١ - مَسْأَلَة (الْكَلَام وَالْجُمْلَة)
الْكَلَام عبارَة عَن الْجُمْلَة المفيدة فَائِدَة تَامَّة، كَقَوْلِك: زيد منطلق، وَإِن تأتني أكرمك، وقم، وصه، وَمَا كَانَ نَحْو ذَلِك.
فَأَما اللَّفْظَة المفردة نَحْو (زيد) وَحده، وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يُسمى كلَاما، بل كلمة.
هَذَا قَول الْجُمْهُور وَذهب شرذمة من النَّحْوِيين إِلَى ان
1 / 35
الْكَلَام يُطلق على الْمُفِيد وَغير الْمُفِيد اطلاقا حَقِيقِيًّا.
وَالدَّلِيل على القَوْل الأول انه لفظ يعبر باطلاقه عَن الْجُمْلَة المفيدة، فَكَانَ حَقِيقَة فِيهَا كالشرط وَجَوَابه، وَالدَّلِيل على انه يعبر بِهِ عَنْهَا لَا إِشْكَال فِيهِ، إِذْ هُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي تَخْصِيصه بذلك دون غَيره، وَبَيَان اخْتِصَاصه بهَا من سِتَّة أوجه:
احدها: انه يُطلق بازائها، فَيُقَال: هَذِه الْجُمْلَة كَلَام، والاصل فِي الاطلاق الْحَقِيقَة.
وَالثَّانِي: ان الْكَلَام تؤكد بِهِ الْجُمْلَة، كَقَوْلِك: تَكَلَّمت كلَاما، وكلمته كلَاما، والمصدر الْمُؤَكّد نَائِب عَن اعادة الْجُمْلَة، الا ترى ان قَوْلك قُمْت قيَاما وتكلمت كلَاما تَقْدِيره: قُمْت قُمْت، لَان الاصل فِي التوكيد اعادة الْجُمْلَة بِعَينهَا، وَلَكنهُمْ آثروا الا يُعِيدُوا الْجُمْلَة بِعَينهَا، فجاؤوا بمفرد فِي مَعْنَاهَا والنائب عَن الشَّيْء يُؤَدِّي عَن مَعْنَاهُ.
1 / 36
وَالثَّالِث: ان قَوْلك (كَلمته)، عبارَة عَن انك افهمته معنى بِلَفْظ وَالْمعْنَى الْمُسْتَفَاد بالافهام تَامّ فِي نَفسه، فَكَانَت الْعبارَة عَنهُ مَوْضُوعَة لَهُ لَا مبينَة عَنهُ، وَالْكَلَام هُوَ معنى: كَلمته.
وَالرَّابِع: ان مصدر (تَكَلَّمت) التَّكَلُّم، وَهُوَ مشدد الْعين، فِي الْفِعْل والمصدر، وَالتَّشْدِيد للتكثير وادنى التكثير الْجُمْلَة المفيدة، أما (كلمت) فمشدد أَيْضا، وَهُوَ دَلِيل الْكَثْرَة، ومصدره: التكليم. وَالتَّاء وَالْيَاء فِيهِ عوض عَن التَّشْدِيد.
وَالْخَامِس: ان الاحكام الْمُتَعَلّقَة بالْكلَام لَا تتحق إِلَّا بِالْجُمْلَةِ المفيدة، فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله﴾، وَمَعْلُوم ان الاستجارة لَا تحصل الا بعد سَماع الْكَلَام التَّام الْمَعْنى، والكلمة الْوَاحِدَة لَا يحصل بهَا ذَلِك، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله﴾، والتبديل صرف مَا يدل اللَّفْظ عَلَيْهِ إِلَى غير مَعْنَاهُ، وَلَا يحصل ذَلِك بتبديل الْكَلِمَة الْوَاحِدَة، لِأَن الْكَلِمَة الْوَاحِدَة إِذا بدلت بغَيْرهَا كَانَ ذَلِك نقل لُغَة إِلَى لُغَة أُخْرَى، وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَقد كَانَ فريق مِنْهُم﴾
1 / 37
) وانما عقلوا الْمَعْنى التَّام، ثمَّ حرفوه عَن جِهَته. وَمثله قَوْله تَعَالَى ﴿يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه﴾ . وَمن ذَلِك تَعْلِيق الْيَمين بِسَمَاع الْكَلَام، فانه لَو قَالَ: وَالله لَا سَمِعت كلامك، فَنَطَقَ بِلَفْظَة وَاحِدَة لَيْسَ فِيهَا معنى تَامّ لم يَحْنَث.
