي لمالطة السير إسكندربال السابق ذكره، توفي سنة 1809 فأسف الجميع لوفاته، وخلفه الحكام في جملتهم السر بونسونبي سنة 1835، اشتهر بتأسيس المجالس المحلية. وخلفه السر فرال سنة 1840، وهو الذي قال مالطة للمالطيين، وحصر وظائف حكومة مالطة بالمالطيين، ما خلا ثلاثة من المناصب الرئيسية. وتلاه لمرشنت فاهتم لزيادة عدد المدارس في مالطة وتوسيع نطاقها. وفي سنة 1862 ذهب جلالة الملك إدورد الحالي - وهو يومئذ ولي العهد - فزار مالطة، وقوبل بالاحتفاء العظيم. وفي سنة 1877 عين الديوك أوف كونوت شقيق الملك إدورد حاكما لمالطة، ورزق فيها بنتا سماها فكتوريا مليتة باسم الجزيرة القديمة، وهي الآن زوجة ولي عهد السويد، وقد توالى الحكام الإنكليز على الجزيرة، وكلهم من بعد الديوك أوف كونوت قواد عسكريون، وهم يحكمون باسم الملك وإرادة الشعب المالطي ونوابه الآن. هذا أشهر ما يقال في تاريخ مالطة، نسقته تنسيقا لا يمل القارئ من مطالعته، وقد جمعته من عدة قواميس ومؤلفات، والآن أتقدم لوصف هذه الجزيرة وما فيها، فأقول:
تتكون مالطة من أربع جزر، أولها فاليتا على اسم مؤسسها - وقد تقدم ذكره - وفيها العاصمة وجزيرة غوسو سماها العرب هودج؛ لأنهم شبهوها بالهودج، وهي على مقربة من فاليتا، وجزيرة كومينو سماها العرب كمونة، وهي صغيرة واقعة بين الجزيرتين السابقتين، والرابعة فيلافلا سماها العرب فلفلة لصغرها. طول هذه الجزر 20 ميلا وعرضها 12 ومساحتها 117 ميلا، وعدد سكانها مائتا ألف نفس، وهي مجموع أكمات يختلف علوها ما بين 600 قدم و1000 قدم، وأكثرها صخرية رملية لونها أصفر فاقع، وأبنيتها من الحجر الرملي، قائمة على الروابي وضفاف الماء وبعضها في الخلجان والكهوف. وقد تخللت المياه أرض هذه الجزيرة فدخلتها من اليمين ومن الشمال حتى كونت ثغورا طبيعية واسعة ترسو فيها البوارج وبواخر التجار، فالواقف في أي الأحياء في مالطة يرى البحر من أمامه ومن ورائه. وطرق الاتصال بين هذه الأحياء سهلة، إما بحرا بالوابورات الصغيرة والقوارب مسافة 5 دقائق تقريبا، أو برا بالعربات أو على الأقدام. ومالطة نظيفة يعنى مجلسها البلدي بالرش والكنس كثيرا ولا سيما في زمان الصيف، حيث يكثر الغبار ويشتد الحر، وإذا هبت الرياح في الشتاء كانت شديدة هوجاء يلجأ الناس منها إلى المنازل والحوانيت، حتى قال أحد المؤرخين إن مالطة مخزن الأهوية، ولكنها مع ذلك معتدلة الإقليم. ومع أن الأرض صخرية فقد زرعوا فيها العنب والصبير (التين بشوكة)، وهو مشهور بحمرة لونه وحلاوته، وفيها بعض مزارع القمح والشعير. على أن سوقها ملأى بكل أنواع الفاكهة والخضر، تأتيها من صقلية من أعمال إيطاليا، وهي قريبة منها لا تزيد المسافة عن 12 ساعة، ويرد منها باخرة كل يوم.
وأما رابية العاصمة فإنها هرمية الشكل مثل قالب السكر نظموا في قمتها شارعين مهمين، أولهما اسمه ريالة - أي الشارع الملكي - والثاني مركانتة - أي الشارع التجاري - وبقية طرقها منحدرة تتصل من القمة إلى ضفة البحر، فهم جعلوها ملتفة معوجة حتى لا يتعب المرء من السير فيها، وهي طريقة التنظيم في كل الجبال. وقد بنوا سلالم من الحديد والخشب في بعض جهاتها، حيث يكثر الانحدار تسهيلا للصعود والنزول. وفي شارع ريالة - السابق ذكره - أحسن الأبنية للمنازل والفنادق والحوانيت والقهاوي والتياترو الكبير والمكتبة والبورصة والنادي والمجلس البلدي، وهنالك أيضا قصر فاليتا قائد الفرسان مساحته 3000 قدم مربعة، وقد جعله الإنكليز مقام الحاكم العام، دخلته لأرى ما فيه من التحف وآثار دولة الفرسان، فولجت بابا كبيرا وصلت منه رحبة، ثم رقيت سلما من الرخام عريض الذرى واطئا، يكاد المرء لا يشعر بمشقة الصعود عليه، ودخلت القاعة الكبرى التي كان الفرسان يجتمعون فيها، وقد جمعوا فيها أنواع الأسلحة القديمة وعددها 150 قطعة من كل الأشكال، وفيها ملابس الفرسان وكسوة قائدهم فاليتا مزركشة بالذهب والقصب ومنظرها يروق للعيون. قال لنا الدليل: كان لهذه الكسوة سيف من الذهب مرصعة قبضته بحجارة الألماس الكبرى، وقد أخذه نابوليون الأول حين احتل الجزيرة.
وفي وسط القاعة منضدة كبرى وضعت فيها حلي الفرسان وجواهرهم مغطاة بالزجاج، وفي جملتها صولجان الإمارة للقائد فاليتا، وهو من الذهب في رأسه صليب، وحجة تملك الفرسان لمالطة من شارلكان، وهناك البوق الذي نفخوا فيه إعلانا بالخروج من رودس حين تركوها للأتراك. وفي الجدران رسوم جميلة لمعارك الحصار التركي تمثل الأتراك في المراكب بسترهم الحمراء والعمامات البيضاء، وقد شهروا السيوف وهموا بالنزول إلى البر، وعلى الجدران أيضا نقوش ورسوم أفريقية ذات قيمة واعتبار. وفي القصر نحو 60 غرفة كبيرة للحاكم العام وعمال ديوانه وبعضها لعائلته، وهو يقيم فيه كل سنة حفلة راقصة يدعو إليها كبار الموظفين ووجوه الأهالي، وفيهم أصحاب الشرف ورتب الشرف، كالماركيز والكونت والبارون، وفيهم عدة أغنياء ورثوا الأموال الطايلة عن الآباء والأجداد. وفي قاعة الطعام رسوم كل قواد الفرسان من أولهم إلى آخرهم. وقد أضاف المجلس البلدي رسوم الحكام الإنكليز من بدء استيلاء هذه الدولة عليها إلى الآن، فكلما جد حاكم وضعوا رسمه هنا، وما زال في مالطة سبعة قصور بناها الفرسان، أخذتها الحكومة الإنكليزية وأعطت بعضها للضباط، وأحدها للنادي العسكري، والأخرى لمراكز الحكومة. وقد قضيت زمانا في هذا القصر، ثم نزلت منه فرأيت في ردهته الخارجية عربة من النوع القديم كانت لهومبش، وهو آخر قادة الفرسان، قيل إن نابوليون الأول ركب هذه العربة حين كان في مالطة، وقال بعضهم غير ذلك؛ أي إن نابوليون طلب إليه الركوب فيها، فقال إن مالطة لا تسع قدمه.
وتجاه القصر ميدان القديس جورجيوس، وكان اسمه ميدان الفرسان؛ لأنهم كانوا يجتمعون فيه ليراهم الرئيس من الشباك، وكان المرور غير مباح للأهالي في هذا الميدان، فجعله الفرنسويون حرا، وأطلقوا على الموضع اسم ميدان الحرية، وأقاموا يوم 14 يوليو حفلات فيه وزينات دعوا إليها الأهالي، وهنا أعدم الفرنسويون أيضا الذين تآمروا عليهم ووالوا الإنكليز مدة الحصار الذي جاهد فيه الجنرال فوبوا. والميدان هذا أحسن مواضع مالطة لأن تصدح الموسيقى فيه أحيانا فيتألب الناس لسماعها جمهورا كبيرا. وعلى مقربة من هذا الميدان ساحة نصب فيها تمثال الملكة فكتوريا فوق العرش، وعلى رأسها تاج الملك وبيدها اليمنى صولجان الملك، والتمثال كله من الرخام الأبيض.
وهناك قهوة يجتمع المالطيون فيها، كنت أنتابها أحيانا؛ لأسمع لغتهم الغريبة، وهي خليط من العربي والطلياني. وعلى مقربة من هذه الساحة كنيسة يوحنا المعمدان، وهي من كنائس أوروبا المشهورة، طولها 187 قدما والعرض 118 والعلو 63، دخلتها فوجدت فيها جمهورا من الأهالي في غير وقت الصلاة للتحدث والمباحثات الدينية ومشاهدة الرسوم، وهم لا يشبعون من ذلك. وقد قلت تحف هذه الكنيسة عما كانت في أيام الفرسان؛ لأنه كان يفرض على كل فارس يرتقي درجة أن يهدي الكنيسة شيئا، وكانت هدية الرئيس عند تنصيبه 50 أوقية من الذهب؛ فلهذا كانت كل آنية الكنيسة من الذهب، حتى إن بابها كان يغشاه الذهب. وقد راح معظم هذه التحف في أيام الاحتلال الفرنسوي ما عدا بعض آثار قديمة عظيمة القيمة حفظت في صندوق من الحديد من أقدم أيام النصرانية، وفي جملتها يد القديس يوحنا المعمدان، كانت في بدء أمرها في إحدى كنائس أنطاكية ونقلها القيصر يوستنيانوس إلى القسطنطينية.
وحدث بعد هذا أن نجل السلطان بايزيد مرض مرضا ثقيلا فأتوا لمعالجته بفارس من فرسان رودس اشتهر بالطب، ولما شفي الأمير على يده طلب أن يكافئه السلطان بيد يوحنا المعمدان، فلما طرد الفرسان من رودس أخذها رئيسهم معه إلى مالطة حيث ألبسها غشاء من الذهب ووضعها في صندوق ذهبي، وحفظ هذا الصندوق في خزانة الحديد التي ذكرناها، بقيت إلى أن وصل نابوليون وفتح هذا الصندوق فوجد في أصابع اليد خواتم ذات حجارة ثمينة من الألماس، فأخذ الحجارة، وأعطى اليد للقائد هومبش ثم طرده من مالطة كما سبق البيان. وسافر هومبش بهذه اليد إلى تريسلة، ومنها إلى بطرسبورج واليد باقية إلى اليوم في القصر الشتوي لقياصرة الروس ملبسة بغشاء من الفضة، وقد ذكرت أني رأيتها عند الكلام على عاصمة الروس. وكنيسة مار يوحنا التي نحن في شأنها جميلة، أرضها مبلطة بنحو 400 قطعة من الرخام الكبير، وكل قطعة منها مرصعة بقطع أخرى من جميع ألوان الرخام. وفي جدران هذه الكنيسة وسقفها نقوش بديعة ورسوم حوادث الإنجيل كلها وافية الإتقان، ولا سيما المختصة منها بحياة مار يوحنا المعمدان، وفيها أيضا مدفن رؤساء الفرسان الذين توفوا ما بين سنة 1534 وسنة 1776، وفي جملتهم فاليتا مؤسس عاصمة مالطة الحالية.
الأمير بشير الشهابي.
قلعة سان إلمو:
لما خرجت من كنيسة مار يوحنا التقيت بضابط مالطي عرفته في مصر، فذهب بي إلى قلعة سان إلمو، وأراني ما بها من المدافع الكبرى وأنواع السلاح القديم والحديث. ورأيت ركاما من الكرات التي قذفها الأتراك على مالطة مدة الحصار. ثم دخلت ثكنة الجنود وكلهم من أهل الجزيرة، فأشرفنا منها على المدافع الهائلة المصوبة إلى البحر، ورأينا ما فيها من البوارج الراسية. وفي هذه القلعة قبر السر إير كرومبي، وهو القائد الإنكليزي الذي حارب نابوليون الأول وقتل على مقربة من الإسكندرية. وخرجت من القلعة إلى شارع ريالة، وفي آخره باب كبير يفصل المدينة عن الخلاء وإلى يمينه تمثال فيليه آدم دي ليل، وهو رئيس الفرسان الذي دافع عن رودس، وإلى الشمال تمثال فاليتا مؤسس المدينة. وعند خروجنا من هذا الباب ألفينا نفسنا في الخلاء، ورأينا المخازن المبنية تحت الأرض التي كان الفرسان يذخرون بها الزاد والمئونة مدة الحصار، ولها فوهات تشبه فوهات الآبار والصهاريج، وهي تؤجرها الحكومة الإنكليزية للتجار يخزنون فيها الغلال والمحصولات. وقد أنشئوا في هذه الأرض حديقة جميلة دخلتها مع حضرة المركيزة تيستا فراتا، فقالت لي إن سيدات المدينة يعنين بها كثيرا؛ ليكون لهن بعض الأزهار فيها. ثم ذهبت إلى ضاحية سان أنطونيو، وهي تبعد أربعة أميال عن العاصمة فقصدتها بالعربة في طريق منحدر حسب طبيعة الأرض، فكنت أرى المالطيين قاعدين أمام أبواب منازلهم الكائنة في الطريق وكلها ذات دور واحد، وربما كانت عادة الجلوس على الأبواب في أهل مالطة شرقية الأصل. ولهذه الضاحية حديقة فيها نحو 500 شجرة برتقال زرعوها في تراب نقلوه من إيطاليا؛ لأن أرض الجزيرة كلها رملية صخرية - كما تقدم القول - فرأيت في الحديقة عددا من القسوس والرهبان يتنزهون، وعددهم يزيد عن عدد الآخرين، ولا عجب فإن مالطة فيها 200 كنيسة و14 ديرا. وفي طريق الحديقة قصر بناه دي بولا رئيس الفرسان في سنة 1625 فصار قصرا صيفيا لخلفائه، وقد أقام فيه الملك إدورد السابع لما زار مالطة على عهد أمه، وكان مسكن الأمير بشير اللبناني حين اعتزل في هذه الجزيرة زمانا وسماه بعضهم بعد ذلك بالمالطي.
المدينة القديمة:
هي ثغر كانت عاصمة الجزيرة قبل بناء فاليتا، سماها العرب المدينة، وكان اسمها قبل نوتابلي، وأهل الجزيرة يعرفونها باسم المدينة العتيقة على حد مصر العتيقة. وفي هذه المدينة آثار الدول والشعوب التي تداولتها، ففيها معابد جونو وأبولو، وتلك الكهوف التي جعلها المسيحيون كنائسهم وملاجئهم أيام الاضطهاد في بدء النصرانية. وهنالك حدثت المعارك الكثيرة والحصار المتوالي لما هاجمها العرب والأتراك والفرنسويون والإنكليز. وقد مدوا سكة حديدية سنة 1883 بين العاصمة والمدينة القديمة هذه، واشترتها الحكومة الإنكليزية من الشركة التي مدتها في سنة 1892، وطول هذه السكة 8 أميال، وهم يتوصلون إلى المحطة من سرداب طوله 1000 متر، وعرضه 70. وقد جعلوا للسرداب نوافذ يدخل منها النور والهواء، فذهبنا منه إلى المحطة وسافرنا في القطار إلى المدينة العتيقة فبلغناها بعد الوقوف في محطات كثيرة، وتوجهنا توا إلى قصر اللورد جرنفل، وهو يومئذ حاكم الجزيرة كان في القصر الصيفي مثل كثير من الذين يقضون أشهر الحر في هذا المكان؛ نظرا لكونه قائما على ضفة البحر، ولما علم جنابه من الحديث أنني أريد الكتابة عن مالطة أمر سكرتيره - وهو اللورد توين - أن يسير معي في القصر ليدلني على تحفه وآثاره، فبدأ هذا الشاب النبيل يقول لي إن القصر بناه فيروال رئيس الفرسان في سنة 1582. وأخذني بعد ذلك إلى سرداب تحت الأرض بلغته على سلم لولبي، قال لي إنه كان سجن الفرسان بأمر الرئيس، والسجن عبارة عن غرفة واسعة لها أربع نافذات، ولها جدران سميكة وأرضها مبلطة، دلني اللورد إلى بلاطة عليها رسم الشطرنج، كان المسجونون من الفرسان يقضون الأوقات باللعب عليها فيما يظهر. وأخذني السكرتير بعد ذلك إلى سطح القصر حيث رأيت مالطة بأوضح الأشكال، وكان الرجل يسألني في خلال ذلك عن بعض إخوانه من ضباط الإنكليز في مصر. ولما انتهيت من القصر شكرت اللورد جرنفل وودعته وسرت إلى غابة قريبة من القصر فيها نحو 100 شجرة من الأزدرخت والصفصاف والتوت والخروع زرعت بلا نظام، وهي نامية بماء عين يجري تحت الأرض. ورأيت في هذه المدينة كنيسة عظيمة لا مثيل لها في مصر أو الشام، كل جدرانها من الرخام الأبيض أتوا به من إيطاليا، وعمدها ضخمة من الرخام السماقي الأحمر، وفيها أعمدة من الرخام الأصفر، والذهب كثير في سقفها وجوانبها، ولها قبة شاهقة نقشوا عليها الصور الدينية، وفوق الهيكل صليب طوله 3 أمتار أتى به الفرسان من رودس، وفي خارج الكنيسة بعض المدافع القديمة. وذهبت بعد ذلك إلى كهوف النصارى الأول، وقد تهدم كثير منها، فأوقد الدليل شمعة، وجعل يشرح لي ما يعلمه عنها. ومن حكاياته أن معلما دخل مع تلاميذه يوما ليتفرجوا عليها فاختفى الكل، ولم يقف أحد على أثر لهم من ذلك الحين، وقالوا إنه دخلها خنزير يوما فوجدوا بعد ثلاثة أيام أنه خرج إلى شاطئ البحر كأنما هي متصلة به. وشاهدت بعد هذا تماثيل جونو وأبولو، ثم عدت إلى العاصمة في الطرق المنحدرة والأراضي الصخرية والرملية، كالذي تقدم عنه الكلام.
سليمة:
من الأحياء الجميلة في مالطة حي بني على شاطئ البحر اسمه سليمة، وربما كان أصل الاسم عربيا يمكن الوصول إليه من العاصمة، وقد قصدته من شارع ريالة بالطرق الملتفة المنحدرة، ووجدت في الطريق أكمة حفروا تحتها سردابا وله نوافذ يدخل منها النور. فلما خرجت من هذا السرداب ظهر البحر، وفيه الباخرات الصغيرة والقوارب على أشكالها، وهي أبدا تمخر بين سليمة والعاصمة كل خمس دقائق، والمسافة بينهما لا تزيد عن عشر دقائق بين الجهتين. وقد كان حي سليمة شاطئا مهجورا من سنين، فأصبح الآن من أجمل الأحياء، له حديقة طويلة غرس فيها بعض الأشجار والزهور، على يمينها البحر وعلى الشمال منازل السكان وأكثرها لطيف المنظر، وتحتشد الجماهير في هذه الجهة كل مساء من أهل هذا الحي وغيره، يأتونها بعد الغروب لاستنشاق الهواء النقي، ولا سيما في الليالي المقمرة، حيث تصدح الموسيقى ويكثر القاعدون في القهاوي المحدقة بهذا المتنزه الجميل.
لغة مالطة:
ما زال أهل العلم والآداب حتى الساعة في ريب من أصل اللغة المالطية، وهي خليط ظاهر من العربية والطليانية، قال بعضهم إنها لغة إيطاليا مكسرة، وزعم غيرهم أنها لغة أهل لبنان. ولكن الغالب على الظن أن القوم ركبوا لغتهم من لسان إيطاليا ولسان تونس، وكلا القطرين قريب من مالطة لا تزيد المسافة عن 14 ساعة، ولفظهم العربي قريب من لفظ أهل تونس، وهم يكسرون الألف كالياء، فبدل أن يقولوا فارس يقولون فيرس. واللغة المالطية لا تكتب، فهم يتعلمون الطليانية في مدارسهم، ويكتبون بها في كل حالة، وقد طبعت الجمعيات الدينية أسفارا من الإنجيل والتوراة بلسان المالطيين بحروف إفرنجية يخالطها بعض الحروف العربية. فالقوم يتكلمون بهذه اللغة المستغربة ولكنهم يكتبون بالطليانية، وأكثر المتعلمين منهم يعرفون الإنكليزية؛ لأنها لغة الحكومة، ولكن عامتهم لم يألفوها مع أنه مضى أكثر من قرن على احتلال الإنكليز، وربما كان السبب نفور القوم من لغة الأمة الفاتحة، وهو شأن كل أمة خضعت لغيرها قهرا، مثل بولونيا وفنلاندا والألزاس واللورين وغيرها، وهذا أنموذج من لغة مالطة:
عربي
مالطي
دخلت بستانكم وقطفت من رمانكم.
دخلت فلجردين تبعكم وقطعت من الرومين تبعكم.
مالطة ظريفة زهرة العالم.
مالطة صبيحه فلور دلموندو.
كيف حالكم اليوم؟
كيف احنا الوم؟
وهذا أنموذج من شعرهم:
كل من يحب في هذه الدنيا لياليه دائما مقلقة
كول من يحوب فدين الدنيا ليلو دجم بلا مستريحه
المحبة تضيع له نعاسه ولا تكون أفكاره رائقة
آل محبة أتلفوا نعاسه قط محه تحليه مرتاحه
ومع أن المالطيين عامة أهل ولاء للدولة الإنكليزية وهم يفخرون بالانتماء إليها، إلا أنهم لم يتمثلوا بالإنكليز في شيء من عوائدهم وأخلاقهم، وقد ظهر هذا للمستر تشامبرلن سنة 1900 حين زار مالطة، وهو وزير المستعمرات الإنكليزية، وساءته قلة المتكلمين بلغة قومه في بلاد لهم من زمان طويل، فأصدر أمرا بإكراه المالطيين على استبدال الطليانية بلغة إنكلترا في الرسميات، وجعل موعدا لهذا الإبدال آخره بعد ثلاث سنين، فاشتد هياج المالطيين لذلك، وقام كبار الموظفين منهم كالقضاة والمحامين والمأمورين الذين لا يعرفون الإنكليز، وكثرت آيات اعتراضهم في المجالس البلدية والمظاهرات ضد الحاكم العام والوزير تشامبرلن مدة سنتين، حتى اضطر هذا الوزير إلى الرجوع عما أراد مع اشتهاره بمضاء العزم وميله الشديد إلى توحيد المصالح واللسان في كل المستعمرات الإنكليزية، وكانت جرائد إيطاليا كلها معضدة للمالطيين في نفوذهم وهياجهم حتى إذا اشتدت الأحوال، قال الوزير تشامبرلن في مجلس النواب إنه رأى أن منشوره قد يعكر صفاء الود بين إنكلترا وإيطاليا، فهو أبطله محافظة على وداد الدولتين ومراعاة لأميال المالطيين، فهدأ بال أهل الجزيرة وشكرت حكومة الطليان لوزارة إنكلترا هذا الصنيع الودي على لسان السفير. وفي هذه الحادثة دليل على استقلال نفوس المالطيين، وحبهم الشديد للوطن ولتقاليد الآباء والأجداد، وهم اشتهر عنهم قول معناه أن مالطة حلوة، وهي زهرة العالم وبالمالطية «مالطة حنينه فيور دل موندو»، وعندي أن عدم سيادة الآراء الإنكليزية في هذه الجزيرة ناشئ عن تنحي الإنكليز من الاختلاط بالآخرين، فلو أن حكوماتهم وجمعياتهم عنيت بإنشاء المدارس الإنكليزية في مالطة، ولو أنهم أكثروا من الاختلاط بأهلها، لما بقي هذا البعد الباعد بين الحاكمين والمحكومين.
وأهل مالطة على الجملة سمر الألوان كالطليانيين، ولكنهم ذوو نخوة وحدة غريبة يتأثرون لأقل ما يمس النفوس، ولهم شهرة بالورع والتدين وكثرة الصلاة، يظهر ذلك من تعدد كنائسهم؛ فإنها لا تقل عن 200 كنيسة في جزيرة لا يزيد أهلها عن 200 ألف، وفيها أيضا 14 ديرا، فكيفما اتجهت لقيت الرهبان والقسوس، وهم يميل أهل الجزيرة إلى محادثتهم ومعاشرتهم، ويدعونهم إلى كل جمعية عائلية، وقل أن يخلو حديث لهم من موضوع الدين كما أنه ليس يخلو منزل لهم من الأيقونات توقد أمامها الشموع، وليس فيهم شخص إلا وهو على اسم أحد القديسين، ولا سيما القديس يوحنا المعمدان، وهم يذهب كل يوحنا منهم إلى كنيسة هذا القديس يوم عيده مع أفراد عائلته، حتى إذا رجع منها توارد عليه المهنئون بهذا العيد، وهي عادة سار عليها معظم النصارى في مصر والشام، وأكبر الإهانات في مالطة أن أحدهم يسب اسم قديس خصمه، وأعظم آيات المجاملة تمجيدا للقديس الذي سمي الرجل باسمه، ويندر أن تمر بضعة أسابيع لا ترى فيها موكبا لأحد القديسين. وقد رأيت مدة إقامتي موكبا يوم عيد السيدة العذراء، فكان جمعا حافلا خرج من الكنيسة وأمامه فريق من القسوس والرهبان يتقدمهم حامل الصليب، وفي أيديهم الشموع والمباخر، ومن ورائهم جموع الناس معهم صورة العذراء صنعت من الجبس وتردت بثوب أزرق، وعلى رأسها إكليل من الذهب، وقد حملوا تلك الصورة على كرسي فوق أكتاف الرجال، وكان أسعد الناس حالا الذين حملوا ذلك الكرسي. ورأيت وراء كرسي السيدة بحرا أسود متلاطما عجاجا من النساء المالطيات، وهن يلبسن فوق ملابسهن نوعا من الإزار الأسود (حبرة) يسمونها فديتا، ومنظرها يقرب من منظر الحبرة المصرية المعروفة، غير أن القسم الأعلى من الفديتا يصنع على شكل مظلة تضعه المرأة فوق رأسها؛ للاستظلال والوقاية من الشمس والمطر، غير أن سيدات مالطة من أهل الطبقة العليا يلبسن الآن ملابس الأوروبيات، وهن مثل الرجال يقل فيهن زرقة العين، وللمالطيات شهرة بالعفة وبراعة في تدبير المنازل، ويقال على الجملة إن مالطة قسم من أوروبا، وإن أهلها لا يختلفون عن الأوروبيين، وكانت إقامتي في هذه الجزيرة خمسة أيام لما انقضت ركبت باخرة إنكليزية وسرت فيها إلى القطر المصري.
وختام القول أني أرى كثيرا من السائحين بين أهل هذا القطر يذهبون كل سنة إلى أوروبا عن طريق مرسيليا ويعودون من هذا الطريق، مع أنهم يمكنهم الرجوع عن طريق الجزائر وتونس فيرون أقطارا عربية يفيدنا الاختلاط بأهلها، ولا يكلفهم ذلك مالا أو زمانا غير القليل، وذلك سهل إذا سافر المرء في باخرة من شركة ترانس أتلانتيك في مرسيليا، وهي يقوم منها كل أسبوع أربع بواخر، أجرة السفر فيها 100 فرنك، والمسافة إلى عاصمة الجزائر 26 ساعة، والسفر منها إلى عاصمة تونس هين بسكة الحديد وبأجرة 100 فرنك أيضا، والمسافة 20 ساعة تقريبا، ومن تونس إلى مالطة بحرا بأجرة 40 فرنكا والمسافة 14 ساعة، ومن مالطة بالبواخر الإنكليزية إلى الإسكندرية ثلاثة أيام والأجرة 125 فرنكا، فالمسافة بين مرسيليا وإسكندرية بهذا الطريق 7 أيام والأجرة 365 فرنكا، ترى نفع هذه الخطة من أن الذين يعودون إلى إسكندرية عن طريق مرسيليا يقضون 5 أيام في البحر ويدفعون 315 فرنكا، فبهذا الفرق - وهو 50 فرنكا ويوما - يرى المسافر بلاد الجزائر وبلاد تونس، ويشاهد كثيرا من جبالها وأنهارها غير العاصمتين، ويرى جزيرة مالطة أيضا وهو فرق صغير لا يذكر في جنب هذا النفع الكبير. وإذا أقام المسافر في كل من العواصم التي ذكرتها أياما كان النفع أظهر وأتم.
ورأيي على المسافر الذي يتبع هذه الخطة أن يجعل سفره في أشهر الخريف، وهو يكفيه 40 أو 50 يوما لكل ما يريد؛ لأنه يذهب من مرسيليا بحرا إلى وهران، وهي ثغر في غرب الجزائر وبعدها 38 ساعة عن مرسيليا، ويسير منها بسكة الحديد إلى تلمسان عند حدود مراكش ومسافتها 5 ساعات، ومن تلمسان إلى عاصمة الجزائر، وهي إلى الشمال على بعد 17 ساعة، ومنها إلى قسنطينة في الجنوب على بعد 15 ساعة، ومنها بسكة الحديد إلى عنابة في الشمال الشرقي على بعد 8 ساعات، ومنها يدخل القطار ولاية تونس ويبلغ عاصمتها في 10 ساعات، فمجموع الساعات 92، وبيان المشاهد في هذه الجهات كلها مبين فيما تقدم من فصول هذا الكتاب.
سورية ولبنان
في السفر من مصر إلى بيروت ولبنان
إن المسافة بين مصر وبيروت يمكن اجتيازها في نحو 24 ساعة؛ إذ يقوم القطار من محطة مصر عند الساعة السابعة صباحا، فيبلغ بورسعيد بعد الظهر بقليل، ومنها يبحر في الساعة الثانية فيصل بيروت صباح الغد، والذاهب إلى بيروت يتجلى له منظر لبنان عن بعد، وقد امتد هذا المنظر من ضفة البحر وظهرت صخوره بألوانها الطبيعية ما بين أحمر وأزرق ورمادي؛ لأن الأشجار في هذا الجبل لا تكسو كل جوانبه، ولا تحجب منظر أرضه وصخره عن الناظرين، مثل أشجار الجبال الأوروبية، وكذلك القرى تظهر للمرء من عرض البحر وقد سطع نور الشمس عليها، مثل عين سعادة والزوق وجوبية وغيرها. وأما بيروت فهي عند سفح هذا الجبل، وقد قامت فوق البحر على شكل هضبة متدرجة الارتفاع من الشاطئ فما فوق، كأنما هي مرسح متدرج الطبقات صعدا (أنفتياتر)، وكل منازلها مشرفة على الماء ومطلة على منظر لبنان، وأحسن ما يكون لرؤية بيروت أن يتأملها المرء من البحر، ولا سيما في الليل حين تسطع أنوار الغاز من منازلها بعضها فوق بعض، ومنازل بيروت جميلة الظاهر فسيحة الغرف كثيرة الطاقات، وكلها بالحجر الرملي الأصفر أو البرتقالي، ومعظم سقوفها بالآجر الأحمر، وكذلك معظم المنازل المستجدة في جبل لبنان. ومن أهم بناياتها المدرسة الكلية لمرسلي الأميركان، وهي مجموع أبنية ضخمة جميلة الشكل في الطرف الغربي من المدينة، ويعرف باسم رأس بيروت، ومنها بناء البنك العثماني الجديد عند شاطئ البحر والثكنة العسكرية بعده بقليل، ومدرسة اليسوعيين ومدرسة الناصرة ومنازل بعض الأكابر من آل سرسق وبسترس وتويني وفريج وغيرهم في الأحياء الشرقية من المدينة، وهي يسكنها معظم الأهالي من المسيحيين وسراي الحكومة في أواسط البلد وغير هذا، مما جعل إمبراطور ألمانيا يقول حين زار بيروت سنة 1898 إن تلك المدينة جوهرة في تاج آل عثمان. وطول مدينة بيروت كيلومتر ونصف، وعرضها ثلاثة كيلومترات ونصف، ومساحتها 4530 كيلومترا، بنيت محل بيريت القديمة، واسمها الحالي محرف من هذا الاسم القديم، وقد تقلبت عليها الأدوار والدول كما تقلبت على بقية مدن سورية وأكثر جهات الشرق القريب، فنكتفي هنا بالقول إن بدوين الأول فتحها سنة 1110 أيام الحروب الصليبية، واسترجعها السلطان صلاح الدين الأيوبي من الإفرنج سنة 1187، ثم وقعت في حوزة آل عثمان على عهد السلطان سليم الأول سنة 1517، وما زالت عاصمة إحدى الولايات العثمانية الكبرى إلى الآن. وتقسم ولايتها إلى أربع متصرفيات، هي عكا ونابلس وطرابلس واللاذقية، ولها أقضية تتبعها رأسا، هي صيدا وصور ومرجعيون، ولكل من المتصرفيات السابق ذكرها أقضية تابعة لها، ففي متصرفية عكا أقضية حيفا والناصرة وصفد وطبرية. وفي متصرفية نابلس، جنين وبني صعب، وفي متصرفية طرابلس، عكاز والحصن وصافيتا، وفي متصرفية اللاذقية، جبلة والمرقب وصهيون، وقد بقيت بيروت ثغرا غير كثير السكان بسبب الحروب والمخاصمات إلى عهد قريب؛ فإن سكانها في سنة 1848 لم يزيدوا عن 25 ألفا، ولم يكن بها منزل خارج سور المدينة، فكانت مثل مصر قبل إنشاء التوفيقية والإسماعيلية وغيرهما من الأحياء المستجدة. ولكن بيروت زادت أهمية وسكانا في النصف الثاني من القرن الأخير حتى إن أهلها الآن لا يقلون عن 120 ألفا، منهم 37500 من المسلمين و36500 من الأرثوذكس، و29000 من الموارنة، و9000 من الروم الكاثوليك، و3000 من اليهود و2000 بروتستانت، و1800 لاتين، و500 سريان كاثوليك، و500 دروز و400 أرمن كاثوليك، و300 أرمن أرثوذكس و200 متاولة، وهو إحصاء تقريبي لم أقف على ما هو أقرب منه إلى الصواب.
ولا بد للذي يريد الذهاب إلى لبنان أن يقيم يوما أو أياما في بيروت؛ ليرى ضواحيها ومتنزهاتها، مثل الفنار وهو على الطرف الغربي الأقصى من المدينة فوق شاطئ البحر، والحرش وهو غابة من شجر الصنوبر عند حدود جبل لبنان، يمكن الوصول إليها بالعربة في مسافة ثلثي الساعة، ولها ضواح أخرى تقوم إليها قطر الحديد خمس مرات كل يوم، وتقف في 13 مثابة منها قريب بعضها من بعض، مثل محطات خط المطرية أو خط حلوان في ضواحي مصر. وأسماء المحطات في بيروت وضواحيها كما يأتي: المدور وبيروت والدورة ونهر الموت والفوار وأنطلياس وضبية ونهر الكلب وعنطورة وصربا وجولية وموقف البيطار والمعاملتين، وأحسن هذه المواضع الضبية ونهر الكلب، يمكن رؤيتهما في يوم واحد، وهما في منتصف الطريق، وقد قمنا إليهما في القطار من محطة المدور، فسار بنا من عند الجمرك يخترق شوارع المدينة حتى إذا بلغ أطرافها جعل يدخل في نفق ويخرج من نفق، وهو جار إلى يمينه بساتين الزرع الشهية وإلى يساره البحر. ولما وصلنا نهر الكلب استرحنا في قهوة وكان من ورائنا جبال صخرية وأمامنا بساتين وأغراس ومن ورائها الرمل والبحر بعده، والمنظر من تلك البقعة له جمال فتان. ومشينا نحو ربع ساعة من ذلك المكان فوصلنا شلال نهر الكلب والحجر المحفور عليه كتابات باللغات المصرية القديمة والآشورية واليونانية والرومانية، وسنعود إلى ذكرها عند الكلام عن أنهر جبل لبنان. وعدنا بعد ذلك في القطار إلى محطة ضبية، وهي أجمل متنزهات الضواحي البيروتية والناس ينتابونها أكثر من كل ناحية أخرى؛ لأنها مجموع غياض حسناء من أشجار الصنوبر والزنزلخت والدلب، تحجب نور الشمس، ويقعد الناس تحت ظلها إلى مقاعد ومناضد كثيرة نثرت في جوانبها. ويتقاطر البيروتيون بعيالهم إلى هذا المكان في أيام الأحد فتزدحم القطرات بهم، وأكثرهم يقضون النهار بطوله هنا، فيأكلون مما تزودوا، أو يطبخون مأكولهم في تلك المثابات، حيث تكثر اللحوم، والسمك يصيدونه ويقلونه في الحال. وقد قسم المكان أرصفة ومراتب صغرى، تختار كل فئة أو عائلة من المتنزهين ما تشاء منها، وتقضي الساعات في قصف وراحة وسماع أصوات المغنين أو أنغام الفونوغراف. قلنا إن هذا المكان فيه شلال وهو يزيد محاسنه الكثيرة وعرض هذا الشلال نحو 12 مترا، يتدفق منه الماء كاللجين، وهو يهبط من علو خمسة أمتار بوجه التقريب، ثم ينساب بين تلك الأغراس والأشجار، ويتفرع في جوانب المكان فيحلو للناس أن يجلسوا فوق المجاري الكثيرة يشنفون السمع بخرير الماء، ويمتعون الطرف بمنظره ويقضون يومهم في هناء حتى يجيء موعد الرجوع إلى بيروت.
جبل لبنان
كان جبل لبنان في سني تاريخه الحديث تابعا لإيالة صيدا حتى سنة 1860 حين حدثت فيه الحرب الأهلية بين المسيحيين والدروز، وتداخلت دول أوروبا الخمس لفض مشاكله، وهي فرنسا وإنكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا؛ فاتفقت مع الدولة العلية على أن يمنح لبنان استقلالا إداريا، ويعين له متصرف مسيحي من رعايا الدولة العلية ترشحه الدولة العلية، وتوافق دول أوروبا على تعيينه، واتفقت هذه الدول أيضا على نظام جبل لبنان. ولما تذاكر السفراء عند وضع القانون الأساسي عن تعيين متصرف مسيحي رأت روسيا جواز تعيين متصرف أرثوذكسي، ومن بعد مفاوضات ودية مع فرنسا تم الاتفاق على أن يكون المتصرف كاثوليكيا من غير الطوائف المنتشرة بالجبل، وكان ذلك مراعاة لطائفة الموارنة؛ لأنها الفئة الغالبة من اللبنانيين.
وقد شكل بناء على هذا النظام مجلس الإدارة من سراة الجبل ونواب طوائفه، رئيسه المتصرف، وعدد أعضائه 12، منهم 4 عن الموارنة و3 عن الدروز و2 عن الروم الأرثوذكس، وواحد عن الروم الكاثوليك وواحد عن المسلمين وواحد عن المتاولة. ولهذا المجلس أن يقرر جباية الأموال ويراقب طرق إنفاقها بحيث لا تتجاوز مصروفاته القدر المعين في الميزانية، وهو 7000 كيس أي 35000 ليرا مجيدية، وقد عين حسب هذا النظام إلى الآن سبعة من المتصرفين هم: (1)
داود باشا، أرمني كاثوليكي، أصله من الآستانة، عين في شهر يوليو سنة 1861. (2)
فرانكو باشا، أرمني لاتيني، أصله من حلب، عين في 27 يوليو سنة 1868. (3)
رستم باشا، لاتيني المذهب، أصله من إيطاليا، عين في 22 يوليو سنة 1873. (4)
واصا باشا، لاتيني أرناءوطي، عين في 8 مايو سنة 1883. (5)
نعوم باشا، أرمني لاتيني، أصله من حلب، عين في 17 أوغسطس سنة 1892. (6)
مظفر باشا، لاتيني بولوني الأصل، عين في 21 أوغسطس 1905. (7)
يوسف باشا، ابن فرانكو باشا المتصرف الثاني، وهو لاتيني أرمني، أصله من حلب، وقد عين في 10 يوليو سنة 1907.
هؤلاء هم ولاة لبنان من عهد نظامه الحالي، يعين كل منهم حسب النظام المذكور لمدة 5 سنين، ويجوز أن تجدد هذه المدة بفرمان سلطاني يصدر بعد موافقة الدول الخمس. وكيفية تعيين المتصرف أن الباب العالي يعد كشفا بأسماء البعض من رعاياه المسيحيين، ويعرضه على جلالة السلطان، ثم ينتقي أحد المكتوبين في هذا الكشف، ويطلب من سفراء الدول تعيينه، فإذا اختلف السفراء ولم يوافقوا بالإجماع عرض الباب العالي اسما آخر عليهم من الأسماء المدرجة في الكشف المذكور، ومتى انتخب أحدهم لهذه الولاية ينعم السلطان عليه برتبة الوزارة، ويرسله بفرمان منه إلى لبنان، فتقابله حكومة بيروت والجبل عند وصوله بالاحتفاء الكبير، وتقام في إحدى قرى لبنان حفلة حافلة لتلاوة الفرمان القاضي بتعيين المتصرف الجديد، يحضرها المتصرف الذي انتهت مدته ووالي بيروت أو من يقوم مقامه، وقناصل الدول الجنرالية في ولاية بيروت، وجميع سراة لبنان وأمرائه وأكابره، ومعظم أفراد الفرقة اللبنانية وجمع غفير من المتفرجين، وتطلق المدافع وتصدح الموسيقى، ويعد ذلك النهار عيدا في لبنان تتلوه حفلات التهاني ، ويعقب ذلك ما يرى المتصرف الجديد إجراءه من التغيير والتبديل في حكومة لبنان وموظفيها.
ويقيم متصرف لبنان مدة الصيف في قرية بتدين (بيت الدين) في سراي الأمير بشير الشهابي، وهو أشهر حكام لبنان قبل تقرير نظامه الحالي، بنيت سنة 1828، واشترتها الحكومة من ورثته في أوائل حكم داود باشا، فجعلتها مقر الحاكم وديوانه في الصيف. وأما فصل الشتاء فإن المتصرفين يقضونه في بيروت أو في بعض قرى السواحل، والغالب أنهم يقيمون في قرية بعيدا، حيث لهم منزل وديوان مشهور.
موقع الجبل:
تمتد سلسلة جبل لبنان من الشمال الشرقي في أواسط سورية إلى الجنوب الغربي، وطولها 145 كيلومترا، وعرضها 45، ومساحة الجبل كله 6500 كيلومتر مربع. وأما حدوده فمن الشمال متصرفية طرابلس، ومن الشرق أقضية بعلبك وراشيا وحاصبيا، ومن الجنوب قضاء صيدا، ومن الغرب بيروت وشاطئ البحر. ويقال على الجملة إن لبنان مجموع سلاسل من الجبال البهية والأودية، معظمها مشرف على البحر ومدنه، وارتفاع أجزائه يختلف، فمنه ما لا يزيد عن سطح البحر إلا قليلا، ومنه ما هو متوسط الارتفاع أو بالغه، أذكر من ذلك: سلسلة جبال الباروك، ارتفاعها 1600 متر، وجبال نيحا 1850 مترا، وجبل الكنيسة 2030 مترا، وجبل ظهر القضيب 2490 مترا، وجبل صنين 2610 أمتار.
