وقد أبدى الجيش العثماني بقيادة «رشيد باشا» في محاصرة أتينا من المهارة والشهامة ما أبقى له ذكرا عاطرا في التاريخ، فقد جمع هذا القائد العثماني الجليل بين منتهى الشهامة العثمانية ومنتهى الإنسانية التي أمر بها الشرع الشريف.
وإن انتصار جيش «رشيد باشا» على ثوار اليونان في أتينا لمن الانتصارات المعدودة في تاريخ الحروب البشرية، فقد كاد السير «روبرشرش» نفسه يقع أسيرا في قبضة العثمانيين لولا أنه عند الهزيمة ألقى بنفسه إلى البحر حتى أدرك مركبا كانت بالقرب من الشاطئ.
ولما رأى القائدان الإنكليزيان أن لا مناص من التسليم وسقوط أتينا وقلاعها في أيدي العثمانيين، سألا قومندان مركب «جومون» الفرنساوية أن يتوسط بين اليونانيين والعثمانيين في أمر الصلح، فأجاب سؤلهما وكتب بذلك إلى «رشيد باشا»، فقبل القائد العثماني الشروط التي عرضها عليه المسيو «لوبلان» قومندان مركب «جومون» وهي: نزع السلاح من الجنود اليونانية، وترك الحرية المطلقة لكل من أراد السفر من أتينا، ومعاملة الذين يريدون البقاء فيها بالحسنى وعلى الخصوص الجرحى منهم. ولما علم السير «شرش» بقبول «رشيد باشا» لهذه الشروط فرح كثيرا، واندهش غاية الاندهاش من هذا الاعتدال العظيم الذي أظهره ظافر كبير كرشيد باشا.
ولكن ثوار اليونان أرادوا أن يظهروا شيئا من الشهامة التي كان يترنم بها أنصارهم في أوروبا، فرفضوا هذه الشروط وأبوا تسليم قلاع أتينا، ولو كان «رشيد باشا» رجلا وحشيا كما قال عنه ذلك كذبا أنصار اليونان في أوروبا لكان دخل أتينا جوابا على وقاحة ثوار اليونان وشهامتهم الكاذبة، وقضى عليهم وعلى جنودهم وضباطهم شر قضاء، ولكنه تأنى في الأمر، واستعمل الدعة التي جبل عليها رعاية للأبرياء من سكان أتينا.
إلا أن «رشيد باشا» أنذر السير «شرش» بأنه إذا لم تسلم أتينا وقلاعها للجيش العثماني في أقرب زمن هاجم المدينة، وكان حرا في عمله غير ملوم، فأرسل السير «شرش» بتاريخ 12 مايو سنة 1827 إعلانا لثوار أتينا وضباطها أمرهم فيه بوجوب التسليم، وأنذرهم بسوء العاقبة إن خالفوا أمره.
ولكن ثوار أتينا جروا على خطتهم الأولى، ورفضوا الامتثال لأوامر السير «شرش» أي لأوامر قائدهم ورئيسهم.
فلما رأى ذلك «رشيد باشا» كتب إلى المسيو «لوبلان» قومندان مركب «جومون» كتابا في غاية اللطف والرقة أظهر فيه أنه عمل كل ما في وسعه للمحافظة على أرواح الأبرياء اليونانيين القاطنين بأتينا، ولكن خطة ثوارهم تحمله على اتخاذ طريقة أخرى للاستيلاء على أتينا، وعندئذ أعلن السير «شرش» ثوار أتينا بأنه يتركهم وأنفسهم؛ لعدم امتثالهم لأوامره، فوقعوا في حيص بيص، وارتبكوا أشد الارتباك، وانتهزوا فرصة وجود مركب نمساوية في الميناء، فسألوا قومندانها التوسط بينهم وبين «رشيد باشا» في أمر تسليم المدينة وقلاعها بطريقة سلمية، فسلم هذا الضابط النمساوي طلبهم للمسيو «دي ريني» قومندان مركب «سيرين» الفرنساوية، فاستلم هذا الأخير الطلب، وأخذ يخابر «رشيد باشا» مدة ثلاثة أيام حتى قبل القائد العثماني دخول أتينا بالسلم وعدم سفك الدماء، وفي يوم 5 يونيو سنة 1827 أمضى زعماء الثورة اليونانية بأتينا على شروط تسليم المدينة، ورحلوا جميعا عنها بعد ذلك.
وقد كتب المؤرخ الإنكليزي «فنلي» في كتابه «تاريخ اليونان» عن خطة «رشيد باشا» ودخوله أتينا ما تعريبه:
لقد اكتسب «رشيد باشا» في سقوط أتينا بخطته التي جرى عليها شرفا أبديا، وظهر فوق السير «روبرشرش» شهامة في الحرب ورأيا في السلم، ولم يترك العثمانيون وسيلة من وسائل الاحتراس إلا أتوها، ولم ينتقموا أقل الانتقام من اليونانيين.
وقد توفي في أول ديسمبر عام 1825 القيصر إسكندر الأول، وتولى بعده «نيقولا الأول»، وما جلس هذا القيصر على أريكة الملك حتى أعلن عداءه لتركيا، وأرسل للحكومة العثمانية بتاريخ 17 مارس سنة 1826 إنذارا يطلب منها فيه جملة طلبات مختصة بالأفلاق والبغدان وبلاد الصرب، وترك لها مهلة ستة أسابيع لقبول طلباته، وأنذرها بأنها إن لم تقبل هذه الطلبات انقطعت العلائق السياسية بين الدولتين، واشتعلت نيران الحرب.
Bog aan la aqoon