وَالسَّادِس ان الْعَرَب قد تتجوز بالْقَوْل عَن العجماوات، كَقَوْل الشَّاعِر:
(امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... سلا، رويدا قد مَلَأت بَطْني)
وَهُوَ كثير فِي استعمالهم، وَلَا ينْسب الْكَلَام إِلَى مثل ذَلِك، فَلَا يُقَال: تكلم الْحَوْض. وَلَا الْحَائِط وَلَا سَبَب لذَلِك الا (ان) الْكَلَام حَقِيقَة فِي الْفَائِدَة التَّامَّة، وَالْقَوْل لَا يشْتَرط فِيهِ ذَلِك
1 / 38
وَإِذا ثَبت مَا ذَكرْنَاهُ بِأَن انه حَقِيقَة فِي الدّلَالَة على الْجُمْلَة التَّامَّة الْمَعْنى.
فان قيل: يتَوَجَّه عَلَيْهِ اسئلة:
احدها: ان اطلاق اللَّفْظ على الشَّيْء لَا يلْزم مِنْهُ الْحَقِيقَة، فان الْمجَاز يُطلق على الشَّيْء، كَمَا يُقَال للْعَالم بَحر، وللشجاع اسد، وَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿جدارا يُرِيد أَن ينْقض﴾ و﴿واسأل الْقرْيَة﴾، وكل ذَلِك مجَاز وَقد اطلق على هَذَا الْمَعْنى، فَلَا يلْزم من الاطلاق على مَا ذكرْتُمْ الْحَقِيقَة.
السُّؤَال الثَّانِي: ان الاطلاق يكون حَقِيقَة مُشْتَركَة، اَوْ جِنْسا تَحْتَهُ مُفْرَدَات، فالمشترك كَلَفْظِ الْعين، وَالْجِنْس مثل: الْحَيَوَان، فان الْحَيَوَان حَقِيقَة فِي الْجِنْس، وَالْوَاحد مِنْهُ حَقِيقَة ايضا، فَلم لَا يكون الْكَلَام والكلمة من هَاتين الحقيقتين
وَالسُّؤَال الثَّالِث: ان الْكَلَام مُشْتَقّ من (الْكَلم)، وَهُوَ الْجرْح، وَالْجَامِع بَينهمَا التَّأْثِير، والكلمة كَذَلِك لَان الْحُرُوف
1 / 39
الاصول مَوْجُودَة فِيهَا، وَهِي مُؤثرَة ايضا إِذا كَانَت تدل على معنى، وَهِي جُزْء الْجُمْلَة التَّامَّة الْفَائِدَة، والجزء يُشَارك الْكل فِي حَقِيقَة وَضعه. الا ترى ان الْحق يثبت بِشَاهِدين مثلا، وكل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهد حَقِيقَة، واثبات الْحق بهما لَا يَنْفِي كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا شَاهدا، كَذَلِك هَا هُنَا، أَلا ترى أَن قَوْلك: قَامَ زيد. يشْتَمل على جزأين، كل وَاحِد مِنْهُمَا يُسمى كلمة لدلالته على معنى، وَتوقف الْفَائِدَة التَّامَّة على حكم يَتَرَتَّب على الْمَجْمُوع، وَلَا يَنْفِي ذَلِك اشْتِرَاك الجزأين فِي الْحَقِيقَة، وعَلى هَذَا ترَتّب التحريف والتبديل، إِذْ كَانَ كُله حكما يُسْتَفَاد بِالْجُمْلَةِ، وَلَا يَنْفِي حَقِيقَة الْوَضع.