ولكن المشهور أن لبنان قسمان، هما الجبل الغربي والجبل الشرقي، فأما الجبل الغربي فيبتدئ من قلعة الحصن عند جبال النصيرية شمالا، وينتهي في وادي الليطاني عند حدود بلاد حاصبيا ومرجعيون جنوبا، وأما الجبل الشرقي فأول سلسلته على مقربة من حمص، وتمتد من هنالك في جهة الجنوب الغربي، ويفصل بين الجبلين سهول بعلبك والبقاع المشهورة.
تعداد الجبل:
يقرب عدد السكان في متصرفية لبنان من أربعمائة ألف نفس، منهم حوالي 230 ألفا من الموارنة، و55 من الروم الأرثوذكس، و45 ألفا من الدروز و35 ألفا من الروم الكاثوليك، و17 ألفا من المتاولة، و14 ألفا من المسلمين و800 من البروتستانت، و150 من اللاتين، وقليل من الطوائف الأخرى. وفيه حسب الإحصاء الأخير 782 كنيسة و140 ديرا و150 خلوة للدروز، و50 زاوية وضريحا للمسلمين، وعدد قرى لبنان 980 قرية داخلة في سبعة أقضية ومديرية واحدة هي أقضية الشوف والمتن وكسروان والبترون وجزين والكورة وزحلة، ومديرية دير القمر، وهي تعد قضاء ممتازا مستقلا.
الأنهر:
في لبنان أنهار وجداول كثيرة، أشهرها عشرة هي هذه:
نهر قديشا:
والاسم لفظ سرياني معناه المقدس، وهو نهر كبير نبعه تحت قرية بشري، وهو يمر على مقربة من أهدن وزغرتة في قضاء البترون، ويدخل مدينة طرابلس حيث يسمونه بأبي علي، ويروون من مائه البساتين، وهو يصب في البحر عند طرابلس، وطوله 38 كيلومترا.
نهر الجوز:
أصله من جبل تنورين، ينبع من مغارة فوق كفر صلدا، ويجري في وادي الجوز إلى الجنوب الشرقي ثم إلى الشمال الغربي، وبعد أن يمر في أقضية الكورة والبترون يصب في البحر عند رأس الشقعة ما بين بيروت وطرابلس.
نهر إبراهيم:
واسمه عند القدماء أدوني، يخرج من مغارة أفقا على مقربة من العاقورة، ويجري من الشرق إلى الغرب مارا بقضاء كسروان، ثم يصب بين جونية وجبيل في البحر وطوله 18 ميلا، وقد سمي بهذا الاسم؛ لأن الأمير إبراهيم أحد أمراء المردة بنى عليه قنطرة.
نهر الكلب:
واسمه عند قدماء اليونان ليقوس - أي الذئب - يخرج من مغارة جعيتا ويختلط في واديها بماء نبع العسل ونبع اللبن، ويصب في البحر بين غزير وبيروت، وقد جرت إحدى الشركات الإنكليزية ماء هذا النهر إلى بيروت، فكلها تستقي من مائه الآن، قيل إن رعمسيس الثاني ملك مصر لما فتح فينيقية نقش تاريخ فتحه على صخر بالقرب من هذا النهر، وكذلك فعل الملك سنحاريب الآشوري، وفي سنة 520 قبل المسيح بنى له أنطيوخوس ملك سورية جسرا عظيما تهدم، وأعاد بناءه الإمبراطور أنطونينوس الروماني سنة 140 بعد المسيح، وقد أقام القدماء فيه نصبا من الحجر على هيئة كلب ربط إلى سلسلة من الحديد، وزعموا أنه إذا فاجأهم العدو نبح هذا الكلب ونبههم، فسمي لذلك نهر الكلب، وهو يصب عند بيروت وطوله 30 كيلومترا.
نهر أنطلياس:
يبعد 3 أميال عن نهر الكلب، ومخرجه من ينابيع الصفصافات والتنور والحاووز.
نهر بيروت:
أصله نهران، أحدهما يخرج من بين قريتي ترشيش وكفر سلوان، والآخر من عند قريتي فالوغا وحمانا، ويجري في حدود قضائي المتن وأنشوف، ويصب عند بيروت بعد أن تستقي مزارعها المشهورة منه.
نهر الدامور:
معناه بالسريانية العجب، وهو نهر كبير يجتمع ماؤه من نهر الغابون الخارج من عين الدلم، ومن نهر الصفا ونبع القاع الذي جر الأمير بشير الشهابي بعض مائه إلى قصره في بيت الدين بقناة اشتغل الأهالي بها 22 شهرا. ونهر الدامور يجري من الغرب منحرفا إلى الجنوب ويصب عند معلقة الدامور بعد أن يسقي السهل والمزارع، وطوله 25 كيلومترا.
نهر الأولى:
سمي بهذا الاسم من يوم صارت صيدا قاعدة الشطر الجنوبي من لبنان أو المدينة الأولى، وكان العرب يسمونه نهر فردوس بسبب ما حول مجراه في صيدا من الحدائق والبساتين، أصله من الباروك، وهو يسقي سهول صيدا وبساتينها المشهورة، وطوله 45 كيلومترا.
نهر الليطاني:
واسمه أيضا نهر القاسمية، عند مصبه يخرج من نبع العليق وتنضم إليه عدة جداول، مثل البرذوني وغيره، وهو يخترق سهل البقاع من أطرافه الشرقية ويمر في بلاد مرجعيون والشقيف، ويصب على مقربة من صور.
نهر البرذوني:
وقد تقدم ذكره - وهو يسقي بساتين زحلة، وطوله 24 كيلومترا.
السكك:
لم يكن في لبنان قبل عهد نظامه الحالي سكك منظمة، فكل ما فيه منها الآن حديث، بدأ بعضه داود باشا وتم البعض في أيام المتصرفين السابقين، ولا سيما أيام نعوم باشا ومظفر باشا، حتى إن طول سكك العربات في الجبل الآن يزيد عن 750 كيلومترا. وأشهر هذه السكك ما بين بيروت والمصايف الكبيرة - التي سنأتي على ذكرها - مثل سكة عالية وبحمدون وصوفر إلى زحلة، وسكة بيت مري وبرمانا، وهي تنتهي في ظهور الشوير، وسكة دير القمر وهي تمتد إلى ما وراء جزين، وغيرها كثير من السكك تمر بها العربات وسط حرجات بهية من الصنوبر، ومزارع وكروم وتلف من وراء الجبال وتخترق الأودية والسهول. فالسفر داخل لبنان نزهة جميلة بعد أن أصلحت هذه الدروب وصارت أحسن من دروب كثيرة في مدن الشام، وقد أدى إصلاح هذه الطرق وتنظيمها إلى تحسين حالة الأراضي وارتفاع أثمانها في كثير من القرى، ولعل ذلك هو الذي دفع أهل الجبل إلى تحسين حالة منازلهم، فإنه يندر فيه الآن ما كان قديما من المنازل، بل إن معظم بيوته جديد جميل الخارج، بني بالحجر الصلد، وسقف بالقرميد أو الآجر الأحمر، وهو شيء كان نادرا من نحو عشرين سنة، هذا غير أن الفنادق والحانات والحوانيت كثرت في القرى التي تخترقها هذه الطرق، والمواصلات سهلت، فكثر عدد الذين يقضون أشهر الصيف في لبنان من أهل المدن السورية والمصرية، وتبارى الأهالي في بناء المنازل الحسنة، ولا سيما الذين نزحوا إلى أميركا والمستعمرات الإنكليزية، وعادوا إلى وطنهم بعد أن قضوا في الغربة أعواما وجمعوا أموالا وفيرة، فإن كل راجع من هاتيك الأقطار ينفق معظم ثروته في إصلاح منزله أو بناء منزل جديد، حتى عمر لبنان وتقدم في ظاهره وأبنيته تقدما كبيرا، وكان الفضل في كل هذه الهمة لتحسين الدروب.
الحاصلات:
يقال على الجملة إن الحاصلات قليلة؛ لما أن البلاد صخرية وقد ضاقت بسكانها في بعض الجوانب وتعذرت الزراعة، فجعل الأهالي يقطعون الصخور في بعض المواضع ويزرعون مكانها أو يغرسون، حتى إنهم حاولوا غرس الصنوبر فوق الصخور في عدة مواضع. وفي الجبل مواسم للغلال والحبوب، أهمها القمح والحمص والشعير والعدس، ولكن الموسم الأكبر هو موسم الحرير، يشتغل به كل الأهالي تقريبا بعض أشهر السنة، وقل أن يخلو منه بيت، فهم يكثرون من أغراس التوت؛ لأن دود القز يغتذي بورقها، فإذا انتهوا من تربية الدود ونمت الشرانق باعوها لسماسرة وتجار يدورون في القرى ويجمعونها من البيوت فيستفيد منها كل الناس، ولا يقل موسم الشرانق في السنة عن ثلاثمائة ألف أقة، ولعله يزيد عن هذا المقدار. ويلي التوت عندهم في الأهمية شجر الزيتون؛ ففي نواحي لبنان أكثر من 31181 دنما زرعت زيتونا، أو نحو 779 فدانا من الأرض يستغل الناس غلته، ويصنعون منه الزيت، والزيتون المحفوظ على أنواعه والوقود من بذوره. ومعظم القرى كانت تعول على الزيت في إنارة منازلها إلى عهد قريب، ولكن البترول حل محله الآن في كثير من الجهات، وفي لبنان غابات زيتون كثيرة ، أشهرها وأكبرها صحراء الشويفات، وهي أكبر غابات الزيتون في كل بلاد سورية، والشويفات قرية في قضاء الشوف عند سواحل بيروت، وفي قرية المختارة من قضاء الشوف أيضا غابة أخرى للزيتون مساحتها 16 كيلومترا مربعا، وفي المعصرة من قضاء الكورة غابة مساحتها نحو 7 كيلومترات مربعة، ويقال إن جملة موسم الزيتون في لبنان كله نحو 14 مليون أقة، وجملة الزيت الذي يستخرج منه نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون أقة.
والعنب والتين من الحاصلات المشهورة في لبنان أيضا، لا تخلو قرية من كروم هذين النوعين، والتين اللبناني لذيذ الطعم لعله أحسن أنواع التين في الوجود. وأما العنب فأشكاله كثيرة وكرومه واسعة لا تخلو منها بقعة، حتى إن جملة هذه الكروم لا تقل مساحتها عن 21520 دنما أو نحو 5380 فدانا، ومقدار العنب الذي يخرج منه كل سنة لا يقل عن ثلاثة ملايين أقة، ومقدار الخمور التي تستخرج في لبنان من العنب يزيد عن 160 ألف أقة.
الهواء:
اشتهر لبنان من قدم بجودة هوائه وطيب مائه، وشهد له الأطباء الحديثون من أهل الشرق والغرب بذلك، حتى إن كثيرا من السائحين يفضلونه على أقطار أوروبا؛ بسبب اعتداله وقلة أمطاره في الصيف، وظهور الفصول الأربعة فيه ظهورا واضحا، وفيه ما بين السهول البحرية وقنن الجبال العليا كل درجة من الحر تطلبها النفس، فسواحله تصلح للشتاء، وأعاليه للصيف، وأواسطه في الربيع والخريف من أجل مثابات الوجود، ولا حاجة إلى القول بأن لبنان أصلح من غيره للشرقي؛ لما أن حالته ومأكولاته أقرب إلى الذوق الشرقي، وله مزية على مصايف أوروبا في أنه ليس فيه دواعي الانهماك والإتلاف الكثيرين، بل إن المصطاف يستعيض عن حانات أوروبا وكازيناتها بهذه العيون والجداول والينابيع والأحراش التي تشرح الصدور بمنظرها ويشفي ماؤها من السقام، هذا غير أن الغش في مأكولات لبنان وخضرها وفاكهتها غير معروف على طريقة بعض المصايف الأوروبية. وفي كل قرية من قرى لبنان الآن بيوت حسنة نظيفة يمكن استئجارها، وفي المصايف المشهورة، منها بيوت مفروشة وفنادق حسنة، مثل فنادق أوروبا في إتقانها، وأجرة المنازل في بعض القرى رخيصة جدا، ولكنها معتدلة في المصايف المشهورة، وهي:
عالية:
قرية جميلة في قضاء الشوف، بنيت على قمة جبل مثل أكثر القرى المشهورة في لبنان، وعلوها 820 مترا عن سطح البحر، يمكن الوصول إليها بسكة الحديد من بيروت أو بالعربات، وقد أصبحت مدينة صغرى جميلة الطرق والمساكن بعد أن تهافت الأكابر وبعض النزلاء الأجانب على بناء البيوت فيها، من نحو 25 سنة، وكثرت حوانيتها وحاناتها وفنادقها، منها فندق بحار اشتهر بحسن الخدمة وإتقان الطبخ، وأكثر أغنياء بيروت الذين ليس لهم بيوت في عالية يقضون بعض الصيف فيه، وقد أضيف إليه ناد مشهور يقصده الرجال والسيدات من بيروت والقرى المجاورة في كثير من ليالي الصيف، وأجرة الإقامة في هذا الفندق 8 فرنكات في اليوم، وقد تكون أقل إذا طال زمان الإقامة، وأجمل منه في الموقع والبناء فندق القصر (بالس هوتل) أصله قصر لسري من آل بسترس، وقد بني على رأس القمة فوق عالية، وأحيط بحديقة حسناء، فهو يشرف على البحر وجزء كبير من لبنان، ومنظره في غاية الجمال، وقد جروا في بعض السنين الأخيرة على إقامة حفلات الرقص في هذا الفندق الجميل، وأجرة السكن فيه من 8 فرنكات إلى 10 في اليوم. ويحيط بعالية قرى مثلها في الجمال وجودة الهواء ولو أنها أقل منها شهرة، مثل عين الرمانة يتفجر الماء الزلال من صخورها فيجري بين أشجار الصفصاف، ومن حوله الناس يتفرجون ويعجبون، وعند نبعه قهوة يأتي الناس منها بالأراكيل (الشيشة) ويضعونها في مجرى الماء، ويزينها لهم صاحب القهوة ببعض الأغصان والأزهار، وتبعد هذه المثابة ثلث ساعة عن عالية. ومثلها عين الجوزة وهي على مسيرة ساعة من عالية، وماؤها يجري تحت شجر الجوز الباسق الكبير، وهو من الأشجار التي تعمر كثيرا، والذي يجنى من ثمرها غير قليل.
مكين:
تبعد نصف ساعة عن عالية، وفيها فندق حجار يشرف على الطريق والوادي من أمامه والجبل الشاهق من ورائه، كسي بشجر الصنوبر، والمصطافون هنا يقصدون عين السيدة في أواخر النهار، حيث يجدون قهوة ومعدات الخدمة، وهذه العين واقعة في بقعة شهية بين عالية ومكين، ومركز هذه القرية متوسط بين كثير من المصايف المشهورة، وهواؤها غاية في الاعتدال.
سوق الغرب:
قرية تكاد تكون ملتصقة بمكين، والذي يقصدها من جهة عالية يظنها جزءا من القرية المذكورة؛ لأن البناء متواصل ما بين الجهتين وتخترقهما طريق واسعة للعربات أقيم على طولها حاجز من الحجارة المتينة إلى ناحية الوادي؛ حتى لا تتدهور فيه بعض العربات وهي مسرعة في النزول. وفي سوق الغرب مدارس للأميركان داخلية وخارجية، وسوق صغيرة وكنيسة جديدة باسم مار جرجس للروم الأرثوذكس، جميلة الوضع، وقد عني ببنائها نيافة المطران جراسيموس مسرة مطران بيروت، وفيها متنزهات طبيعية من كل جانب، وقد بنيت قهوة شملان في ضواحيها فوق صخر يظنه الرائي على وشك أن يهوي إلى الوادي الكائن تحته. وقد بني في سوق الغرب فندق جديد اسمه نزهة لبنان، أتقنت معداته وامتاز بجمال موقعه واهتمام صاحبه لراحة المسافرين، وإلى جانبه غابة من شجر الصنوبر العطر يجلس الناس تحت غصونها ويتناولون القهوة على مهل. ومن أجمل المتنزهات التي يقصدها أهل سوق الغرب عين حمانا، يرغب الناس في انتيابها والتلذذ بمنظرها، فطريقها لا تخلو من الذاهبين إليها والآيبين، ويمكن الوصول من هذه القرية إلى عبية بالعربة؛ فإنها تبعد عنها ساعة واحدة، وهي من القرى المعروفة اشتهرت بمدرسة للأميركان عالية، هذبت عددا كبيرا من رجال سورية في أواسط القرن الماضي وأواخره، ثم استعاض الأميركان عنها بالمدرسة الكلية الشهيرة في بيروت. وهواء عبية وما حولها قليل الرطوبة يشبه هواء بحمدون، فهو مفيد لصحة الأبدان.
صوفر:
كانت عين صوفر قرية صغرى، لا يعرفها من الناس إلا فئة قليلة إلى عهد قريب، فلما مر منها خط الحديد ما بين بيروت ودمشق وبني الفندق الكبير، صارت هذه القرية مثابة الكبراء ومصيف السراة الأغنياء، وشيدت فيها فنادق أخرى غير الكازينو الكبير وعدة منازل وقصور لأهل الترف واليسار من السوريين المقيمين في بيروت أو في مصر. وصوفر موضع عال لا يقل ارتفاعه فوق سطح البحر عن 1280 مترا، ولكن الماء فيه قليل، فهو في ذلك يشبه كثيرا من أهم القرى اللبنانية؛ لأن القرى المذكورة بنيت على رءوس الجبال، والماء لا ينبع من رأس الجبال، بل من سفحه والأودية المتصلة به؛ فلذلك ترى الماء قليلا في أكثر هذه المثابات الجميلة. ويحدث في صوفر وعالية كثيرا أمر يميز لبنان عن غيره، هو أن الضباب يتكاثف فوق بعض جهاته، ويخيم حتى يصبح مثل بحر من السحاب تحت تلك الشعاب والقنن، وهو يعرف عند اللبنانيين باسم «الغطيطة»، ومنظره غريب ولكنه لا يدوم كثيرا؛ لأن الرياح تتلاعب به وتبدده بعد انعقاده بقليل. وفي ضواحي صوفر نزهة الشاغور، ويقال له متنزه حمانا أيضا يرغب الناس في انتيابه كثيرا؛ لأن ماءه ينحدر من شلال علوه نحو 20 مترا، ويهبط على صخور ثم يجري بينها، ومن حوله المقاعد والكراسي العريضة يجلس الناس إليها ويتفرجون، وصاحب القهوة يقدم للطالبين ما عنده من طعام وشراب. وقد بنيت هذه القهوة على رأس وادي حمانا الذي يستقي من ماء هذا الشلال، ومسافة هذا الموضوع عن صوفر نحو ساعة بالعربة.
بحمدون :
هي قرية مشهورة بجفاف هوائها، وليس فيها شجر، بل كل ما حولها كروم عنب لذيذ، فالأطباء يصفونها للمرضى، وقد جعلوها مستشفى بديعا، وهي لا تبعد أكثر من نصف ساعة بالعربة عن صوفر. وبحمدون على كتف واد غير عميق، فلا يتصاعد الضباب منه كما يتصاعد في الجهة الأخرى، وأرضها صخرية.
نهر الصفا:
يبعد هذا النهر نحو ساعة بالعربة عن صوفر، وطريقه بين جبلين من الصخر الأزرق القاتم، يكاد التراب لا يتخلل الصخور، فلا نبت فيها ولا غرس، وقد ذهبنا إليها في عربة، ومررنا في الطريق بخلوة للدروز أو هي معبدهم، ونادي العقال منهم دهنت بالجير الأبيض من الخارج، والدخول إليها محظور على كل فرد من الناس ما خلا عقال الدروز. وما زالت العربة تهبط بنا تلك الأودية حتى بلغنا نهر الصفا البديع مجراه، وقد قامت من حوله منازل وفنادق ومضارب يقضى فصل الصيف فيها، وقد بنوا عند هذا المجرى قهوة ووضعوا فيها مطحنة تدور آلاتها من ضغط الماء، ويتكون من دورانها شلال من الماء يتطاير ويتناثر على الصخور، ثم يجري من عدة مواضع في خور نمت فيه أشجار من الدلب والحور والصفصاف. ويمر الماء بعد ذلك تحت جسر فيسقط في خور آخر، ويسمع لسقوطه دوي، ويرى إلى جانبيه صفوف أخرى من الأشجار التي تنمو إلى جانب الماء كالتي ذكرناها، حتى إن ذلك المكان أضحى بهجة للناظرين ومجموع بدائع للمتأملين، وقد تمشينا فوق صخور نهر الصفا نحو ربع ساعة حتى بلغنا نبع القاع، وهو مصدر هذا النهر يتفجر ماؤه من قاعة أو مغارة عالية في وسط الصخور، إذا تسلق المرء قليلا بلغ تلك القاعة، ووجد أنه في شبه كهف عال كأنما هو منحوت في قلب الجبل، والماء يجري من ذلك الكهف إلى ما دونه تحت أشجار غضيضة ملتفة تحجب نور الشمس، وقد جعلت منظر ذلك المكان من المشاهد المعدودة في جبل لبنان.
عين زحلتة:
من القرى المشهورة بجمال موقعها، ولكنها لا تطل على البحر مثل أكثر مصايف لبنان، وقد أهلت بالسكان وكثرت عمائرها، ولكن المصطافين يؤثرون السكن في حدودها. والجبل القائم فوقها لا يقل ارتفاعه عن 1300 متر فوق سطح البحر، وعند سفح هذا الجبل غابة من الصنوبر، فيها فندق صغير وبعض المنازل والمضارب والأكواخ يصنعونها من أغصان الصنوبر، وتقضى فيها أشهر الصيف.
الباروك:
قرية قريبة من عين زحلتة، والمسافة بينهما نحو نصف ساعة، وجملة المسافة من صوفر إلى الباروك بالعربة نحو ساعتين ونصف ساعة، فالذين يقصدون هذه الجهة من النازلين في فندق صوفر عدد كبير، أكثرهم يعودون في نفس النهار بعد أن يتناولوا الطعام مما تزودوا على نهر الصفا ونهر الباروك، ويضعوا سلال الفاكهة في هاتيك المجاري الشهية لتبرد ثم يرجعون إلى صوفر في آخر النهار كما فعلنا. وهي نزهة يقل نظيرها في سائر الأقطار، وأشهر ما في الباروك نبعها البديع، ونهرها الذي يشبه ماؤه الزلال، وهو يجري في أرض منبسطة خلافا لبقية ينابيع لبنان، ويسقي عدة مزارع في قرية الباروك وسواها، وقد اشتهر هذا النهر بنقاء مائه وبرودته في أيام الحر، حتى إن المرء لا يطيق بقاء يده في المجرى أكثر من دقيقة، وإذا وضع نصف ريال في قاع المجرى بين الصخور أمكن للرائي أن يقرأ حروفه؛ لأن الماء بالغ النقاء، وعلى مقربة من الباروك غابة من شجر الأرز يقصدها المتفرجون، وهي كائنة عند قاعدة جبل اسمه صات الجبل، يبلغ علوه 1545 مترا، فهو من أعلى مواضع لبنان.
زحلة:
هي أكبر مدن لبنان طرا، ومن أكثرها جمالا وثروة، وأحسنها موقعا وهواء. ذهبت إليها من صوفر، فلما بلغت محطة المعلقة ركبت عربة قامت تجري في وسط طرق منظمة إلى جانبيها مجاري الماء وشهي الأغراس والأشجار، وقد بنيت مدينة زحلة إلى جانبي واد كبير، ونهر البردوني يجري بين الشطرين، وإلى ضفتي هذا النهر من هنا ومن هنا أشجار الدلب والصفصاف والحور والصنوبر والزنزلخت، وقد بنوا من فوقه جسرا ليعبر الناس عليه من جانب إلى جانب. ولما كانت زحلة مدينة عامرة، فقهاويها وفنادقها كثيرة، ومروجها الخضراء عند مجرى الماء من أشهى ما وقعت عليه العين . وأهل زحلة ميالون إلى الطرب، فيكثر أن تسمع في هاتيك المروج أصوات المغنين أو آلات الطرب، ثم إن لوازم المعيشة فيها كثيرة ورخيصة ولا سيما الفواكه وأخصها العنب، فإن في كروم زحلة المشهورة نحو عشرين نوعا من العنب الشهي، حتى إن بعضهم يقصد هذه المدينة للاستشفاء بهوائها ومائها وعنبها. وأحسن موضع ترى منه مناظر زحلة هو بناء الحكومة الجديد في ساعات النهار، وأما في الليل فإن منظر هذه المدينة يحلو من الوادي أو ضفاف البردوني؛ لأن الواقف هنالك يرى الأنوار ساطعة من جانبي الوادي متصلة من مجرى الماء إلى أعلى الجبل في الجانبين.
وقد اكتريت عربة من زحلة، وذهبت بها إلى حدائق تعنايل للآباء اليسوعيين، وهي - أي تعنايل - واقعة في سهل البقاع الذي يتصل بزحلة، وله بها علاقات زراعية وتجارية كثيرة، فلما بلغت ذلك المكان بعد ساعة رأيت العجب من إتقان العمل على الطريقة الفرنسوية؛ فإن القوم قاموا بعمل لم يجارهم في مضماره غير الخواجات بولاد المشهورين ببيع نبيذ لبنان. وقد غرسوا كروم العنب على الأسلوب الفرنسوي وزرعوا ألوفا من أشجار الفاكهة الأخرى جاءوا ببعض بذورها من أوروبا، وأنموها في ذلك المكان المعتدل الهواء، فهم يستخرجون الخمور أنواعا، ويصنعون مربيات الأثمار أشكالا من التفاح، والخوخ والسفرجل والبرقوق وغير ذلك، ويرسلون هذا كله إلى أوروبا. وقد قابلنا مدير هذه الحدائق، ودار معنا بنفسه يفرجنا متلاطفا، وكان معنا في أثناء هذه الزيارة بعض المعارف من القطر المصري، وعندهم هنالك مدرسة زراعية صغيرة لتعليم أولاد الجبل، وفي هذه القرية أيضا حديقة غناء للوجيه الخواجا نخلة تويني تكثر فيها أشجار التوت لتربية دود الحرير وأنواع شتى من أشجار الفاكهة.
ظهور الشوير:
هي قمة عالية فوق قرية الشوير المشهورة التي أنشئت فيها المطابع العربية من أكثر من مائة عام، أي قبل دخول المرسلين الأجانب الذين أنشئوا مطابعهم الكبرى، وطبعت هنالك عدة مؤلفات عربية وكتب مقدسة من زمان بعيد.
بلغنا يوم وجودنا في صوفر أنه سيقام في الشوير معرض صناعي في 10 أوغسطس يحضره المتصرف، فعزمنا على الذهاب إليه مع حضرة الوجيه الخواجا جورج قرداحي، والمسافة بالعربة من صوفر إلى ظهور الشوير نحو 5 ساعات في جبال حمانا وأرصون وصليما وبعبدات وظهور الشوير، والعربة تدور من حول هذه الجبال كلا في دوره، فهي تارة في صعود وطورا في هبوط، ولكن المسافر لا يمل من طول الطريق وتكرار النزول والصعود؛ لما أن المناظر جميلة متنوعة وأشجار الصنوبر وغيرها إلى جانبي الطريق، وفيها عدة حانات إلى جانب عيون الماء تباع فيها المأكولات والمشروبات، ويستريح فيها المسافرون بين شهي المناظر الطبيعية، وقد يمر المرء بأبعاد ليس فيها زرع، بل إن صخورها ظاهرة وبعض هذه الصخور ضخم، رأيت واحدا عند دير مرحاتا يشبه في شكله تمثال أبي الهول الكائن عند أهرام الجيزة.
سرنا بالعربة من صوفر وارتقينا جبل حمانا ثم هبطنا وادي حمانا، وهو من أخصب أودية الجبل تكثر فيه أشجار التوت، وقد تسلقت غصون اللوبياء على أصوله وجذوعه حتى أصبحت الأرض كلها خضراء كالزمرد، وعدنا إلى الصعود حين بلغنا جبل أرصون، وتكثر فيه غابات الصنوبر، وقد استرحنا عند عين أرصون قليلا، حيث تباع المأكولات والفواكه، وسرنا بعد هذا بجسر أرصون وقرية العربانية، وجسر الجعماني حتى إذا انتهينا من ذلك دخلنا الجبل الثالث، وفيه قرية صليما، فالجبل الرابع وفيه قرية بعبدات، وهي مشهورة تتفرع منها الطرق أحدها إلى برمانا وبيت مري، وآخر إلى ظهور الشوير، سرنا به إلى جبل الشوير، وهو الخامس من حلقات هذه السلسلة التي اخترقناها، وقد استرحنا مدة عند عين عرعار، وهو نبع يتدفق ماؤه بين الصخور، وله منظر في غاية الجمال، ومررنا بقرية مرحاتا ودير مار موسى حتى بلغنا ظهور الشوير، ونزلنا في فندق كيرلس، وهو على أكمة قائمة بنفسها في ذلك الجبل الشاهق، يعلو عن سطح البحر نحو 1190 مترا، وهو يعد من أجمل المصايف وأحسنها؛ لأن هواءه جيد جدا، وأرضه مع ارتفاعها كثيرة الكروم والبساتين والغابات، وقد كثرت فيه العمائر والفنادق الآن بعد أن تهافت المصطافون عليه في الزمن الأخير، والمرء يرى من هنا الجبال العديدة متصل بعضها ببعض إلى بعد باعد، وقد زاد حسن الشوير عام زيارتنا لها بوجود المعرض الذي أشرنا إليه، وهو من عمل أحد أدباء الشوير اسمه فارس أفندي مشرق أقام زمانا في أميركا، وتعلم من أهلها طرق العمل والنهضة، فأنشأ هذا المعرض بعد رجوعه إلى وطنه، وهو أول معرض لبناني من نوعه، وقد أم هذا المعرض نحو خمسة آلاف نفس من المدعوين وغيرهم، ولما جاءه المتصرف قابلته اللجنة بالإكرام وصدحت الموسيقى بالنشيد اللبناني، ثم ارتقى منصة، فتليت بين يديه الخطب والقصائد بالعربية والتركية والفرنسوية، ثم دار مع المتفرجين في أجزاء المعرض، وكان فيه أوان فضية، ودخان كوراني لف على طريقة السيجار الإفرنجي، وأجراس وطنافس وصور مناظر لبنان مطرزة باليد على القماش ومنسوجات حريرية وقطنية ورياش وأسلحة، وكلها مما صنع في قرى لبنان.
بكفيا:
قرية جميلة كثيرة العمائر الجديدة، ولأهلها شهرة بالجد والإقدام، وهي تبعد أقل من ساعة عن ظهور الشوير.
برمانا:
من القرى الجميلة، اشتهرت بمدارسها وفنادقها ومستشفياتها ، ففيها مدارس داخلية للبنات والصبيان، بعضها للإنكليز والبعض للفرنسويين، وفيها فندقان عظيمان وفنادق أخرى، وهي تبعد ساعتين ونصف ساعة عن بيروت بالعربة، والناس يرغبون في قضاء الصيف فيها. وقد أقمنا في فندق بونفيس، وهو بناء جميل يفضل فندق صوفر في حسن موقعه؛ لأنه بني على هضبة قائمة بنفسها يرى المرء منها البحر، وكل ما تقدم ذكره من مصايف لبنان.
بيت مري:
وهي قرية جميلة جدا، تكاد تكون ملاصقة لبرمانا، وقد بنيت على رأس جبل مثلها، وكثرت فيها المنازل والفنادق، وأهل بيروت يؤثرون الاصطياف في هاتين القريتين على بقية قرى لبنان.
بعلبك
ذهبت لزيارة مدائن بعلبك وحمص وحماة من صوفر في قطار سكة الحديد مع حضرة الوجيه الخواجا جرجي كرم، ومررنا بمحطة رياق، حيث انتقلنا إلى قطار يذهب في جهة بعلبك، وأما القطار الآخر الذي تركناه فيسير إلى دمشق، وقد مر وصف الطريق بين بيروت ودمشق فلا حاجة إلى التكرار. والمسافة بين رياق وبعلبك بالقطار ساعة وربع، أكثرها أرض منبسطة حمراء تقرب من أرض مصر ، وتعرف باسم بقاع بعلبك، وهي أعرض من البقاع الأخرى الكائنة بين دمشق وبيروت. ولما قربنا من بعلبك ظهرت بساتينها وجناتها الفيحاء، بما فيها من أشجار التفاح والمشمش وغير ذلك، والقطار يسير بينها زمانا. وقد ذكرني هذا الطريق الجميل بطريق آخر لبعلبك؛ إذ قصدتها مرة من طرابلس، وأهدن والأرز راكبا جوادا. وأهدن قرية جميلة في كسروان، ارتفاعها نحو 1445 مترا، اشتهرت بجودة هوائها وعذب مائها المتدفق، وهو أنقى من الزلال وأشهى من السحر الحلال، يتفجر من الصخر مثلجا، فلا تطيق أن تضع أصابعك فيه أكثر من دقيقة، وهي عند الطرابلسيين بمثابة صوفر عند البيروتيين. وقد ذهبنا إلى حرجة أرز لبنان المشهور من أهدن؛ لأنه على مقربة منها، ولهذا الأرز شهرة قديمة يأتيه السياح من أبعد الأقطار لرؤية شجره القديم، وقد يبلغ طول ساقها أحيانا 100 قدم، ودائرها من 24 قدما إلى 30، وتمتد فروعها المنبسطة إلى مسافة 20 قدما و30 و40، وهي طبقات بعضها فوق بعض، خضراء في جميع الأوقات، ولخشبها مزية الصلابة وجمال المنظر والرائحة الزكية، لا يأكله سوس ولا تضره رطوبة. والظاهر أن الأرز كان كثيرا في معظم أنحاء لبنان في الزمان السابق؛ فقد ورد عن سليمان الحكيم أنه بنى هيكل أورشليم العظيم من هذا الخشب، واستعان بملك صور على نقله من لبنان، فاستخدم هذا الملك 30 ألف عامل في هذا العمل، ولكن الأهالي دأبوا على قطع الأشجار حتى لم يبق من أرز لبنان إلا غابات قليلة، أهمها التي نحن الآن في ذكرها، فيها نحو 400 شجرة، وموضعها عال تحيط به الجبال لا يقل ارتفاعه عن 6000 قدم، وأقدم هذه الأشجار 12 شجرة، محيط بعضها نحو 40 قدما والبعض 20 أو 30. وفي لبنان غابات أخرى، منها واحدة قرب الباروك وواحدة فوق عين زحلتا، وقد مر ذكرهما، وغابات أخرى ما زالوا يقطعون أشجارها؛ ليبنوا به بعض منابر الكنائس في أوروبا أو ليبقوه تذكارا في البيوت.
وقد بتنا ليلة في الأرز الكبير، وصعدت منه قمة برأس القضيب، هي أعلى ما في لبنان، علوها 2495 مترا، وتأملت منها المناظر الشهية في كل جانب، فإنك ترى البحر وطرابلس كأنها تحت يدك مع أن المسافة بينهما 10 ساعات، وترى في الجانب الآخر قلعة بعلبك مع أنها تبعد 12 ساعة. وكان بعض الثلج باقيا في هذه القمة مع أننا زرناها في أواسط شهر أوغسطس. ثم انحدرنا من هنا حتى بلغنا قرية عيناتا، وهي من القرى البديعة وماؤها غزير بارد عذب زلال، لا يقل علوها عن 1590 مترا. وقد بتنا هنا ليلة ثم استأنفنا المسير في اليوم التالي، ومررنا بقرية الدير الأحمر تحيط بها غابات من شجر السنديان، وهي في أول بقاع بعلبك، وقد ظللنا 4 ساعات نسير في هذا السهل حتى وصلنا بعلبك، وهي موضوع حديثنا الآن.
كان أول ما خطر لي في بعلبك أن أرى قلعتها المشهورة، واسمها هنا الخربة، وهي معبد قديم فيه آثار العصور الفينيقية واليونانية والرومانية، حوله العرب إلى قلعة وزادوا فيه الحصون والأبراج باقية إلى هذا النهار، وقد زادني رغبة في زيارة هذا الأثر العظيم أن إمبراطور ألمانيا كان أتاه عام 1898، فلما رجع إلى بلاده سأل الدولة العلية أن تأذن لبعثة علمية ألمانية أن تبحث وتنقب في جوانب هذه القلعة، وقد أذنت الدولة وعادت أبحاث البعثة الألمانية بنفع كثير وأظهرت عدة مخبآت. وقد اشتريت دليلا لهذه القلعة وتاريخا بالعربية ألفه مخايل أفندي موسى ألوف البعلبكي، وهو يستحق على تأليفه الثناء. دخلت في بادئ بدء من قبو مظلم طوله من الشرق إلى الغرب 120 مترا وعرضه 5 أمتار وربع المتر، وعلوه 6 أمتار. وعلى مسافة 20 مترا من داخله قبو آخر يعارضه من الشمال إلى الجنوب طوله 93 مترا، يؤدي إلى قبو ثالث مواز للأول، وكل هذه الأقبية متناسبة الوضع، لما انتهيت منها صعدت ذرى قليلة فأشرفت على البناء الضخم الأنيق، له منظر يؤثر في النفس؛ نظرا إلى ضخامة أجزائه واتساعه وكبر أعمدته بعضها ثابت في مكانه والبعض تساقط بفعل الزمان، طول العمود منها 20 مترا، ومحيطه أكثر من 3 أمتار ونصف متر، وفي أعلاه أفريز جميل بديع النقوش، وقد كان في هذا المعبد 62 عمودا كالتي ذكرناها، فتهدم أكثرها والباقي منها على وضعه الأصلي 6 فقط، يراها القادم إلى بعلبك من مكان بعيد. وفي وسط البناء معبد جوبتر، وهو كبير الآلهة في معتقد اليونان القدماء، طوله 117 مترا، وعرضه 1012، وزخارف هذا المعبد منقوشة على الحجر بالغة حد الإتقان، يحار المرء من دقة نقش الورد والأزهار فيها إذا ذكر أنها صنعت في زمان الأقدمين. وتقدمنا بعد هذا إلى معبد باخوس، وهو إله الخمر عند الرومانيين، وهو - أي هذا القسم - يفوق كل الأقسام الأخرى ببدائع نقشه، ولم يتخرب منه على قدر ما تخرب من سواه، طوله 68 مترا والعرض 34، وقد بقي من عمده الأصلية 9 ملاصقة للجدار، وكان عددها فيما مر 50 عمودا، طول الواحد منها 18 مترا، ودائرة محيطه من الأسفل 5 أمتار ونحو ثلاثة أرباع المتر، ومن الأعلى أقل من ذلك بقليل.
وأما باب المعبد الرخامي - وهو الباب الرسمي لهذه الآثار - فإنه أجمل ما ترك الأولون للآخرين، لم أر له نظيرا في آثار رومية وأثينا وصعيد مصر، طوله 13 مترا وعرضه نصف الطول، وقد ملئ دائره بأبهى أنواع النقش على الرخام، وظهرت فيه صورة الكوبيدون إله الجمال، ومن حوله القينات يحملن عناقيد العنب من كروم نقشت نقشا يشرح الصدور ويبهر الأبصار، حتى إن الضلوع المعروفة في ورق العنب من ظهرها بدت في تلك النقوش، وقد تعرشت أغصان منها على أغصان بشكل بديع. وهنالك كنيسة بناها الإمبراطور ثيودوسيوس ملئت برسم الصليب اليوناني جدرانها، وعلى مقربة منها أعمدة من حجر الغرانيت الأحمر المصقول مبعثرة في الأرض، وهي مثل عمد الهياكل المصرية المشهورة أصلها من مقالع أصوان، ولا بد أن يعجب القارئ لمقدرة الذين نقلوها إلى بعلبك من ذلك المكان السحيق.
وأما منظر هذه القلعة من الخارج فإنه مهيب أيضا، ولو أن النقوش ليست متوفرة مثل الأجزاء الداخلية، فقد بني الصف الأول كله مع طوله من ستة حجارة فقط، طول الحجر منها 10 أمتار وعلوه 4، والصف الثاني كله ثلاثة حجارة فقط، طول الواحد منها 19 مترا ونصف متر، والعلو 4 أمتار وبعض الشيء، ووزن الحجر من هذا الصنف 720 طونلاتة، فلو أنهم وضعوا 50 حجرا من هذا النوع في صف واحد بلغ طول الصف ألف متر، كل هذا والحجارة الكبرى المذكورة محكمة البناء إحكاما لا مثيل له، حتى إن إدخال الإبرة في شق بين الحجرين ليعد بمثابة المستحيل. وقد استخرجوا هذه الحجارة من مقلع عند باب البلد لم يزل في أرضه بعض منها، وأهمها حجر كبير اسمه عند الأهالي حجر الحبلى، طوله 21 مترا وعرضه 5 أمتار وثلث المتر من أحد الطرفين، وأقل قليلا من الطرف الآخر، وهم يقدرون وزن هذا الحجر بألف طن، وإذا شاءوا رفعه مقدار قدم عن الأرض فقط لزم للرفع آلة بخارية قوتها 20 ألف حصان. وقد اشتغلت البعثة الألمانية بوضع كتاب فيه بيان هذه الآثار ورسومها وغرائبها، وأعلنت أن ثمن الجزء من كتابها ألف قرش، فقابل هذا بما ترى من إعراض الشرقيين عن مشترى الكتب. ومن هذا القبيل فقد رأيت جمعا غفيرا من أهل الشام ومصر في بعلبك يأبون شراء الكتاب الصغير الذي ذكرته من قبل مع أنه يفيدهم في فهم أعظم آثار الأقدمين وأجملها بإجماع جميع العارفين، والحق يقال إن علماء ألمانيا أكثر الناس اهتماما بآثار الشرق في هذه الأيام، وأبحاثهم في الأناضول وما بين النهرين وتدمر وأثينا وبعلبك وقبرص ومصر تشهد لهم بالدأب والاجهاد، وقد رأيت عند قلعة بعلبك نحو 40 صندوقا ملئت بما تناثر من آثار القلعة؛ لترسل إلى برلين.
والقادم إلى بعلبك إذا رآها في سهل من الأرض منبسط كما هي حالتها توهم أنها في مكان منخفض، ولكنها عالية يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 1170 مترا، وفيها متنزه جميل من أشهر مثابات الأنس في سورية عند نبعها يعرف باسم رأس العين، تجمع فيها بهاء الماء النقي الجاري والعشب السندسي والأشجار الغضة المزروعة إلى جانبي الطريق الممتد من البلد إلى هذا المكان البديع.
