ولكن هذه التصريحات العلنية لم تكن إلا ترضية وقتية للنمسا التي كانت مضطربة الأحوال؛ لاشتغالها بقمع الثورة الإيطالية التي قامت وقتئذ في وجهها، ولم يرجع القيصر إسكندر الأول عن عزمه؛ بل صار يتظاهر علنا بمحبة السلم والميل إلى الإنصاف مع الدولة العلية، وهو يكمن لها في الباطن السوء والضرر منتظرا الفرص المناسبة .
أما إيبسيلانتي فقد هزمته الدولة هو ورجاله شر هزيمة، واضطر إلى الهروب في ترانسلفانيا حيث قبضت عليه النمسا وسجنته لغاية عام 1827، وقد أسس ثوار اليونان بالرغم عن سقوط إيبسيلانتي في قبضة النمسا مجالس أهلية ومجلسا عموميا لهم كبرلمان يوناني. •••
وما انتشر في أوروبا خبر قيام اليونانيين بالثورة ضد الدولة العلية حتى تظاهر الكثيرون من الكتاب والشعراء بتعضيدهم والانتصار لثورتهم ضد المسلمين، وأول من جاهر بالانتصار لليونانيين وبالنداء باستقلالهم هو اللورد «بيرون» الشاعر الإنكليزي. فقد هاجر من بلاده، وعاش غريبا ينشد مجد اليونان السالف، وينادي أوروبا بمساعدة أبناء اليونان ونصرتهم، وقد أثرت كتاباته وأشعاره في أغلب بلاد أوروبا، وجرى على سنته الكثير من شعراء فرنسا وكتابها، وفي مقدمتهم «فيكتور هوجو» الشاعر الشهير، وأسست اللجان المختلفة في فرنسا وإنكلترا لمساعدة اليونانيين بالمال والرجال، وسافر المتطوعون من كل بلد في أوروبا ومن كل جانب.
وقد قامت الحركة كلها في بلاد أوروبا باسم معارف اليونان وأنوارها القديمة وباسم الدين المسيحي، فكنت تجد الكتاب الذين لا دين لهم ولا عقيدة في أفئدتهم يدافعون عن اليونانيين باسم الدين المسيحي، ويوجهون إلى الإسلام أقبح السباب وأدنى الشتائم.
وكان أنصار اليونانيين يحسبونهم كآبائهم الأولين متى نالوا حريتهم واستقلالهم؛ بزغت شموس المعارف والآداب والفلسفة من بلادهم، وعادت أتينا مشرقا لأنوار الحكمة والعرفان، والذين كانوا ينتصرون لليونانيين مؤملين هذا الأمل كانوا إما متعصبين في الدين ضد المسلمين يحملهم بغضهم على اعتقاد فاسد كهذا، أو كانوا سليمي النية، فلقد برهن اليونانيون بعد استقلالهم على أن بينهم وبين اليونانيين القدماء بونا بعيدا وفرقا عظيما.
ولا ريب أن أولئك الذين كانوا ينتظرون شروق أنوار الحكمة والفلسفة العالية من أبناء أتينا الحاليين تحسروا طويلا، واندهشوا منتهى الاندهاش من خطئهم في آمالهم هذا الخطأ الكبير، واعتدائهم بغير حق على السلطنة السنية التي كانوا يقولون عنها إنها المانعة لترقي اليونان، والواقفة في سبيل شروق شموس الحكمة والعرفان من «أتينا».
ومن الغريب أن أغلب أنصار اليونانيين إن لم نقل كلهم كانوا يجهلون تمام الجهل بلاد اليونان وأهلها ، على أنهم لو كانوا أرسلوا بعض الوفود لزيارة هذه البلاد والوقوف على حقيقتها وحقيقة أهلها، لكانوا أدركوا أنهم مخطئون خطأ كبيرا، وأن آمالهم البعيدة حلم لا حقيقة له، ويستحيل أن يكون له وجود.
وقد أنصف بعض الكتاب الأوروبيين الدولة العلية، وأظهروا للعالم المتمدن الحقيقة التي لا مراء فيها، وفضحوا أعمال اليونانيين حتى خجل أنصارهم، وفي مقدمة هؤلاء الكتاب الفضلاء «ألفريد لميتر» الفرنساوي، فقد وضع كتابا على استقلال اليونان، كشف فيه الغطاء عن أمور عديدة تشرف الدولة العلية وترفع من مقامها أمام التاريخ، وتشهر أكاذيب أنصار اليونان الجمة.
ومن المستندات الرسمية العديدة التي أوردها حضرة المؤلف السالف الذكر؛ عريضة رفعها جماعة من الفرنسويين كانوا سافروا إلى بلاد اليونان لنصرة الثائرين فيها إلى أميرال البحرية الفرنساوية بالبحر الأبيض المتوسط يسألونه فيها أن يردهم إلى فرنسا، وهذه العريضة تترجم للقارئ عن الحقيقة، وعن أكاذيب أنصار اليونان، وقد جاء فيها: «وقد وصفوا لنا اليونانيين قبل سفرنا من فرنسا بشجعان وأبطال يفوقون آباءهم الأولين شهامة ومجدا، فما وجدنا هنا إلا رجالا يحملهم حب المال على حب الجرائم، وأناسا لا يزالون في ظلمات الجهالة والوحشية.»
وقد كتب القومندان «بوجول» في مذكراته عن ثورة اليونان بتاريخ 22 ديسمبر سنة 1827 ما تعريبه:
Bog aan la aqoon