حمص
ذهبت إلى حمص من بعلبك والمسافة بينهما نحو ساعتين في القطار، يرى المسافر في خلالها سهل البقاع المشهور، وهو معروف بترابه الأحمر وخصبه الكثير وغلاله الوافرة، وقد مررنا بضياع بهية في هذا الطريق، وكان منظر جبل لبنان مرافقا لنا في أكثرها حتى بحيرة نهر العاصي التي يخرج منها النهر المعروف بهذا الاسم وغيره، طولها 14 كيلومترا، ويمر هذا النهر - وهو المعروف عند القدماء باسم أورونتس - في حمص وحماة والجسر وأنطاكية ويصب في البحر عند السويدية. وأمام البحيرة سد قديم العهد كان يراد منه حفظ الماء فيها إلى حين اللزوم. وأما مدينة حمص فتبعد نحو ثلث ساعة بالعربة عن محطتها، ذهبت منها إلى فندق خارج نطاق المدينة، وقد كثرت من حوله المزارع والأشجار. بلغ سكان حمص نحو 50 ألف نفس.
والداخل إليها يرى إلى اليمين قلعة قديمة متردمة، قيل إنها من أيام الصليبيين، ويليها بيت لسعادة عبد الحميد باشا الدروبي فسراي الحكومة، وإلى الجهة الأخرى منها حديقة اسمها المنشية، وثكنة متخربة من أيام إبراهيم باشا المصري، ويلي ذلك إلى جهة اليمين الثكنة الحالية بما فيها من الجنود، ثم سوق كبيرة تعرف هنا باسم سوق الحسبي، وهي مثابة العربان الذين يأتونها من الضواحي والقرى؛ لبيع الصوف والسمن ولمشترى بعض اللوازم. وقد اشتهرت حمص بمنسوجاتها الحريرية والقطنية، فيها عشرة آلاف نول أو نحو عشرين ألف عامل على الأقل، ومصنوعاتها رخيصة ومتينة، ولكن الأجانب أضروا بها كما أضروا بصناعة الشرق في كل مكان، وفي حمص مدرسة للصبيان أسستها الجمعية الفلسطينية الروسية عدد طلابها نحو 700 وينفق عليها من الجمعية المذكورة ومن طائفة الأرثوذكس في البلد، ومدرسة للبنات فيها نحو 400 طالبة. وقد زرت الكنيسة فرأيت في صدرها الأيقونسطاس من الرخام الأبيض كتب عليه «من إحسانات الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية»، وكان نيافة المطران أثناسيوس غائبا، ولكني سمعت ثناء عاطرا على أعماله، وهي في حي النصارى، وهو قديم مزدحم البناء، بنيت منازله بالحجر الأسود، وليس لها شرفات، فالسائر في شوارع حمص الضيقة لا يرى غير الجدران السوداء في وجهه، ولكن الطرق نظيفة والبيوت من الداخل جميلة في بعضها البرك والحدائق تسقى من ماء نهر العاصي. وأما البيوت الصغيرة فيجلب الماء إليها بالقرب على طريقة المدن المصرية في أحيائها الوطنية، وهي شائعة إلى الآن.
وأشهر متنزهات حمص موضع اسمه ميماس على ضفة النهر، قامت إلى جانبيه الأشجار والأغراس، ولا سيما الأشجار المثمرة، وأهمها هنا الرمان ينمو نموا عجيبا. وميماس تبعد نحو ثلث ساعة عن حمص، وهي كثيرة الجمال بمروجها الخضراء وحدائقها الغضيضة، وفيها مثابات للناس يأتونها بالعربات أو على الخيل والحمير أو مشيا على الأقدام. ونهر العاصي يجري في هذه الجهة بقوة كبرى، ويجتمع حول ضفافه عشرات ومئات من المتنزهين كل يوم.
حماة
ذهبنا إليها من حمص، والمسافة بينهما نحو ساعتين بالقطار، يرى في خلالها جبال النصيرية، وبينهما محطتان صغيرتان. وحماة مدينة جميلة، عدد سكانها نحو 60 ألفا، ونهر العاصي يخترقها ويشطرها شطرين، وهي كثيرة البساتين والحدائق، حتى إن مجموعها ليعد متنزها يسر الناظرين، في طرفها آثار القلعة القديمة، وقد أصبحت تلا من التراب ارتفاعه 300 متر، والناظر منه يرى جبل زين العابدين وسهولا تمتد إلى حلب. ومدينة حماة من هذا المكان تظهر بكل أحيائها وأجزائها المتعرجة التي ترويها السواقي المعروفة عندهم باسم ناعورة (ساقية) يأنس الناس إلى صوتها في الليل والنهار، وهي تدفع إليهم الماء فتروي الحدائق والمنازل، وعندهم منها عدد كبير. وقد درت في المدينة فكنت أرى من حدائقها الشجر الباسق فقط؛ لأن أسوار المنازل هنا عالية بداعي الحجاب الشرقي، وفي وسط المدينة مواضع خالية لا غرس بها ولا بناء، هي مرابض للجمال التي يكثر ورودها مع العربان والفلاحين ينتابون أسواقها الكثيرة، وأهمها السوق الطويلة، وهي طويلة بالفعل ولها سقف يقي الناس حر الشمس وماء المطر، وفي حوانيتها كثير من الأقمشة الإفرنجية والسلع المختلفة.
وفي كل أسواق حماة وكالات واسعة تضم تجار العرب، ومعهم جمالهم والغلال التي أتوا لمبيعها. وفي هذه المدينة جامع السلطان، وهو كبير واسع وكرسي مطران الروم الأرثوذكس وكنيستهم. وفي حوش الكنيسة مقام المطران وقبور الموتى، وهي طريقة قديمة في الدفن جروا عليها هنا إلى الآن. وفي هذه المدينة ديوان (سراي) للحكومة جميل، بني في شارع واسع نظيف ينار بمصابيح الغاز، وإلى جانبيه صفوف من شجر الزنزلخت. وقد قصدت في آخر النهار قهوة السعدية على ضفة النهر، فألفيت الناس فيها يجلسون إلى كراسي واطئة أو يفترشون الحصر ويقعدون إليها، ولا يشربون إلا القهوة أو عرق السوس، وأما المسكرات فلا. والنهر عريض عند هذه المثابة، تكثر على ضفافه أشجار الحور والصفصاف والدلب والزنزلخت والقصب، ويسمع صوت هاتيك النواعير أو السواقي من كل جهة، وتجري في النهر هنا زوارق صغيرة يستأجرها بعض المتنزهين. وقد متعنا الأنظار بكل هذه المشاهد في وادي نهر العاصي، وعدنا من حماة إلى مصيف صوفر الذي كان مقرا لنا مدة هذه الرحلة.
دمشق
إن الطريق ما بين بيروت ودمشق من أجمل الطرق وأكثرها لذة؛ لأن المسافر بها يرى البحر والأنهار والجبال والأودية والغور والنجد والسهل والقمة، والشجر والخضر من كل الأشكال. والقطار ينساب ما بين هاتيك القرى والعمائر متخللا كروم العنب وغياض الزيتون والصنوبر والتين والتوت، وغير هذا مما ذكرناه في وصف المشاهد السابقة. والمسافة بينهما في القطار 10 ساعات لا يملها المرء، ولا يميل إلى انقضاء زمان المرور في وسطها. والمحطات كثيرة قريب بعضها من بعض، وعددها 25 محطة، هي بيروت وبعدها بخمس دقائق الكرنتينا، وبعد ذلك بربع ساعة الحدث، يرى منها مطرانخانة الروم الأرثوذكس التي بناها السيد بولس مطران جبل لبنان. والطريق إلى هذه المحطة كلها بساتين ومزارع تكثر فيها أنواع الفاكهة والخضر، ثم محطة بعبدا، وهي مقام متصرف لبنان في الشتاء. وعلى مقربة منها قبر فرانكو باشا المتصرف السابق، ويبدأ القطار بعد بعبدا بالصعود في الجبل فيبلغ محطة الجمهور، تباع فيها الفواكه والخبز المرقق يكاد يكون قطر الرغيف ذراعا، وهو مستدير رقيق كالورق الخفيف يصنعونه في قرى سورية، ولا خبز سواه في كثير منها. ويلي ذلك عاريا ثم عالية فبحمدون فصوفر، وكلها من المصايف التي سبق ذكرها.
وبعد صوفر يدخل القطار في نفق، ويخرج منه إلى ظهر البيدر، وهو يصعد صعدا إلى جبلين. وهذا المكان مرتفع 1487 مترا عن سطح البحر، وهو أعلى نقطة في هذا الطريق، ينحدر القطار بعده إلى محطة المريجات، حيث يرى المرء سهل البقاع المشهور - وقد تقدم الكلام عنه - وهو من السهول الأريضة التي لا يخلو قيد شبر فيها من الزرع، وعرضه يختلف من 7 كيلومترات إلى 10، وبساتينه تحكي غوطة دمشق. ويلي ذلك محطات جديدة وسيدنابل وبعد معلقة زحلة - التي سبق وصفها - يقوم إلى رياق، وهي ملتقى الأرتال، يتفرغ منها خط حمص وحماة وحلب الذي ذكرناه. ولا يزال القطر مجدا من هنالك في وسط السهول المرتفعة حتى يبلغ محطة يحفوفة، تظهر في الطريق جبال تناطح السماء، ثم محطة سرغايا، وهي واقعة في منفسح من الأرض، مع أن العلو هنا يبلغ 1371 مترا، ثم يدخل في سهل الزبداني، وفيه مدينة بهذا الاسم، عدد سكانها نحو 20 ألفا، ولها شهرة ذائعة بأثمارها وفاكهتها لا تفوقها شهرة موضع في بلاد الشام. وتليها قرية بلودان، وهي مكان جميل كثير الأشجار، رقيق الهواء غزير الماء، وقد ارتفعت كل هذه الأماكن عن البحر ارتفاعا كبيرا. وبعد محطات أخرى صغيرة يدخل القطار وادي بردي، ثم يبلغ محطة عين الفيجة، حيث يتفجر الماء من نبعين شهيين عذبين، ويتكون منهما الماء الذي يجري في وسط مدينة دمشق، ويسقي منازلها وحدائقها المشهورة. وتلي ذلك محطات أخرى، هي الهامة ودمر والبرامكة، وهذه منتهى الطريق، كلها بساتين وحدائق ومزارع تسحر الأنظار، وقد اشتهر جمالها من قدم حتى عرفت مدينة دمشق بها من عدة قرون، وربما لم يكن في أوروبا متنزه أجمل من الأمكنة الواقعة ما بين عين الزبداني ودمشق، وهو يجتازه القطار في أكثر من ساعة، ولا تشبع العين والنفس معا من النظر إليه.
هذا موجز مما يقال في طريق قليل مثله بين طرق الأرتال في سائر الأقطار. وأما مدينة دمشق الفيحاء، واسمها بين العامة الشام، فمن أقدم المدن الوارد ذكرها في التاريخ، والبعض يذهب أنها أقدم مدينة باقية على عظمتها إلى الآن، قامت فيها دول سورية وآشورية وكلدانية كثيرة، وتغلب عليها الفاتحون الأجانب مرارا حتى ملكها الفرس زمانا، ثم انتقلت من حوزتهم إلى قبضة اليونان حين استولى إسكندر المكدوني على كل مملكة إيران القديمة، وانتقلت إلى الرومان على عهد القيصر تراجانوس في سنة 105 بعد المسيح، فظلت من أشهر أجزاء ملكهم إلى أيام الفتح العربي، حين سير الخليفة أبو بكر الصديق جيشا من العرب تحت قيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، وقد دخلها هذان القائدان من بابين، وأحدهما جاهل بما فعل الآخر، غير أن أبا عبيدة دخل مهادنا مصالحا وخالد دخل قاتلا ضاربا، فلما التقى الرجلان في أسواق دمشق، وكل منهما على حالة، تخالفا وتعاتبا، ثم تشاور الزعماء واتفقوا على اتباع رأي أبي عبيدة ومصالحة أهل الشام، وقد ولي معاوية بن أبي سفيان ولاية الشام بعد الفتح المذكور، وهو الذي استبد بملك العرب بعد ذلك، وأسس الدولة الأموية، وجعل دمشق قاعدة أحسن السلطنات العربية من سنة 660 إلى 735 مسيحية. وقد ظلت البلاد من أملاك العرب على عهد الدولة العباسية وملوك الطوائف والمماليك والشركس والأكراد. وحدثت في أيام دولتهم على عهد صلاح الدين الأيوبي حروب لهم مع الصليبيين، فحاصرها من ملوكهم لويس السابع ملك فرنسا مع كونراد أمير جرمانيا سنة 1148، ولكنهما لم يتمكنا من فتحها، وسنة 1401 دخلها تيمورلنك التتري كما دخل غيرها في غزوته الكبرى، وقد فتك بأهلها ونقل الصناع منهم إلى بلاده، ثم أضرم النار في مبانيها. وسنة 1561 دخلت في حوزة الأتراك فتحها السلطان سليم الأول، فهي تابعة لدولتهم إلى الآن، وحكمها إبراهيم باشا المصري من سنة 1832 إلى 1840، ثم عادت إلى قبضة آل عثمان.
وقد امتازت دمشق بصنائعها القديمة، من ذلك الصيني، وقد زالت صناعته من نحو 200 سنة، والقطع الباقية منه في المتاحف أو دور الأكابر تعد من نفيس الآثار. ومنها الحرائر المعرقة والمقلمة والمخططة، نقلها الإفرنج عن دمشق، فهي تعرف عندهم باسمها (داماس) إلى الآن. ومنها السيوف الدمشقية المشهورة، لم يدرك الإفرنج سرها إلا من نحو 100 سنة، وصناعة الخشب المرصع بالعاج أو بصدف اللؤلؤ، وأشكال النجارة والصياغة بعضها زال وبعضها باق إلى الآن. وأما غوطة دمشق وبساتينها وحدائقها فإنها تعد جنة الله في أرضه، وشهرتها قديمة عمت جميع الأقطار، وأحسن ما فيها الفواكه الكثيرة، وهي على لذتها رخيصة الأثمان، وبعضها مثل أنواع من المشمش والتوت والآس والخوخ والعنب الزيني لا نظير له في سائر الأنحاء.
ومنظر دمشق من الظاهر غير جميل؛ لأن الشوارع ضيقة عوجاء، والأرض غير مرصوصة والأنوار في الليل قليلة. وأما منازل المدينة من داخلها فكثيرة الجمال، ومعظمها على النسق الشرقي؛ أي إن فيه ساحة من حولها الغرف، وفي الساحة أشجار وأغراس وبرك ماء، وقد تكون البرك في داخل بعض الغرف أيضا، والأرض كلها مبلطة بالرخام الجميل، وبعض السقوف والجدران مذهبة أو مزخرفة بفاخر الفسيفساء، حتى إن الإفرنج إذا رأوا بيوت سراة دمشق أذهلهم ما فيها من دقيق الصناعة وبديع الزخارف، مثل منازل سعيد باشا وهولو باشا والبارودي والقوتلي، وفي أكثرها من الصيني النفيس والطنافس الفاخرة، وغير ذلك ما يبهر الأبصار. ولما كان هذا حال دمشق، وهذه آيات جمالها المتوفرة داخل البيوت، فقد اعتاد أهلها قضاء أوقات الفراغ في البيوت أو في الغوطة والمتنزهات الطبيعية المحيطة بالمدينة. وطول هذه المدينة نحو خمسة كيلومترات، وعرضها نحو ثلاثة، وسكانها لا يقلون في هذه الأيام عن ثلاثمائة ألف نفس بوجه التقريب.
وتقسم دمشق إلى عدة أحياء، منها الصالحية والميدان وسوق ساروجة والقميرية وباب توما وهو حي النصارى. وفي هذه المدينة 173 جامعا، أهمها الجامع الأموي المشهور، بناه الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقبل أن يبدأ البناء في سنة 88 هجرية جمع إليه النصارى وطلب منهم كنيسة مار يوحنا حتى يضيف أرضها إلى أرض الجامع الجديد، فأبوا واستعانوا بالعهد المعطى لهم من خالد بن الوليد وأبي عبيدة، فلم يعبأ به وأمر بهدم الكنيسة ثم بني هذا الجامع موضعها، وأشغل عشرة آلاف بناء ونقاش وعامل آخر مدة تسع سنين حتى إذا انتهت الزخارف الكثيرة وتمت الفسيفساء المذهبة والقبة الكبرى المعروفة بقبة النسر، كان الجامع آية في حسنه وبهائه، وله منارتان، إحداهما منارة العروسة والثانية منارة مريم، هما من أعجب المنائر زخرفا وشكلا، وقد احترق معظم هذا الجامع سنة 1893، فجمع 80 ألف جنيه أكثرها تبرعات من الناس والبعض من ضرائب فرضت على اللحم، أعادوا البناء بها، وطوله 250 مترا، وعرضه 182.
وأسواق دمشق شرقية الشكل، أكثرها مسقوف وضيق، ولكن فيها سوق الحميدية الجديدة وسوق الخوجة وسوق محمد علي، تعد كلها من الأسواق الحسنة الجديدة. والحمامات في دمشق كثيرة ومشهورة يؤمها خلق كثير، وفيها من الخانات أو الوكالات عدد كبير، أقدمها خان أسعد باشا وخان سليمان باشا. وجوامعها كثيرة أيضا، أهمها بعد الجامع الأموي جامع السنانية وجامع المعلق وجامع درويشية. وأحسن أبنيتها العمومية ديوان الحكومة ودائرة الأراضي السنية وسراي السر عسكرية. وأشهر بناء فيها تاريخي كنيسة مار حنانيا في الباب الشرقي، ومكتبة الظاهر وضريح صلاح الدين الأيوبي، والمدينة تنار الآن بالأنوار الكهربائية، وفيها ترامواي كهربائي، وإليك وصفها على وجه الإجمال:
إن الداخل إلى دمشق من المحطة يمر في المرجة، وهي بقعة شهية سندسية يكسوها العشب الطبيعي، وتأتيها ألوف الناس لقضاء أوقات الفراغ والنزهة على ضفتي نهر بردي الذي يشطرها شطرين، ومن فوقه في هذا المكان عدة جسور، وإلى كل من جانبيه طرق حسناء ومسالك للمارة والخيل والعربات. والنهر هنا يقرب من ترعة الإبراهيمية في مصر بعرضه، تحد مرجته من اليمين والشمال غابات كثيفة من أشجار الحور والدلب والصفصاف. ويليها جامع السلطان سليم المشهور بقباته الكثيرة، ثم ديوان الولاية وسراي الدائرة السنية، فالميدان فبعض الفنادق، وهي أحسن ما في دمشق من نوعها في هذا الميدان، وفيه عمود تذكار سكة الحجاز الحديدية نقش على قاعدته رسوم التلغراف وسكة الحديد وجامع المدينة وبعض الأشعار التركية مذهبة، وقد كتبت بخط جميل. وتبدأ من هذا الميدان السوق الحميدية - التي مر ذكرها - وفي آخرها الجامع الأموي - وقد مر ذكره أيضا - دخلناه وتأملنا رحبته الواسعة الكبرى، ورأينا بناءه قائما على 40 عمودا ضخما وضعت صفوفا، ويمكن لأكثر من 15 ألف رجل أن يصلي في صحن هذا الجامع الكبير، ومحرابه جميل من المرمر الملون لا تشبع العين من النظر إليه. وفي هذا الجامع قبر النبي يحيى (يوحنا)، وله قبة عظيمة عالية على جوانبها أسماء رجال الصحابة، وفي بعض جوانبه آثار الكنيسة السابقة، وكتابات يونانية لم تزل واضحة معنى إحداها «نحمدك اللهم في سائر الأجيال.» وقد ارتقيت المئذنة على 187 درجة، ورأيت الغوطة والمدينة من داخلها كأنها قطعة من الصخر الرمادي في إطار من الزمرد الأخضر الشهي، وذهبت لزيارة قبر السلطان صلاح الدين الأيوبي، ونظرت في الطريق قبر الملك الظاهر بيبرس مغطى بشال من الكشمير، وقد جمعت عنده مكتبة من المؤلفات العربية القديمة على عهد مدحت باشا، وهو أبو الدستور العثماني وأحد ولاة سورية السابقين. أما قبر صلاح الدين فداخل حديقة صغيرة فيها بركة ماء وفوق القبر إكليل وضعه إمبراطور ألمانيا، وقد عقد فيه العلم الألماني والعلم العثماني. ومن هناك سرنا إلى سوق باب البريد، ويليه سوق الدراع وسوق ساروجة وسوق البزورية، حيث تباع الحلويات اللذيذة. وفي أسواق دمشق حركة تجارية كبرى؛ لأن أهل المدينة نحو 300 ألف، ولا يقل أهل الضواحي والنواحي المحدقة بها عن ذلك، وكلهم يشترون حوائجهم من هذه الأسواق. وقد دخلنا بيت أسعد باشا العظم، وهو من المنازل الفخيمة المشهورة في دمشق، فدار حضرة صالح بك، أحد الورثة معنا يشرح لنا مناظره، وما فيه من النفائس المذهبة والزجاج القديم والفسيفساء الجميلة. وقد بني هذا البيت من 180 سنة، ودخلنا أيضا بيت القوتلي، له ردهة فسيحة واسعة مبلطة كلها بالرخام الأبيض النقي، ومنظرها يشرح الصدور وفي وسطها بركة ماء معين، تحيط بها الأغراس وأشكال الزهر وبعض الأشجار، والغرف في دائرة هذه الرحبة، أهمها قاعة الاستقبال بما فيها من فاخر الفسيفساء، وهي تصلح لدور الملوك.
ثم قصدت ضواحي دمشق التي قيل في وصفها نثرا وشعرا ما لم يقل في وصف مكان آخر، فالحق يقال إن غوطة دمشق وضواحيها من أجمل مناظر الأرض. وأشهى متنزهاتها على الإطلاق متنزه الربوة، حيث تمر أنهر خمسة إلى دمشق، وقد ذكرناها قبل الآن. ومنها موضع اسمه الشادروان، ومنها متنزه دمر - وقد مر ذكره أيضا - وكلها متناسقة متشابهة الجمال؛ لأنها مجموع حدائق وبساتين وغياض وجنات تجري من تحتها الأنهار. وزرت الصالحية أيضا، وهي قرية متصلة بدمشق، وقد بنيت على هضبة حسناء، وفيها مصطبة عالية تعرف بمصطبة الإمبراطور؛ لأن إمبراطور ألمانيا وقف عليها حين أتى هذه المدينة ورأى المحاسن منها. وعند رجوعنا من الصالحية مررنا بجنينة الدفتردار، حيث تصدح الموسيقى بالأنغام العربية والتركية ويختلف الناس في الليل والنهار. وقد تجولت في باب توما، وهو حي النصارى، ورأيت ما يليه من البساتين الكثيرة، معظمها داخل أسوار عالية من اللبن أو التراب الممزوج بالتبن. ورأيت هنالك شجرة دلب على مقربة من خان الباشا يقال إن عمرها 300 سنة، فرغ قلبها من إحدى جهاتها، فعمل فيه دكان، وهي نامية بعروقها إلى الآن.
وقد زرت بطركخانة الروم الأرثوذكس في دمشق، وهي بناء واسع داخل حديقة غناء وتشرفت بمقابلة غبطة البطريرك غريغوريوس المشهور بالصلاح والتقوى، ولما انتهيت من مشاهدة ما في دمشق برحتها قاصدا حلب الشهباء.
بين دمشق وحلب
إن المسافة بين المدينتين بسكة الحديد 18 ساعة، فإني قمت في الصباح من دمشق، ولما بلغت محطة رياق انتقلت إلى قطار آخر بلغت به بعلبك بعد 6 ساعات، وبت ليلتي هنالك. وفي الصباح التالي قمت من بعلبك عن طريق حمص وحماة - وقد مر ذكرهما - وكان القطار يسير من حماة إلى محطة قمحانة على ضفاف نهر العاصي، تارة إلى يمينه وطورا إلى يساره. وبعد أن وقف في محطات أم كوكب وأم الرحيم وتل الجن والضويحي تظهر منها جبال أنطاكية وإسكندرونة عن كثب، اقترب من مدينة حلب وجعل يخترق بساتينها المشهورة، وكان أول ما رأينا من مناظرها القلعة القديمة، ومعظم المسافة بين حماة وحلب سهل واسع، أحمر ترابه، كثير خصبه، تزرع فيه الحبوب والخضر على أشكالها، وفيه كثير من الأنعام ترعى وبعض مضارب لقبائل العرب.
وحال وصولنا حلب ركبنا عربة وسرنا في طريق تعرف باسم السكة الجديدة، وهي حديثة ومستقيمة الشكل، إلى جانبيها صفوف الشجر، وفي طرفها نهر قويق، مررنا فوق جسره إلى فندق العزيزية في ضواحي حلب، وهو أحسن ما في هذه المدينة. وحي العزيزية هذا أجمل الأحياء في حلب، فيه منازل بديعة بنيت بالحجر المنحوت، وفرشت بفاخر الرياش لأكابر الحلبيين، وقد زرت بعضهم، فلقيت ما اشتهر من لطفهم ومؤانستهم للغريب.
وقد درنا مع دليل الفندق في حي العزيزية، فوصلنا باب الفرج وفيه برج بأعلاه ساعة، ثم دخلنا البلد من باب أنطاكية، وهو عال وواسع وقديم عهده، صنع من الخشب ولبس بالحديد والمسامير، مثل باب قلعة مصر، دخلنا منه على سوق الزرب، وهي سوق طويلة يؤمها الأهالي، ويتفرع منها عدة أسواق، حيث يأتي العرب والفلاحون؛ لبيع الحاصلات ومشترى اللوازم. وفي هذه الأسواق الوكالات أو الخانات المشهورة، مثل خان النحاسين وخان الجمرك وخان العلبية وخان الوزير، وهو ذو بوابة شاهقة من الرخام الأزرق قديمة العهد يتفرج عليها سياح الإفرنج كثيرا، وخان الصابون وفيه البنك العثماني. وقد مررنا بجامع زخريا، وهو أكبر جوامع حلب، وخرجنا من باب النصر فعدنا إلى الفندق.
وفي هذا النهار ذهبنا إلى حارة الصليبة، ورأينا كنيسة الموارنة وهي أكبر كنائس حلب، فكنيسة الروم الكاثوليك، فكنيسة الروم الأرثوذكس، وهي قائمة على أربعة أعمدة من الرخام الأصفر، كل عمود منها حجر واحد. وزرنا سراي الحكومة حيث قابلنا دولة ناظم باشا الوالي صاحب الأيادي البيضاء . والسراي قديمة مثل كثير في حلب، ولكن التحسن منتظر بعد أن اتصلت حلب بغيرها من المدن بواسطة سكة الحديد، والبناء الآن قائم فيها على قدم وساق. وقضيت السهرة في موضع طرب (أو نوبة) كما يقول الحلبيون، وهم يقعدون حول المغني يدخنون الشيشة أو يشربون القهوة والسوس، ولا يضجون ولا يقطعون الغناء على المغني في أثناء تلحينه كما يفعل عامة المصريين، ولكنهم يبدون آيات الاستحسان بعد كل دور.
وقد ذهبنا إلى كروم الفستق المشهورة، وهي التي تميز حلب عن غيرها؛ لأن الفستق لا ينمو إلا فيها، وهي - أي الكروم - في خارج البلد مسيرة ساعة بالعربات عنها في طريق يمكن الوصول منها إلى بغداد. وهذه الكروم من مثابات الأهالي في أيام موسمها، وهي جميلة المنظر تتدلى عناقيد الفستق الحمراء من أشجارها الكبيرة كأنما هي العنب، وموسم الفستق هنا كبير يستحق الاعتبار. ثم عدنا إلى الفندق بطريق جنينة الجانكية، وهي من مثابات المتنزهين في هذا البلد الجميل.
ولا بد لي قبل نهاية الكلام عن حلب أن أذكر شيئا عن قلعتها القديمة بناها سلوقس الذي بنى هذه المدينة فوق تل يشرف على المدينة، وزاد كسرى في منعتها وبنائها، ويظهر من تاريخ حلب أن قلعتها كانت عقدة الفاتحين وشاغل القواد الهاجمين فيما مر من العصور، وقد اشتغل بها كثير من أمراء العرب وسلاطينهم، مثل سيف الدولة وصلاح الدين وغيرهما، ومع كل ما مر عليها، فإن أسوارها باقية على أصلها تقريبا إلى الآن.
هذا وإني رجعت من حلب بسكة الحديد التي ذكرتها إلى مصيف صوفر في جبل لبنان، وذهبت منها يوما إلى بيت الدين عاصمة الجبل، ونزلنا فيها ضيوفا على سيادة المفضال المطران بولس بصبوص رئيس أساقفة صور وصيدا للطائفة المارونية، ومنزله من القصور التي بناها الأمير بشير المشهور، وذهبنا في الغد إلى ديوان الحكومة اللبنانية، حيث قابلنا دولة المتصرف، ورأينا منه لطفا وإكراما، ودرنا مع أحد حجابه نتفرج على السراي وما فيها من الفسيفساء القديمة. ثم ذهبنا إلى دير القمر، وهي على مسيرة نصف ساعة ، ودخلنا السراي القديمة فيها حيث حصلت مجزرة سنة 1860 وغيرها من الحوادث المشهورة في تاريخ هذه البلاد، ثم رجعنا إلى صوفر حيث قضينا بقية الصيف، وعدنا إلى مصر، والحمد لله في كل حال.
بلاد اليونان
خلاصة تاريخية
إن تاريخ الروم هو بدء تاريخ أوروبا القديم، وتقدم هذه الأمة وعزها الغابر مما تضرب به الأمثال بين الناس، ونوابغ اليونان القدماء وعظماؤهم معروفة أسماؤهم في كل مكان، فليس يمكن التوسع في ذكر تاريخهم القديم هنا؛ لأنه يمتد إلى أكثر من 1800 سنة قبل المسيح، وغاية ما يمكن أن يقال في هذه الخلاصة الموجزة أن مملكة الفرس لما أغارت على سوريا ومصر وآسيا الصغرى استولت أيضا على جزء من هذه البلاد، ولكن الأروام قاوموا جيوش فارس، فسير عليهم ملكها داريوس جيشا، وأرسل أسطولا ينقل الجنود عن طريق خليج ماراثون، حيث نزلت العساكر وتقدمت على السهل المعروف بهذا الاسم، وهو قريب من مدينة أثينا التي كانت يومئذ مثل بقية مدن اليونان دولة مستقلة بنفسها منافسة لإسبرطة وكورنثوس وغيرهما من المدن اليونانية، فأرسلت أثينا عشرة آلاف مقاتل لمحاربة جيش داريوس تحت قيادة ملتيادس، فظن الفرس حين رأوا هذا الجيش الصغير أن الروم قوم مجانين، ولكنهم حاربوا متفانين دفاعا عن وطنهم، فكانت النتيجة أن الفرس هزموا بعد أن قتل خلق كثير منهم، وهربوا إلى سفنهم فعادت السفن بهم إلى آسيا الصغرى. واستمرت الحروب متواصلة تقريبا بعد هذه الحادثة إلى ما بعد وفاة داريوس حتى إن خلفه زركسيس استعد لحرب هائلة، وجند لها أكبر جيش سمع به في تاريخ الأقدمين. وقد بالغ مؤرخو اليونان في وصفه، حتى قالوا إنه بلغ الملايين، جمعوا من كل أقطار آسيا التي استولت عليها دولة الفرس في ذلك الزمان، وقد ركب هذا الجيش العرمرم في 4200 مركب وتقدم على بلاد الروم، وكانت البلاد قد استعدت للدفاع، ولكن دفاعها لم ينفع فتيلا؛ لأن الفرس دخلوا أثينا وأحرقوها وهدموا تماثيلها ومعابدها، ولكن الأروام انتصروا في عدة جهات أخرى برا وبحرا حتى اضطر زركسيس أن يعود إلى بلاده بعد أن ترك قائدا ومعه 300000 محارب لإنجاز الحرب، ثم تواردت نجدات الروم من سبارتا وغيرها حتى بلغت 110000 مقاتل، وذلك في سنة 480 قبل المسيح، وظهر القوم على الفرس وطردوهم من بلادهم، ومن ذلك الحين بدأ تقدم اليونان وبلغوا أوج مجدهم القديم.
وفي سنة 336 قبل المسيح قام إسكندر ذو القرنين ملك مكدونيا، وورث عن أبيه فيليب رئاسة دول اليونان كلها، وحارب بعض الخصوم في جوار مملكته، ففاز عليهم ثم تقدم بجيش أكثره من الروم وعدده 40 ألف مقاتل لمحاربة دولة الفرس، وهي يومئذ مملكة ضخمة وغنية، ولكنها كانت على غاية الضعف وسوء التدبير. وكان الإسكندر أقدر أهل زمانه على القيادة، ففاز على الفرس، وضم كل الأقطار الخاضعة لهم إلى مملكته، وملك بلاد اليونان بعد الإسكندر أحد قواده فبقيت البلاد له ولنسله حتى أغار عليها الرومانيون وضموها إلى سلطنتهم، ثم صارت جزءا من مملكة القسطنطينية وبقيت كذلك فلم يقو العرب على فتحها حتى قامت دولة آل عثمان، وتقدم السلطان عثمان ابن السلطان أورخان على تلك البلاد من تساليا وعين فيها حكاما من القواصة استبدوا بالناس وجاروا جورا لا مثيل له في التاريخ، كانوا يأخذون أولاد الروم وبناتهم أرقاء للخدمة في منازل الحاكمين، وقد عزم أحدهم مرة على إبادة الأروام جميعا حتى لا يبقى مسيحي في الديار، ولكنه ذكره بعضهم أنه إذا فعل ذلك لم يبق النجار والفران والخادم والخادمة وصانع الأحذية، ولا من يحرث الأراضي ويقدم خيراتها للحاكمين فعدل عن رأيه. وقد دامت هذه الحالة إلى سنة 1821 حين وقف جرمانوس مطران بتراس في الكنيسة من بعد القداس في يوم عيد البشارة، وفاه بخطبة مؤثرة محزنة، ختمها بالقول إنه لا بد للخلاص من الذل إما بالموت أو بالاستقلال. وقد جعل الأروام عيد البشارة عيد الاستقلال والحرية، يقيمون فيه الصلاة ويفرحون في كل سنة كالفرنسويين في يوم عيد حريتهم 14 يوليو. ولما علم بالثورة إسكندر أبسلانتي - وهو ضابط روسي، أصله من بلاد الأروام - دخل بلاد الدولة يحرض الأروام فيها على العصيان، ولكنه ضبط ووضع بالسجن فمات فيه . ثم ذهب أخوه دمتريوس أبسلانتي إلى بلاد اليونان يحارب معهم مدة الحرب كلها، فلما دخلت سنة 1823 كانت الحرب سجالا والمعارك بين الأروام والأتراك دائمة برا وبحرا، فإن الروم بنوا سفنا، واستلم قيادتها رجل جسور اسمه كنارس، وآخر اسمه مايوليس كان لهما اليد الطولي في الانتصار على المراكب العثمانية، حتى إن السلطان العثماني دعا محمد علي والي مصر؛ ليساعده على إخماد ثورة الروم، فقام إبراهيم باشا من مصر في سنة 1825 ومعه العساكر والمدافع أنزلها في السفن، وكان يفتح البلاد ويصلي العصاة نارا حامية، ولكنه لم يقدر على فتح بلدة ميسولوغي؛ فإنها حاصرت من شهر أبريل سنة 1825 إلى شهر أبريل سنة 1826، وقد اكتسبت هذه البلدة شهرة ما زالت ترن في آذان الأروام إلى هذا اليوم؛ لأنها وقفت في وجه إبراهيم باشا عاما كاملا، ومما زادها شهرة أن النساء والبنات كانت تحارب مع الرجال، فشبان اليوم يفخرون إذا اقترنوا بابنة ميسولوغية كأنها من بنات الملوك، وكان المحرك للأروام على استقلالهم اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي المشهور ؛ لأنه تطوع لمساعدتهم في استقلالهم، مثل اللورد كوكران الذي استلم قيادة السفن، والسير شرش استلم قيادة الجنود البرية، وتطوع غير هؤلاء رجال من روسيا وجرمانيا وفرنسا، ولكن مساعدتهم لم تثمر؛ لأن عساكر الدولة دخلت أثينا في اليوم الثاني من شهر جونيو سنة 1827. وفي هذه السنة حصل حادث كان من حظ الأروام، هو أن السفن الإنكليزية والفرنسوية والروسية كانت تروح وتغدو في المواني منعا للتعدي والقسوة على أهالي البلاد، فلما أتى فصل الشتاء رأت أن تلتجئ من العواصف وتقيم في خليج نافارين، حيث اجتمعت المراكب العثمانية والمصرية، فلما رأى العثمانيون هذه السفن الأجنبية توهموا أنها تريد لهم شرا، فرموها بمدافعهم وانتشب القتال بين الطرفين، وكانت النتيجة أن المراكب العثمانية، وخصوصا المصرية وعدد هذه 63 قطعة حربية دمرت عن آخرها. وفي سنة 1828 عين كابوديستريا من عمال سياسة روسيا الكبار وأصله رومي، رئيسا لهيئة الحكومة اليونانية الجديدة لمدة سبع سنين، وكان الرجل ميالا إلى الحكم المطلق المألوف في روسيا، فلم ترق للأروام أساليبه في الحكم بعد استقلالهم؛ ولذلك قام بعضهم عليه وقتلوه رميا بالرصاص في سنة 1831، وانتخب الشعب بعد هذا البرنس أوتو البافاري ملكا، وذلك في سنة 1832، فاعترفت دول أوروبا بانتخابه، وبدأت المملكة اليونانية الجديدة بشكلها الحالي من ذلك العام.
جورج ملك اليونان.
وصل الملك الجديد إلى أثينا ومعه العدد العديد من أبناء جلدته الألمانيين، قلدهم أهم الوظائف في المملكة فأسخط عليه الأروام حتى إنهم قاموا وطلبوا منه أن يعزل جميع النظار والحكام ويعين خلافهم من الوطنيين، وأن يشكل مجلس نواب، فعمل الملك برأي الشعب وشكل مجلس نواب في سنة 1843، ولكن هذا الملك ظل مترفعا على الأروام غير ميال إلى مخالطتهم أو عامل على تعمير بلادهم، فكثر نفورهم منه، ودامت هذه الحالة إلى سنة 1862 حين قام القوم وطلبوا من أوتو أن يترك بلادهم ويعود إلى وطنه، وقد زاد في نفورهم من الملك أوتو أنه لم يرزق أولادا، وهم كانوا يريدون أن يقوم له وارث يعيد مجد بلادهم فاضطر أوتو أن يترك ملك اليونان، وعاد بأهله وصحبه على وطنه الألماني. وعلى ذلك انتخب القوم في سنة 1863 البرنس وليم الدنماركي، وهو الملك جورج الحالي، وقد تنازلت له إنكلترا في أول حكمه عن جزر الأرخبيل الرومي، وضمت إلى بلاده أيضا أجزاء من بلاد تساليا، ونظمت قوات اليونان الحربية وماليتها وتحسنت مدائنها ونمت متاجرها وكثر المتعلمون فيها على أيام هذا الملك، ولم تحدث لبلاد اليونان حروب كبيرة كل هذه المدة ما خلا حربها الأخيرة مع الدولة العلية، وأمرها معروف.
والملك جورج ولد في عاصمة الدنمارك سنة 1845، واقترن بالأميرة أولغا الروسية ورزق منها خمسة أولاد، منهم قسطنطين، وهو ولي العهد، وجورج ونقولا وأندراوس وخريستو فوروس. والملك جورج مرتبط بصلات القرابة مع إمبراطور ألمانيا؛ لأن ولده ولي العهد متزوج بشقيقته، وصهره ملك الإنكليز وزوجته أقرب أقارب إمبراطور روسيا، فهو مسموع الكلمة في أوروبا يسعى في تقدم مملكته ونجاح بلاده.
أثينا
سبق لي أن أتيت بيرية، وهي ثغر أثينا، قادما من الآستانة حتى أكتب عن هذه البلاد بعض الشيء ، ولكن حكومتها منعت الركاب من النزول إلى البر بالنظر إلى وجود بعض إصابات بالكوليرا في الآستانة، وعليه أتيت الإسكندرية وفي عزمي أن أعود إلى أثينا يوما، وقد سهل المولى ذلك، فذهبت إليها في صيف سنة 1906 حتى أضمن هذا الكتاب وصف عاصمة اليونان أسوة لها بعواصم أوروبا وأميركا، فأقول:
قمنا من إسكندرية بالوابور الخديوي، وأول ما رأينا من الأرض جزيرة كريت إلى شمال الباخرة، وقد سارت تجاهها ثلاث ساعات تقريبا، واقتربت منها حتى إن القرى كانت تظهر للمسافرين. وقبل أن تصل الباخرة ثغر بيرية بخمس ساعات تقريبا مررنا بكثير من الجزر ذات اليمين وذات اليسار، بعضها عامر والبعض صخري لا ينبت فيه شيء، وقد أخبرنا ربان السفينة أن هذه الجزيرة تدعى سنبوس، وتلك سرموس وقس على ذلك. وقال أيضا إن البحر محصور ما بين هذه الجزر، ففي أيام العواصف يهيج هنا هياجا شديدا، مثل هياجه في بوغاز مسينا عند نابولي. ولما بلغنا بيرية ظهرت المدرسة البحرية، وهي جميلة مبنية على تل قائم بنفسه ، ثم البواخر الراسية في الثغر المذكور أكثرها عدا السفن الصغيرة التي تسافر إلى الجزائر اليونانية وهي كثيرة، فنزلنا للكمرك، ومنه ذهبنا إلى مصيف فاليرا أو فاليرون الواقع على البحر، وموقعه يظهر من ظهر الباخرة، وهو يبعد عشر دقائق عن بيرية وخمس عشرة دقيقة عن أثينا. وهذه المدن الثلاث مرتبطة بخط سكة حديد كهربائية يقوم منها وإليها القطار كل ربع ساعة.
بعد استقلال بلاد اليونان - كما هو معلوم ومشهور - حصلت مداولات دامت السنين الطوال لانتقاء مركز يكون هو العاصمة، فقر الرأي في سنة 1834 أن تكون أثينا العاصمة، وما هي يومئذ إلا قرية تعد بثلاثمائة بيت، ذات شوارع قذرة وضيقة، وهم يدلونك لحد الآن إلى المنزل الذي أقام فيه الملك أوتو لما نصب ملكا وهو منزل صغير حقير، ومع أنه كان في البلاد مدن أعظم من أثينا فقد أقروا انتقاءها لما فيها من الآثار القديمة تذكر الأروام بمجد أجددهم، وهم قوم اشتهروا بحب وطنهم.
على أن هذه القرية أصبحت بعد زمن مدينة جميلة، فيها البنايات العمومية وجميعها من الرخام الأبيض الناصع، وهو كثير في ضواحي البلد حتى إن ثمنه لا يزيد كثيرا عن ثمن الحجر، فالمرء يرى واجهات بعض المنازل والفنادق من الرخام، حتى إن مماشي شارع المدارس رص بالرخام الأبيض الناصع مثل قاعات المنازل، ولا مثيل لذلك في أوروبا. وسكان أثينا الآن مائة وأربعون ألفا وثغرها - أي بيرية - يعد بخمسين ألفا، وقد اشتريت كتاب دليل أثينا وأخذت معي ترجمانا من الفندق، وهاك وصف أثينا، وهو معروف لكثيرين من المصريين الذين يذهبون إلى الآستانة فيكون عندهم وقت أن يذهبوا من الثغر في سكة الحديد الكهربائية مسافة ربع ساعة يتفرجون على أثينا، وهم يرون عند المحطة ميدان أمونيا - أي الاتحاد - يتفرع منه عدة شوارع، أهمها شارع ستاديون، وهو في قلب العاصمة، يسير المرء فيه كما سرنا، فيرى الحوانيت والقهاوي ومجلس النواب ونظارات المالية والداخلية، وحركة ذهاب وإياب، وفيه خط للترامواي، وفي آخره قهوة زخرانوس، يرى فيها ما بين القوم ضباط الجيش والبحرية بملابسهم الرسمية. وقد جرت العادة أن يختلف الغرباء إلى هذه القهوة، وأمامها ميدان فسيح يدعى ميدان الكونستيتوسيون أو ميدان الدستور، وهو مثابة الناس عند زوال الشمس يخطرون به أو يجلسون في القهاوي.
ومن حول الميدان أحسن الفنادق، وهي كثيرة العدد، منها فندق بريطانيا العظمى، واجهته من الرخام الأبيض، ويلي من هذا الميدان لجهة الشمال حديقة فيها أشجار البردقان أو الفلفل البري، وهو كثير في الشوارع الأخرى؛ لأنه يفيد في تحسين الهواء. ومن هذه الحديقة يمكن الوصول إلى قصر الملك، بني سنة 1834 على تل منفرد، والبناء بسيط داخلا وخارجا، يجوز الدخول إليه كما دخلنا. وكان دخولنا من سلم رخام درجاته عشر، إلى رواق قائم أمام القصر على عشرة أعمدة ضخمة من الرخام. وكان دليل القصر واقفا هناك رافقنا إلى الدور الأعلى من سلم رخام، درجاته أربعون، فرأينا عند باب الدخول صورة الملكة بنيلوب والدة تيلماك، ثم دخلنا الردهة الخارجية، فيها أعلام رومية وتركية باقية إلى الآن من أيام حرب الاستقلال في سنة 1821. وفي دائرة الردهة من الجهات الأربع صور بالزيت تمثل الوقائع الحربية فيها الأتراك بالعمائم يطلقون البنادق والأروام بلباسهم الأرناءودي وغيرهم بالسراويل الطويلة. وفي بعض المواقع كان القتال بالسيف الأبيض، وهناك صورة الموقعة البحرية المعروفة بموقعة نافارين السابق ذكرها في المقدمة.
ثم دخلنا قاعة العرش، وفيها عرش من قطيفة حمراء وكرسي آخر يجلس إليه الملك عند مقابلته الزائرين، ثم قاعدة الاستقبال وهي رحبة يقام فيها حفلة رقص في رأس كل سنة، يؤمها ألف مدعو تقريبا من أعيان البلد، وليس فيها مفروشات فاخرة عدا عدة ثريات من النحاس الأصفر المذهب تنار بالكهرباء. وبعد ذلك وقفنا في شرفة القصر، وهي تطل على الميدان السالف الذكر وقسم كبير من البلد. ولهذا القصر حديقة كبرى يمكن الدخول إليها، ولكن لا يجوز شرب الدخان فيها بأمر الملكة. خرجنا من القصر إلى الميدان السالف الذكر، ومنه سرنا في شارع هرمس لجهة الغرب، في أوله قهوة تباع فيها حلويات شرقية، كالبقلاوة والكنافة، وهي مثابة العائلات. والشارع المذكور طويل وعريض جميل المنظر، فيه منازل جميلة وحوانيت كبيرة تباع فيها البضائع الأوروبية النفيسة.
وفي الغد ذهبنا إلى شارع المدرسة، وهو أجمل الشوارع وأعرضها، مماشيه مبلطة بالرخام الأبيض الناصع، وفيه ثلاثة مبان فخيمة، واجهاتها وعمدها وأروقتها الضخمة خارجا وداخلا من الرخام، أولها دار الأكادمي أو مجمع العلماء، بنيت كلها من الرخام، وقد بناها البارون سينا على طرز دور العلوم في باريس وبرلين، وهو يوناني الأصل، اكتسب ثروة من إقامته في عاصمة النمسا، وتجنس بالجنسية النمساوية، ولكنه لم ينس وطنه. وداخل هذا البناء قاعدة فيها المقاعد للمباحث العلمية، وصور بعض العلماء، وصور بالزيت ذات قيمة عظيمة، ويمكن الوصول من هذه الدار إلى متحف النقود، فيه شيء كثير من النقود الذهبية القديمة مرتبة حسب تاريخ ضربها، من ذلك نقود من أيام إسكندر المكدوني لا نظير لها في متاحف أوروبا، وقد أقيم خارجا تمثال البارون سينا؛ ليخلد ذكر اسمه.
وعلى بضع خطوات البناء الثاني، وهو المدرسة الكلية، بنيت في سنة 1837، ومدخلها من رواق بني على جملة أعمدة رخامية ضخمة، وعلى يمين الباب تمثال البطريرك غريغوريوس الذي قتله القواصة في الآستانة لما ثار الأروام بطلب الاستقلال في سنة 1821. وعلى شماله الخطيب والشاعر ريجاس الذي كان يلقي الخطب ويقول الأشعار الحماسية في الحرب، وهناك أيضا تمثال غلادستون السياسي الإنكليزي الشهير، الذي كان له فضل كبير على مملكة اليونان. وأما البناء الثالث فهو المكتبة العمومية، بناها الخواجة فاليانوس، فيها مائتان وخمسون ألف مجلد، وقد نصب له تمثال يخلد ذكر اسمه. وليس بعيدا من هذا الشارع مدرسة عظيمة للبنات معروفة بمدرسة أرساكيون على اسم الخواجا أرساكس الذي بناها بماله.
ذكرت أن ميدان الاتحاد يتفرع منه جملة شوارع، منها شارع يدعى باتيسا، وهو أطول شارع في أثينا، غرس الشجر إلى جانبيه، وفيه المتحف والدخول إليه من حديقة، وقد قسم عدة أقسام، منها القسم المصري فيه موميات وتماثيل مصرية من البرونز والحجر وفخار وجعلان، وهنالك تمثال امرأة من خشب راكعة وهي تعجن، والتمثال الآن ذو قيمة عظيمة، مثل تمثال شيخ البلد الخشبي في متحف مصر، له سمعة في كل أوروبا. وقد جمع هذه الآثار رومي اسمه دمتريو يوانيو من مصر منذ 1871 وأرسلها إلى هذا المتحف.
وفي المتحف المصري المذكور غرفة خصوصية على اسم روستوفتش بك المقيم بمصر الآن، جمع فيها شيء كثير من الآثار والعاديات المصرية هدية للمتحف المذكور. فالرومي ولو تغرب عن وطنه يذكره في كل حالة، حتى إن أولاده الذين يولدون في بلاد غريبة لا ينسون وطنهم كما هو معلوم ومشهور. وفي هذا المعرض أيضا القسم اليوناني، وضعوا فيه تمثالا وجدوه في البحر، أعني أن الغواصة وجدوا في قاع البحر قطعا صغيرة مجموعة بعضها يلي بعضا فأخرجوها، وركب أجزاءها بعد ذلك عالم طلياني حسب الوضع الأصلي، فكان منها هذا التمثال. وهناك تماثيل الآلهة أو المعبودات اليونانية القديمة، مثل نبتون إله البحر، وأثينا معبودة الصحة، وسيأتي ذكرها. وهناك أيضا قبور من الرخام نقش عليها رسوم حوادث التاريخ اليوناني القديم، من ذلك رسم معركة مراثون التي حدثت للقوم مع جيش داريوس ملك الفرس بالقرب من أثينا، وتمثال عسكري مات في الحرب وهو ما زال راكبا على الحصان ووالده ووالدته على يمينه وشماله يندبانه، كل ذلك من الرخام. أما المصوغات الذهبية التي وجدت في الكهوف كالأساور والحلق والخلاخل؛ فإنها تعد بالألوف، وهي أكثر هنا من نظائرها في متحف مصر، وهناك أيضا دهليز طويل فيه قسم الفخار كالآنية والأباريق وجدت تحت الردم في سهل طروادة وأتيكا، يدل تاريخها أنها صنعت من 2500 سنة قبل المسيح، وقد دهنت بألوان باقية على حالها إلى الآن.
ويقال بالاختصار إن متحف أثينا هذا فيه 25 غرفة عدا الدهاليز والفسحات حوت ألوفا كثيرة من القطع الأثرية، وقد طبع عنها مجلد يباع للراغبين في المتحف، فيه النمر الموضوعة على القطع لمعرفة أصلها. وفي الشارع المذكور دار الفنون الجميلة - أعني الصور - والداخل إليه يعجب من فخامة البناء العظيم، وهو طبقتان جميعه من الرخام الأبيض الناصع، وفيه خارجا وداخلا 15 من الأعمدة الرخامية الضخمة الناصعة البياض تسطع وتلمع. وقد صعدنا سلما له إطار من نوعه كله رخام فدخلنا قاعات الصور، أكثرها تمثل وقائع حرب الاستقلال والذين اشتهروا بها.
الستاديون:
ممكن الذهاب إلى الستاديون من ميدان الدستور السابق ذكره، وهو يعد من أغرب الأماكن، كان يقام فيه الألعاب الأولمبية، بني في سنة 330 قبل المسيح، وكان الخطيب اليوناني والوطني الشهير ليكورغوس يلقي فيه خطبا حماسية على القوم أثناء الحروب، ولا سيما في حربهم مع إسكندر المقدوني، بني على شكل أمفيتياتر «مدرج» مثل ملعب الخيل، وكله من الرخام، ومقاعده حجارة مستديرة من الرخام أيضا بدون مسند للظهر، بلغ عددها خمسين ألف قطعة، وكانوا يقيمون فيه الألعاب الرياضية لأشداء الرجال، وأهمها المصارعة، وكانوا يكللون الظافر بإكليل من شجر الغار، حتى إن بطليموس ملك مصر الذي حكم فيها من سنة 246 إلى سنة 284 قبل المسيح ذهب من مصر ليرى هذه الألعاب، وكذلك ملك سوريا أنطيوخوس الذي حكم سوريا من سنة 164 إلى سنة 175 قصد هذا المكان أيضا، وأجرى فيه بعض الترميمات، ولكن هذا الملعب تخرب على ممر الدهور ، وأخذت مقاعده الرخامية، حتى حركت الحمية الوطنية المرحوم أفيروف المثري الإسكندري المعروف، فأخذ في إعادة هذا البناء الفخيم إلى حالته الأصلية بثمانين ألف جنيه تعهد بدفعها عن طيبة خاطر، واستحضر مهرة المهندسين من إيطاليا وألمانيا اشتغلوا السنين العديدة في قطع الرخام من الجبل على شكل المقاعد الرخامية الأصلية، وأحضروها إلى هذا المكان، ووضعوا المقعد الرخامي لصق الآخر من أول دائرة الملعب صفوفا صفوفا، وأبقوا طريقا ضيقا للمرور بين كل اثني عشر صفا، وكان طول المقاعد في دائرة الملعب إلى أعلاه 600 قدم وعرضها 400.
وللملعب المذكور أفريز من الرخام أيضا، وهو الحائل ما بين المتفرجين واللاعبين، مثل ملعب الخيل، وأفريز آخر في أعلاه كذلك من الرخام. ومما يزيد البناء حسنا أنه لا يرى فيه حجر ولا حديد ولا آجر (طوب) ولا خشب، بل إن جميعه رخام في رخام، وكانوا قد جعلوا شهر أبريل من سياحتنا موعدا لهذه الألعاب حسب العادة القديمة، واشترك فيها الرجال الأشداء من أروام وغير أروام أتوا من أوروبا. ولكي أمثل للقاري هذه الألعاب وهذا المكان بنوع خصوصي، أقول إن ملك إنكلترا إدورد السابع حضر خصيصا من لندن ليرى الألعاب والمكان في ربيع هذه السنة، وأعطوا خمسين ألف تذكرة دخول لخمسين ألف مقعد، ثم صرفوا 15 ألف تذكرة أيضا للطالبين وقفوا حول الدائرة. فلما وصلنا اندهشنا من رؤية هذا المكان وتأملنا دائرته، ثم تقدمنا صعودا في إحدى هذه الطرق إلى أعلى صف فيه، وجلسنا إلى أحد هذه المقاعد فعددناها من الأسفل إلى الأعلى فكانت في صف واحد 105 مقاعد. فالستاديون أو الملعب هذا أعجوبة من عجائب العالم بين الآثار الباقية إلى هذا اليوم، وقد أقيم تمثال المرحوم أفيروف بانيه عند باب الدخول وهو واقف يشير بيده إلى جهة الملعب ولسان حاله يقول: انظروا هذا، فهو من أعمالي.
الأكروبول:
ومن أهم ما يرى في أثينا أيضا الأكروبول، ممكن الذهاب إليه من الستاديون، وهو معبد فيه جملة معابد بني على مرتفع صخري في طرف البلد، علوه 500 قدم، وهو يشبه آثار بعلبك، ولكنه حفظ من العوامل الطبيعية والزلازل؛ لأن فيه للآن 26 عمودا طول كل منها 28 قدما وسمكه 5 أقدام، ولكن إذا أضيف إليها القاعدة والتاج فيكون الطول 33 قدما. وأما بعلبك فلم يبق فيها إلا 6 أعمدة فقط، ويوجد مثل هذه الأعمدة في الكرنك عند القصر في صعيد مصر، ولولا أن الفرس خربوا هذا المعبد عند استيلائهم عليه سنة 480 قبل المسيح لبقي أقرب إلى الأصل مما هو الآن. ولكن إسكندر المقدوني أعاد الأعمدة بعد انتصاره الباهر، قيل إن قيمة الذهب والعاج التي أدخلت في معبد أثينا بلغت «617» تالان أو نحو 150 ألف جنيه في ذاك الزمان. ولما وصلنا صعدنا من سلم درجاته واطئة جدا، ولكنها متخربة نوعا، ولا يبعد أنهم تركوها متخربة على حالتها الأصلية؛ ليظهر قدمها، ودخلنا من باب سمي باب بيلة؛ لأن الموسيو بيلة الفرنسوي هو الذي اكتشفه في سنة 1852 من تحت الحصون العثمانية التي كانت بنيت فوقه. وأول معبد أشار إليه الترجمان وكتاب الدليل الذي كان في يدنا معبد أثينا وقد تخرب، ولكن الأثريين الفرنسويين والألمانيين رمموه من أنقاضه الملقاة في الأرض في سنة 1836، وكانت أثينا إلهة الصحة؛ لأنه حدث في أثناء البناء أن عاملا سقط على الأرض وجرح، وكان بيريكلس قد حلم في الليل أن أثينا أهدته إلى حشيشة تنبت قرب المعبد، يقطف منها ويدهن بها المجروح فيطيب، ففعلوا بالحلم وشفي المجروح. وهناك معبد بروبيليا بني في سنة 437 قبل المسيح، وفيه رواق جميل قائم على تماثيل في غاية الدقة، أخذ منها اللورد ألجين تمثالا ونقله إلى متحف لندن. وقد قرأت في الكتب الإنكليزية تنديدا على اللورد؛ لأنه خرب آثارا كثيرة من المعابد اليونانية ونقلها إلى وطنه، وإني أنصح القارئ قبل نزوله أن يقف في مكان في طرف الأكروبول لجهة البلد يدعى منظر آمليا على اسم ملكة الأروام الأولى، فإنه يرى منه كل مدينة أثينا بميادينها وشوارعها وبناياتها، فلا يغيب شيء عنه. ويرى أيضا من الأكروبول عند أسفله تياترو ديونسيوس، بني في سنة 340 قبل المسيح، يضم 14000 شخص، وهو محل للخطابة تجتمع فيه الجمعيات للمداولة في شئون البلاد، وكان قد بقي فيه تمثال واحد، ولكن قنابل الأتراك خربته أثناء الحرب، وهم يومئذ ملكوا الأكروبول وأقاموا فيه وجعلوه حصنا لهم. وفي الأكروبول نفسه متحف جمع فيه آثار لا يحصى عددها كانت ملقاة على الأرض، وفيه جملة غرف ودهاليز فيها القطع الرخامية جميعها من بقايا المعابد. وقد رأينا من جملتها حجارة المعابد كانت ملقاة على الأرض، مدهونة باللون الأزرق والأحمر، وهذه الألوان باقية على أصلها لحد الآن مع أنه مضى عليها أكثر من ألفي سنة، وهي مثل التي في بعلبك. ومن المعلوم أن عاصمة بلاد الأروام اشتهرت في أوروبا وأميركا، ويقصدها السياح، ليس حبا في رؤية البلد، بل لرؤية الآثار القديمة فيها، فلا يخلو أحد أحيائها من آثار كثيرة يقصدها السياح، من ذلك قوس أدريين أحد قياصرة الرومانيين، ارتفاعها 59 قدما واتساعها 44، وهي قائمة على 13 عمودا من الشرق و93 من الغرب، و6 من الجنوب و6 من الشمال، طولها 51 قدما وقطرها 5 أقدام ونصف. وبينما كنت سائرا مع الترجمان دعانا لرؤية برج الهوا ، وهو يدل على المطر وحالة الهواء بواسطة علامات تخربت، وقد بنى الأتراك فيه جامعا صغيرا، وهذا تخرب أيضا، قرأت على جدرانه كلمة الجلالة حفرت حفرا على الجدار. ومن هذا المكان ذهبت إلى الكنيسة الكبرى وهي جميلة جدا، دهنوا جوانبها بالذهب، وليس فيها مقاعد مطلقا، بل إن المصلين يقفون على أقدامهم، ما خلا الملك والملكة، فقد أعدوا لهما كرسيين.
ضواحي أثينا
سبق القول أني أقمت في فالير من ضواحي أثينا، والذين يهجرون العاصمة من شدة الحر في زمن الصيف ويقيمون في الضواحي عدد كبير. وفالير هذه على شاطئ البحر مثل سان ستيفانو في رمل الإسكندرية، بني فيها فنادق، ولكن الوطنية حركت همة المرحوم بستمازوغلو المثري ومدير بنك أثينا، فبنى فندق أكتيون الفخيم، وفيه العشرات من الأعمدة الرخامية الضخمة في الدور الأسفل ذات بياض ناصع، وفيه القاعات على الطرز الصيني والمصري بمفروشاتها. ولفالير رصيف ممتد على البحر مسافة 3000 متر تقريبا، يكنس ويرش بالمياه، وتصدح به الموسيقى العسكرية في كل يوم من بعد الظهر ، فيتقاطر الناس أفواجا لهذا المكان من العاصمة، والمسافة بينهما عشر دقائق، فبعضهم يجلسون في القهاوي الكثيرة العدد في الرصيف المذكور، أو يخطرون فيه ذهابا وإيابا، وفيهم الضباط من عسكرية وبحرية بملابسهم الرسمية، وبعضهم يتناولون طعامهم على المنضدات المنتشرة على شاطئ البحر، وآخرون يولمون الولائم في الليالي المقمرة. والفنادق في هذا المكان رخيصة، ومأكولاتها بعيدة عن الغش، فإن اللحوم والخضر والفواكه وغير ذلك جيدة. وهناك تياترو مكشوف؛ لأن الهواء جاف، وقد بنوا رصيفا من الخشب أيضا يقام أحيانا فيها حفلات رقص، ومنها ترى المراكب الحربية الراسية في ميناء فالير، وهناك قوارب بخارية أو شراعية للنزهة في البحر، وحمامات للاستحمام بماء البحر، بعضا للرجال والبعض للحريم، يؤمها خلق كثير في كل يوم من بعد الظهر. ويحد فالير من الشرق والغرب سهل فيه الزرع والضرع ومعامل للصناعة، ويحد هذا السهل جبال قاحلة، مثل بعض أجزاء جبل لبنان.
كيفيسيا:
هي ثانية الضواحي، ذهبنا إليها من العاصمة بالسكة الحديدية في ساعة في وسط أراض ضعيفة التربة، وبعض أشجار الزيتون والتين هنا وهناك، ولكننا دهشنا حين وصلنا من رؤية روضة غناء، فيها الأشجار الباسقة وبرك المياه العديدة والزهور المتنوعة، والناس في ذهاب وإياب في هذه الروضة حتى خيل لنا أننا في حديقة فرسايل. ويتفرع من هذه الروضة عدة شوارع بني فيها قصور جميلة داخل حدائق لطيفة، بناها الموسرون الأروام بعد أن حصلوا على ثروة من متاجرهم في بلاد الغربة وعادوا إلى وطنهم المحبوب؛ ليستريحوا من عناء الأعمال ويذوقوا ثمر أتعابهم، ومنهم من قضى السنين الطوال في القطر المصري، وهم الآن في أرغد عيش في هذه الجهة. وهناك فندق عظيم يؤمه خلق كثير خصوصا في أيام الأحد من بعد الظهر.
طاطوي:
أو هي ضاحية الملك؛ لأن الملك بنى فيها قصرا له ولأنجاله، ذهبنا إليها بالعربة من كيفيسيا مسافة ساعة، يريد المرء لو أنها تطول؛ لأن الطريق في حرجة تمتد مسافة ساعات في الطول والعرض من أشجار الصنوبر الأخضر والسنديان والبلوط والصفصاف، وأشجار برية غضة ملتف بعضها حول بعض، حتى إنها غطت وجه الأرض. وقد خططت الحكومة في وسطها شارعا تمر فيه عربتان فقط للذهاب والإياب. ولهذه الغابة رائحة عطرية، وتغرد فيها الطيور، وهي كثيرة ومتنوعة في هذه الجهة، حتى إذا وصلنا المحل المقصود ذهبنا إلى الفندق الذي بني فيه لراحة المسافرين، ثم سرنا إلى قصر الملك، وهو مبني في الحرجة المذكورة، لم يقطعوا منها الأشجار والأعشاب إلا موضع بناء القصر فقط. وكان على باب الحرجة الخارجي الحراس، وهم يطلبون فقط أن يكتب أسماء الزائرين في دفتر أعدوه لهذا الغرض. فسرنا في الحرجة في الطريق الموصل للقصر، والقصر صغير وبناؤه بسيط ملتصق بقصور الأمراء أولاد الملك، ومن حوله حديقة رأيت فيها تمثالا يمثل النسر يصيد غزالا، وقد كان البرنس حليم باشا المصري مغرما بهذا، فكان يركب جوادا، ويأخذ النسر على كتفه الشمال، ولما يرى الغزال من بعيد يدل النسر عليه فيطير النسر ويفقأ عيني الغزال بجناحيه، والغزال يعدو ليتخلص منه، ولكن النسر يتبعه أينما سار، وهو مستمر على العمل المذكور حتى يصل الصياد ومعه الكلاب، ويكون الغزال قد ضعف وتعذر عليه الفرار فيمسكه بيده. ويرى من طاطوي سهل ماراثون حيث حصلت الموقعة الحربية في سنة 490 قبل المسيح ما بين الفرس واليونان، كان الأروام فيها عشرة آلاف فقط تحت قيادة ملتيادس، وكان الفرس نحو 150 ألفا، ولكنهم هزموا بعد قتال شديد وفروا من وجه الأروام.
وكثيرا ما يذهب السياح الإنكليز والأميركان إلى هذا السهل، ومعهم الخيام ينصبونها فيه، ويقيمون الأيام، وهم يعدون ذلك من دواعي الفخر والتباهي. وفي آخر النهار عدنا من نفس الطريق.
قبل مبارحتي أثينا لا بد لي أن أذكر الحماسة الوطنية المشهورة عن الأروام، وسعيهم وراء ترقية وطنهم وحبهم الشديد له، يشهد بذلك تعلقهم على ذكره، واستمرارهم على تحسين عاصمتهم مع قطع النظر عن الحكومة؛ لأن كل الأبنية العمومية التي شيدت في العاصمة من أموال الأهالي، وهذه أسماء الذين تبرعوا بالمال الوفير لهذا الغرض.
الخواجة أفيروف:
بنى المدرسة الحربية، وصرف عليها مبلغ عشرين ألف جنيه، وبنى الستاديون أو هو ملعب الألعاب الأولمبية الذي سبق ذكره، وصرف عليه ثمانين ألف جنيه، وبنى سجونا بعضها للأحداث الذكور والبعض للإناث بمبلغ أربعة آلاف جنيه، ولا يخفى ما في هذه السجون من النفع، ويقال لها الإصلاحية، لا يختلط فيها الصغار بكبار المجرمين اجتنابا لفساد الأخلاق، فضلا عن أن الصغار يعلمون صناعات شتى أثناء سجنهم، والغرض من ذلك منعهم عن الشر وتقويم النفوس. ولما فتحت وصية الخواجة المشار إليه وجد أنه ترك فيها مائة وخمسين ألف جنيه لبناء مدرسة حربية تعلم فيها الفنون البحرية.
البارون سينا:
سبق أني ذكرت اسمه، بنى دار مجمع العلماء، وهو بناء فخيم عظيم، صرف عليه مائتين وخمسين ألف جنيه.
الخواجة سنكرو:
بنى دارا للعجزة صرف عليها أربعة آلاف جنيه، وبنى دارا أخرى للفقراء بمبلغ أربعة آلاف جنيه، ولما نظر أن حالة السجون العمومية رديئة - مثل ما كانت عليه سجون مصر في الماضي - بنى سجونا على القواعد الصحيحة بمبلغ خمسة آلاف جنيه، ثم بنى دارا للبنات الفقيرات بمبلغ عشرة آلاف جنيه يتعلمن فيها الخياطة والتطريز وغير ذلك من الصنائع اليدوية، ومن هذه الدار تخرج معلمات ماهرات بفن الخياطة، ولما فتحت وصيته وجد فيها أنه ترك مائة ألف جنيه تصرف في المبرات والخيرات والمنافع العمومية في العاصمة، وقد فتحوا بماله بعض الشوارع، وسمي أحد هذه الشوارع باسمه.
الخواجة فاساني:
بنى المدرسة البحرية وصرف عليها مبلغ عشرين ألف جنيه، وهي التي ترى عند قدوم المسافرين إلى ثغر بيرية، بنيت على تل قائم بنفسه، ولما فتحت وصيته وجدوا أنه وقف مبلغ عشرين ألف جنيه لهذه المدرسة.
الخواجة باغي:
افتكر بأمر آخر، وهو أنه بنى فندقين وفرشهما بمبلغ أربعين ألف جنيه في أحسن مواقع المدينة، وقد خصص إيرادهما للأرامل والأيتام.
كوستا:
بنى مدرسة داخلية للصنائع يعلم فيها أولاد الفقراء، ويصرف لهم المأكول والملبوس مجانا بمبلغ عشرين ألف جنيه، وكان يريد من ذلك منع التسول.
الخواجا أرساكي:
بنى بناء فخيما جدا، صرف عليه مبلغ أربعين ألف جنيه، أعده للبنات الفقيرات يقمن فيه ويتعلمن الصنائع من كل الأنواع، من ذلك كيفية تربية الأولاد، وإدارة المنازل والطبخ ومعالجة المرضى، والبناء المذكور في أهم مواقع العاصمة، لا تقل قيمته عن مائة ألف جنيه الآن.
الخواجة فاليانوس:
بنى المكتبة العمومية صرف عليها وعلى الكتب مبلغ أربعين ألف جنيه.
الخواجات زبا وهم أشقاء:
بنوا دارا للعلوم والعمليات أو هي المهندسخانة بجميع فروعها، صرفوا عليها مبلغ أربعين ألف جنيه، ثم تركوا مبلغ مائة ألف جنيه لتصرف في الأعمال الخيرية والمنافع العمومية.
فهذه الأرقام إذا جمعت زادت عن مليون جنيه، وهي أرقام رسمية مأخوذة من سجلات الحكومة، تبرع بها الكرام من تلقاء أنفسهم حبا بوطنهم وإخوانهم في الجنسية، مع أنهم كانوا فقراء الأصل لا يملكون شيئا على ما علمت، ولكن لما وفقهم الله تعالى في جدهم واجتهادهم لإحراز ثروة عملوا الخيرات والمبرات تخلد ذكر اسمهم في التاريخ.
ولطالما قرأنا في الجرائد اليومية بمصر أن فلانا وفلانا من الأروام بالقطر المصري - حتى وفي السودان - تبرعوا بالمال الكثير لوطنهم، فما تركت أثينا لأعود على مصر إلا وأنا أفكر بما جادت به نفوس هؤلاء المحسنين.
البلقان
في سنة 1908 عزمت على السياحة في ممالك رومانيا والسرب والبلغار؛ لأن هذه البلاد غير مطروقة كثيرا منا - نحن الشرقيين - بل اعتدنا أن نذهب إلى أوروبا، مع أن هذه البلاد أوروبية من كل الوجوه في علومها ومتاحفها ومعالمها ومتنزهاتها، ولها تاريخ جليل مفيد مشحون بكثير من عبر الدهر وحوادثه يرتقي إلى عدة قرون. وبناء عليه ركبت الباخرة من الإسكندرية، وهي باخرة رومانية استعارت اسمها (داسيا) من اسم رومانيا القديم، فقامت بنا يوم الجمعة الموافق 3 يوليو سنة 1908 عند الساعة الرابعة بعد الظهر، وكان الهواء جميلا. وفي الغد ظهرت لنا جزائر كارباتوس وكاسوس على شمال الباخرة، ثم جزيرة رودس على اليمين، وقد بقيت خمس ساعات أو أكثر ظاهرة للعيان والباخرة تسير، ثم ظهرت بعدها جزائر أخرى صخرية راسخة هنا وهناك كالجبال في وسط البحر، بعضها معمور بالسكان وبعضها لا يفيد بشيء. وعلى هذه الصورة لم يكن البر يتوارى عن عيان المسافرين مدة السفر، بل ظل يؤنسهم ويمتع ببهجته النواظر والخواطر.
وفي اليوم الثالث من السفر - وهو الخامس من الشهر المذكور - لاحت لنا أزمير، ولكننا قبلما نبلغها صدرت الأوامر لباخرتنا بقضاء مدة الحجر الصحي القانونية في جزيرة كلاموزين (فورلا) المعدة لهذه الغاية، فكان الحجر مضروبا بسبب بعض وفيات طاعونية حدثت في الإسكندرية قبل قيامنا منها بيومين، فتوجهنا إلى الجزيرة المذكورة، ووجدنا ميناءها أمينة طبيعية، تبلغ في الطول ثلاثة كيلومترات، وفي العرض نحو كيلومترين، تكفي لخمسين بارجة حربية، وقد أحدقت الجبال بها إلا من جهة واحدة، فكأن الطبيعة أرادت أن تغنيها بمواهبها عن أيدي البشر. ولهذا الميناء نظائر عديدة في سلطتنا العثمانية، مثل مرسى أزمير وسلانيك وغيرهما، مع أن الممالك الأخرى أنفقت ملايين من الجنيهات لإعداد مواني ترسو فيها المراكب آمنة سطوة البحر، ومنها مدينة الإسكندرية، فقد أنفق على مينائها مئات ألوف من الجنيهات.
ولما قضينا مدة الحجر الصحي - وهي ثلاثة أيام - قامت الباخرة في الثامن من الشهر المذكور إلى أزمير ، فبلغتها بساعة بعد أن رأينا في مرورنا طابية فيها المدافع، ثم سلسلة قرى مبنية على خليج أزمير، منها قرية كوردي ليون؛ أي قلب الأسد، اسم خليج أزمير سمي في الخارطة خليج الأسد. وفي كثير من هذه القرى في الضواحي مساكن أعدها الأزميريون لهم، يذهبون إليها ويعودون منها كل يوم إلى أشغالهم. وبعد أن رست الباخرة في ميناء أزمير نزلنا للتفرج عليها، وأهم ما يرى فيها الرصيف المبني على شاطئ البحر الذي يبلغ طوله بضعة كيلومترات، تجاوره منازل صغيرة نظيفة، وهذا الرصيف أكبر ملتقى للأزميريين، يتنزهون فيه بعد غروب الشمس أو يجلسون في القهوات أو في النادي الأهلي، حيث تناولنا الطعام. وللنادي فناء خارجي يشرف على البحر، وفيه قاعات للجرائد والألعاب المختلفة حسبما يعهد في الأندية. ومنه ذهبنا إلى كنيسة الروم الأرثوذكس، وهي قديمة العهد بنيت على النسق البيزانتي، ورأينا أن الأيقونسطاس والكراسي من خشب مدهون باللون الأسود كأنه اللك الصيني، ومحفورة فيه حفرا صور الملائكة والقديسين والقيامة. وفي ساحة الكنيسة قبة الجرس، وهي شاهقة ذات أعمدة رخامية مستدقة، وثلاثة أجراس كبار قدمت هدية من الغراندوق سرجيوس الروسي.
ومن الكنيسة خرجنا لنتجول في الأسواق، وهي مثل سوق الموسكي في مصر، ثم خرجنا إلى الضواحي، وهي جميلة. وعند عودتنا إلى الباخرة وقفنا في محطة سكة الحديد الموصلة إلى آيدين في داخلية الأناضول. ثم قامت الباخرة غروبا إلى متلين (مدلي)، فبلغتها بعد سير أربع ساعات، فنزل من الركاب من نزل وصعد من صعد، ثم سارت الباخرة إلى الآستانة. وفي الغد - أي 9 من الشهر المذكور - دخلت الدردنيل، حيث توجد الطوابي والاستحكامات الشاهانية التي اشتهر أمر منعتها، وكان الهواء لم يزل جميلا في بحر مرمرة حين ظهرت شطوط آسيا الصغرى على اليمين وشطوط «بروسة» على الشمال. وعند الساعة الثانية بعد الظهر لاحت لنا سان ستيفانو ويدي قولة، ثم دارت الباخرة نحو السراي القديمة، فكان أمامها غلطة وبيرا، وعلى شمالها استامبول، وعلى يمينها أسكودار وقاضي كوي. وأخيرا رست في الميناء، وفيه عدد كبير من البواخر فضلا عن البواخر التي تمخر في البوسفور ذاهبة إلى المدن المبنية على ضفته أو عائدة منها، فنزلنا إلى الآستانة ومررنا بكوبري غلطة، وفي آخره جامع سلطان والده، ثم جامع آيا صوفيا وجامع السلطان أحمد، وسبيل الإمبراطور غليوم بني تذكارا لزيارته الآستانة، وكتب على قبته الحرف الأول من اسمه، ومسلة مصرية قائمة على قاعدة فيها تماثيل رومانية، وتجاهها عمود الإمبراطور يوستنيانوس، والعمود المحروق والسر عسكرية، وسوق الآستانة - وقد وصفت ذلك كله بالتفصيل في سياحتي الأولى للآستانة - ثم عدنا إلى الباخرة بعد الغروب. والآن لا يسعني إلا أن أظهر دهشتي من منظر الآستانة في الليل كما يدهش كل سائح غريب، فما غابت شمس السماء حتى بزغت ألف شمس وشمس من الأنوار تسطع وتبهر الأبصار، وهي منتشرة في الجبال السبعة التي تتألف منها الآستانة، وذلك من شاطئ البوسفور إلى أعلى هذه الجبال، فإذا وجهت نظرك إلى الأمام ترى غلطة وبيرا كأنهما شعلة نار، وعلى الشمال استامبول وقرن الذهب، وعلى اليمين أسكودار وقاضي كوي.
وبالاختصار أقول إن منظر الآستانة الإجمالي في الليل قليل النظير في العالم جلالا وبهجة وجمالا. وفي الحادي عشر من الشهر المذكور قامت الباخرة من مرساها، ودخلت البوسفور مارة أمام القصور الشاهانية، مثل طولمه بغجه وجراغان ومحطات طرابيه وبيوكدره، حتى إذا اجتازت البوسفور دخلت البحر الأسود، حيث رأينا الطوابي وقد رفع في أعلاها العلم العثماني إكراما لوجود دولتلو محمود نديم باشا سفير الدولة في فيينا، وكان معنا في الباخرة عائدا إلى مركزه عن طريق بخارست، وهو يتكلم العربية الفصحى. والبحر الأسود هذا طوله 1187 كيلومترا وعرضه 613 كيلومترا، ومساحته 423972 كيلومترا مربعا، وهو مشهور في العمق؛ إذ يبلغ متوسطه 1100 متر، على أنه يبلغ عند القريم عمق 2616 مترا.
وبعد سير ثماني ساعات لاحت لنا شطوط بلغاريا، وبعد ساعة رست الباخرة في قسطنسة، وهي ثغر لرومانيا، فكانت مدة السفر من الإسكندرية إلى قسطنسة تسعة أيام، منها مدة الحجر الصحي، ولا بد قبل براح الباخرة من كلمة ثناء طيب عادل على مستخدميها؛ لما بذلوه من الجهد في سبيل راحة الركاب وحسن معاملتهم، وبعضهم من سكان مصر؛ فقد كان الطعام أحسن طعام تناولناه في بواخر الشركات الأخرى، وكان الخدم كثيرين مستعدين للقيام بواجباتهم عند أول إشارة، وأما عن نظافة الغرف فحدث ولا حرج، فضلا عن وجود مروحة كهربائية في كل غرفة، وفي الباخرة غرفتان كبيرتان أشبه بالقاعات، الأولى مفروشة أطلس أزرق والثانية أطلس أصفر، وفي كل منهما سرير نحاس مثلما يرى في أحسن البيوت، وبالباخرة كرسي ميكانيكي يدار بالكهرباء عكس دوران الباخرة وحركتها، يستعمله كل من يصيبه الدوار، وقد أوجدوا طريقة فيها راحة تامة للمسافرين، وهي أن جمرك رومانيا يندب من قبله معاونا يرافق المسافرين من الآستانة إلى ثغر رومانيا السالف الذكر، وهو يسأل الركاب هل عندكم شيء تؤخذ عليه رسوم؟ فإذا أجابوه سلبا تركهم وشأنهم ووضع ورقة على كل طرد. وبناء على ذلك لم ندخل الجمرك عند وصولنا إلى قسطنسة، بل ذهبنا توا إلى فندق كارول، وهو متسع قائم داخل حديقة تقدم فيه أطايب الأطعمة، ولا سيما السمك.
قسطنسة :
اسمها بالتركية قسطنجة، هي الآن ثغر من ثغور رومانيا كبير الأهمية واقع في إقليم دوبريجة، وكان هذا الإقليم قبلا تابعا لتركيا، وضم إلى رومانيا سنة 1888 بمقتضى معاهدة برلين المشهورة، كما تقدم ذكره في المقدمة التاريخية. وقسطنجة هذه كانت فيما مضى قرية، وأما الآن ففيها شوارع عريضة، بعضها مبلط بالأسفلت، وغيرها مرصوف غرست الأشجار إلى جانبيه. فمررنا من شارع رومانيا إلى أن وصلنا إلى ميدان أقيم في وسطه تمثال أوفيدو الشاعر، يجتمع فيه خلق كثير، حيث يخطرون ذهابا وإيابا أو يجلسون في القهوات، ومنه ذهبنا إلى شارع تريان - سمي باسم الملك الروماني تريانوس - وهو لا يقل حسنا عن الأول، بني فيه قصر لولي العهد، وإلى يمينه قصر آخر للبلدية، وإلى شماله بناية المجلس، وهي من الأبنية الجديدة، وكان معنا طبيب الباخرة فذهبنا معه إلى ضواحي البلدة، ومررنا ما بين أشجار الكرز والمشمش وكروم العنب حتى وصلنا إدارة التلغراف بلا سلك، فدخلناها بعد الاستئذان، وهناك رأينا سارية شاهقة العلو قائمة بقرب البحر تتدلى منها أسلاك تتصل ببطارية، ويتصل بالبطارية سلك يفضي إلى غرفة حاوية جهازا للتلغراف، يخرج منها شريط ورق فيه علامات الحروف التي تتركب منها كلمات التلغراف، وكان مدير المحل يرينا الضربات التي تنبه العمال لأخذ الإشارات. ثم ذهبنا لمشاهدة شحن زيت البترول، ولا يخفى أن رومانيا تعد الآن الثالثة بعد أميركا وروسيا في آبارها البترولية، تستخرج منها مقادير كبيرة من إقليم كاربات، وهو كل سنة بازدياد يصدرونه إلى مرسيليا وجهات أخرى للتجارة من ثغر قسطنسة. وقد رأينا في القطارات صهاريج مخصوصة لشحن هذا الصنف وتفريغه، وهم يفرغونه في حوض، ومن هذا الحوض تمتد القني إلى الباخرة الراسية بقرب الشاطئ.
من قسطنسة إلى بخارست:
وفي هذا اليوم ركبت القطار من قسطنسة إلى بخارست عاصمة رومانيا، والمسافة بينهما 6 ساعات وعدد المحطات 22 محطة، فقام القطار ينهب الأرض نهبا. وهي إلى هذه الجهة ما بين مرتفع ومنخفض مسافة ساعة تقريبا، وأما بعد ذلك فكانت الأراضي منبسطة سهلة مثل أراضي القطر المصري، سوى أن هذه تحدق بها الجبال يمينا وشمالا، وأن تلك لا تعوق مدى البصر بشيء؛ لأنها متصلة بأقاليم، واسعة وتزرع على المطر؛ إذ لا يركبها نهر الطونة لانخفاضه، ومن ثم لا يرى الرائي ترعا وجداول كما يرى في الديار المصرية. وقد لاحظت أن قسما من تلك الأراضي له لون أسود حالك كأنه محروق، وهو مخصب يغل كثيرا، فإن زراعة الذرة الشامية نامية فيه نحوا عظيما، وزراعة الشوفان أكثر من ذلك. وهناك مراع طبيعية ترعى فيها الثيران معظمها رمادية اللون، وأما السواد والحمرة فنادران فيها، ولها قرون كبيرة، وجاءوا بشيء منها إلى القطر المصري أيام موت البهائم، وما زال القطار يستقبل محطة ويودع أخرى، والمسافرون ينتظرون بفروغ صبر بلوغ الكبري العظيم (الجسر) الذي له شهرة مستطيرة في العالم، وقد بني فوق نهر الدانوب عند مدينة شيرنافودا، بناه مهندس روماني يدعى سالين، طوله 4000 متر؛ نظرا لوجود برك مياه على ضفة النهر، فهو أطول وأجمل كبري في العالم، وقد استغرق من النفقات 35 مليون فرنك حتى مر القطار فوق هذا الجسر، فتأملنا أولا في النهر فوجدناه كأنه في واد عميق بالنسبة إلى علو الجسر، وهو وإن كان جميعه مدهونا بدهان أبيض يظهر للناظر كقطعة من الحلي رونقا ورواء؛ وذلك لإحكام صنعته وحسن هندسته. وقد سار القطار مسافة طويلة والناس تتفرج عليه من عربات القطار الذي له شرفات كالقطارات بين القاهرة والإسكندرية. وفي النهر بعض بوارج مدفعية، فضلا عن وجود قوة عسكرية تخفر الجسر، ووقف القطار في إحدى المحطات 5 دقائق، فأتت بنات بأيديهن أقداح من ورق أبيض ثخين مملوءة حليبا ممزوجا بالدقيق وعصير الليمون؛ فاشتراها المسافرون، وبعد ما شربوها رموا الأقداح، وهو شراب مرطب مقبول في فصل الصيف. ورأينا في محطة المجيدية جامعا صغيرا، وكنا نرى في أثناء الطريق رجالا ونساء من الفلاحين بملابسهم الوطنية. وبعد 6 ساعات دخل القطار محطة بخارست عاصمة رومانيا، ومنها ذهبنا إلى فندق بولفار.
وقبل أن أتقدم لوصف عاصمة رومانيا، أكتب خلاصة تاريخية لهذه المملكة فأقول ...
رومانيا
خلاصة تاريخية
أصل الشعب الروماني:
كان مهد الشعب الروماني في الناحية الواقعة بين البحر الأسود والبحر الأدرياتيكي والبحر الأبيض المتوسط.
وكان يسكن هذه البقعة في الأعصر القديمة شعب التراس أجداد الذين نسميهم اليوم «الرومان»، وكان يطلق اسم «الالليريين» على الذين كانوا يسكنون منهم القسم الغربي من شبه جزيرة البلقان على شواطئ البحر الأدرياتيكي، والذين كانوا يسكنون على شمال نهر الدانوب «الطونة» في جبال ترانسلفانيا والكاربات فيهم «الداس» «والجيت»، أما القسم الشرقي من شبه الجزيرة الواقع على شمالي الدانوب فكان يسكنه فرع من عائلة التراس وهم المقدونيون.
وهذا الفرع هو أول من تمكن من أن يجعل له أثرا باقيا في تاريخ الشعوب، فإن المقدونيين توصلوا في القرن الرابع قبل المسيح إلى مد رواق سلطتهم حتى إلى أواسط آسيا ونواحي أفريقيا تحت قيادة الإسكندر ذي القرنين، فألفوا أكبر سلطنة أتيح لرجل فرد أن يتولاها.
وبعد تقسيم ملك الإسكندر امتدت السلطة الرومانية على كل شبه جزيرة البلقان، ولم يلبث الالليريون وبعدهم المقدونيون أن امتزجوا بالعنصر الروماني، وأصبح نهر الدانوب عند مجراه الأسفل حدا فاصلا بين الشعب الروماني والتراس أو الداس. وكان هؤلاء يقيمون - كما تقدم - في جبال ترانسلفانيا، حيث ألفوا مدة عدة قرون مملكة ذات نظام راق نالت شأوا بعيدا من العمران. وكان هذا الشعب شعب زراعة واقتصاد وإقدام، هدد مدة بقيادة ملوكه الشجعان أمثال بيريبيستا وديسيبال الشعب الروماني النازل بين بحر الأدرياتيكي ونهر الطونة.
وكثيرا ما حاول رجال الجمهورية الرومانية وإمبراطورة الرومان إخضاع هذا الشعب وتدويخه؛ لأن خطره كان يتفاقم يوما فيوما، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، فكانوا يكتفون بعقد الصلح بشروط مرضية، هذا إذا لم يدحروا ويردوا على الأعقاب خاسرين.
ولما جلس على العرش الإمبراطور تراجان الروماني تبدلت هذه الحال؛ فإنه أشهر الحرب الأولى على التراس سنة 101 بعد المسيح؛ وذلك ليضمن الراحة والسكينة لمملكته المترامية الأطراف، وبعد مواقع دموية بين الفريقين انكسر التراس في السنة التالية (102)، واضطر ملكهم ديسيبال إلى دفع الجزية التي ضربها عليه الإمبراطور تراجان.
على أن السلم لم يستتب طويلا؛ فإن ديسيبال لم يقبل بشروط الرومان إلا ليتسنى له الوقت اللازم لاتخاذ أهبته واستعداد قومه لخلع نير الأجنبي. فأخذ يحصن الحصون ويجمع العدد، ويعقد محالفات مع الشعوب المتاخمة. فاضطر الإمبراطور تراجان إلى معاودة الحرب. وفي سنة 105 بعد المسيح زحفت الجيوش الرومانية ثانية على بلاد التراس وعبرت نهر الدانوب على جسر أقامته فوقه، فقاتل الملك ديسيبال حتى أعياه القتال، وتكاثر عليه عدد الأعداء فقتل نفسه، وعاد الإمبراطور تراجان إلى رومة بالغنائم الثمينة.
وسميت تلك البلاد بعد إخضاعها «داسيا»، وكانت تشتمل على مقاطعات ترانسلفانيا وبانات وأولتنيا، وما نسميه اليوم فلاخيا. ولما كان الرومانيون أرقى حضارة من الداس لم يلبثوا أن اضطروهم إلى استعمال لغتهم والتخلق بعاداتهم، وهكذا اندثرت لغة التراس وحلت محلها اللغة اللاتينية من الأدرياتيكي حتى البحر الأسود.
ومن امتزاج ذينك الشعبين - شعب التراس أو الداس والشعب الروماني - تولد شعب الرومان الذي يسكن الآن رومانيا.
وقد لاقت الإمارات الرومانية - وهي فلاخيا ورومانيا ومولدافيا - مصاعب شتى منذ نشأتها؛ فمن جهة كانت البلاد المجاورة كالمجر وبولونيا تسعى لتخضعها لسلطتها، ومن جهة ثانية كان انقسامها على نفسها يضعفها ويضعضع قواها. ولم يلبث أن ظهر خطر أكبر من وراء الدانوب بظهور الأتراك.
فظلت تلك الإمارات مدة ثلاثة قرون تقريبا موجهة كل اهتمامها لإيقاف زحف الأتراك، وكان الرومان بدفاعهم عن وطنهم يدافعون عن تخوم أوروبا.
وقد ظهر في ذلك العهد رجلان عظيمان، وهما مرشيا الكبير (1386-1418) في فلاخيا، وإسكندر الصالح (1400-1433) في مولدافيا، وقد وطد هذان الأميران الكبيران الإمارات الرومانية على أساس متين عند شواطئ الدانوب الأسفل، فقد انتشرت راية السلم في مولدافيا على كل عهد إسكندر الصالح، فتسنى للبلاد أن تنظم أمورها، وتدبر شئونها وتسرع الخطى في سبل الترقي والعمران. وكان لملك مرشيا الكبير في فلاخيا أهمية عظيمة أيضا، فإن هذا الأمير نظم أحوال بلاده، ووسع تخومها حتى بلغت البحر الأسود بضمه إليها المقاطعة المعروفة اليوم باسم دوبرودجا، وقد رد مدة طويلة غارات الأتراك، ودحر في موقعة روفين (1314) السلطان بايزيد الذي كان عبر نهر الطونة ليغزو تلك البلاد ويفتحها. ولما ضاق الأمير مرشيا ذرعا ولم يبق في طاقته مداومة القتال اعترف بسيادة الدولة، وعقدت محالفة بينه وبينها سنة 1402.
وبعد ذلك ضعفت مولدافيا وانكسرت شوكتها بسبب المشاحنات والتنازع على السيادة، وظلت هذه الحال حالها حتى ولي العرش الأمير أسطفان، وقد امتاز بصفاته الحميدة وفضائله العديدة حتى أطلق عليه لقبا «الكبير» «والقديس»، وظل في دست الإمارة ما يناهز نصف قرن (1457-1504)، وتمتعت البلاد على عهده باستقلالها الوطني، وذلك بفضل جيوشها المنظمة وخصوصا بفضل أميرها المغوار، فإنه كسر عسكر المجر في موقعة بايا وانتصر على عسكر الأتراك في راهوفا ورازبوبني، وعلى البولونيين في غابات كوسمان، وهكذا صان استقلال بلاده. واشتهر اسم إسطفان الكبير وخبر انتصاراته الباهرة في الغرب، فمنحه البابا سكستس الرابع لقب «بطل المسيح».
وبعد موت إسطفان ولي الأحكام ابنه بوغدان، فعمل بنصيحة أبيه له على فراش موته، فاعترف بسيادة الدولة، وعقد مع الباب العالي نفس المعاهدات التي كانت فلاخيا قد رضيت بها منذ قرن من الزمن.
وقد حفظت الإمارتان الرومانيتان بموجب هذه المعاهدات استقلالا تاما تقريبا، وبقيت الاختصاصات الأساسية لسلطة الأمراء الوطنيين سالمة دون مساس، وحصرت حقوق الباب العالي في تثبيت الأمراء الذين تنتخبهم الأمة، وفي ضرب جزية سنوية مقررة، ولم يكن يحق للأتراك أن يبنوا مساجد، ولا أن يقيموا في البلاد الرومانية بمقتضى تلك المعاهدات.
وقد حاولت فلاخيا مرتين أن تخلع عن عاتقها نير الأتراك، وكان ذلك أول مرة على عهد فلاد تزبش، فإنه أبى تأدية الجزية المفروضة، فأرسلت الدولة حملة تحت قيادة حمزى باشا لتطويعه، فهزمهم فلاد شر هزيمة بعد أن قتل منهم عشرين ألفا مع قائدهم حمزى باشا. على أن الأتراك عاودوا الكرة، وتمكنوا سنة 1462 من عبور الدانوب، فخلعوا فلاد وولوا مكانه أميرا مواليا لهم.
وثاني مرة في أواخر القرن السادس عشر، عندما صعد على عرش فلاخيا ميشيل البطل، وكانت إذ ذاك الدولة العلية في أرفع ذروة المجد والعز، بعد أن أذعنت لسلطتها بلاد المجر الشرقية، فكانت وطأتها شديدة على الشعب الروماني. فلما قبض ميشيل على زمام الأحكام وجد البلاد في حالة محزنة، والعساكر يعاملونها كولاية لهم، فتحالف مع سيجيسموند أمير ترانسلفانيا التي كانت إذ ذاك إمارة رومانية، وأرون أمير مولدافيا، وتواطئوا ثلاثتهم على طرد الأتراك، فقتلوا كل من كان منهم في بخارست، ثم أحرق ميشيل مدينة جورجيفو، وزحف على هورسوا وسليسترا حيث كسرهم.
فصعب على السلطان مراد فوز الأمير، وأمر حشمت باشا بمحاربته وخلعه وتولية غيره. فسار الباشا ومعه 45 ألف مقاتل، على أن الأمير ميشيل كسره في مواقع شديدة بالرغم عن جيشه الجرار، وقتل الرومان حشمت باشا نفسه في إحدى المواقع.
وظل الأمير ميشيل يحارب، وتمكن في أربعة أشهر بمساعدة جنود ترانسلفانيا ومولدافيا من الانتصار في عشر مواقع، وفتح خمسا وعشرين مدينة كانت تحتلها الدولة العلية.
وبعد موت السلطان مراد خلفه ابنه السلطان محمود الثالث المشهور بشدته وصرامته، ففتح باب القتال، وأنفذ الصدر الأعظم سنان باشا ومعه 180 ألف مقاتل، فأبدى الأمير ميشيل حينذاك بأسا غريبا وإقداما عجيبا، فأوقف الجيش العثماني في كالوجاريني، وحال دون زحفه إلى الأمام، مع أن هذا الجيش كان يزيد جيشه عشرين ضعفا.
وعلى إثر هذه الانتصارات الباهرة فتح الأمير ميشيل بلاد ترانسلفانيا، ودخل مدينة ألباجوليا غانما ظافرا، بصفته أميرا على تلك البلاد، ثم استولى سنة 1600 على مولدافيا، وحلف له «البويار» أو الأمراء يمين الأمانة. وهكذا حقق ميشيل البطل في مدة وجيزة أعز أماني الشعب الروماني؛ إذ جمع على رأسه ثلاثة تيجان، فلاخيا ومولدافيا وترانسلفانيا.
على أن العهد لم يطل على هذه المملكة التي أسسها ميشيل، فإن بعض المجريين قتلوه غيلة وهو نائم في مضربه، ولم يكن يتجاوز الثالثة والأربعين من عمره، وكان مقتله سنة 1601، وبعد قتله عادت المملكة الرومانية فانفصلت ثانية إلى ثلاث إمارات. •••
تاريخ الإمارات الرومانية من 1600 إلى 1866:
ومنذ غرة القرن السابع عشر نرى رومانيا تدخل في طور جديد من التاريخ، ولم تبق الولاية فيها لسلالات أمرائها الأقدمين - أي أمراء موزاتيني في مولدافيا وأمراء بشارابيا في فلاخيا - بل ادعت تركيا لنفسها حق تعيين الأمراء الحاكمين وعزلهم، وكان هذا خرقا للمعاهدات والاتفاقات، واستبدت بسلطتها، فكانت تعين كل سنتين أو ثلاث أميرا جديدا، وكان هذا ينقدها أموالا طائلة ثمن فرمان توليته، وبعد قبضه على أزمة الأمور كان همه بالطبع ابتزاز الأموال من الأهالي؛ ليسترد ما تسرب منه إلى الآستانة، سيما وهو عارف بأن عهد ولايته لا يطول، بل ينقضي عند وجود من يدفع أكثر منه.
فليس - والحالة هذه - ما يقضي بالعجب من نزول هذا الشعب إلى دركات الاستعباد بعد أن كان نشيطا قويا. أما الأشراف الذين كانوا في سالف الزمن حياة البلاد وروحها، فقد انحطوا هم أيضا، وحصروا مساعيهم في الدسائس والتزلف للحصول على الإمارة.
على أن هناك أمرا جديرا بالملاحظة، فإن البلاد الرومانية بالرغم عن انحطاطها ظلت محتفظة بنظاماتها وإدارتها الخصوصية، فكانت تحت سيادة الدولة فقط ساعة كانت سائر البلاد النصرانية الواقعة وراء الدانوب كالصرب والبلغار واليونان وقسم من المجر تحت سلطة الدولة العلية مباشرة، تديرها كسائر ولاياتها.
وفي بداية هذا العهد عندما كان يدير زمام الأحكام أمراء رومانيون ذاقت البلاد طعم الراحة والسكينة بعد ما كانت قضت مدة ليست باليسيرة في قتال دائم وحرب مستمرة.
ومن الأمراء الذين يستحقون ذكرا خصوصيا في ذاك العهد ماتاي بساراب في فلاخيا وباسيل لوبو في مولدافيا؛ فإن هذين الأميرين وضعا همهما في إنشاء المطابع وفتح المدارس لنشر العلوم والمعارف، وكان ذلك أشبه بالمنافسة بينهما، فبدت في البلاد نهضة حقيقية، فطبعت الكتب الكنسية، ودونت الأمور التاريخية وخصوصا المتعلقة منها بتاريخ الشعب الروماني الأول، ونشرت كتب القانون والشرائع لتعميم المعارف القانونية. وفي ذاك العهد أيضا شيدت الأديرة، وأشهرها دير القديسين الثلاثة في ياسي، وأعظم عمل يذكر لهذين الأميرين استبدال اللغة السلافونية باللغة الرومانية في الطقوس الكنسية.
ثم أخذت سلطة الأتراك تضعف، وظلهم يتقلص شيئا فشيئا، سيما بعد انكسارهم أمام فيينا، وبدأت النمسا وروسيا تنشران نفوذهما في الإمارة الرومانية، وكان الأمراء حكام البلاد يضعفون أمامهم تارة بهذا وتارة بتلك ليخلعوا نير الأتراك.
ولهذا السبب عدلت تركيا عن تقليد الإمارة للأمراء الوطنيين، وصارت تولي رجالا من اليونان عرفوا أن يكتسبوا ثقتها بالطرق المألوفة .
وهذا هو عهد اليونان الفناريين الذي دام أكثر من قرن كامل (1712-1821)، وكان هؤلاء الحكام الأجانب ينزلون في البلاد مع حاشية كبيرة من الأهل والمقربين فيطلقون سراحهم لسد مطامعهم. وعليه فلا عجب إذا كان قد حفظ الرومان أسوأ ذكر لهذا العهد.
وكان الباب العالي استنادا إلى سلطته قد استبد بالبلاد، وجعل الجزية عشرة أضعاف ما كانت عليه، وكان يضيق على الأهالي أيما تضييق؛ ليضطرهم إلى دفع المترتب عليهم.
وقد رأت البلاد بعض أمراء صالحين تركوا فيها ذكرا حسنا كالأميرين نقولا وقسطنطين مفروكوردات في فلاخيا، والأمير جبريل جيكا الروماني في مولدافيا، وقد أدخل الأولان في إمارتهما إصلاحات عديدة ترمي إلى تحسين حالة الفلاحين.
وكان المقام الأول في هذا العهد للنفوذ اليوناني، حتى تخلقت الدوائر العالية بأخلاق اليونان ونسجت على منوالهم. وفي هذا العهد أيضا تمكن الرهبان اليونان من الاستيلاء على قسم كبير من أملاك البلاد بفضل الأديرة الرومانية الموقوفة، وكان إيراد هذه الأوقاف بدلا من أن يبقى في البلاد يرسل إلى الخارج ليضاف إلى إيراد الأديرة اليونانية في كل الشرق من جبل أتوس إلى القبر المقدس إلى البطريركتين الأورشليمية والإسكندرية. وظلت الحال على هذا المنوال حتى سنة 1863 يوم كان يحكم البلاد الأمير كوزا الروماني، حيث أخذت أملاك الأديرة وأصبحت عالمية.
وحدثت إذ ذاك مشاكل عديدة بين تركيا وروسيا والنمسا، جعلت بلاد رومانيا مدة من الزمن ميدان حروب طاحنة، واحتلتها الجيوش الأجنبية سنين طويلة، فاقتطعت لها قسما من أطرافها، ففي سنة 1718 حفظت النمسا لها إثر عقد السلم في بساروفيتز ولاية أولتانيا، وقد أعادتها إلى رومانيا سنة 1739 بمعاهدة بلغراد.
وأرادت روسيا بعد حربها مع الدولة العثمانية (1768-1774) أن تحتل الولايات الرومانية، فقاومتها النمسا بكل شدة، ونالت من تركيا جزاء هذه الخدمة مقاطعة مولدافيا المعروفة باسم بوكوفين، حيث توجد رفات الأمير إسطفان الكبير أعظم أمراء الرومان.
وقد نالت روسيا بعد حربها الثانية مع تركيا (1806-1812) كل المقاطعة الواقعة بين نهري بروت ووينسترا، أعني ولاية بسارابيا. وهكذا أصبحت مولدافيا نصف ما كانت عليه على عهد إسطفان الكبير.
فأيقظت هذه الحالة التعيسة التي آلت إليها الإمارتان الرومانيتان على عهد اليونان الفناريين العاطفة الوطنية في صدور الشعب والأشراف، وقد تجلى هذا الاستياء بأكمل مظاهرة في الحركة التي تمت على يد تودور فلادميريسكو سنة 1821، وكانت حركة موجهة ضد اليونان الذين حاولوا إذ ذاك إحداث فتنة في البلاد؛ ليستولوا على رومانيا ويتوصلوا هكذا إلى إنقاذ وطنهم من تحت سلطة الدولة، فدارت الدائرة عليهم وطردوا من كل البلاد الرومانية.
ومن منذ ذاك العهد لم يعد الباب العالي يرسل إلى رومانيا ولاة أجانب، بل عاد يعين - كذي قبل - أمراء وطنيين، وكان لذلك تأثير حسن في البلاد؛ لأن الأمراء الذين تولوا الأحكام بعد ثورة 1821 بذلوا مجهودهم لتحسين الحال، وتدبير الأمور وتنظيم الإدارة ونشر المعارف. وفي ذاك العهد أنشئت المدارس الرومانية التي لا تزال زاهرة إلى أيامنا هذه.
وبعد بضع سنوات عاد الروس على إثر حرب جديدة مع الدولة العثمانية (1828-1834) فاحتلوا الولايات الرومانية، ونظموها على شكل جديد حسب ما هو مبين في القانون الأساسي. وقد وضع لمولدافيا قانون خاص بها، وكذلك قانون خصوصي لفلاخيا، وبالوقت نفسه وطدت روسيا نهائيا دعائم نفوذها في تلك الإمارات.
ولما كانت البلاد سائرة بموجب القانون الأساسي المذكور كانت شئونها منظمة من كل الأوجه، وكان هناك جمعية عمومية تنظر في القوانين وتوافق عليها، وكان انتخاب الأمراء منوطا بها، وفتحت المدارس ونظم جيش، وأنشئت سبل المواصلات. على أن هذا القانون الأساسي كان يحصر السلطة في فريق من الأشراف، ولا يفتح مجالا لإدخال الإصلاحات الحرة التي كان يتطلبها الشعب، وكان ذلك سببا لإيجاد حركة تولدت عن مجرى الأفكار وبلغت أشدها سنة 1848، على أنها لم تنجح إلا في فلاخيا، وكانت نتيجتها أن احتلت الجيوش الأجنبية البلاد الرومانية، وعقد اتفاق «بالطاليمان» سنة 1849، فظلت الإدارة بموجبه كما كانت على عهد القانون الأساسي الذي وضعه الروس، ما عدا بعض تعديلات وتحويرات طفيفة أدخلت عليه، وجاء الحكم الذي عقب هذه الثورة بنتائج مرضية للغاية؛ لأن الحكام تابعوا عمل الإصلاح الذي ابتدأ سنة 1821.
ثم كانت حرب القرم (1854-1856) وخرجت روسيا منها مكسورة، وعقد على إثرها مؤتمر باريس سنة 1856. ومن جملة الأمور التي نظر فيها كانت مسألة رومانيا التي تقرر بشأنها ما يأتي: تسلخ البلاد من تحت حماية روسيا وتعود تحت سيادة الدولة العلية كما كانت على عهد الامتيازات القديمة، وترك وضع الطريقة الإدارية إلى بعد تشكيل لجنة خصوصية تؤلفها الدول لتنظر في مطالب الشعب الروماني. وقد أعربت اللجنة المشكلة لهذا الغرض عن المطالب الآتية: أولا: استقلال البلاد الإداري حسب الامتيازات. ثانيا: ضم الإمارة إلى إيالة واحدة. ثالثا: تعيين أمير أجنبي من إحدى الأسر المالكة في أوروبا. رابعا: حكومة دستورية مع جمعية عمومية تمثل مصالح الأمة.
فأجابت اللجنة الدولية باتفاقية سنة 1858 إلى مطالب الشعب الروماني ما عدا مطلبين، وهما ضم الولايات، وتعيين أمير أجنبي. ولكن الشعب حقق هذه الأمنية في اليومين العظيمين في تاريخ رومانيا الحديث، وهما 5 و24 يناير من سنة 1859، حيث انتخب الميرالاي إسكندر يوحنا كوزا أميرا لمولدافيا ثم أميرا لفلاخيا باتفاق آراء الجمعيتين العموميتين، ووافق الباب العالي بتصعب على هذا الانتخاب، واعترف بضم الولايتين تحت سلطة أمير واحد مع إبقاء وزارة وجمعية كل ولاية مستقلة. وبعد مضي سنتين تم الاتحاد بتوحيد الإدارة في الولايتين باسم الإمارات المتحدة، وهكذا تحققت أعز أماني الوطنيين الرومانيين.
وتمت إصلاحات خطيرة على أيام البرنس كوزا، وأهمها وضع يد الحكومة على أملاك الأديرة، وبهذه الطريقة قطعت إحدى الروابط التي كانت تربط رومانيا بسائر الشرق؛ لأن رهبان اليونان كانوا يستفيدون وحدهم من مدخول الأديرة والأراضي الموقوفة عليها.
ومن أهم هذه الإصلاحات أيضا جعل الفلاحين ملاكا للأراضي التي كانوا يحرثونها، فكان ذلك حلا للمشكلة الزراعية، وهي المسألة الوحيدة التي أغفلتها الإدارة السابقة. أما طريقة هذا الحل فكانت بإلغاء السخرة والعشور، وإلزام الفلاحين مقابل ذلك بدفع تعويض للملاك الأصليين مدة 14 سنة. وأصبح المزارعون أصحابا للأراضي التي كانوا يزرعونها بالسخرة. وقد تم هذا الإصلاح بالرغم عن إرادة مجلس شورى القوانين بعد ثورة 2 مايو 1864، وذلك أن البرنس كوزا أوقف العمل بموجب الاتفاقية وعرض على الأمة قانونا لحكم الإمارات المتحدة بموجبه. وقد سن البرنس قوانين خطيرة للغاية قبل عقد شورى قوانين جديد، وأهمها قانون الفلاحين، وقانون التعليم والقانون المدني وقانون الجزاء ... إلخ. كل الإصلاح تم بفضل البرنس كوزا، وجعل اسمه مباركا من كل الشعب الروماني الذي حفظ له أحسن ذكر.
وفي 11 فبراير سنة 1866 اضطر البرنس كوزا أن يستقيل ليتم تنفيذ مطالب الأمة بأكملها، وذلك بإجلاس أمير أجنبي من أسرة مالكة في أوروبا على عرش رومانيا.
حكم الملك شارل الأول:
وثاني يوم استعفاء البرنس كوزا نادى مجلس شورى القوانين أميرا بالبرنس الكونت فيليب ده فلاندر أخي ملك البلجيك سابقا، فرفض هذا العرش المعروض عليه خشية حصول مشاكل أوروبية. وفي 8 أبريل سنة 1866 انتخب الشعب باتفاق الآراء البرنس شارل ده هوهنزلرن سيجار بنجن أميرا له. واتخذ الأمير الجديد اسم شارل الأول في 10 مايو من تلك السنة، ودخل رسميا إلى العاصمة «بخارست»، حيث أقيمت الأفراح والاحتفالات البهيجة.
وكان جلوس شارل الأول على عرش رومانيا فاتحة عصر مجيد في تاريخ البلاد الرومانية، فيه ابتدأ حكم سلالة من سلالات الملوك الحاكمين في الغرب، ونالت البلاد استقلالها التام، ورفعت إلى درجة مملكة.
وتم تنظيم رومانيا تقريبا في العشر السنين الأولى من حكم البرنس شارل، فمدت الخطوط، ونظمت المالية، وأصلحت الإدارة والمحاكم، وتوسعت دائرة المعارف. وقد وجه البرنس الجديد عناية خصوصية إلى تنظيم الجيش، وكان بذلك مصمما على الحرب كما تبين عند نشوب الحرب الروسية العثمانية سنة 1877. وفي سنة 1876 كانت الأكثرية في الانتخابات للأحرار، فعهد البرنس إلى المسيو جان براتيانو زعيم الحزب الحر بتأليف الوزارة، وكان هذا الزعيم على مبدأ البرنس من حيث وجوب تداخل رومانيا في الحرب الروسية العثمانية، فتم بين رومانيا وروسيا توقيع اتفاق 16 أبريل سنة 1876 الذي أباح للجيوش الروسية المرور في الأراضي الرومانية، على شرط أن يضمن القيصر لرومانيا سلامة أملاكها وصيانتها. وكانت المفاوضة جارية بين الفريقين كأنها بين مملكتين دون وساطة الباب العالي، مع أن رومانيا كانت لم تزل تحت السيادة العثمانية، وقد قطعت آخر روابط هذه السيادة يوم أرادت الدولة أن تعامل البرنس كحاكم تحت سلطتها ورومانيا كولاية من ولاياتها الممتازة، فأجاب الرومان على هذه المعاملة بإعلان استقلالهم في 23 مايو سنة 1877. وفي 26 منه تبودلت القنابل الأولى بين الرومان والجيش العثماني في ويدين، حيث اضطرت رومانيا إلى محاربة الدولة لاكتساب امتيازها، والدفاع عن مصالح جيرانها في شبه جزيرة البلقان.
فعبر الجيش الروماني نهر الدانوب بناء على إلحاح الروس في أحرج أطوار هذه الحرب، على إثر اندحار الروس مرتين متواليتين في مهاجمتهم بلفنا.
وكان البرنس شارل قد تربى تربية عسكرية كاملة، وكان قبل مجيئه إلى رومانيا قد اشترك في حملة شلسويج هولستين ضد الدنمارك مع ولي عهد بروسيا، الذي صار بعد ذلك الإمبراطور فردريك الثالث، ومع القائد الشهير الفلد مارشال ده مولتك.
ومنذ بداية الحرب تولى البرنس شارل بذاته قيادة جيشه، واهتم بأن يحفظ لجيوشه حركة عسكرية مستقلة، وكان معسكره العام في كرابوفا ومعسكر الروس في بولستي. وفي شهر يونيو عبر الجيش الروسي نهر الدانوب، وكسر في نيكوبولي وبلفنا، فأرسل الغراندوق نقولا يطلب نجدة البرنس شارل بكل إلحاح، فلم يتأخر البرنس عن تلبية الدعوة، وذهب في 21 أوغسطس وتولى قيادة الجيش الروسي الروماني أمام بلفنا، وكانت قوات الرومان 35 ألف مقاتل و108 مدافع، وقوات الروس 30 ألف مقاتل و282 مدفعا، فهاجم الجيش تحت قيادته مثاريس غريفيتزا. وكان موقف الجيش الروماني صعبا للغاية؛ فإن أكثر أنفاره لم يكونوا قد زاولوا مهنة القتال، وكانوا مضطرين إلى الهجوم تحت نيران آكلة تصبها عليهم الجنود العثمانية الممتنعة في حصونها والمتباهية بانتصاراتها السالفة. على أن كل ذلك لم يقعد بهمة الجيش الروماني، بل تمكن من احتلال التحصينات والاستيلاء على غريفيتزا، وسيظل هذا العمل المجيد مفخرة لذلك الجيش وقائده الباسل.
وفي 28 نوفمبر 1877 سلمت مدينة بلفنا بفضل حنكة ودراية البرنس شارل الذي كان يقود الجيش المحاصر، وكان بذلك ترجيح كفة النصر، فإن طريق الآستانة فتحت بوجه الروس، واستولى البرنس شارل على كل الحصون العثمانية على ضفاف الدانوب.
وقد أرسل القيصر إسكندر الثاني كتابا بخط يده يعترف برجوح القسم الأكبر من الفضل في الانتصار إلى الجيش الروماني، وأنعم على البرنس شارل بأعظم وأعلى وسام عسكري، وهو وسام القديس أندريا مع السيف.
وفي معاهدة سان إسطفانو التي عقبت هذه الحرب أعادت الدولة إلى رومانيا مقاطعة دبرودجا التي كانت لها قديما، لكن روسيا انتزعت منها مقاطعة بساربيا الجنوبية، فاحتجت رومانيا على هذا العمل.
وقد تسنى لي مدة وجودي في بخارست أن أتعرف بكثيرين من الرومانيين، وكانوا كلهم يعربون عن استيائهم الشديد من روسيا التي نزعت منهم بسارابيا لتعطيهم مقاطعة دبرودجا التي هي بالحقيقة بقعة من بلادهم كانت تابعة لفلاخيا على عهد الأمير مرشيا، فأخذتها منها الدولة.
واعترف مؤتمر الدول المجتمع في برلين سنة 1878 باستقلال رومانيا الذي كان قد أعلن في 14 مايو 1877.
ويظهر من هذه الخلاصة التاريخية أن رومانيا لم تخضع ولم تضم قط إلى دولة أجنبية، فقضت قرونا كاملة في أزمان داخلية ومشاكل خارجية، ولكنها جعلت وجهتها الدائمة استقلالها حتى نالته بعد بذل الذهب وسفك الدم.
وفي 10 مايو رفعت رومانيا إلى درجة مملكة، ونودي بالبرنس شارل ملكا، فأقيمت الأفراح في هذه المناسبة مدة ثمانية أيام في كل البلاد. وقد اعترفت كل الدول حالا بالملك الأول لرومانيا وأرسلت تهنئه.
شارل الأول ملك رومانيا.
وكان الملك في سنة 1869 قد اقترن بالبرنس إليزابت ده ويلد المعروفة في عالم الأدب باسم «كارمن سيلفا»، ولها مؤلفات عديدة، فولدت له منها ابنة ماتت صغيرة، وعليه عين البرنس فردينان ابن أخي الملك وليا للعهد سنة 1889، وهو نجل البرنس ليوبلد ده هوهنزلرن الذي عرض عليه سنة 1870 عرش إسبانيا، فكان ذلك سببا للحرب بين فرنسا وألمانيا، واقترن البرنس فردينان ولي العهد بالبرنسيس ماري الإنكليزية بنت الدوق ده أدنمبورج شقيق الملك إدورد السابع، وأمها الغراندوقة ماري بنت قيصر روسيا إسكندر الثاني. وعليه فإن أشد روابط القرابة تربط ولي عهد رومانيا بثلاث دول من أعظم دول أوروبا، هي ألمانيا وإنكلترا وروسيا، وقد ولد له من هذا القران: (1)
البرنس شارل (كارول) 3 أكتوبر 1893 حسابا شرقيا. (2)
البرنسيس إليصابت 1894. (3)
البرنسيس ماري 1900. (4)
البرنس نقولا 1903. (5)
البرنسيس هيلانة 1909.
وعلى إثر حرب 1877-1878 كبرت رومانيا في عين أوروبا، وفي عين نفسها، فأخذت تسير مسرعة في طريق التقدم والفلاح، كما يتضح من الأرقام والملاحظات الآتية:
جغرافيتها:
يحد رومانيا شمالا النمسا، وشرقا روسيا والبحر الأسود، وجنوبا بلغاريا التي يفصلها عنها نهر الدانوب، وغربا بلاد الصرب. وفي سنة 1907 كان عدد سكانها 6 ملايين و684265 نسمة، منهم 6 ملايين و406717 من الأرثوذكس، و313882 من الإسرائيليين، و175882 من المسلمين، و52560 من البروتستانت، و26730 من الكاثوليك، و24790 من مذاهب مختلفة. ولا ريب بأن عدد سكانها الآن قد بلغ سبعة ملايين، وهي - بعد روسيا - أكبر دولة أرثوذكسية، وكمية سكانها النسبية تجعلها في المقام الثاني عشر بين البلاد الأوروبية؛ إذ يبلغ متوسط السكان في كل كيلومتر مربع 50 نسمة، ويمكنها أن تكفي ضعفي سكانها بالنظر إلى ثروتها الزراعية الوافرة التي يصدر معظمها إلى الخارج.
ميزانيتها:
411 مليونا و11036 فرنكا، وبالنظر إلى ثروة البلاد وترقيتها توجد هناك زيادة مستمرة تقدر سنويا باثنين وخمسين مليونا، وخصصت كل الأموال التي استقرضت لمشاريع نافعة للبلاد.
ومن أهم الأعمال التي تمت وتستحق ذكرا خصوصيا، الخطوط الحديدية ، وقد كلفت مبلغ 773 مليونا و315048 فرنكا.
وكلف مينا قسطنسة ومخازنه والسفن البخارية للإدارة البحرية الرومانية والأرصفة ... إلخ 89 مليونا و959 ألف فرنك.
وتساوي التحصينات والقشلاقات والأسلحة والذخائر والأسطول الصغير مبلغ 244 مليونا و849860 فرنكا، وتقدر المدارس والكنائس بقيمة 57 مليونا و420169 فرنكا.
وهناك الاعتماد الزراعي وشركات احتكار الحكومة تقدر بمبلغ 51 مليون فرنك.
وما عدا رأسمال هذه الأعمال الذي يبلغ مليارا و260 مليون فرنك، فإن للحكومة الرومانية أملاكا واسعة كالغابات والأراضي والمعادن، ويساوي دخلها السنوي 30 مليون فرنك، مما يفيد أن قيمتها تزيد على 600 مليون فرنك.
الجيش:
أصبحت رومانيا اليوم دولة عسكرية خطيرة، ونظامها متين الأساس، ويؤخذ من تقويم غوطا الذي ينشر سنويا في أوروبا أنها قادرة عند الحرب على تجنيد 280 ألف مقاتل، يقودهم 7600 ضابط مع 86 ألف حصان و644 مدفعا، هذا ما عدا الجندرمة.
الأسطول:
يبلغ 50 سفينة بين كبيرة وصغيرة.
الزراعة:
ترى من الجدول الآتي مساحة الأراضي الرومانية مقدرة بالهكتار:
أرض للفلاحة
5236332
جنائن وكروم
224800
مروج
511118
مرعى
1781380
أحراج
2755755
مياه وبحيرات
807300
أملاك مبنية
270000
طرق وسكك حديد
200000
أراض غير مستعملة
1348615
المجموع
13135300 هكتار
وتبلغ مساحة الأرض المخصصة بزرع الذراء مليونين و89573 هكتارا، والأرض المخصصة بزرع القمح مليونا و681467 هكتارا .
الحيوانات: (سنة 1900) مليونان و4588526 رأس بقر وجواميس، و5 ملايين و655444 رأس غنم، ومليون 709250 حصانا، و864324 رأس ماعز و7700 حمار.
الصيد:
رومانيا من أغنى بلاد أوروبا بالمياه الحلوة؛ فإن مساحة الأنهر التي تصب في نهر الدانوب والبحيرات الداخلية والبحيرات الواقعة على شواطئ البحر الأسود تبلغ ما يزيد عن ثمانمائة ألف هكتار، ويقدر دخل الصيد بثلاثة ملايين من الفرنكات.
الغابات:
مساحة الأحراج والغابات تبلغ مليونين و775755 هكتارا، يبلغ دخلها 11 مليونا و170557 فرنكا، ورومانيا غنية بالمعادن وخصوصا بالبترول؛ إذ بلغ محصول البترول سنة 1904، 412 مليونا و390202 كيلو، وفي سنة 1906 وصل المحصول إلى ستمائة وواحد وثمانين مليون و495815 كيلو. ويؤكدون أن المحصول الذي بلغ سنة 1907 تسعين ألف عربا سيبلغ هذه السنة ما يزيد على 1130 عربا.
والقسم الأكبر من الأراضي التي يستخرج منها البترول (الغاز)؛ أي 92 في المائة، هي ملك الأهالي، و8 في المائة فقط ملك الحكومة. ومن هذا القبيل تعد رومانيا أغنى بلاد بعد أميركا وروسيا في البترول. وفي سنة 1904 بلغت الأموال الأجنبية المستعملة في شركات البترول الرومانية 24 مليونا و650 ألف فرنك. ولا تزال الأبحاث عن آبار البترول متواصلة في كل أنحاء البلاد. وقد قرأ لي يوما جناب المسيو باكليانو معتمد دولة رومانيا في مصر كتابا تلقاه من وكيله يفيده فيه بأنهم قد وجدوا في أراضيه شيئا وافرا من البترول، وأنهم قد فتحوا حتى الآن خمسة آبار. «الملح» هو - بعد البترول - أهم محصولات رومانيا المعدنية، ولا شك أن القارئ سيعجب من الأرقام التي سنوردها عليه؛ فإن تل أوكنل ماري يبلغ 6 كيلومترات طولا ونصف كيلومتر عرضا، و100 متر عمقا؛ أي 150 مليون متر مكعب أو 330 مليون طن. وتل تاركو أوكنا يبلغ 4 كيلومترات طولا و300 متر عرضا، و100 متر عمقا؛ أي 120 مليون متر مكعب أو 264 مليون طن، ولا يزيد كل ما استخرج من المعدنين حتى الآن على مليون طن.
ومن سنة 1894 إلى سنة 1904 اكتشفوا أربع ملاحات، استخرج منها ما ينيف عن مليار كيلو، وصدر في هذه المدة إلى بلغاريا وصربيا وروسيا 372355603 كيلو.
وأخذت الصناعة تتقدم في رومانيا تقدما سريعا وخصوصا صناعة الخشب، فلا يوجد في البلاد أقل من 55 معملا كبيرا تدار بالبخار للتجارة، ويوازي رأسمالها خمسة وثلاثين مليونا و34254 فرنكا، وقدرت مصنوعاتها سنة 1904 بمبلغ 17239598 فرنكا.
صناعات المأكولات:
رأسمالها 52667633 فرنكا وقدر محصولها لسنة 1904 بمبلغ 76190688 فرنكا.
الكحول:
فذكر في هذا الباب خصوصا الجعة (البيرا) التي انتشرت صناعتها في رومانيا حديثا ورأسمالها 13628000، وقدر محصولها لسنة 1904 بمبلغ 4865650 فرنكا.
السكر:
رأسمال هذه الصناعة 33584286 فرنكا، وقدر محصولها لسنة 1904 بمبلغ 13908830 فرنكا، وبلغت كمية السكر المصنوعة سنة 1906، 28585552 كيلو، وهي تزيد على حاجة الأهالي الذين لا يحتاجون إلا إلى 20 مليون كيلو سنويا، ويصدر الباقي عادة إلى تركيا وبلغاريا، وقد اشترت هاتان الدولتان من هذا الصنف سنة 1905، 4536000 كيلو من السكر المكرر، ثمنه 1360700 فرنك.
التجارة سنة 1905:
الصادرات
457101394 فرنكا
الواردات
337537985 فرنكا
السكك الحديد:
يبلغ طول مجموع الخطوط الحديدية في رومانيا الآن 3180 كيلومترا.
الطرق:
لما وصل البرنس شارل الأول سنة 1866 لم يكن طول الطرق المرصوفة يزيد عن 195 كيلومترا، ثم أخذت الطرق تفتح خصوصا بعد سن القانون على سبيل المواصلات، فبعد هذا العهد بعشر سنوات - أي سنة 1876 - بلغ طول الطرق 5165 كيلومترا، وبعده بإحدى وعشرين سنة - أي 1887 - بلغ 12931 كيلومترا.
وبعده بأربعين سنة - أي سنة 1906 - بلغ طول الطرق 30928 كيلومترا، منها 26425 كيلومترا قد أنجزت تماما، ومنها 4503 كيلومترات لا يزال العمل جاريا فيها.
الملاحة النهرية:
تدلك الأرقام الآتية على أهمية هذه الملاحة، فإن مجموع السفن الداخلة والخارجة في سنة 1905 قد بلغ 18772 سفينة، محمولها 4156955 طنا، ولا يدخل في هذا العدد إلا السفن التي سارت بين المرافئ الرومانية في نهر الدانوب، ما عدا السفن التي دخلت النهر أو خرجت منه عن طريق البحر الأسود، ومن هذا العدد 5908 سفن رومانية، و12864 سفينة أجنبية.
الملاحة البحرية:
لم تأخذ الملاحة البحرية في رومانيا إلا بعد ضم ولاية دوبرودجا، ومن ذاك العهد فقط أصبحت رومانيا متمكنة من المواصلات مع أي ثغر كان من ثغور العالم. وفي سنة 1905 بلغ مجموع السفن الداخلة والخارجة 2620 سفينة، محمولها 3117429 طنا.
مصلحة البواخر الرومانية:
حتى سنة 1895 لم يكن ما يمثل الراية الرومانية في الملاحة البحرية؛ لأن النقل كان يتم على البواخر الأجنبية، وبعد ذلك بقليل لم يكن هناك إلا باخرتان لنقل الركاب والبضائع، على أن نطاق البواخر الرومانية توسع في السنة نفسها، وكبرت دائرتها بمشترى سفن جديدة، وهي اليوم كما يأتي: أربع بواخر للركاب مجموع قوتها المحركة 25 ألف حصان وسرعتها 18 عقدة في الساعة، وخمس بواخر لنقل البضائع، وثلاث بواخر للمصلحة، وتبلغ قيمة هذه السفن تقريبا 13 مليون فرنك، وهي تسير على خطين، الخط الشرقي وهو يصل ثغر قسطنسة بثغور الشرق الآتية: الآستانة والبيرية ومدلة وأزمير وإسكندرية، ويسير على هذا الخط أربع بواخر، منها اثنتان تسافران إلى الإسكندرية، واثنتان إلى أزمير.
وقد نقلت هذه البواخر في سنة 1905-1906 ذهابا وإيابا 38722 راكبا، و30359 طنا من البضائع، وبلغ الدخل 1040214 فرنكا.
وتسير على خط برايلا وغالاتي خمس بواخر، فلا تنقل إلا بضائع، وبلغ المنقول على هذا الخط الغربي 152770 طنا سنة 1905-1906، ومدخولها 1334511 فرنكا.
ومعظم ما تنقله هذه البواخر ذهابا من الحبوب، وما تنقله إيابا من الفحم والبضائع العمومية ولمصلحة البواخر الرومانية، عشر وكالات لتسهيل المعاملات، أربع منها في ثغور رومانيا، وست في الثغور الأجنبية.
البوسطة والتلغراف والتلفون:
لم تكن هذه المصلحة في أول عهدها تعود على الحكومة بشيء من الربح، بل هي كانت مضطرة إلى الإنفاق عليها بالنظر لحالة البلاد الاقتصادية وقلة المخابرات فيها. وظلت على هذه الحال حتى سنة 1877، حيث زاد الدخل على المصروف، وظلت الزيادة مطردة حتى إن الدخل تضاعف في هذه العشرين سنة المنقضية.
وسنة 1905-1906 كان الدخل 11345755 فرنكا، والمصروف 7721884 فتكون زيادة الداخل على الخارج 3623870 فرنكا.
اللغة:
واللغة الرومانية هي مشتقة من اللغة اللاتينية، بل هي أقرب إليها من لغات سائر الشعوب اللاتينية الأصل كالفرنسوية والإسبانيولية والبرتغالية حتى والطليانية.
وكيل رومانيا في مصر:
في سنة 1906 عين المسيو ميشيل ده باكليانو وكيلا سياسيا مفوضا وقنصلا عاما لدولة رومانيا في مصر، وكان قبلا سكرتيرا عاما ومديرا سياسيا لنظارة خارجية رومانيا، وظل في هذا المنصب سبع سنوات بعد أن كان قد تنقل أولا بوظيفة سكرتير في وكالات رومانيا السياسية في الآستانة العلية وبطرسبورج وباريس وبروكسل وصوفيا. وقد درس الحقوق والعلوم السياسية في باريس، وكان في الثامنة والثلاثين من عمره عندما عين في مصر .
بخارست (بكرش) عاصمة رومانيا
يبلغ سكان بخارست عاصمة رومانيا ثلاثمائة ألف نفس، وهي واقعة على نهر دامبوفيتسا الذي يخرقها في طرفها مسافة 7 كيلومترات، وقد بني على طوله 12 كبري، بعضها من حديد والبعض الآخر من حجر، قيل إنها دعيت بخارست، وفي لغة البلاد بوكورستو على اسم بوكور، وهو راعي غنم كانت هذه البقعة من الأرض له، ولما احتلها الأتراك دعوها بكرش. أما جمالها فباهر يدهش كل غريب قادم إليها، لا سيما إذا كان من سوريا أو مصر؛ لأننا اعتدنا أن نذهب إلى أوروبا، ونفتكر ألا سواها في العالم، مع أن عاصمة رومانيا هذه قسم من أوروبا في جميع أحوالها المدنية والعلمية، لا ينقصها شيء مما يرى في أي عاصمة كانت من عواصم أوروبا. فهي تشتمل على البنايات العمومية من الطبقة الأولى، مثل البوسطة وبنك التوفير وبنك الحكومة والأثينة والتياترو الكبرى، وقصر جلالة الملك ونظارات الحقانية والمالية والخارجية، وما من بناية من هذه البنايات إلا ويدخل إليها من حديقة، فضلا عن حديقتين عظيمتين، الواحدة في قلب العاصمة، والثانية بعيدة عنها، وفيه عدة ميادين بأشجارها وأزهارها، وقد غرست الأشجار على يمين وشمال الشوارع وفي محلات الجعة. وعليه يقال إن بخارست كبستان ونظيفة، فإن شروط النظافة متوفرة فيها حتى في الأحياء المتطرفة، وأهم شوارعها شارع فيكتوري وشارع كارول. وعربات الأجرة فيها تمتاز على أمثالها في كل عاصمة أخرى حسنا وإتقان خدمة، وقد شهد لها بذلك قبلي كل سائح أتاها، حتى إن الحوذيين مفروض عليهم من الحكومة أن يتخذوا زيا واحدا نظيفا جميلا، يتألف من جبة قطيفة ذات لون أزرق داكن، وهي طويلة تصل إلى القدمين وعليها من الأمام أزرار كبيرة، ويضم وسطها حزام أحمر في عرض أربعة أصابع تتدلى منه فضلات على الجبة، ومن لوازم الزي قبعة مستديرة متخذة من القطيفة أيضا. فتأمل ذلك كله وقابل بينه وبين ملابس حوذيي مصر والشام. وأما خيل عربات الأجرة في بخارست فهي تعادل خيل الأمراء والوجهاء في مصر، وهذه العربات تقف متراصة بالترتيب بجوار الفنادق والملاعب وسائر المحلات العمومية حتى إذا استؤجرت أولها في الصف تقدمت التي وراءها تنتظر نوبتها، وكلها تمر في سيرها بشارع فيكتوري، فتظهر فيه كسلسلة متلاحقة لا تكاد تنقطع إلى الساعة الثانية بعد نصف الليل. وقد بلغني أمر غريب عن فئة من هؤلاء الحوذيين هو أن أحدهم بعد ما يتزوج ويرزق أول ولد يقدم نفسه لإجراء عملية جراحية تقضي بعقمه، وأما سبب ذلك فمجهول، وهذه الفئة روسية الأصل، ولما شعرت حكومتهم بعادتهم هذه الجانية على ناموس الاجتماع والعمران طردتهم من بلدها، فلجئوا بخيولهم إلى بخارست. وفي شارع فيكتوري عدة فنادق، منها فندق سبلانديد إنجليش وفرنسا، ولكن أحسنها فندق بولفار القائم ما بين بولفار إليصابات وبولفار فيكتوري، حيث توجد المخازن والقهوات، مثل قهوة كابسا وقهوة هاي لايف ، سنتكلم عنها. وأكثر منازل بخارست ذات طبقتين وأقلها ذات ثلاث، وأما المشتملة منها على أربع أو خمس طبقات فنادرة الوجود. وإذا أضفت إلى قلة علو المنازل اتساع الشوارع علمت أنه يتألف من ذلك منظر يشرح الصدر ويبهج القلب.
شرعت أطوف المدينة مبتديا من شارع فيكتوري أحد الشارعين المهمين الآنفي الذكر، وهو يمتد من جوار نهر دمبو فيتسا غربا إلى نظارة الخارجية شرقا، وكان برفقتي ترجمان الفندق، فشهدنا في طريقنا أولا بناء البوسطة العمومية المشتمل أيضا على إدارة التلغراف والتليفون، وماذا عساي أن أقول في فخامة المحل ورونقه؟! وحسب الناظر إليه القادم من القاهرة أو الإسكندرية أن يعتبر بناء البوسطة في هاتين المدينتين أشبه شيء بالأكواخ بالنسبة إليه، فهو يشغل مساحة عشرين ألف متر مربع من الأرض في ثلاث طبقات، وله رواق عن الواجهة قائم على 15 دعامة حجرية ضخمة، وبين عماله بنات رومانيات كما هي العادة الغالبة في أوروبا - أي اشتغال البنات في المصالح العمومية - ولا سيما دوائر البوسطة والتلغراف والتليفون، بحيث تستطيع الفتاة أن تجمع من المال ما تجعله لنفسها بائنة (دوطة) تمهد لها طريق الزواج، فالمال أصبح الشرط الأساسي الجوهري لطلاب الزواج حتى كاد يقضي على سائر المزايا، كالآداب والجمال والذكاء ومعرفة تدبير المنزل والحسب والنسب .
وتجاه البوسطة بناية بنك التوفير، وهي تعادل بناية البوسطة في الفخامة والاتساع، ذات هندسة متينة جميلة، وفيها العدد العديد من الأعمدة الرخامية الضخمة، وقد بنيت في ثلاث طبقات فكأنها فتنة للناظرين، وفي وسطها قبة هي أشبه شيء بقبة جامع كبير، وتتلوها بناية الضبط، وهي عظيمة مبنية بالطوب الأحمر. فقهوة كابسا بداخلها مطعم ويباع فيها أصناف الحلوى، وهي مشهورة في لذة طعمها، وفيها مشروبات أخصها مشروب اسمه ويتسكا معمول من ثمر الخوخ (برون)، وهو خفيف لطيف. وللقهوة ممشى فيه المنضدات يجلس الناس عليها؛ لينظروا مرور العربات المتصلة ببعضها، فيخيل إليك أنك جالس في قهوة دي لابه في باريس. ثم انتهينا إلى التياترو البرى الذي لا يشتغل إلا في فصل الشتاء، ودار التياترو تسع ألف نفس أو أكثر، وفيها للملك والملكة وولي العهد وزوجته غرف خصوصية، قيل لنا إنها بالغة منتهى الحسن والإتقان.
ويتلو ذلك نظارة الحربية، ولا تخلو ساحتها من ضباط يخطرون ذهابا وإيابا. ثم القصر الملكي يدخل إليه من حديقة، وله جناحان ممتدان يزيدانه زينة، ولم يمكنا دخوله لغياب الأسرة المالكة في جبل سينايا الذي يبعد من هنا ثلاث ساعات، وسنتكلم عنه فيما بعد. وقد نزل في هذا القصر ضيفا كل من إمبراطور النمسا وملك السرب، قيل لنا إن ملك رومانيا طالما اعتنى بمكتبته، كما أن الملكة اعتنت بانتقاء الصور الزيتية واقتنائها. وبالقرب منه التياترو الصيفي؛ لأنه يشتغل في زمن الصيف ويدعى أوتيشانو، وفيه حديقة واسعة ومطعم، ولا تمر ليلة إلا وهو مزدحم بالوافدين الذين لا يقل عددهم عن ألف نفس لمشاهدة التمثيل. ثم بلغنا الأثينة الذي له شهرة في هذه العاصمة، فدخلناه من حديقة واسعة جدا، وفيها من جميع أنواع الأشجار والأزهار والعدد العديد من التماثيل. وعند باب القصر خادم مهمته أن يطلع الزوار الغرباء على التحف الموجودة في المكان، فسرنا معه إلى الدور الأول، وفيه مجموعة صور بالزيت، منها صورة أمير رومانيا ميحاي (ميخائيل أو ميشيل). ثم صعدنا إلى الدور الثاني، وهو مستدير بني على نسق التروكاديرو في باريس، وتقام فيه حفلات، وتلقى فيه خطب، وفيه كراسي للأسرة المالكة، وكراسي للأسرة المالكة وكراسي موضوعة على حدة لمندوبي الصحف.
وللصحافيين شأن في بخارست، بل في كل بلاد راقية، ويوجد من الصحف كثير بلغة البلاد، وجريدتان فرنسويتان تصدران يوميا، قال لنا أحد موظفي السفارات إنهم يتلقون أحيانا أهم الأخبار عن أوروبا من صحف بخارست؛ لأن لهم وكلاء في عواصمهم يتسقطون الأخبار والتلغرافات. وما زلنا نتقدم في بولفار فيكتوري حتى وصلنا إلى نظارة المالية ومجلس النظار ونظارة الداخلية، وقهوة هاي لايف أمامها ممشى عريض يجتمع فيه خلق كثير، ولا سيما الضباط العسكرية. وفي أثناء مرورنا حانت مني التفاتة إلى قصر بديع، هو قصر البرنس كوترو كوزينو.
وفي آخر هذا البولفار نظارة الخارجية، دخلناها ومعنا توصية من جناب المسيو ميشيل باكليانو معتمد رومانيا وقنصلها الجنرال. ونظارة الخارجية هذا قصر بديع كان بناه البرنس ستودزا، وبعد وفاته اشترته الحكومة من ورثائه، كما جرى لسراي نظارة الخارجية في مصر؛ إذ بناها المرحوم حيدر باشا، ثم اشترتها الحكومة منه، على أن سراي نظارة الخارجية في رومانيا أجمل من رصيفتها المصرية على ما لهذه من الحسن الرايع، فليتصور القارئ جمال تلك، دخلناها من حديقة، ولما وصلت إلى الباب كان خادم واقفا لابسا كسوته الرسمية، وفي يده قفاز أبيض، وهو يحسن التكلم باللغة الفرنسوية، فسرت معه في فسحة رحبة وأرضيتها من خشب الورد المشجر، يكاد الإنسان يزلق عليها لشدة ملاستها ونعومتها. وكنت أتأمل في نقوش الجدران والسقف الكثيرة التذهيب، حتى إذا وصلت إلى قاعة الاستقبال، وهي مفروشة بالحرير والأطالس، دخلت مكتب المسيو زامفيرسكو السكرتير العام للنظارة الذي قابلني بالترحاب وانصرفت شاكرا.
وتجاه نظارة الخارجية كان يومئذ يبنى متحف تاريخي يخصص قسم منه بالوحوش، وسيكون له أهمية كبرى. هذا أهم ما يرى السائح الغريب في شارع فيكتوري، حيث بنيت البنايات العمومية، وهو صرة البلد ومحورها. ويوجد بولفار آخر يدعى كولسا سكن أهل الطبقة العالية، يمتد من جانب نظارة الخارجية، وقد بني على نسق الرينغ ستراس في فيينا؛ أي إن له ممشى على اليمين بجانبه الأشجار لمرور الناس، ثم طريق لمرور العربات، ثم طريق في الوسط للخيل مفروش بالرمل، وبجانبيه الأشجار، ثم طريق آخر لمرور العربات، ثم الممشى وبجانبيه الأشجار. ومن هنا يتضح لك عظم اتساع هذا الشارع بحيث يشرح الصدر. ومما يزيده حسنا أنه أعد لسكنى أرباب الأموال وأهل الترف والجاه، فلا ترى فيه حوانيت أو قهوات كما هي الحالة في حي قصر الدوبارة بمصر، وما كنت أرى قصرا أستحسنه حتى أرى آخر أجمل ثم ثالثا يفوق الاثنين. ولكل قصر حديقة. وللقوم عناية كبيرة بتذهيب الدرابزين والأبواب، ففي هذا البولفار تمر العربات الفاخرة والخيول تهتز تحت سنابكها جنبات الأرض رهبة أو تهيبا.
علمت أن بولفار فيكتوري يخترق العاصمة من الشرق إلى الغرب، فاعلم الآن أن لها بولفار أو شارعا آخر لا يقل عنه أهمية، يخترقها من الجنوب إلى الشمال ويدعى بولفار كارول باسم جلالة الملك، وإنما قسم لفرط طوله إلى قسمين، وسمي كل منهما باسم كما جرى في بولفارات باريس التي تقسم إلى بولفار الطليان وكابوسين وغيراسامي. فالقسم الأول من بولفار كارول سمي إليصابات على اسم الملكة، والقسم الثاني سمي المدرسة؛ لأن فيه المدرسة الجامعة، وفي البولفار المذكور بني المتحف، وهو مهم لما يعلم أن أصل شعب رومانيا هو من بقايا الرومانيين القدماء، ولغتهم الآن مشتقة من اللاتينية، فما بطلت فيها الحروب من عدو يطرقها من الخارج أو من الأحزاب الداخلية. فلما دخلنا المتحف رأينا في قسم منه أبوابا وأيقونسطاسات من الكنائس القديمة، وصور قديسين وأساقفة بالقد الطبيعي، وصور المسيح والعذرا والرسل كتب عليها سنة 1556، وغيرها سنة 1765 وإنجيلا غطاؤه من ذهب من سنة 1405 مكتوب باللغة السلافية، وإنجيلا آخر باللغة اليونانية سنة 1519، وعصا مطران رأيت مثلها في كنائس سوريا من خشب أسود مطعمة بعظم ملتف بعضه على بعض، وهي منذ سنة 1600. وقد احتلها الأتراك 600 سنة وبنوا فيها الجوامع، ولكن رومانيا ما خضعت وما ضمت قط إلى مملكة أجنبية خضوعا تاما، وإنما اقتبس أهلها كثير من الكلام التركي بسبب طول احتلال الأتراك، وهم يلفظون ويكتبون باللغة الرومانية توتون (دخان)، ويكتب على باب المخزن توتون وكبريت وقفطان وبنش للرجال، ومفرجية للنساء، وأغا وسقا وبخشيش ودخان وصراف، وفي إيجارات المنازل كرى أودة، وحمال يكتب على صدره حمال ليعرف ويقولون هايدي (هيا بنا)، فإن الحمال لما استلم أمتعتنا من المحطة قال لنا هايدي، ولما احتجنا إلى صدرية بيضاء وسألت الخياط على نوع الأزرار قال صدف، وأرانا أزرار الصدف وقس على ذلك.
وفي المتحف كساوي رومانية، فيها الشبه لكساوي الأرناءوط مزركشة بالقصب والذهب، بالكاد يرى القماش، وفيه كساوي وصور البويار، وهم الأشراف الذين كانوا حاكمين البلاد، مثل أمراء جبل لبنان، ورأيت مومياء وأولادها داخل صندوق من زجاج، وهناك حجارة هائلة لا تنقص عن المائة عدا، حفر فيها صور الملوك راكبين عربات بعجلين، وصور وقائع حربية، وأسرى مجندلين تسوقهم العساكر من أيام الملك تريانوس الروماني، وهذه الأحجار والآثار من معابد الرومانيين ستبنى مثل ما كانت عليه. ورأيت أيضا حجر شاهد مسلم وجد تحت الأرض، قرأت بأعلاه «هو الحي الباقي»، وعشرين سطرا تقريبا باللغة التركية أشعارا. ويوجد في هذا المتحف ما يقال له كنز الملك أثناريش، اكتشف سنة 1857 في قرية بتربوزا، وهو مجموعة آثار لها مقام كبير عندهم.
وبعد ذلك دخلنا المدرسة الجامعة، وشاهدنا فيها مقاعد الأساتذة والتلاميذ، وهي تقفل في زمن الصيف، وقصاد المدرسة تمثال الوزير الأول براتيانو. ولما كان هذا البولفار طويلا جدا جعلوا فيه ميادين ذات أشجار وأزهار، ومنه يرى في الجانب الآخر الكنيسة المسكوبية التي لم يتم بناها، ولكنه قريب من التمام، وقد علمت أنها للروس من أول وهلة قياسا على ما شاهدت من نظائرها في روسيا كوجود قبة كبيرة في وسطها وقبب أخرى تحيط بها، وهي بديعة التذهيب تسطع وتلمع. وفي البولفار المذكور تمثال البرنس سجاي، والرومانيون يسمونه البطل، وهو المذكور في المقدمة التاريخية، مثلوه راكبا جوادا وبيده بلطة يشير بها، والتمثال قائم على قاعدة من الصوان غرسوا حواليها أزهارا متنوعة. وتمثال لازار الذي عاش من سنة 1779 إلى سنة 1823، وهو الذي أحيا اللغة الرومانية بعد أن طرأ عليها الفساد من الأجانب، وبعده تمثال جان فلياد رادوليسكو الذي عاش من سنة 1802 إلى سنة 1872، وله الأيادي البيضاء في إنهاض علم الآداب والإنشاء في الرومانية. وعند منعطف هذا الشارع تمثال بروتوبوسكو الذي كان حاكم العاصمة، وله عليها الأيادي البيضاء. وعلى ذكر هذه التماثيل أقول إن الرومانيين يقدرون رجالهم العظماء من علماء وشعراء وقواد وساسة حق قدرهم، فإنهم أقاموا تماثيل للاهوفاري الخطيب، ومجموعة تماثيل إلى العساكر الطلمبجية الذين قاتلوا الأتراك في سنة 1848. وفي حديقة الأثينة السابق ذكرها تماثيل للقائد فلوريسكو، وللشعراء مينسكو وشربانيسكو وديمتريسو، ولأرباب القلم فاكاريسكو وتيودوريسكو وروسيتي، وتمثال كونتاكوجين الذي ضربت عنقه في سنة 1716 في أندرينوبل بأمر السلطان.
قد يكون القارئ مل من وصف الشوارع والميادين ، ولكن السايح الغريب يفتقد ذلك قبل شيء؛ ليحيط علما بالبلد فضلا عن أن البنايات العمومية تبنى في أحسنها، مثل شارع ليبسكاني يتوصل إليه من بناء البوسطة، لا يقل قيمة عن شوارع فيكتوري وكارول، وفيه المخازن التي تباع فيها البضائع النفيسة، لا سيما للسيدات من كل فن وطراز جديد، فإن الرومانيين - ولا سيما نساؤهم - شديدو العناية بملابسهم وأزيائهم، وربما أنفقوا عليها دون كيل وحساب. وفي الشارع المذكور بنك الحكومة، البناية هذه لا تقل عن بناية البوسطة، فضلا عن أنها مزخرفة وهي تشغل مساحة 12000 متر من الأرض أو أكثر، محاطة من جهاتها الأربع بدرابزين حديد مرتفع جدا، أكثروا فيه التذهيب في الباب الخارجي، دخلنا منه إلى حديقة صغيرة، ومنها إلى البنك فوجدنا نفسنا في فناء شاسع، فيه العدد العديد من الناس الذين أتوا لأشغالهم، ولاحظت أنهم يتكلمون همسا بعضهم مع بعض وهم مكشوفو الرءوس ولا يشربون دخانا، مما يدل على التوقير والاحترام. ثم صعدنا إلى الدور الأعلى على سلم رخام أبيض متسع، وتجولنا حسب عادة كل غريب، ثم نزلنا وذهبنا إلى سراي الحقانية المجاورة له، وفيها المجالس الابتدائية والاستئنافية لا تقل مساحتها عن 20000 متر، مبنية في ثلاث طبقات، الدور الأول قائم على أعمدة رخامية ومثله الدور الأعلى، وفيها نحو 120 قاعة وغرفة، وهي حديثة العهد؛ إذ بنيت في سنة 1895، ولما انتهى بناؤها حضر الملك بنفسه لافتتاحها بطريقة رسمية محاطا برجال حكومته، وهذا برهان على عظمتها، فكل داخل إليها يدهش مما يرى.
قلت إن عاصمة رومانيا هذه كأنها بستان؛ لكثرة ما فيها من الأشجار في الميادين والشوارع، وفيها متنزهات كحدائق سيسمينجو وفيلارة - التي سنتكلم عنها - ولكن أحسن نزهاتها نزهة الشوسة، حيث ملتقى السواد الأعظم من الأهالي، وهي بمثابة نزهة الجزيرة والأهرام بمصر، يذهب الناس إليها خصوصا في أيام الأحد والأعياد، فتسير العربات بعضها وراء بعض حتى إذا انتهت من بولفار فيكتوري تخرج إلى الخلاء، ولا يخفى أن بخارست لم تكن في الحسبان في الزمن الماضي، ولكن بعد حربها في سنة 1878 مع تركيا جعل لها رسم جديد. وإذ كان عندهم كثير من الأراضي خططوا بلدهم كما شاءوا، ومتنزه الشوسة هذا طويل جدا، لا يمكن الوصول إلى آخره، فإن ذلك يستغرق زمنا طويلا؛ ولذلك يصل الناس إلى موضع معلوم ثم يعودون. وقد جعل الشوسة ذا اتساع عظيم، تحده الغابات على اليمين وعلى الشمال، وفيها جميع الأشجار من صنوبر وسنديان وبلوط ممتد إلى بعد شاسع، يتضوع منها روايح زكية، وبداخل الغابات شوارع وحدائق وبرك الماء والمطاعم والقهوات ومحلات الجعة (البيرة)، وقد يضم المحل الواحد خمسمائة نفس يسمعون أنغام الموسيقات ما عدا الموسيقى العسكرية، فالروماني بعد أشغاله يتنزه ويصرف الدرهم والدينار في سبيل ذلك. والذاهب إلى الشوسة يرى العربات الجميلة والخيول المطهمة تسير بعضها وراء بعض متصلة غير منفصلة، وهي تذهب وتعود؛ لأنه جرت العادة أن يكتفوا بالمرور ولا ينزلوا من عربات ويتراشقوا النظر، مما يهدد الرجال بفتنة حب عظيمة، فإن لجمال الرومانيات شهرة مستطيرة.
وللعاصمة حديقة عمومية لنزهة الأهالي قائمة في وسط البلد تدعى سيسمنجو، سهل الوصول إليها من أي جهة، لا يميز من يدخل إليها أولها من آخرها لاتساعها. وفيها خليج مياه يتلوى في مجراه تلوي الأفعى، وفي الخليج قوارب ذات مجاديف، وبالحديقة شوارع مستطيلة بجانبيها أشجار مضى عليها قرون، يسيرون فيها في أي جهة تحلى لهم، وزهور متنوعة غرسوها في أراض منبسطة أو عالية، رفعوا الأرض عن سطحها بضعة أمتار، وقد بولغ في العناية بتنسيقها وترتيبها بحيث جعل فيها الأزهار كنارات مختلفة الألوان بين أحمر وأصفر وأخضر وأبيض. وبالحديقة مطعم يدعى مونته كارلو، موائده منتشرة هنا وهنا عدا كشوكة مخصوصة لاتساع مائدتين وأربعة فأكثر، تناولنا طعامنا هنا على سماع نغمات الموسيقى. ويوجد حديقة ثانية عمومية في طرف العاصمة تدعى فيلارة تشتمل على كثير من الأزهار وبرك المياه، وقد أقيم فيها معرض روماني عام من عهد قريب - أي منذ سنتين - وما زالت بنايته موجودة، وهي مثل سائر أبنية المعارض التي أشرت إليها مرارا في هذا الكتاب، ولو أراد العالم بالنبات أن يصنف كتابا ضخما في الملاحظات الفنية والاستقراءات العلمية التي يجعلها من مشتملات هذه الحدائق لأمكنه ذلك على أهون سبيل.
وفي الضواحي قصر البرنس فردينان ولي العهد، ذهبت إليه، وكنت أرى قبل وصولي حدائق على اليمين وعلى الشمال، وما أمكن الدخول إلى القصر لغياب صاحبه في جبل سينايا، ولكن دخلت حديقته مستأذنا في ذلك الضابط الواقف على بابه مع الحرس. ورأيت على تل مرتفع في هذه الحديقة قبر البرنسيس ماري الكريمة الوحيدة للملك التي كانت وريثة الملك، أما الآن فالوريث هو البرنس فردينان ابن أخيه. وفي عودتنا دخلنا إلى مدرسة الطب، وهي بناية كبيرة من الطوب الأحمر تقفل في الصيف، ولكن المعاون قال إنني إذا عدت الساعة العاشرة من غد ذلك اليوم، فالمدير يريني الأدوات وكيفية تدريس الطب، فانصرفت شاكرا، وذهبت لمقابلة نيافة المتروبوليت يوسف، وهو رئيس الدين في رومانيا مركزه بخارست ومقيم في قصر بجانب الكنيسة الكبرى. وفي أثناء طريقنا إلى قصره مررنا بجسر (كوبري) قائم على النهر، وإذ كان المتروبوليت غائبا قابلنا وكيله، وقام يرينا بنفسه تحف القصر ونفائسه، وهي قديمة العهد، أذكر منها تيجان الأساقفة المعروفة في الكنائس الشرقية، وعددها 12 تاجا موضوعة بالترتيب حسب قدمها، بعضها إلى جانب بعض، وهي تسطع وتلمع من الذهب والحجارة الكريمة، مثل تيجان البطاركة، ثم أرانا القاعة التي يعقد فيها المجلس الديني، وقاعة الاستقبال وغيرها.
ثم دخلنا الكنيسة التي على اسم قسطنطين وهيلانة، توج فيها الملك لحالي في سنة 1881، وهي قديمة العهد بنيت سنة 1656، أكثروا فيها التذهيب، حتى إن خشب الأيقونساطس لا يبين، وفيها كرسي للملك وآخر للملكة، وكرسيان لولي العهد وزوجته. وفي أثناء التجول حانت مني التفاتة إلى تابوت من فضة وضع على مائة مستطيلة داخل الكنيسة، وفيه عظام القديس ديمتري الذي له مقام كبير عند الرومانيين، وإذا انحبس المطر يأخذ الإكليروس يطوفون بالتابوت في البلدة بناء على طلب المزارعين، ويدعون لله تعالى أن يجود عليهم بالمطر لإنعاش الزرع، ولا ينقطع الرومانيون عن الصلاة. وفي عاصمتهم هذه 116 كنيسة أرثوذكسية، مع أن تعدادهم لا يزيد عن ثلاثمائة ألف ، وجاري هنا بناء فخيم هو البارلمان.
جبل سينايا
قبل أن أبرح مصر قال لنا حضرة معتمد رومانيا أن أذهب إلى جبل سينايا، وهو من المناظر المعدودة، يقيم فيه جلالة الملك والأسرة المالكة وولي العهد ورجال حاشية البلاط الملكي. ولهذا الجبل نبذة تاريخية، وهو أن أحد أمراء هذه البلاد المدعو كونتا كوزين قطع رأسه بأمر السلطان في أندرينوبل، ثم وشي في ابنه ميشيل، وهذا هرب والتجأ إلى دير سينا بجهة بحر الأحمر مشهور عند كل الناس، وكان نذر أنه إذا كان يعود سالما إلى بلاده يبني ديرا في جبل يدعيه جبل سينا - والرومانيون يقولوا سينايا - فعاد بالسلامة وبنى ديرا صغيرا للرهبان، وهم امتلكوا فيما بعد أراضي شاسعة، وبنوا البنايات في المدن، وكثرت النذورات والوقفيات لهذا الدير، حتى إن أملاكه تقدر الآن بسبعة وستين مليون فرنك وإيراداته السنوية بمبلغ خمسة ملايين فرنك.
وعليه عزمت أن أذهب إليه في هذا اليوم الموافق 18 يوليو، والمسافة ما بين بخارست والجبل المذكور ثلاث ساعات بقطار سكة الحديد، فذهبت من الفندق إلى محطة الشمال، وبينما كنت أهم بمشترى تذكرة السفر نصحني رجل روماني يشتري هو أيضا تذكرة لنفسه أن آخذ تذكرة لأجل الذهاب والإياب معا، وثمنها 17 فرنكا عوضا من أخذ تذكرة ذهاب وثمنها 13 فرنكا ، ثم أخرى للإياب وثمنها المبلغ ذاته، مع أنه يؤخذ من مصر إلى الإسكندرية على هذه المسافة 22 فرنكا، ولا يبعد أنهم يتقاضون أجرة خفيفة لعمران الجبل وتسلية للناس. فلما نظرت إلى التذكرة وجدت أنه طبع عليها تاريخ 6 من الشهر بدلا من 18؛ لأن رومانيا - وهي بلاد أرثوذكسية - تتبع الحساب الشرقي كالروسيين، فقام بنا القطار والمطر يهطل ولا بأس فيه؛ لأن بلاد رومانيا حرها وبردها كثير، وإن كانت في الحر دون مصر وبيروت، يهطل المطر فيها عند اشتداد الحر فيبرد الطقس على إثره. وكان معنا عدة ركاب في القطار ذاهبون إلى الجبل، قال لنا أحدهم - ولعله من أرباب الأطيان - إن هذا المطر يفيد الذرة وربما يضر بالقمح. وللقوم طريقة غريبة في زرع الفاصوليا؛ فإنهم يعرشونها على أوتاد في طول 8 إلى 9 أمتار، ويجعلون مسافة مترين تقريبا بين كل وتدين، فتظهر الفاصوليا بذلك كأنها صفوف من الأشجار.
وفي خلال السير دار الحديث بيننا وبين رفقائنا عن رومانيا ومصر، فإن أهالي تلك البلاد قريبو المعاشرة، لا يتطلبون للتعارف شروطا وقيودا مثل الإنكليز، وكان كل واحد منهم يجتهد أن يرينا شيئا جديدا، فقالوا إن هذا النهر يدعى براهوفا، وأرونا آبار زيت البترول قريبة من شريط سكة الحديد على اليمين والشمال تستخرج من أراضي كاربات، وهناك القنوات توصله إلى الصهاريج والمعامل لتكراره وشحنه بقطارات سكة الحديد، وقد تألفت ثلاث شركات لاستخراج هذا الزيت رأس مالها ملايين. وقيل لنا إذا أمكن اكتشاف آبار جديدة لزيت البترول فاقت رومانيا روسيا في هذا المعدن؛ لأن إحدى هذه المحطات فقط - واسمها كامبينا - يصدر منها وحدها 16 ألف عربة منه في كل سنة. ولما قربنا من الجبل جعل القطار يجري بنا صعدا، وفي إحدى المحطات اشترى بعض الركاب كرزا أسود اللون لذيذ الطعم وجوزا غضا (فريك). وبعد مسير ثلاث ساعات وقف القطار في محطة سينايا، وكان وصولنا إليها في الساعة الثامنة ونصف بعد الظهر. ولكن في أوروبا - ولا سيما في مثل ذلك المكان المرتفع - لا يزال لنور النهار أثر واضح حتى الساعة التاسعة. وينبغي للراكب في زيارة جبل سينايا أن يحجز لنفسه مقدما غرفة يستأجرها في الفنادق؛ لأن زوار الجبل جماهير عديدة ليسوا من أعيان بخارست فقط، بل فيهم كثيرون من بلاد أخرى رومانية، وذلك لشهرة الجبل الطائرة في جمال مناظره، وإسرافه على مواهب الطبيعة البديعة.
أما عن محاسن هذا الجبل، فمهما أفضت فيها أراني مقصرا عاجزا، ومع أني ذهبت إلى كثير من الجبال في سويسرا، وإلى الجبل الأبيض وأميركا، ما رأيت جبلا يضاهيه في جماله الطبيعي، وهو ليس شديد العلو؛ فإن علوه 800 متر فقط، ولكن قمم الجبال التي وراءه تبلغ من 1000 إلى 2000 متر، فبقعة جبل سينايا تكون بذلك كأنها في واد طويل عريض، وإن لم تكن عند التحقيق واديا. وقد جعلوا من جبل سينايا حديقة كبيرة (بارك) فيه أشجاره الأصلية القديمة العهد من صنوبر ودلب، وأنواع أخرى لا يدرك أسماءها وأوصافها إلا أحد علماء النبات. وفيه المروج الخضراء السندسية التي أنشئت، وهناك الأزهار البرية الصغيرة من أحمر وأزرق وأصفر وبنفسجي ما يقر الناظر ويسر الخاطر، أضيفت إلى الأزهار المعتادة فاتحدت الطبيعة والأيدي البشرية على جعل هذه البقعة من الأرض فردوسا يحير اللب ويسبي القلب. وقد بنوا فيه البرك التي تتدفق فيها المياه، وخططوا الشوارع ما بين منبسطة ومرتفعة، وفرشوها بالحصى الأبيض الناعم ممزوجا بالرمل، وبنوا فوقها أجنحة وشرفات واسعة (كشوكة) دهنوها باللون الأخضر، وعرشوا عليها العرائش من ورد أبيض وغيره، وأنشئوا المظلات الهندية التي تشبه الخيام، وجعلوا مقاعد من رخام وخشب في المماشي، وهناك مطاعم وقهوات ورحبات للعب الكرة وغيرها من الألعاب. وبنوا لوكندتين عظيمتين، ولا يخلو هذا البارك من وارد وصادر، وهو ملتصق بجبال أخرى، منها جبل ممتد مكتس بالأشجار من أسفله إلى أعلاه. وهي بديعة في تنسيقها وترتيبها كأنها عولجت بالمقراض ولونها كلون الزمرد. وإزاء هذا الجبل جبل آخر على شاكلته، وبينهما جبل ثالث دونهما علوا يظهر للناظر كالوادي وليس هو كذلك. ويعارض هذه الجبال جبال أخرى، ووراءها جبال تعد بالعشرات متفاوتة في قرب المسافة وبعدها.
وبعد ما قضيت في البارك حينا متنزها مع حضرة صفوت بك السكرتير الأول لسفارة تركيا، وكان غاصا بالمتنزهين زرافات ووحدانا، ركبت عربة وذهبت أتجول بداخل الغابات إلى قصر الملك، وهو ليس بعيدا. وقد خططوا شوارع داخل هذه الغابات لمرور العربات تكفي لمرور عربتين فقط، والباقي على اليمين وعلى الشمال جميعه غابات وأحراش من أنواع الصنوبر، بعضها تحاكي السحاب في علوها، وبعضها ممتدة العروق من كل الجوانب من أسفلها إلى أعلاها، مثل أشجار الأرز، ويسمع في أثناء المرور خرير المياه، وهي تنحدر إلى الوادي حتى وصلنا إلى القصر، وهو بني في أحسن بقعة في ذلك المكان، ويدعى قصر بليش باسم ينبوع ماء قريب منه. والقصر جميل الهندسة، يشرح منظره الصدر، أكثروا في بنائه من الطوب ودهنوها بألوان حمراء وزرقاء وخضراء كلون أوراق الأشجار، وذهبوا قسما منها. وفي وسط القصر قبة شاهقة نصب بأعلاها العلم الملكي، وهم لا يمنعون الناس أن يقتربوا من القصر، ويدوروا بجانبه على الأقدام، ويمتعوا نظرهم بالحديقة التي أمامه الحاوية لكل أنواع الزهر. وقد رأيت فيها من زهر الورد أشجارا، ذلك أنهم يربون ساق الورد ويعالجونها حتى تكبر وتغلظ وتصير شجرة في ارتفاع مترين تقريبا، وفي رأس الساق أربع أو خمس وردات، ضمت بعضها إلى بعض كأنها باقة. وأمام القصر بركة فيها نوفرة تتصاعد منها المياه إلى علو شاهق. وفي زوايا القصر عساكر الحرس وقوف بسلاحهم، ومدفعان وقنابل، وعند الظهر يتغير الحرس على ضرب النفير.
ولا يبعد من قصر الملك قصر آخر لسمو البرنس فردينان ولي العهد وعائلته، مبني على نسق قصر عمه الملك ولكنه أصغر، ويرفع العلم فوقه. ثم عدنا للفندق من طريق آخر من داخل هذه الغابات الجميلة، وممكن التنزه فيها ساعات، والمرء لا يمل النظر لتنوع المناظر والمشاهد، وخصوصا القصور لأربابها من أهل السعة واليسار، منتشرة بعضها في واد، وبعضها على ربوة أو لحف جبل، وغيرها في الطرقات، وجميعها داخل حدائق، وهم الذين أسعدهم الدهر أن يكونوا في أحسن بقعة من الأرض. والفنادق هناك في غاية النظافة والترتيب، وفيها العدد العديد من الخدم بثيابهم النظيفة ينفذون الطلبات بسرعة. وواجهة قاعة الطعام في فندق كريمان الذي اخترناه لإقامتنا من زجاج تشرف على الحديقة وعلى بركة تتصاعد منها المياه على علو شاهق. وعلى طول قاعة الطعام رف من الخشب عليه آنية صغيرة للزهر، ورأيت عريشة وصلوها إلى سقف القاعة، فالجالسون يتناولون طعامهم ويشنفون آذانهم بسماع الموسيقى، ويمتعون نظرهم في نوفرة المياه وأزهار الحديقة. وطعامهم لذيذ فيه ألوان عربية، مثل بادنجان محشي باللحم المفرومة وأرز دفين؛ لأنهم يدفنون قطع اللحم في خلاله، ومعه لبن رائب في كاسات بيضاء، عليها القشطة على شاكلة ما يصنع في بيوت مصر والشام. ومن حلواهم البقلاوة والقطايف، يسمونها بأسمائها العربية، وقبل تناول الطعام يشربون الوتسكا، وعلى المائدة يشربون نبيذهم الوطني اللذيذ الطعم الرخيص الثمن. وبعد فراغ الطعام ينتقلون إلى قاعة للمسامرة، وأخرى للعب الورق. ويوجد قاعة كبرى للرقص في كل يوم خميس، وتلبس السيدات كل ما هو خفيف ولطيف، ولهن عناية شديدة بالقبعات الصيفية الجبلية، وهكذا يقضي القوم نهارهم وليلهم في أرغد عيش.
وفي هذا اليوم ذهبت إلى قصر جلالة الملك وبيدي توصية للمثول، وكنت اطلعت في الجرائد أن صحته منحرفة، فقابلت الماريشال مافرو كوردات، وكان لابسا كسوته الرسمية وفي صدره نيشان يتدلى على صدره، وهو طويل القامة حسن الطلعة مهيبها، فلما علم أن الغرض من حضوري إلى رومانيا الكتابة عنها في اللغة العربية كما كتبت عن أوروبا وأميركا، قال لا ريب أنك علمت بانحراف صحة جلالة الملك، وهذا هو المانع، ولكن سمو ولي لعهد يقابلك بالنيابة عن جلالة الملك، فأعطاني تذكرة إلى حضرة الياور الأول الميرالاي كريشيانو، وأرسل معي رسولا أوصلني إلى القصر، فسلمت إليه التذكرة، وبعد أن قرأها قال إنه سيرسل لي الجواب إلى الفندق، ثم أرسله وقال فيه إن سمو البرنس فردينان ولي عهد رومانيا يقابلني اليوم التالي الساعة الثالثة بعد الظهر. وفي الميعاد المذكور كنت في قصره، حيث انتظرت قليلا في غرفة مع أحد الضباط، ثم دخلت إلى قاعة كان سموه واقفا فيها لابسا كسوته العسكرية، وعلى صدره سلسلة نياشين تتلألأ كما هي عادته في مقابلاته. فدار الحديث عن مصر ورومانيا، من ضمن ذلك قال يجب أن أزور دوير أرجيش؛ لأرى قبب الأجراس الرخامية المذهبة التي صنعت بطريقة هندسية غريبة الشكل من نوعها، فيخيل إلى الناظر أنها تهم بالسقوط إلى الأرض، وأن أزور معامل الملح، وهذه غريبة في بابها؛ لأنه يمكن النزول إلى عمق 150 مترا في عرض 500 متر، وليس في كل هذه المسافة لا حجر ولا تراب، بل الملح النقي الأبيض. وقال: ومع أن بلاد رومانيا زراعية كالقطر المصري، فالهمة مبذولة في ترقية صناعتها واستخراج معادنها من جوف الأرض. وحدثت سموه عن فوائد الخط الحالي من الوابورات الرومانية ما بين قسنطسة وإسكندرية، ورأيت سموه طلق اللسان حسن البيان، جميل الطلعة، تدل ملامحه كلها على النجابة، كيف لا وهو من عائلة هوهنزولرن الشهيرة في فضائلها في أوروبا! وكان يسأل ويستعلم عن كل شيء، وأسئلته دقيقة حتى سأل عن اسم الوابور الذي ركبته. واستغرقت زيارتي ساعة تقريبا، ثم انصرفت شاكرا.
البرنس فردينان ولي عهد رومانيا.
وفي هذا الجبل الدير والكنيسة، وقد بنيتا على ربوة، فذهبت الكنيسة وهي تكاد تكون كلها ذهبا؛ لأن أهالي رومانيا يكثرون من التذهيب في كنائسهم، وفي تلك الكنيسة كراسي للعائلة الملوكية، ومع أن الصلاة باللغة الرومانية يسهل على كل شرقي أن يتبعها ويفهمها من النغمات، واصطلحوا ألا تكون جوقة المرتلين في جانب الكنائس، مثل كنائس مصر والشام الشرقية، بل في كشك فوق الباب، تسمع نغماتهم ولا أحد يراهم، وأظن أن ذلك أدعى إلى الخشوع والوقار، لا سيما وهم ينتخبون المرتلين من ذوي الأصوات الرخيمة، فيخيل لك أن هناك آلات موسيقية. وقسسهم حسان الطلعة متهذبون، وملابسهم الكهنوتية كملابس أساقفة وخوارنة الكنائس الشرقية بلا فرق البتة. ورأيت المصلين يظلون وقوفا لا يستريح أحدهم - ولو قليلا - على الكراسي التي هي مثل كراسي الكنائس الشرقية، وهم دائما صامتون متخشعون، يشخصون إلى إمامهم فقط، غير ملتفتين يمنة ولا يسرة، ومتى دار القداس تركع جميع السيدات على ركبها إلى الأرض، وأما الرجال فأظن أن البنطلون هو الذي يزعجهم في الركوع ولا يركعون، وتعود النساء إلى السجود عند عرض الكأس، ولا يدار بالصينيات في الكنيسة لجمع نقود كما يجري في مصر وسوريا، وإنما عند باب الكنيسة الخارجي طاولة عليها صينية وفيها الشمع، فالداخلون يأخذون شمعة ويضعون في الصينية ما تسمح به نفسهم، ويوقدون الشمعة في الشماعدين. وقد قابلت رئيس الكنيسة، وهو لا يتكلم إلا اللغة الرومانية، فاستحضر قسيسين للترجمة يتكلمان الجرمانية التي أجهلها أنا، فعدنا إلى الحديقة، وإذا بعاصفة شديدة من الريح والمطر، فاشتد البرد، وكان له تأثير في صحتنا فتركت الجبل وكنت أنوي إطالة الإقامة فيه، وعدت إلى بخارست. ولا يخفى أن بخارست تبعد ساعة واحدة عن روستشوك وجيورجوفو، يفصلهما نهر الدانوب، وهو عريض في هذا المكان، فالأولى من مدن بلغاريا والثانية من مدن رومانيا يذهبون إليهما من بخارست ويعودون على سبيل النزهة؛ لجمال موقعهما على النهر، فذهبت في الصباح، وأعجبني في روستشوك مدرستها الجامعة للذكور، يؤمها مئات من التلامذة، ثم عدنا إلى بخارست لنسافر منها إلى السرب. ويخلق بي في هذا المقام أن أقول إن كثيرين من سكان القطر المصري يصطافون في أوروبا، فإذا اتخذوا طريقهم إليها من بخارست رأوا جانبا من أوروبا لا تخلو رؤيته من الفائدة واللذة، أما نفقات السفر فتكاد تكون واحدة.
السفر من بخارست إلى بلغراد:
يجب على المسافر أن يركب قطار سكة الحديد من بخارست إلى مدينة أورسوفو الواقعة في آخر حدود رومانيا من جهة الغرب، وذلك مسافة 10 ساعات. والمدينة المذكورة مبنية على نهر الطونة، ومنها يركب الوابور إلى بلغراد، والسياحة في نهر الطونة تستغرق 15 ساعة إلى بلغراد، فبناء عليه قام القطر بنا يمر في بلاد رومانيا في أراض منبسطة، مثل أراضي القطر المصري، ومزروعة كلها كأنها مرجة خضراء. وزراعتها نامية جدا، معظمها الدرة الشامية، رأيت منها على يمين القطار وشماله قدر مد البصر مدة عشر ساعات، في نهايتها وصلنا إلى أورسوفو. ورأينا في هذه المدينة ما يقال له في أوروبا بالاصطلاح العسكري أبواب الحديد (بورت دي فير)، أعني الجبال الواقعة ما بين المجر والسرب ورومانيا، فدخلنا مع الركاب على الجمرك؛ لعرض تذكرة المرور والأمتعة، وهم يرون ذلك بطريقة لطيفة، ثم ركبنا عربة في طريق لطيف مسافة نصف ساعة تقريبا إلى الباخرة الراسية في نهر الدانوب المستعدة للسفر إلى بلغراد.
السفر في نهر الدانوب:
قامت الباخرة تمخر في هذا النهر الجميل قبل شروق الشمس بقليل، على نية أن تصل بنا إلى بلغراد في الساعة التاسعة مساء، فتكون المسافة 15 ساعة. وعلى القارئ أن يتصور قدر النزهة التي تقضى في طول هذه المسافة من تنوع المناظر في كل آونة، فإن نهر الطونة (الدانوب) الشهير في العالم ينساب كالأفعى ما بين الجبال على اليمين وعلى الشمال. فالجبال التي على يمين المسافر هي للمجر، والجبال التي على يساره هي للسرب، وقد أجمع العارفون على أن أجمل السياحات في الأنهر السياحة في نهر الطونة، وأجملها ما بين أورسوفو وبلغراد. وتأييدا لذلك أقول إني كنت قد سافرت في نهر الطونة من فيينا إلى بودابست مسافة 12 ساعة، فلم أجد في الطريق الجبال التي تطاول السحاب، لا سيما على الحدود السربية، وهي تعد بالعشرات بعضها وراء بعض. وكنا نرى الجبال في بعض الجهات تلاصق ضفاف النهر، وأمامنا جبل آخر فنحسب نفسنا محصورين في بحيرة لا منفذ للباخرة منها، ثم لا نشعر إلا والباخرة اخترقت لنفسها منفذا وأتبعت سيرها. ويبلغ عرض النهر على مسافة 15 ساعة 500 متر إلى 800 متر فأكثر. وتبعد الجبال من ضفافه في بعض الجهات من 2000 إلى 3000 متر، حيث تغرس الأرض أشجارا مثمرة، وتزرع من مزروعات أخرى، وتظهر فيها عدة قرى ومزارع ومعامل.
ويرى على ضفافه في بعض الجهات أشجار الحور الباسقة صفوفا ممتدة مسافات طويلة كأنها حائط. وهناك طيور مائية كثيرة ترفرف فوق النهر، وكلما وصلت الباخرة إلى بلدة ألقت المرساة يصعد من الركاب من يريد الصعود، وينزل من يريد النزول. وأبهج ما يكون في هذه السياحة الجزر القائمة في وسط النهر، مزروع بعضها أشجارا مثمرة وذرة، وفي بعضها الآخر غابات من أشجار الصنوبر. وربما شاهد الناظر في بعض الجهات عشرات من الجزر الصغيرة والباخرة تمر على يمينها أو يسارها. وهناك شلالات اصطناعية، هي كناية عن جسور من صخور وحجارة تعترض مجرى المياه لأغراض يقصدها القوم، فالمياه تمر من فوقها، ثم تنحدر ويسمع لها دوي وخرير. وبينما كانت الباخرة سائرة رأيت الركاب ينظرون إلى أسفل الجبل مما يلي السرب، وإذا هناك طريق قد أنشأه في طول الجبل قيصر الرومانيين تريانونس، ومرت منه عساكره. وفي جبل المجر اليوم طريق آخر فتحته حكومة المجر يفضي إلى حدود رومانيا، رأيت الناس فيه بين ذهاب وإياب. وتكملة للفائدة أقول إن نهر الطونة هذا نبعه الأصلي من جبال فريبور في ألمانيا، أعني الغابات السوداء (التي سبق أني ذهبت إليها وذكرتها في هذا الكتاب)، وهو أطول نهر في أوروبا ما عدا نهر فولكا في روسيا، وتصب فيه أنهر وجداول. وقد عرفت النمسا كيف تنتفع منه عكس حكومة مصر؛ فإن وابوراتها تمخر فيه وهي تنقل الركاب والبضائع، عدا الوابورات التي تقطر الصنادل مشحونة بالبضائع. وكنت أرى العدد العديد من هذه الوابورات، يقطر كل واحد منها صندلين فثلاثة وأربعة توصلها إلى المدن القائمة على النهر لحد البحر الأسود.
فلما اقتربنا من بلغراد بعدت عنا الجبال، وكانت الأراضي هنا سهلة ومزروعة، وهناك البقر والغنم والثيران، لا سيما في بر السرب. وفي الميعاد المعين ظهرت لنا بلغراد، وهي مبنية على جبل، أنوارها منتشرة ومنظرها جميل من النهر، فتركنا الباخرة ودخلنا الكمرك، ولا يحس السائح بانزعاج؛ لأن عماله يكتفون بالسؤال، وإذا فتحوا صندوقا أقفلوه بسرعة، فذهبنا منه بالعربة، وكانت تجري بنا صعدا على لوكندة موسكو التي بنتها شركة روسية، وتعد أجمل فنادق البلقان.
السرب
خلاصة تاريخية
إن السربيين أصلهم سلاف استوطنوا البلقان، وعظم شأنهم بعد ضعف مملكة بيزانس التي كانت مالكة بلادهم، ولا سيما بعد وفاة الإمبراطور يوستينيانوس الكبير في القرن السابع، فلما قووا وكثر عددهم طردوا الأقوام الغريبة، مثل اللاتين والتراس والأروام والأرناءوط من هذه البلاد، وحملوها على الرحيل إلى جهة بحر الأدرياتيك. وكانوا قد اقتبسوا بعض ظواهر التمدن عن البيزانتيين، وتعلموا منهم الديانة الأرثوذكسية على يد راهبين من الأروام، هما كيرلس ومتيديوس، وذلك في القرن التاسع، ولم يكن لهم يومئذ حكومة أو رئيس عام، ولكنهم انقسموا قبائل شتى لا تقل عن مائتي قبيلة، لكل منها رئيس وعوائد خاصة بها، حتى إذا دخلت سنة 1053 رأس هذه البلاد ميحايلو (مخايل أو ميشيل)، ونودي به ملكا في سنة 1077، وخلفه غيره من الملوك، امتاز منهم نمانيا، وكان تقيا ورعا بنى الكنائس والأديرة ثم ترهب، وخلفه ولده ستيفان في سنة 1223، وهذا استقل في كنيسته عن سلطة بطريرك القسطنطينية، وعين الأساقفة في مراكزهم واتخذ لنفسه رئاسة الأساقفة، وخلفه ابنه رادوسلاف، وكان له إخوة وأبناء عم كثيرون تنازعوا على الملك زمانا حتى فاز أحدهم، وهو دارجوتين بمساعدة حماته ملكة المجر، وهي تنازلت له عن البلاد المجاورة لأنهر الطونا والساف والدرينا. وكان في جملة هذه البلاد البوسنة (البشناق)، ولا بد لي من القول هنا إن تعداد هذا الإقليم الذي كلف دولة النمسا حكمه بمقتضى معاهدة برلين وضمته إلى أملاكها نهائيا بعد إعلان الدستور العثماني فيه مليون نفس، معظمهم من السربيين الأرثوذكس، والباقون يعدون أنفسهم سربيين أيضا، ويريدون الانضمام إلى مملكة السرب. وقد خلف دارجوتين ملوك، امتاز منهم الملك دوزان، وهو الذي سن قانونا للمملكة وأزال كل أثر بقي لدولة بيزانس، واتخذ لنفسه لقب تزان أو قيصر في 1355، وخلفه ولده أوروس، وكان فاتر الهمة جزئت بلاده أقساما على عهده، وكان ذلك علة احتلال التراك لهذه البلاد رغما عن مقاومة السربيين الذين حاربوا متفانين، حتى إن الدولة جردت عليهم مائتي ألف عسكري.
يروى عن حبهم للاستقلال أن أحدهم - واسمه عندهم البطل ميلوش أو بيلش - تقدم في موقعة كوسوفو إلى خيمة السلطان مراد، وطعنه في بطنه بخنجر فقتله. وخلف الملك أوروس عدة أمراء سربيون حاربوا عساكر الدولة على غير فائدة، حتى استولى محمد الفاتح على القسطنطينية (الآستانة) في سنة 1453، فبطلت كل حركة عدوانية من طرف السربيين، واحتلت الدولة العلية جميع البلاد السربية، واستولت على بلاد الأرناءوط، وفتحت ولاية بوسنة (البشناق) في سنة 1463، ثم ولاية هيرزوجوفين (الهرسك) في سنة 1482، فولاية زيتا سنة 1496. فما دخل القرن الخامس عشر إلا وجميع الولايات البلقانية، كرومانيا والسرب والبلغار في قبضة آل عثمان، ولكن حكومتها في البلقان كانت سيئة وجنودها - ولا سيما الباشبزوق منهم - أهل جور وقسوة، ظلموا الناس واغتصبوا أراضيهم وممتلكاتهم، وهم يقولون لهم إن هذه الأراضي أصبحت جميعها ملكا لهم، وكانوا يأخذون أيضا أولاد المحكومين وبناتهم لخدمة الحكام ورؤساء العساكر، حتى إن قسما كبيرا من السربيين هجروا بلادهم وذهبوا إلى المجر وكرواسيا، ولجأ بعضهم إلى الجبال العالية، وانتحل بعضهم دين الإسلام حتى عين منهم الحكام، وكان هؤلاء الحكام أشد وطأة وجورا على أبناء أمتهم من الآخرين .
بقيت بلاد السرب في يد الدولة العلية إلى القرن السابع عشر، حين تنفست الصعداء قليلا لما أن النمسا استخلصت المجر من قبضة الدولة، ولكن الإكليروس النمسوي والمجري - وهم على المذهب اللاتيني - اضطهدوا السربيين؛ لأنهم من أهل المذهب الأرثوذكسي، حتى إن قسما كبيرا منهم رحل إلى روسيا. وكان من وراء هذه المحن أن روسيا حاربت الدولة من أيام بطرس وكاترينا، وأن السربيين عادوا إلى طلب استقلالهم وحريتهم منذ سنة 1804 بواسطة أحد كبارهم المدعو جورج بيتروفيش أو هو قراجورج (جورج الأسود). وحكاية هذا الرجل أنه كان راعيا، وأراد أحد عساكر الأتراك أن يأخذ منه رأس غنم بالقوة، فضربه على رأسه بالعصا ضربة أودت بحياته، حتى إنه فر إلى الجبال خوفا على نفسه. واشتدت بعد ذلك وطأة الحكام الأتراك على السربيين حتى دفعوهم إلى الثورة العامة، وعند ذلك ظهر فراجورج من جديد، وأطلق عليه لقب محرر السرب، ولكنه قتل غدرا وهو نائم في خيمته في سنة 1817، وقيل إن قتله كان خيانة من أحد الزعماء، وهو ميلوش أوبرونوفيش، بإيعاز من الدولة التي جعلته حاكما جزاء فعله، ولكن البعض من كبار السربيين أجبروه على التنازل عن الرئاسة في سنة 1839، وأقاموا بدلا منه ولده ميحايلو أوبرونوفيش الذي تنازل لاعتلال صحته، فعادت الرئاسة إلى عائلة قراجورج الأولى، فتولاها إسكندر قراجورج ابن قراجورج الذي سبق ذكر حكايته من سنة 1842 إلى سنة 1858. وقد تمكن بحسن تدبيره من إصلاح حالة بلاده، وأدخل فيها التمدن، ولكن ذلك لم يحل لآل أوبرونوفيش، فظلوا على النزاع والدسائس حتى أسقطوا إسكندر المذكور عن عرشه. وعليه اجتمعت الجمعية العمومية، وقررت إعادة الرئاسة إلى ميلوش أوبرنوفيش السابق ذكره، وكان قد بلغ من الكبر عتيا، ثم توفي وخلفه ابنه ميحايلو، وأقام في الرئاسة من سنة 1858 إلى سنة 1868 اجتهد في خلالها أن ينيل السربيين الاستقلال، ولكنه قتل في حديقة طوبجي درة في بلغراد (سنتكلم عنها)، وخلفه ابن أخيه ميلان أوبرنوفيش من سنة 1868 إلى سنة 1889، وكان يوم ارتقائه قاصرا، فكلف بمهام الحكومة ثلاثة من ذوات العاصمة يحكمون حسب قانون سن لهذه الغاية.
وقد حدثت مدة حكم ميلان أمور مهمة، منها أن السربيين حاربوا الدولة العلية من سنة 1876 إلى سنة 1878، ونالوا استقلالهم بمقتضى معاهدة برلين المشهورة، ونودي باسم البرنس ميلان ملكا في سنة 1882، ومنها أن الملك ميلان كان في خصام دائم مع زوجته نتالي، حتى تنازل عن كرسي الملك في سنة 1889 وخلفه ابنه إسكندر الذي ولد في سنة 1876، وإذ كان قاصرا شكلت لجنة من رجال الحكومة للوصاية حتى يبلغ الملك سن الرشاد، ولكن إسكندر كان ذا أثرة، فإنه أبعد اللجنة واستبد بالأمر قبل نهاية مدة الوصاية. واقترن هذا الملك بامرأة من سيدات الشرف عند والدته في سنة 1900 ضد إرادة والده ووالدته ورجال حكومته؛ فاشتد كره الناس له حتى تآمر عليه بعض رجال الجيش ودخلوا قصره في إحدى الليالي عنوة فقتلوا الملك وزوجته، وكان ذلك سنة 1903. ثم اجتمع مجلس الأمة السربية، وقرر تولية الملك الحالي، وهو حفيد قراجورج راعي الغنم السالف الذكر تحت اسم بطرس الأول، والملك الحالي ولد في بلغراد في سنة 1844 واقترن في سنة 1823 بالأميرة ذوركا ابنة أمير الجبل الأسود، ماتت سنة 1890، وله منها بنت وولدان، أكبرهما اسمه جورج والثاني اسمه إسكندر ولد في سنة 1888، وهو الآن ولي العهد من بعد تنازل أخيه الأكبر.
والملك الحالي محترم ومحبوب من رعيته، وسهران على تقدم بلاده ونجاحها. والسرب واقعة إلى جانب النمسا يفصل بينهما نهر الدانوب شمالا، ويحدها من الشرق رومانيا، ومن الجنوب تركيا، ومن الغرب بلاد البوسنة والهرسك، يفصلها عنهما نهر درينا، وتعدادها الآن ثلاثة ملايين نفس، جميعهم أرثوذكس ما عدا ألوف قليلة من اليهود والألمان والمجر. ويمكن للسرب أن تجرد من العساكر 352922 محاربا. وقد اشتهرت العساكر السربية بالبسالة والإقدام. وتقرب إيرادات هذه المملكة من أربعة ملايين جنيه كل سنة ومصروفاتها كذلك، وقيمة صادراتها عام 1907 بلغت مائة مليون فرنك، ومعظم الصادر منها حاصلات زراعية ولحوم، وهواء البلاد يوافق زراعة الدخان، فهو عندهم كالدخان التركي، وهم يعتنون بزراعة الأشجار المثمرة، فيصدرون من القراصيا الناشفة (برون) ما قيمته 15 مليون فرنك في السنة . وعندهم مراع واسعة، فهم يصدرون مليوني رأس من البقر كل سنة إلى النمسا والمجر وتركيا والقطر المصري، و12 مليون خنزير. ويصدرون من الدقيق ما قيمته مليونا فرنك، ومن البيض ما تزيد قيمته عن 4 ملايين فرنك. وطبيعة البلاد جبلية، فيها 21 جبلا يختلف ارتفاعها من 1000 متر إلى 2000، وفيها 21 نهرا، منها نهر الدانوب ونهر الساف، تمخر فيهما البواخر الكبرى، ونهر مورافا تمخر فيه السفن أيضا طوله 120 كيلومترا، وطول جميع أنهرها 2158 كيلومترا تخترق البلاد.
بطرس الأول ملك السرب.
وللسربيين شهرة بالتدين، فهم لا ينقطعون عن الصلاة، وقد سمعت في كنائسهم نغمات الترتيل، ينشدها رجال وأولاد على غاية الضبط. وما زالوا متمسكين بعوائدهم القديمة من جهة الأعياد؛ مثال ذلك أن كل رجل له عيد باسمه من أسماء القديسين، وأهمهم هنالك مار نقولا ومار جرجس وميخائيل وجبرائيل، فإذا جاء عيد القديس الذي يوافق اسمه اسم صاحب البيت كان ذلك اليوم عيدا تشترك فيه زوجة الرجل وأولاده، واسم هذا العيد عندهم «سلافا»؛ أي عيد قديس البيت. وفي اليوم المذكور يأتي الخوري ومعه في إناء صغير ماء مصلى عليه، وباقة من الريحان يغمسها في الماء، ويرش أصحاب البيت والغرف ويبخر صورة القديس، ويعطي أهل البيت قربانا أو خبزا مصلى عليه وقد طبع بعلامة الصليب في وسطه . وفي هذا اليوم يمتنع صاحب العيد عن العمل، ويستقبل أقاربه وأصحابه، وهم إذا دخلوا لمعايدته قالوا «سترينا سلافا»؛ أعني كل عام وأنتم سالمون، فالرجل يقبل الرجل والامرأة تقبل الامرأة، ثم يقدم للضيوف المربى، فيقضون نهارهم في المسرات والصلوات. أما العيد العظيم عندهم فهو عيد الميلاد، ومن أمثالهم «لا يوجد يوم إلا ويظهر معه النور، كما أنه لا يوجد عيد الميلاد إلا ومعه المسرات»، ويكثر بينهم الذين يصومون صيام الميلاد كل أيامه، نراهم ينتظرون العيد بفروغ صبر ليأكلوا الخرفان المشوية، وهم يشكون هذه الخرفان ساعة شيها بقضبان يقطعونها من الشجر بعد الصلاة، ومتى بدءوا بذلك بذر صاحب البيت قليلا من حب القمح، طالبا من الله تعالى أن يديم لهم القمح في منزلهم. ثم إن الوالدة والأولاد يدورون في جهات البيت، فالوالدة تقلد نغمة الدجاجة، والأولاد نغمة الفراخ طالبين من الله ألا يحرمهم منها، وإذا جلسوا لمناولة الطعام بدءوا بصلاة وجيزة، ثم إن رب البيت يأخذ في يده ثلاث جوزات، ويقول على اسم الأب فيرمي إحداها في الشرق، ويرمي الثانية لجهة الغرب، وهو يقول هذه على اسم الابن والثالثة على اسم الروح القدس ويرميها لجهة الجنوب. وبعد هذا يرسمون الصليب على وجوههم ويبدءون بمناولة الطعام، وفي آخره يستحضرون قرصا من القمح المجبول بالعسل، فيه قطعة من النقود فيقتسمون هذا القرص فيما بينهم، والذي يجد قطعة النقود منهم في حصته يعد سعيدا على مدار السنة. والأفراح في العيد الكبير لا تقل عن عيد الميلاد؛ لأنهم يصبغون البيض ألوانا، ويدور بعضهم بها لنوع من المقامرة، فكل من كسر بالبيضة التي في يده بيضة أخرى ربح البيضة المكسورة، وهي عادة معروفة في الشام وكثير من الأقطار الشرقية والغربية في العيد الكبير.
بلغراد
هي عاصمة السرب، لا يزيد سكانها عن مائة ألف نفس، ولكنها عظيمة الحركة؛ لأنها يؤمها خلق كثير يأتون إليها من القرى الكثيرة في الضواحي. وموقعها جميل جدا، فإنها بنيت على جبل يشرف على نهر الدانوب ونهر ساف من كل جهاتها، فأحياء العصمة بعضها على قمة هذا الجبل، وبعضها على لحفه من هنا ومن هنا، فكل مناظرها بالغة الجمال تقرب من مناظر الآستانة على البوسفور. والذي يقف في الأحياء الواقعة على رأس الجبل يرى الشوارع ممتدة وإلى جانبيها الأشجار تحدها المنازل، وهي منحدرة في الوادي حتى ضفة النهر لا يظهر آخرها للعين بسبب طولها. وهنالك ترى العربات أو الترامواي نازلة إلى النهر أو صاعدة كأنها خارجة منه. ومن بعض هذه الأحياء تظهر شطوط المجر والبعض من قراها، ويظهر أيضا الجسر العظيم الذي يمر عليه قطار سكة الشرق آتيا من باريس إلى بلغراد. وفيها مبان عمومية مهمة، مثل قصر الملك وبنك السرب والتياترو، وفندق موسكو وهو أحسن من فنادق رومانيا وبلغاريا. ومن المشهور أن للسربيين غيرة زائدة على أبناء جلدتهم، حيث كانوا - وهم يحبون بعضهم بعضا - كالإخوة، فالجنسية السربية وجهتهم وضالتهم في كل حين.
أخذنا ترجمانا من الفندق للتفرج على ما في هذه العاصمة، وكان معه كشف ببيان المحلات التي يجدر بالسائح أن يراها، ومن الضروري الاستعانة بالترجمان في بلاد يجهل السائح لغتها، فالترجمان يقلل العناء والنفقات؛ لأنه يرشد الغريب في يوم واحد إلى ما يعسر على الغريب رؤيته في أيام، وكانت هذه عادتي في كل سياحاتي. فلما خرجنا من الفندق وجدنا نفسنا في بولفار أو شارع ممتد في قلب البلد سمي ميحايلو على اسم الملك الوارد اسمه في المقدمة التاريخية. وقد أقيم لهذا الملك تمثال من البرونز في ميدان بالقرب من الشارع راكبا جوادا، مثل تمثال إبراهيم باشا في أزبكية مصر، فوق قاعدة من حجر الصوان الأحمر، وفي هذه القاعدة رسوم معركة حربية، فيها نساء سربيات بيدهن أطفال تتوسل إلى عساكر الأتراك بطلب الرحمة. وفي هذا الميدان البنك العقاري السربي والتياترو الكبير، كلاهما من الأبنية الجميلة. وشارع ميحايلو هذا كثير الاتساع، إلى جانبيه منازل عظيمة للبنوك والشركات، تحتها الحوانيت يباع فيها كل ما يشتهي المرء وقهاوي وحانات. وفي آخر هذا الشارع قره ميدان، والاسم تركي هو اليوم الحديقة العمومية للأهالي، وهي حديقة لطيفة جدا فيها الزهور وبرك الماء والأشجار المتنوعة يخطرون فيها زرافات ووحدانا، ويسمعون أنغام الموسيقى. وفي آخرها لجهة نهر الدانوب القلعة، دخلناها من باب يدعى قبو استامبول، وهو مثل باب قلعة مصر تماما مصفح بالحديد والمسامير. وقد مشينا مسافة طويلة بعد هذا الباب حتى بلغنا بابا آخر على شاكلته، يليه ميدان ثان وباب ثالث أيضا، وقد صنع الكل على طريقة هندسية حربية لصد هجمات الأعداء، قال لنا الترجمان إنه لغاية سنة 1860 كانت العساكر العثمانية محتلة هذه القلعة والبلد في يد السربيين. فلما وصلنا الميدان الثالث - واسمه قلعة ميداني - رأيت فيه مدافع تركية كثيرة العدد قديمة العهد، وكرات كبيرة وصغيرة مرصوصة بعضها فوق بعض على شكل هرمي، عدا المدافع الموجودة في الطوابي والاستحكامات، وهي محكمة الوضع حول القلعة. والقلعة هائلة الاتساع، فإني سرت مسافة طويلة جدا ما بين كل باب من الأبواب الثلاثة حتى وصلت آخرها، ومنها رأيت نهري الدانوب وساف كأنهما تحت الأقدام في هذا المكان. وقد رأيت هنا بعض قرى المجر، وهي يفصلها نهر الدانوب عن السرب، ورأيت على بعض المدافع شعار الدولة قمرا ونجمة، وفي غيرها نقشت الطغراء العثمانية، وعلى بعضها كتابات تركية جميلة عليها اسم محمود. وفي الميدان المذكور جامع تخرب، والمئذنة هي الآن منارة. وفي هذا الميدان المتحف، وهو عبارة عن قاعة فسيحة مستديرة، جمع فيها كثير من الأسلحة والرايات التي غنمها السربيون في الحروب، منها بنادق طويلة مزخرفة بنقوش دقيقة، وقبضاتها مرصعة بحجارة المرجان، وسيوف تركية عوجاء، منها سيف شفرته مرصعة بالجوهر، وعليها كتابات بحروف جميلة جدا، أمسكته بيدي بعد الاستئذان، وقرأت عليه هذه العبارة: «بسم الله الرحمن الرحيم
نصر من الله وفتح قريب » وعلى الوجه الآخر: «لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار.» ورأينا في هذا المتحف قبعة الملك ميلان الذي ذكرناه في المقدمة التاريخية. هذا أهم ما يرى في هذا القسم من شارع ميحايلو لحد حديقة قره ميدان.
والقسم الآخر من هذا الشارع على يمين فندق موسكو يعرف باسم ميلان، وفيه قصر الملك ، وهو جميل بأعلاه العلم وأمامه عساكر الحرس، وعلى مقربة منه نظارة الخارجية، وفي آخره ميدان سلافيا يتفرع منه خمسة شوارع عريضة، غرس إلى جانبيها الأشجار ومن ورائها المنازل ذات دور واحد، وهي جميلة المنظر لكل منها حديقة ومعظمها للموسرين. ومع أن بلغراد ليست من العواصم الكثيرة السكان، فإنها لها موقع طويل، وقد سرنا من شوارعها السابقة الذكر إلى فراتشار، وهو موضع حدثت فيه المعركة الحربية بين عساكر الدولة والسربيين، وكان الفوز فيها لرجال السرب بعد أن قتل منهم خلق كثير، وهناك قبورهم عليها الصلبان وتمثال بأعلاه صليب كتب عليه تاريخ سنة 1800، وفي هذا الموضع كثير من القرى والمزارع والمعامل دليل حياة القوم السربيين.
وفي هذا اليوم ذهبت إلى الكنيسة الكبرى ورأيت أن صورها من أحسن صناعة، منها صورة المسيح عند باب الهيكل بيده الكرة الأرضية فوقها الصليب، وفي الكنيسة مقاعد مذهبة للعائلة المالكة، وقد قال لنا الخادم إن جلالة الملك لا ينقطع عن الحضور إلى الكنيسة في كل أحد وفي كل عيد كبير خصوصا في هذا اليوم، وكان يومئذ عيد مار إلياس، ولو لم يكن مريضا لرأيناه في كرسيه، وفي هذه الكنيسة أيضا قبر ميحايلو من الرخام الأبيض. ومن الكنيسة ذهبنا بشارع ميحايلوش - أعني ابن ميحايلو - وفيه نظارة الحربية والمدرسة الحربية ومستودع المدافع لا يجوز الدخول إليه، والمتحف التاريخي، رافقنا الدليل وكان الترجمان يترجم لنا كلامه عن الآثار، وعددها لا يحصى، وهي متنوعة الأشكال والأجناس متسعة في دهاليز وأروقة وغرف كثيرة العدد ملئت بما يسر الناظر، ويمثل حالة الأشخاص من رجال ونساء وبنات سربيات بالقد الطبيعي من الشمع كأنها تنطق بلسانها، وتنظر إليها بعيونها لابسة اللباس السربي، وتليها تماثيل بنات تركيات بالسترة والسراويل الحريرية الواسعة مزركشة بالقصب، وعلى رأس كل واحدة عزيزية مقصبة مائلة قليلا إلى جهة الشمال تزيد منظر الفتاة دلالا، ولها صدور مكشوفة، وقد حليت هذه التماثيل بالمصوغات والنقود التركية من الذهب والفضة، وأكثره ليرا مجيدية وأنصافها وأرباعها، وقد صنعوا أيضا من هذه النقود تيجانا للرأس وعقودا وأساور وأحزمة للوسط. وإلى جانب هذه التماثيل الحسناء آلات الطرب التركية، مثل العود والقانون والقيثار وبعض الأقمشة الحريرية للملابس والمفروشات. وفي هذا المتحف أيضا تماثيل الرجال على رءوسهم اللبد البيضاء مطرزة بالعروق الزرقاء وقد تقلدوا الطبنجات في حزامهم والسيوف على أجنابهم.
ومن هذا المتحف ذهبنا إلى مدفن إسكندر وزوجته دراجا - ذكرت مقتلهما في المقدمة التاريخية - فالمدفن الآن عبارة عن كنيسة صغيرة فتحها الخادم وليس فيها قبر من الرخام، بل إن الخادم أشار إلى أكاليل موضوعة على الحائط، وقال إن في هذه البقعة دفن كل من الملك إسكندر وزوجته دراجا، فأعاد ذلك إلى ذهننا غدرات الزمان وبطشه بالكبار والصغار على السواء. ولما أردت أن أزور القصر الذي قتلا فيه وهو بالقرب من القصر الجديد للملك الحالي، قيل لنا إنه هدم وما بقي إلا أرضه من الآثار، والحكومة تبني الآن في هذه الجهة بناء فخيما جدا لمجلس البارلمان. ولبلغراد حديقة ثانية في طرفها من الشمال تدعى طوبجي دره، والكلمة تركية معناها وادي الطوبجية، والطريق للوصول إليها من المتنزهات البديعة مسافة نصف ساعة بالعربة أو الترامواي، فيها الأشجار الباسقة صفوفا على اليمين ووراءها المزارع ونهر ساف، وهو كنهر الدانوب تمخر فيه البواخر. وعلى الشمال تلال وهضبات فيها أشجار الصنوبر وكروم العنب حتى إنهم سموا هذه الجهة بالكروم. وفيها قصور جميلة لكل قصر منها حديقة فيحاء وهي للأغنياء وأرباب الوجاهة، منها قصر لناظر الحربية وآخر للسر تشريفاتي، وقد زرت هذه الجهة لمقابلة أحد الذوات فيها قبل هذه المرة، ولما بلغنا حديقة طوبجي دره عجبنا فيها لاتساعها، ورأينا فيها الزهور وبرك المياه على شاكلة حدائق العواصم في أوروبا تصدح فيها الموسيقى وتسير الناس بداخلها أفواجا، وقد حانت مني التفاتة إلى شجرة دلب ما رأيت أطول من غصونها الممتدة في كل سياحاتي، حتى إنهم أسندوها إلى عمد من الحديد. ثم عدنا إلى فندق موسكو وله شرفة واسعة تطل على الطريق، وتصدح فيها الموسيقى كل يوم بعد الظهر فيتوافد الناس للجلوس وشرب البيرا ومناولة الطعام والمسامرة والنظر إلى المارة في الشارع. وقد لحظت أن العوائد الشرقية لم تبطل هنا كما بطلت في بعض بلاد الشرق، فإنه مر أمامنا جنازة بطلت من أجلها الموسيقى ووقف الرجال وقد نزعوا القبعات احتراما للميت، ولكن النساء كن حسب العادة الشرقية القديمة ماشيات وراء النعش وأمامه الصلبان والمراوح، وأولاد يرتلون وهم بالجلاليب الحمراء عليها صلبان بيضاء وعلى رءوسهم قبعات مثل التي يلبسها الأقباط الأرثوذوكس، ثم جوق المرتلين يرتلون وكان القسوس صامتين، فأشار علي الترجمان أن نذهب للمقبرة بالترامواي، وهي تمر من أمام باب الفندق. ولا يخفى على أحد أن المدافن في أوروبا متنزهات خلافا لما في بلادنا، فقبور الأغنياء في عاصمة السرب محاطة بأسوار من الحديد المذهب أو الرخام الأبيض وبداخله عمود من رخام كتب عليه اسم المتوفى وتاريخ الوفاة، وأمام كل منها نور يوقد في الليل والنهار ومن حولها برك الماء والأزهار، وقد رجعت بعد زيارة هذه المدافن إلى الفندق فألفيت الموسيقى تصدح فيه.
ومما يلتفت إليه أثناء التجول في شوارع بلغراد الزي السربي في بعض الرجال والنساء، أما الرجال فيلبسون اللباد الأبيض على شكل كبوت مشغول بالقيطان الأزرق وتحته سراويل واسعة، وطماقات لباد فوق حذاء بلدي عالي الرأس، بأعلاه شرابة وعلى رءوسهم قبعات، والنساء تلبس سلطة حريرا أو قطيفة لحد ظهرها وفسطانا حريرا، والصدر مكشوف يغطيه قميص من الحرير رفيع من صناعة البلاد، وعلى رأسها طربوش أحمر واطئ مثل الطاقية له شرابة (زر) حرير تلف عليه عصبة مزركشة، وشعرها مقصوص كالهالة حول رأسها وحذاء بلديا بأعلاه شرابة حرير، ويرى ضباط العسكرية يخطرون في الشوارع بكساويهم ونياشينهم، فيهم روح النشاط والحرب، وقد اعتادت نظارة الحربية أن تأتي بأجود سلاح للحرب، فإذا رأت أن المدافع الألمانية أجود من غيرها أخذت منها لوازمها، وإن علمت بطرز بنادق إنكليزية أو فرنسوية اشترت لجنودها منها، وهي أبدا تتبع كل فن جديد مهما كلفها من المصاريف حتى تكون دائما على أهبة الحرب.
وإذا كان الغريب يريد أن يرى بلغراد بتمامها، فما عليه إلا أن يصعد سطح فندق موسكو يراها جميعها ولا يغيب شيء عن نظره، فإنه يتجلى له منظر نهري الدانوب وساف والجوز القائمة فيهما، والسفن تمخر ذاهبة أو عائدة وقرى وغابات ومزارع، ويرى أيضا الجسر المبني فوق نهر الدانوب لقطارات سكة الحديد خصوصا قطار إكسبرس الشرق آتيا من بودابست لمحطة بلغراد وهي عظيمة الاتساع. وذهبت في هذا اليوم إلى دار مجلس النواب - واسمه عندهم سكوبتشينا - فرأيت في القاعة صورة الملك وتجاهها شعار المملكة وكراسي للنظار ومقاعد للنواب وأرباب الجرائد، حسب ترتيب المجالس النيابية الأخرى. ورأيت بين الأعضاء ثلاثة قسوس ونحو عشرة من المزارعين بملابسهم الوطنية، تكلم واحد منهم بحماسة وهو باللباس الوطني السابق ذكره. وعند الظهر انفضت الجلسة وهنأت ناظر الخارجية المسيو ميلانوفيش؛ لأنه أجاب كل سؤال من النواب، وأنا لا أعلم بشيء مما قيل، وكان سعادته قد أرسل تذكرة إلى رئيس التشريفات يخبره بها أني أتيت من مصر ومعي توصية من حضرة المسيو إنتيتش المعتمد السياسي والقنصل العام بها لدولة السرب حتى أكتب عن بلادهم بعض الشيء باللغة العربية، وطلب أن يعرض على جلالة الملك التنازل إلى مقابلتي، ولكن صحة الملك كانت يومئذ معتلة فأشار علي أن أنتظر أسبوعا، وكان مضى على إقامتي في بلغراد عشرة أيام، وفي عزمي أن أذهب إلى بلغاريا وسلانيك وجبل لبنان، فتشكرت واعتمدت على السفر في الغد إلى صوفيا عاصمة البلغار.
بين بلغراد وصوفيا
قمنا من بلغراد إلى صوفيا عاصمة بلاد بلغاريا في قطار سكة الحديد المعروف بإكسبرس الشرق، وهو يأتي من باريس ويمر في بلاد النمسا والمجر والسرب والبلغار إلى الآستانة، والمسافة بين عاصمتي السرب وبلغاريا عشر ساعات، يسير القطار معظمها في بلاد السرب حتى ينتهي في مدينة تزاريبود، وهي من مدن بلغاريا عند الحدود السربية، وكانت مدة سيرنا في بلاد السرب شهية؛ لأن جبال البلقان الشاهقة كانت إلى يميننا وشمالنا، وبقية الأرض ملأى بالمزارع والحقول والعمائر يزرع القمح فيها والذرة، ولأهلها جد ونشاط مشهور، وفيها من بهائم الحرث شيء كثير، ومعظم أبقارها ضليعة رمادية اللون يصدرون منها ومن لحومها إلى سائر الأقطار مقادير كبرى، وقد ورد على القطر المصري منها عدد وافر أيام مرض البهائم. ومررنا على مدينة نيش حيث وقف القطار سبع دقائق، وهي من المدن السربية المهمة، لما قام القطار منها دخل في وسط جبال البلقان وصخورها رملية حمراء مهدوا في أسفلها طريقا للأرتال، فالسائر فيها يرى الجبال كأنها معلقة فوق رأسه، ولكن القطار الذي ذكرته كان متقن الصنع قليل الارتجاج حتى إنه يمكن الكتابة فيه. وتابعنا المسير بعد تزاريبود الكائنة عند الحدود حتى بلغنا صوفيا في العصر، وذهبنا إلى فندق بلغاريا، وهو قريب من قصر الملك والحديقة العمومية، وسيأتي ذكرهما.
بلغاريا
خلاصة تاريخية
إن تاريخ بلغاريا القديم يعد جزءا من تاريخ البلقان، فقد ساد على هذه البلاد الجنس الروماني والمقدوني والرومي والتركي، ولكن أصل البلغاريين الحقيقي سلاف من قبائل نشأت عند نهر فولكا اسمها بولغار، وكان رجالها أشداء دأبهم شن الغارات فما تمدنوا إلا في القرن التاسع على يد ملكهم بوريس الذي تنصر بإرشاد كيرلس ومتوديوس، وهما راهبان يونانيان أدخلا الديانة الأرثوذكسية إلى بلغاريا، وخلف بوريس ولده سيمون فقويت دولته واستولى على الفلاخ وقسم من بلاد المجر والأرناءوط ومقدونية، ولقب تسار أو قيصر كل البلغار، وكان من درجة إمبراطور بيزانس (الروم) في القسطنطينية، ولكن بعد وفاته كثرت الأحزاب والضغائن في هذه البلاد حتى ضعفت وسقطت في يد الدولة العلية سنة 1393، وأصبحت ولاية عثمانية تابعة في أمورها الدينية لبطريركية القسطنطينية، وقد رأت هذه البلاد من جور الحكام الأتراك والجنود ما رأت غيرها، فإنهم كانوا يستعبدون الناس استعبادا. قرأت في كتاب أن أحد الحكام اغتصب بنت فلاح وأخذها لمنزله فلما علمت أختها هربت إلى الجبال العالية وهي تنشد قصيدة مؤثرة عن اغتصاب أختها، وهي قصيدة يغنيها القوم إلى هذا النهار، ولكن البلغاريين حافظوا على جنسيتهم السلافية وعلى ديانتهم الأرثوذكسية، وكان لهم جمعيات سرية تسعى في الاستقلال، فلما انتقض الأروام على الدولة في سنة 1821 وأشهرت روسيا حربا عليها في سنة 1827 قوي حزب الاستقلال في بلغاريا، وقد تلا ذلك أن بلاد الفلاخ والبغدان ثارت في سنة 1857 وتبعتها البشناق والهرسك، فاقتدت بلغاريا بهذه الأمم في طلب الاستقلال، وطاف وفد بلغاري في عواصم أوروبا ليستغيث بأهلها من مظالم الأتراك، وقد حدث أن الأتراك قتلوا قنصلي فرنسا وألمانيا في سلانيك عامئذ، فكان لذلك دوي عظيم في كل أوروبا، وقام المستر غلادستون السياسي الشهير في إنكلترا يلقي الخطب ضد الدولة ليساعد البلغاريين على استقلالهم.
فرديناند ملك البلغار.
وأهم من كل ذلك أن إمبراطور روسيا إسكندر الثاني جمع سفراء الدول في قصره في بطرسبورغ في 12 أبريل سنة 1877، وقال لهم إنه لم يبق في طوقه ترك البلغاريين إخوانه في الجنسية والمذهب يقاسون العذاب الأكبر من ظلم الأتراك بعد أن مرت القرون عليهم في هذه الحالة، وإنه أشهر الحرب على الدولة لتنال بلغاريا استقلالها، وأمر عساكره أن تزحف في الغد إلى البلقان، فاشتبكت روسيا في حرب شعواء مع الدولة، وقد بدأت هذه الحرب ببعض النصرات للغازي مختار باشا وتقدمه على حدود الأراضي المسكوبية، ولكنه تقهقر بعد ورود نجدات قوية للجيش الروسي، وكذلك اشتهر القائد العثماني الغازي عثمان باشا في حصار بلفنا وقد نال شرفا عظيما من قيصر روسيا بعد تسليم سيفه؛ لأن الإمبراطور قابله مقابلة بطل ضرغام ورد إليه سيفه وهو يقول له إن مثلك لا يؤخذ منه السيف. وتقدمت العساكر الروسية بعد ذلك ففازت على القواد فؤاد باشا وسليمان باشا، وزحفت حتى وصلت سان ستفانو من ضواحي الآستانة، حيث عقدت معاهدة الصلح ما بين روسيا والدولة في شهر مارس سنة 1878، ثم أبدلت الشروط بمعاهدة برلين في العام التالي، وهاك نص شروط الصلح فيما يخص بلغاريا: أولا: استقلال بلغاريا تحت سيادة الدولة العلية. ثانيا: أن يكون الوالي مسيحيا ينتخبه الشعب البلغاري وتوافق عليه الدولة وممالك أوروبا، على شرط ألا يكون من أفراد العائلات المالكة في أوروبا حتى لا يميل في سياسته مع الدولة التي يكون هو منها. ثالثا: تعين لجنة عثمانية وروسية لفصل أملاك بلغاريا وتحديد التخوم قبل أن تبرح العساكر الروسية بلاد الروملي الشرقية. رابعا : تدفع بلغاريا جزية إلى الدولة العلية باعتبار دخل البلاد التي سلخت منها. خامسا: يعين كومسير عال مسكوبي لتنفيذ الشروط المذكورة، ويقيم في بلغاريا مع 50 ألف عسكري مدة سنتين حتى يمكن لبلغاريا أن تنظم جنودا لها لحفظ الأمن، ويكون لها مجلس نظار ومجلس نيابي ينظران في أمورها.
بقي بعد هذا أن بلغاريا تنتخب لها واليا، وقد وقع اختيارها على البرنس إسكندر باتنبرج من عائلة غير مالكة في ألمانيا، وكان الأمير يومئذ شابا في الثانية والعشرين من عمره، وقد عرفه البلغاريون؛ لأنه حارب معهم قبل ذلك الحين بعامين مع صفوف الجنود الروسية، وأقرت الدول الأوروبية والدولة العلية تعيينه، وكان البرنس إسكندر يوم انتخابه في حاشية القيصر في لفاديا؛ لقرابة بينه وبين القيصرة، فذهب وفد بلغاري إليها وعرض الإمارة عليه، فقبلها وحضر مع الوفد وحلف يمين الأمانة واستلم مهام الأعمال، فعمت الأفراح في طول البلاد وعرضها.
أما الروملي الشرقية المتاخمة لبلغاريا فإنها عين لها وال مسيحي لمدة خمس سنين يدفع جزية إلى الدولة ويكون تحت سيادتها، وانتخب لهذا المنصب عليكو باشا وهو رومي الأصل، ولكن ذلك لم يحل للبرنس باتنبرج ولم يوافق مطامعه؛ لأنه كان يريد توسيع مملكته وكان الشعب حيا سار على خطته فحركوا أهل الروملي الشرقية ومعظمهم سلاف أرثوذكس حتى ثاروا وانضموا إلى بلغاريا سنة 1885، وكان حاكم الروملي الذي سبق ذكره في قصره، فوفدت عليه فلاحة بلغارية ومن ورائها نحو ثلاثة آلاف من الأهالي أشاروا عليه بالفرار أو يقتلونه، ففر من البلاد وسر الأهالي سرورا عظيما.
وبينا هم وأميرهم في هذه المسرات وفد تلغراف على الأمير من جلالة قيصر روسيا يوبخه على عمله هذا، وصدر أمره إلى ناظر حربية البلغار - وهو روسي كان مندوبا من حكومة روسيا لتعليم الضباط البلغاريين فنون العسكرية - أن يترك بلغاريا هو وجميع الضباط الروسيين ويعودوا إلى أوطانهم حالا، ومع أن أمير بلغاريا رجا القيصر مرارا أن يعفو عن زلته فلم يفلح ووقع في حيرة؛ لأن حكومته لم تر كيف يمكن التخلي عن الروملي، وكان ميلان ملك السرب يطمع في ولاية الروملي الشرقية؛ ليعيد مملكة سربيا القديمة، فاغتنم فرصة الاستياء الذي أبدته روسيا وزحف بعساكره على صوفيا عاصمة بلغاريا ومعه 60 ألف عساكره - قام منها حالا ليدافع عن بلاده، واشتبك بقتال مع السربيين في موضع اسمه سلفنتزا، ومع أنه لم يكن معه إلا نصف عدد العساكر السربية فقد هزمهم شر هزيمة بفضل ما أبدى جنوده من البسالة وحسن قيادته لهم في تلك المعركة، ولكن هذا النصر لم يفد البرنس شيئا؛ لأنه سار على سياسة تضاد غاية روسيا، فظلت حكومتها واحدة عليه، وذاع بين الناس أن القيصر غير راض عنه وهو عند البلغاريين في أعلى منزلة، فنما في البلاد حزب العداء للبرنس إسكندر وساعده وكيل دولة روسيا المسيو نليدوف حتى أقدم بعض الضباط يوما على مؤامرة حملهم عليها ميلهم على روسيا واعتراف أهل بلغاريا جميعهم بفضله في إنالتهم الاستقلال؛ ولذلك طلبوا إلى البرنس أن يستعفي ويترك بلادهم ففعل في شهر أوغسطس سنة 1886، وذهب إلى النمسا واشتغلت الأفكار بأمره كثيرا، وكان معظم الأمة معه هاج مما جرى له فشكلت حكومة مؤقتة أظهرت أسفا مما حدث، وأرسلت تدعو البرنس إسكندر ليعود إلى إمارته، وكان رئيس هذه الحكومة الموسيو ستامبولوف، وهو أشهر وزير بلغاري في التاريخ الحديث. ولما رجع البرنس إسكندر إلى بلغاريا قابله الناس بسرور عظيم، ولكن قيصر روسيا أرسل إليه تلغرافا يعلنه باستيائه من هذا الرجوع فظهر للرجل أن بقاءه في مكانه رغما عن إرادة الحكومة القيصرية محال؛ ولذلك استعفى وبرح بلغاريا عائدا على النمسا وهناك تزوج راقصة بارعة الجمال، فنبذه الملوك والأمراء ومات حقيرا وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وقد أظهر البلغاريون حبهم له بنقل جثته ودفنها في بلادهم، وله مدفن سنذكره في باب السياحة.
وقد شكلت على إثر استعفاء البرنس إسكندر حكومة مؤقتة رأسها المسيو ستامبولوف وكانت غايتها المحافظة على استقلال بلغاريا، واهتمت الأمة لانتخاب أمير جديد ترضى به روسيا وبقية دول أوروبا، فوقع الانتخاب بقرار صدر من الجمعية العمومية في سنة 1887 على البرنس فردناند من آل كوبرج في النمسا، وهو حفيد لويس فيليب من عائلة أورليان الشهيرة في فرنسا من بنته البرنسيس كليمنتين التي اشتهرت بالفضائل، وصادقت الدولة العلية على هذا الانتخاب بفرمان صدر في السنة المذكورة، واعترفت الدول الموقعة على معاهدة برلين به أيضا.
وصل البرنس الجديد إلى صوفيا عاصمة بلغاريا في أواخر سنة 1882 وألف وزارة رأسها المسيو ستابولوف، وكان هذا الوزير ذا أثرة وإقدام، وكان يولي الناظر أو الحاكم الذي يريده حتى إنهم اتهموه بقتل بعض المعارضين له من أرباب الجرائد وغيرهم، وعليه أصبحت كل البلاد في قبضة يده، وكانت يده هذه من حديد حتى على نفس البرنس الذي أصبح آلة يحركها ستامبولوف كيفما أراد، وكان هو الحاكم المطلق في كل بلغاريا مدة سبع سنين، ولما كان لكل شيء حد ففي ذات يوم ذهب ستامبولوف إلى قصر البرنس؛ ليعرض عليه مسألة قال إنها إذا لم تنته على الطريقة التي يريدها فإنه يستعفي، فلما توقف الأمير خرج ستامبولوف مغضبا وهو يظن أنه لا بد للبرنس أن يسترضيه، ولكن البرنس كان قد مل استبداد وزيره فأرسل إليه كتابا بقبول الاستعفاء. وحدث بعد مدة ليست بطويلة أن ستامبولوف كان خارجا من نادي الأحرار ليعود إلى منزله فهاجمه ثلاثة رجال بالخناجر وأثخنوه بالجراح، وهو يدافع ما استطاع عن نفسه حتى وهنت قواه وسال الدم من رأسه ويديه، فنقل إلى منزله حيث أدركه لأطباء، ولكنه توفي بعد أن قاسى أشد الآلام ثلاثة أيام. وشكلت بعد وفاة ستامبولوف وزارة جديدة تحت رئاسة استوبلوف، فكان أول عمل قامت به أنها سعت في إرضاء روسيا، فذهب البرنس فردناند إلى بطرسبورغ وقابل الإمبراطور وتقرر في هذه المقابلة أن ولي عهد بلغاريا البرنس بوريس يعتنق المذهب الأرثوذكسي ويكون الإمبراطور عرابه، وبذلك أرضى البرنس روسيا وكسب محبة أهل بلاده؛ لأن أمة البلغار أرثوذكسية مثل أكثر دول البلقان. ولما اشتهر ذلك أرسل أمير الجبل الأسود إلى أمير بلغاريا تلغرافا، هذا نصه: «إني أهنئك يا أخي بدخول ولدك ولي العهد في كنيستنا المقدسة الأرثوذكسية واتحادنا السلافي، فبالأصالة عني وبالنيابة عن كل شعبي أسديك التهاني، وأدعو لولدك الذي سيحكم بلغاريا بطول العمر فليحيا الإمبراطور نقولا الثاني عراب ولدكم.»
وقد ظل أمير البلغار من ذلك العهد يسعى في الاستقلال التام وتلقيب نفسه بلقب ملك أو تزار حتى أعلن الدستور العثماني سنة 1908، وأعلنت حكومة بلغاريا استقلالها التام في بلغاريا والروملي الشرقية وصيرورتها مملكة ونودي باسم فردناند الأول ملكا (تزار)، واختارت المملكة الجديدة لرايتها من الألوان الأبيض والأحمر والأخضر. وأما الملك فردناند فجملة ما يقال في تاريخه أنه ولد في فيينا سنة 1861 واقترن أولا بالبرنسيس لويز السالف ذكرها في سنة 1893، ثم اقترن بعد وفاتها بالبرنسيس إلينورا من آل روس الألمانية، ورزق من زوجته الأولى البرنس بوريس وهو ولي العهد ولد في صوفيا في سنة 1894، وولدا آخر اسمه إسكندر ولد سنة 1865، وابنة اسمها أودكسيا ولدت في سنة 1898، وابنة أخرى اسمها نديجدا ولدت في سنة 1899.
وقد أحصي سكان بلغاريا سنة 1905 فكانوا 4035615، منهم 13346773 أرثوذكس و603113 مسلمون و37653 يهود، و29442 كاثوليك و12694 أرمن أرثوذكس و5402 بروتستانت، وعدد جيشها في وقت السلم مائتا ألف محارب، ويقال على الجملة إن الملك فردناند سهران على تقدم بلاده، وأعماله ظاهرة مما أتى منذ ارتقى العرش، وهو يميل إلى بساطة المعيشة ويربي أولاده على الصلاح وعمل الخير.
صوفيا
كانت عاصمة بلغاريا قبل استقلال هذه البلاد قرية صغيرة، ولكنها تمت حتى أصبحت من المدن العامرة لا يقل عدد سكانها عن تسعين ألفا. والبلغاريون ذوو وطنية وشمم، لما نالوا غايتهم من الاستقلال وصار لهم ملك يغار على مصالحهم ويسهر على أعمال دولتهم، اهتموا بتحسين هذه العاصمة وإعادة بنائها على رسم جديد، وجعلوا فيها من الأبنية العمومية ما يستحق الذكر، من ذلك قصر السوبرانا أو هو مجلس النواب، وهو قصر جميل فخيم البناء، ونادي الضباط ونظارات الخارجية والحربية والمالية والبوسطة العمومية والمدرسة الحربية والمدرسة الجامعة والبنك الأهلي والتياترو، وسنأتي على وصف كل منها على حدته. وقد أنشئوا حديقتين، إحداهما داخل المدينة والثانية خارجها، ومدوا خطوط الترامواي في كل جهات العاصمة تسهيلا للنقل، منها خط إلى أسفل جبل فيتوش من جبال البلقان مسافة بضعة كيلومترات، حتى إن الناس يشترون هنا الأرض ويبنون منازل فيها، وقد اتبعوا في ذلك الطريقة الأميركية، أي إنهم يمدون سكك الحديد في البراري، وبعد مرور السنين تقوم مدن عامرة فيها فتم لهم ذلك؛ لأن هذه الأراضي كانت في البدء تباع بالفدان أو الدنم وهي تباع الآن بالمتر. وقد وجد في العاصمة مياه معدنية تشفي من ألم المعدة فبنوا حمامات كثيرة الاتساع على شاكلة حمامات فيشي، وفي أثناء تجولي في العاصمة رأيت أن البناء قائم على ساق وقدم خصوصا في تبليط الشوارع، وقد اختاروا الطوب الأصفر؛ لأنه يسهل السير عليه للعربات فضلا عن نظافته، وهو يكنس مرتين في كل يوم، وما اكتفوا بتحسين عاصمتهم حتى إنها صارت تعد من العواصم الجميلة، بل أظهروا ميلهم الشديد للمنافع العمومية، مثل مد سكك حديدية وبناء قناطر ولا سيما المدارس الابتدائية في كل القرى، ولهم مدرسة جامعة في روستشوك عظيمة جدا، ولهم ميل زائد للعسكرية.
أخذت ترجمانا من الفندق للتفرج على ما في هذه العاصمة، فبدأت بشارع المحرر (أي القيصر إسكندر الثاني)، وفيه قصر الملك بني على مرتفع محل السراي التركية وسط حديقة فيها كل أنواع الشجر والزهر، وقد دخلت القصر بعد الاستئذان من الباب الخارجي حيث وقف بعض العساكر فدرت في الحديقة، ثم صعدت مع أحد العمال من سلم رخام إلى الدور الأعلى من القصر، ورأيت في إحدى قاعاته صور قياصرة الروس وصور الوقائع الحربية في شبقا مع عساكر الدولة العلية، وصورة الواقعة الحربية ما بين البلغاريين والسرب كان الفوز للبلغار، وصورة ماري لويز زوجة الملك راكبة جوادا أبيض ولابسة كسوة جنرال؛ لأن أحد الألاليات سمي على اسمها، وصورة عماد ولي العهد على المذهب الأرثوذكسي، كما أوضحناه في المقدمة. أما الملك وزوجته وبناته فعلى المذهب الكاثوليكي، وقد جعلوا في قصر ملك بلغاريا كنيستين في الدور الأول منه، إحداهما كاثوليكية يذهب إليها البرنس وزوجته وبناته، والكنيسة الثانية أرثوذكسية يصلي فيها ولي العهد وأخوه، ويكون معهما رئيس مجلس النظار والنظار والتشريفاتية والياويرية، والقاعات في هذا القصر كثيرة العدد، رأيت في واحدة منها صورة البرنس إسكندر باتنبرج وصورة الملك الحالي ضمن أفاريز مذهبة، ثم انتقلنا إلى قاعدة رحبة معدة للحفلات الموسيقية، يجتمع فيها الملك وأفراد عائلته والنظار والسفراء وعائلاتهم، ومن بعدها قاعة الرقص تضم ألف شخص وقد علق فيها ست ثريات من النحاس الأصفر المذهب تنار بالكهربائية، ويليها قاعة الطعام طويلة تكفي لمائة مدعو أو أكثر فلا يمكن وصف ما يحوي هذا القصر من التحف والأواني وغير ذلك، ولكنني أقول إنه يعد من القصور الجميلة ما بين قصور ملوك أوروبا. ولما خرجت من هذا القصر بلغت نادي الضباط ولا يجوز الدخول إليه، ولكنهم يقيمون فيه حفلات يدعون إليها وجوه البلد وأحيانا تصدح الموسيقى في حديقته فتسمعها المارة من هذا الطريق، وهذا النادي قصر واسع عظيم قال المؤلفون الأوروبيون إنه يضارع النادي العسكري الشهير في برلين، وأنا أرى رأيهم فيه أيضا. وعلى خطوات قليلة من هذا النادي نظارة الخارجية بنيت على أحسن هندسة ونظام، قابلنا فيها المسيو ديمتروف مستشار الخارجية فأعطانا بعض كتب عن البلغار، وبعد الخارجية بناء السوبرانا، وهو مجلس النواب بني على أكمة قائمة بنفسها فزاد ذلك في رونقه وفخامته، وقد نقش فوق بابه شعار الحكومة، دخلناه من سلم رخامي صغير إلى القاعة الكبرى محل اجتماع النظار والنواب، فرأينا في صدرها العرش وهو عال ومذهب ومفروش بقطيفة حمراء، وفوقه مظلة يجلس إليه الملك عند افتتاح البارلمان ومنه يتلو خطابه السنوي، وقد وضعوا في هذه القاعة صور المسيح وأمامه قنديل ينار ليلا ونهارا، وللقصر قبة شاهقة تظهر من بعيد وكل شيء فيه يدل على النظافة والرونق والذوق. ثم دخلنا قاعة فيها صور رؤساء النظار منذ تأسيس الحكومة واستقلالها وهم يسيرون على هذه الطريقة إلى ما شاء الله، فتجتمع عندهم مجموعة صور تذكرهم بأعمال رجالهم، وجميع هذه الصور عملت بالقد الطبيعي وبالأردية الرسمية والنياشين ووضعت ضمن براويز مذهبة. وهناك قاعات شتى، منها للراحة والمسامرة والمطالعة ومكتبة ومطعم، وتجاه البارلمان ميدان فسيح فيه تمثال الإمبراطور إسكندر الثاني.
وقد مر في المقدمة التاريخية أن هذا الإمبراطور أنال بلغاريا استقلالها، فما اجتمعت ببلغاري إلا وكل أمياله روسية، والتمثال المذكور من أحسن صناعة ما رأيت أحسن منه، والقيصر فيه راكب جوادا وهو بملابسه الحربية ينظر إلى حصار بليفنا، والحصان واقف فوق قاعدة ضخمة من الصوان الأزرق، وفي هذه القاعدة من الأمام رسوم بارزة لنحو أربعين قائدا من القواد الروسيين مثل سكوبليف وغيره، بعضهم على ظهور الخيل والبعض يشيرون بسيوفهم إلى الأمام. وعلى الوجه الآخر من القاعدة كتب من «بلغاريا المتشكرة»، ولا يبعد من هذا التمثال مدفن البرنس إسكندر باتنبرج أمير بلغاريا السابق، دخلناه من حديقة لطيفة محاطة بسور من حديد مذهب، وقد بادر الخادم وفتح باب المدفن فرأيناه من الرخام الأبيض الناصع، وحول المدفن آثار من أكاليل وأعلام قدمت في يوم دفنه، وهناك خزانة من زجاج فيها كسوته وسيفه وقبعته. ثم مشينا لجهة الشمال وهناك تمثال أحد البلغاريين من أبناء هذه العاصمة يدعى واسيليفكي كان من قادة الثورة وقتله الأتراك في هذا المكان، فأقيم فيه تمثاله.
هذا أهم ما يرى في هذا الشارع خارجا عن البلد، أما القسم الآخر منه لجهة البلد فاسمه شارع التجارة، وفيه المخازن والقهاوي وحركة الأشغال والأعمال، رأيت أحد موظفي الصحة يراقب بداخل الحوانيت لبيع لمأكولات، فقال لنا الترجمان ليس الغرض من ذلك فحص المأكولات والموازين فقط، بل عليه ملاحظة النظافة، فإن وجد وساخة عوقب صاحب الدكان. وقد حانت هنا مني التفاتة إلى جامع ومئذنة، فاستأذنت الشيخ بالدخول فرافقني لداخله وقرأت على الجدران أسماء عمر وعلي ومصطفى، وعلى جدرانه خارجا هذه الجملة: «عجلوا بالصلاة قبل الفوت» «وعجلوا بالتوبة قبل الفوت»، وقد قال هذا الشيخ إن بقية المسلمين هنا 25 عائلة فقط، والباقون هجروا البلاد، وفي هذه الجهة قام بناء سوق عمومية من الحجر في غاية الاتساع، وقد وجدوا هنا مياها معدنية تشفي من مرض المعدة فبنوا حمامات على شاكلة حمامات فيشي في فرنسا، وهي تضم نحو ألف شخص في آن واحد، وهذا شيء كثير على بلد تعد بتسعين ألفا، وقد أخبرني ذلك فرنسوي مقيم في صوفيا، وهو الذي قال لي إن السوق الجديدة ستكلف ستين ألف جنيه، وأظن على الجملة أن بلغاريا صرفت مليار فرنك في تحسين عاصمتها ومدنها وأمورها النافعة، وكأني باليهود أرادوا أن يظهروا وطنيتهم ويقتدوا بالحكومة، فإنهم بنوا معبدا دخلناه وهو على وشك النهاية، له قبة ترى من كل جهة لعلوها وهو واسع جدا، وقبته وجدرانه مموهة بالذهب، وقد صرف عليه سبعمائة ألف فرنك لحد الآن مع أن اليهود هنا لا يزيدون عن اثني عشر ألفا، وفي هذه الجهة كنيسة أرثوذكسية للرومانيين وأخرى للسرب يصلون بها بلغاتهم.
تمثال الإمبراطور إسكندر الثاني.
ولصوفيا حديقة عمومية تدعى حديقة إسكندر بالقرب من قصر الملك يؤمها خلق كثير في كل يوم قبل الغروب وتصدح فيها الموسيقى، وفيها مطعم وهم يضعون المنضدات والكراسي ما بين الأشجار، ومطعم آخر بني من غير أعمدة في الوسط تقام فيه حفلات موسيقية ورقص، فيه نحو 60 منضدة صغيرة للطعام، قال لنا شكري بك السكرتير الأول لسفارة تركيا - وأصله من عنتاب القريبة من حلب - إنهم بنوا هذا المكان الواسع بسرعة غريبة. وحول الحديقة المذكورة نظارة الحربية والتياترو الكبير تجسدها عاصمة القطر المصري على حسن وضعه وجماله بناه مهندس نمسوي عالم خبير على أحسن طراز جديد، فلما دخلناه وتأملنا دائرة اللوجات (الغرف) رأيناها على كثرة عددها واتساع المرسح في دائرة صغيرة، وما ذلك إلا من حسن الهندسة، فذكرت تياترو لاسكالا في ميلان، وبالقرب من المرسح غرفة الملك وهي مذهبة ورياشها أطلس أحمر. ويقال على الجملة إن هذا الملهى يذهل الرائي بحسن شكله وزخارفه ونقوشه تدل على الفنون الموسيقية. والبناء منفرد تحيط به طرق زينت ببديع الأزهار والأغراس من كل جانب. وحول الحديقة المذكورة بنايات أخرى مثل نظارة الحربية والبنك الأهلي، وهما بنايتان فخيمتان، والمتحف فيه آثار قديمة أكثرها حجارة كبيرة تمثل وقائع حربية من أيام الرومانيين وقبور من ملوك هذه المملكة، وقطع حجار من المعابد الرومانية، وهذا المتحف أصله جامع كبير قائم على ثمانية عمد ضخمة. وهنالك أيضا حديقة يتنزه بها الأهالي في طرف البلد تدعى حديقة بوريس على اسم ولي العهد؛ لأنها متصلة بغابات لا يرى المرء آخرها، أنشئوا بها ناديا لألعاب الكرة يجتمع فيه وكلاء الدول وعائلاتهم. والبلغار قوم يميلون إلى الحرب والقتال، فإنهم بنوا مدرسة حربية على مرتفع في أطراف العاصمة ذات ثلاث طبقات، وهي طول قصر عابدين بمصر تقريبا، وقد تكلمت عن جميع هذه البنايات العمومية والمتحف وغير ذلك بمجرد النظر والسؤال عنها من هذا وذاك. ولو كان في عاصمة البلغار دليل يفيد السائح فيما يريد أن يحيط به علما مثل عواصم أوروبا، لكان من وراء ذلك فائدة كبرى، وقد أعلنت هذا النقص لمن يهمهم هذا الأمر، فقال لي أحدهم إنه سيكتب دليلا لبلاده بالإنكليزية والألمانية.
وفي هذا اليوم توجهنا لسماع الصلاة باللغة البلغارية، وحقيقة الحال أن الأنغام التي سمعتها من المرتلين وهم يقفون داخل جدار من الشعرية من خيرة ما ينشد من هذا القبيل، وقد سألت إذا كان مع جوقة المرتلين أرغن، فقيل لي إنه لا يجوز الأرغن في الكنائس الشرقية، والكنيسة المذكورة كبيرة جدا لها قبب وأصلها جامع.
وفي هذا اليوم بعد الظهر ذهبنا إلى جبل البلقان اسمه فيتوش في هذا المكان، وقد سبق ذكره، يبعد ساعة تقريبا علوه 1400 متر، وقد مدوا خط تراموي هنا عاد بالنفع فكثرت في هذه الجهة القرى والمزارع والمنازل والحدائق لحد الجبل، وبأسفله عدة مطاعم وقهاوي تصدح فيها الموسيقى جلست في إحداها ما بين جماهير الناس، وهم إذا سمعوا النشيد الوطني أظهروا علامات الفخر والسرور والأولاد يطربون ويرقصون، فالبلغاريون يحبون وطنهم محبة العبادة ويفتخرون بجنديتهم. وفي أسفل هذا الجبل مياه كبريتية بنيت عندها حمامات يؤمها خلق كثير للاستحمام من العاصمة والمدن الأخرى.
وقد كان يومنا هذا 15 أوغسطس، وهو عيد جلوس الملك فردناند، وكان جلالته في مصيفه في فارنا، فقام القوم باحتفال عظيم في طريق جبل البلقان المار ذكره، حيث نصب سرادق فخيم لوكلاء الدول والنظار وأصحاب المقامات في العاصمة، فعند وصولنا للسرادق رأينا منه أن العساكر كانت مصطفة مشاة وفرسانا ومدفعية، وكان ناظر الحربية راكبا جوادا وإلى جانبه مندوبون حربيون من قنصليات إنكلترا وفرنسا والسرب بكساويهم ونياشينهم وهم على خيولهم، فقبل الابتداء بالمناورة الحربية أقيمت الصلاة بداخل السرادق من الإكليروس، وكان المرتلون من الجنود، وبعد نهاية الصلاة تقدم النظار وقبلوا الإنجيل ثم أمر ناظر الحربية أن تتحرك عساكر المشاة، فمشت صفوفا، كل فرقة وأمامها الموسيقى والعلم المختص بها، وكانت كل فرقة إذا بلغت السرادق ومرت تحيي ناظر الحربية، وهو ينادي ليحيي الجيش فيجيبه الجنود بمثل ندائه، ولما انتهت فرق المشاة من هذه الحركة تبعتها فرق الفرسان برماحها، ثم رجال المدفعية بمدافعها، وكان ذلك ختام الموكب، وحسب العادة أقفلت المصالح العمومية، ورفعت بأعلاها الإعلام البلغارية وبطلت الأعمال وتوارد ألوف الناس ليشاهدوا موكبا يذكرهم بحريتهم واستقلالهم.
وفي هذا اليوم دعاني حضرة المسيو سمنتوسكي المعتمد السياسي وقنصل جنرال دولة روسيا لمناولة الطعام في منزله، وهو - أي المنزل - قصر فخيم بنته الحكومة الروسية على نفقتها، مفروش بأحسن الأثاث ولا تقل قيمته عن ثلاثين ألف جنيه، وأذكر هنا عادة عند الروسيين ما سمعت عنها قبلا، وهي أنه بعد الفراغ من الطعام قام القنصل وقبل زوجته وهي قبلته وولده قبل شقيقته وهي قبلته أيضا، وكان السير ياكنون المعتمد السياسي وقنصل جنرال دولة إنكلترا قد دعانا أيضا للعشاء، وعلمت من حضرة زوجته أنها تقضي فصل الشتاء في لندن؛ لأن البرد شديد هنا وسببه قرب جبل البلقان من البلد، وأنها تود أن تقضي بعضا من فصول الشتاء في مصر، إذ طالما سمعت من الإنكليز عن اعتدال الطقس فيها، فودعنا هذه العائلات الكريمة واعتمدنا أن نبرح صوفيا في الغد إلى سلانيك، والمسافة بينهما 20 ساعة بسكة الحديد.
بين صوفيا وسلانيك:
قام القطار من صوفيا في الساعة الحادية عشرة مساء، ومر في بلاد السرب حتى إذا وصلنا مدينة زبقجة، وهي الحد الفاصل ما بين السرب وولاية سلانيك، انتقلنا إلى قطار آخر سار بنا في ولاية سلانيك، وفيها المدن والقرى آهلة بالسكان من أتراك وبلغاريين وسربيين وأروام وأرناءوط، وجميعهم على مختلف مذاهبهم وأجناسهم ولغاتهم يقيمون في بلد واحد أو قرية واحدة، والأراضي في هذه الولاية خصبة تجري في سهولها الأنهر والجداول، رأيت فيها كثيرا من شجر التوت، ولا يخفى أن الدستور العثماني نبت في هذه البلاد، وفيه عقدت الاتفاقات والجمعيات على بذل كل غال ورخيص للحصول عليه كما هو معلوم ومشهور، وكان الدستور قد أعلن منذ شهر؛ ولذلك كانت الحركة عظيمة في هذه البلاد أثناء مرورنا، ولا سيما لأنه كان معنا أفراد من حزب تركيا الفتاة الذين نفتهم الحكومة أو فروا وقد عادوا إلى سلانيك، فكان كلما بلغ القطار محطة - وهي كثيرة العدد في هذه الجهات - يجتمع فيها الجم الغفير من كافة الملل والنحل، ولكل منها أزياء خاصة تعرف بها ليرحبوا بالقادمين من إخوانهم ويعانقوهم عند اللقاء، وكلما قام القطار هتفوا لهم فلتحيا الحرية، كل واحد بلسانه. ودخل القطار في أوسكوب عاصمة إقليم نوفي بازار، وهي مدينة عامرة فيها نحو 50 ألف، كان حضرة قنصل السرب الجنرال بمصر قد أشار علي أن أقضي فيها يوما، ولكنني وجدت حرها يومئذ شديدا وترابها كثيرا، وقد قال لي أحد أهاليها إن هذه المدينة غير مبلطة، وكل ما كان يجمع من الأهالي لتبليطها كان يذهب إلى الجيوب، فلا يمكن وصف طريق قضينا به 20 ساعة لحد سلانيك، وهو طريق جبال عالية أو منخفضة وسهول ونجاد ووهاد، وكان نهر وردان سائرا معنا من إسكوب إلى سلانيك حتى دخل القطار محطتها، ومنها ذهبنا إلى فندق أولمبيا المبني على شاطئ البحر.
وبهذا انتهيت هنا من سياحتي في رومانيا والسرب والبلغار ومقدونيا، ومن شاء أن يتبع طريقتي هذه في السفر فإنه يرى قسما كبيرا من البلقان في مدة شهرين، وما عليه غير أن يذهب من إسكندرية إلى قسطنسة، وهي ثغر رومانيا، ومنها يركب قطار سكة الحديد شرقا إلى بخارست عاصمة رومانيا مسافة 6 ساعات، ومنها إلى مدينة أورسوفو الواقعة في أول حدود السرب مسافة 10 ساعات، ومن هذه يركب باخرة في نهر الطونة لحد بلغراد عاصمة السرب مسافة 15 ساعة، ومن بلغراد إلى صوفيا عاصمة البلغار مسافة 10 ساعات، ومن صوفيا إلى سلانيك 20 ساعة، جميع ذلك مسافة 46 ساعة بالسكة الحديدية و15 ساعة في نهر الطونة.
سلانيك
سألت كثيرين عن تعدادها، فكان كل يختلف بالقول عن الآخر، ولكن المرجح أنها تعد بمائة وخمسين ألفا، منهم 60 ألفا من اليهود والبقية أتراك وأروام وأجناس مختلفة، والسبب في كثرة اليهود هنا أنهم رحلوا من إسبانيا وجاءوا هذه الجهة وما زالوا يتكلمون لغة الإسبان. أما موقع البلد فعلى البحر يشبه موقع أزمير أو هو أحسن منه؛ لأن الرصيف الممتد فيه غرست إلى جانبيه الأشجار تحدها المنازل على الشمال والبحر على اليمين، وهذا الرصيف أطول وأعرض من رصيف أزمير ومنازل سلانيك في آخر هذا الرصيف أكثرها للأوروبيين من أصحاب اليسار، لكل منهم منزل داخل حديقة جميلة تشرف على البحر، وقد مدوا خطوط الترامواي من عهد قريب، والخط يسير إزاء البحر من أول الرصيف المذكور إلى آخره في مسافة نصف ساعة، وهو للشركة البلجيكية التي احتكرت كل المشروعات من هذا القبيل في رومانيا والسرب ومصر وبيروت، وعدا الترامواي هذا فإنه يوجد خط آخر للبواخر الصغيرة تمخر في البحر إزاء الرصيف من أوله إلى آخره، وفي المحطة الأخيرة لهذه البواخر قصر اللاتيني الذي نفي إليه السلطان عبد الحميد بعد عهد الدستور، فسبحان مغير الأحوال! وفي هذا الرصيف محطات للبواخر يذهب الناس منها إلى أحيائهم أو يعودون منها، فحركة الانتقال لا تبطل من الصباح لحد نصف الليل. قلت: إن الرصيف ممتد إزاء البحر تمتد منه شوارع لجهة الجبل تعد بالعشرات، فيها الحوانيت ومواضع التجارة والأسواق بعضها مسقوف مثل أسواق دمشق، وبعضها عريض ولا سيما في أواخر هذا الرصيف، وقد غرسوا الشجر إلى الجانبين. فسلانيك على الجملة أجمل من مدينة أزمير. أخذت دليلا من الفندق وهو - كما سبق القول - مبني على البحر، وأمامه ساحة دعيت من بعد الدستور ساحة الحرية، فيها الفندق المذكور وفنادق أخرى تشرف على البحر، وقهاوي يجتمع فيها خلق كثير حتى لا يبقى مكان خاليا من كثرة عددهم وخصوصا بعد الغروب. وقد ذهبنا في أول الأمر إلى جهة الجبل أو التلال سائرين صعدا حتى بلغنا جهة فيها قصر الوالي والمجالس والمصالح الأميرية.
وذهبت من هنالك إلى جامع أصله كنيسة على اسم مار جرجس من أيام دولة بيزانس (الروم) واسمه الآن خور طه جي جامع، فأرانا الدليل في بنائه الخارجي بركة ماء صنعت من الرخام الأبيض، وقد أعدت للوضوء، ثم دخلنا الجامع فألفيناه كبيرا واسعا له قبة شاهقة حولها صور الملائكة والقديسين، مثل بطرس وبولس ويوحنا المعمدان والعذراء وصورة المسيح يبارك الشعب، كل ذلك ظاهر للعيان لم يطمسوه مثل ما حصل في كنيسة آيا صوفيا في الآستانة، وكل هذه الصور مصنوعة بالفسيفساء ولم يغيروا هيئة الكنيسة ولكنهم بنوا منبرا عليه علمان من اللون الأخضر، كتب عليهما «لا إله إلا الله»، ومحرابا من رخام حفر فيه آيات قرآنية، وكتب على الجدران بالخط الكبير اسم الجلالة ومحمد وعلي وعمر، ثم ذهبنا إلى جامع آخر دعي قاسميه جامع أصله أيضا كنيسة على اسم مار ديمتري، يظن الداخل إليه أنه في كنيسة، وهذا الجامع لا يقل اتساعا عن جامع السلطان حسن في مصر، وهو أيضا بني في مدة مملكة الروم ولم يتغير شكله الأصلي، ولكنهم أضافوا المنبر والمحراب والمئذنة وتركوا الصور جميعها على حالتها الأصلية على الجدران والركائز والسقف ما عدا الصور من جهة القبلة. والصور هنا كثيرة صنعت بالقد الطبيعي من الفسيفساء وهي تلمع وتسطع كأنها تم عملها الآن ولا سيما الصور التي نقشت على العمد والأركان، والفسيفساء قطع من الزجاج صغيرة مثل رأس المسمار يلصقون بعضها ببعض ويلونونها بألوان تشبه ألوان البشر والملابس، ويطلونها بالذهب ولا بد في صنعها من الصبر الطويل والعناية الفائقة، ويوجد على بعض جدران هذا الجامع كتابات باللغة اليونانية باقية لحد الآن، لم أتمكن من ترجمتها. والكنيسة بنيت من دور أول للرجال قائم على أعمدة رخامية ضخمة، بعضها من الرخام الأخضر وهو نادر الآن، وفي الدور الأعلى المعد للنساء عمد خضراء كهذه أيضا ولكنها مستدقة .
وقد رآني شيخ الجامع ولحظ أني أعد الأعمدة فأخبرني أنه 112 عمودا، وبأعلاها تيجان من الرخام مزخرفة بأدق النقوش، وأشار إلى قبر لصق جدران الجامع وهو بارز مقدار متر، فقال إنه قبر ابنة ملك الروم، وأراني أيضا في صحن الجامع قطع رخام كبيرة عليها صلبان وكتابات باللغة اليونانية، قال إن تحتها قبور الأساقفة وأراني قطع رخام كبيرة على الجدران من اللون الأحمر والأبيض معرقة مثل ما يحاك على القماش، فقال إن سائحا إنكليزيا دفع للجامع 5000 جنيه ليأخذها إلى متحف لندن فلم يقبل طلبه. ولا يبعد من هذا الجامع قوس نصر تخربت، ولكن ما زال القسم الواطئ منها باقيا، وهو من الرخام الأصفر، وفيه تماثيل قواد ومواقع حربية فيها لأسرى ذات صناعة بديعة يندهش المرء من رؤيتها، ولا يمكن التعبير عنها بالكتابة. ومن سوء الحظ لا يوجد في سلانيك كتاب دليل يستدل منه على تاريخ بناء هذه الجوامع والقوس لإفادة القارئ.
وفي سلانيك حديقة للبلدية هي أحسن محل لتمضية الأوقات، والوصول إليها هين بالعربة أو الترامواي أو بباخرة البحر، وهي كبيرة فيها كل أنواع الأشجار والزهور ومطعم وقهاوي وتياترو، ومنها ذهبت لزيارة دولتلو حسين حلمي باشا مفتش إصلاحات مقدونيا الذي كان له اليد الطولي في تقرير الدستور، وكانت المخابرة معه من يلدز وصار فيما بعد صدرا أعظم، ودولته رجل طويل القامة عالي الجبهة له عينان سوداوان براقتان، وكل ملامحه وأقواله تدل على مدارك سامية، أقام السنين واليا على بيروت ولا ريب أنه يحفظ الود؛ لأنه كلفني أن أبلغ سلامه إلى كثيرين من ذوات بيروت سماهم بأسمائهم.
وفي هذا اليوم أظهرت رغبتي للترجمان، وهو الدليل الذي كان يرافقني من الفندق في الإشراف على موقع سلانيك من محل مرتفع؛ فذهبنا إلى طرفها من جهة الجبل، وقد رأيناها بكل أجزائها وجوامعها وكنائسها وأحيائها وضواحيها والمراكب الراسية في مينائها، وفي الغد برحتها مع الوابور النمساوي في 19 أوغسطس إلى فولو عاصمة تساليا من مملكة اليونان، حيث رست الباخرة 6 ساعات تجولت في أثنائها في أحيائها، وجميعها مبنية على شاطئ البحر، ومن ورائها جبال وهي آهلة بالسكان. وفي الغد - أي 20 منه - وصلنا بيرية أسكلة أثينا، وفي نفس اليوم سافرنا منها بباخرة يونانية إلى الإسكندرية فوصلناها في 23، ومنها سافرنا في 26 إلى بيروت فجبل لبنان لتمضية الباقي من الصيف، ثم عدنا لمصر وكان ذلك خاتمة السياحة، والحمد لله على كل حال.
Bog aan la aqoon