ثمَّ مَا ذكرتموه معَارض بقوله تَعَالَى: ﴿كَبرت كلمة تخرج من أَفْوَاههم﴾ وَبِقَوْلِهِ: ﴿كلمة الَّذين كفرُوا السُّفْلى وَكلمَة الله هِيَ الْعليا﴾ و﴿وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلا﴾ وَمَعْلُوم انه أَرَادَ بِالْكَلِمَةِ الْجُمْلَة المفيدة، واذا وَقعت الْكَلِمَة على الْمُفْرد جَازَ ان يَقع الْكَلَام على الْمُفْرد.
1 / 40
وَالْجَوَاب:
اما الاطلاق فدليل الْحَقِيقَة، إِذْ كَانَ الْمجَاز على خلاف الاصل، وانما يُصَار اليه بِقَرِينَة صارفة عَن الأَصْل، والاصل عدم الْقَرَائِن، ثمَّ ان الْبَحْث عَن الْكَلَام الدَّال على الْجُمْلَة المفيدة لَا يُوجد لَهُ قرينَة، بل يُسَارع إِلَى هَذَا الْمَعْنى من غير توقف على وجود قرينَة، وَهَذَا مثل لفظ الْعُمُوم إِذا اطلق حمل على الْعُمُوم من غير ان يحْتَاج الى قرينَة تصرف إِلَيْهِ، بل ان وجد تَخْصِيص احْتَاجَ إِلَى قرينَة.
وَأما السُّؤَال الثَّانِي فَلَا يَصح على الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورين، اما الِاشْتِرَاك فَفِيهِ جوابان احدهما انه على خلاف الاصل اذا كَانَ يخل بالتفاهم، الا ترى انه اذا اطلق لفظ: الْعين، لم يفهم مِنْهَا مَا يَصح بِنَاء الحكم عَلَيْهِ، وَالْكَلَام انما وضع للتفاهم، وانما عرض الِاشْتِرَاك من اخْتِلَاف اللُّغَات. وَالثَّانِي ان الِاشْتِرَاك هُنَا لَا يتَحَقَّق، لَان الْكَلَام والكلمة من حَقِيقَة وَاحِدَة، وَلَكِن الْكَلَام مَجْمُوع شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، والكلمة اللَّفْظَة المفردة وَلَا اشْتِرَاك بَينهمَا. وانما الْكَلَام مُسْتَفَاد بالاوصاف والاجتماع، وَلَيْسَ كَذَلِك الْمُشْتَرك، بل كل
1 / 41
وَاحِدَة من الفاظه كالأخرى فِي كَونهَا مُفْردَة.
وَأما الْجِنْس فَغير مَوْجُود هُنَا، لَان الْجِنْس يفرق بَينه وَبَين واحده بتاء التَّأْنِيث، نَحْو: تَمْرَة وتمر، وَهَذَا غير مَوْجُود فِي الْكَلَام والكلمة، بل جنس الْكَلِمَة: كلم وَلَيْسَ وَاحِد الْكَلَام: كلامة فَبَان انه لَيْسَ بِجِنْس.
واما السُّؤَال الثَّالِث فخارج عَمَّا نَحن فِيهِ، وَبَيَانه ان اشتقاق الْكَلِمَة من (الْكَلم) وَهُوَ التَّأْثِير، وَالْكَلَام تَأْثِير مَخْصُوص لَا مُطلق التَّأْثِير، والخالص غير الْمُطلق، يدل عَلَيْهِ ان الْكَلم الَّذِي هُوَ الْجرْح مُؤثر فِي النَّفس معنى تَاما، وَهُوَ الْأَلَم مثلا. وَالْكَلَام اشبه بذلك، لانه يُؤثر تَأْثِيرا تَاما، واما الْكَلِمَة المفردة فتأثيرها قَاصِر لَا يتم مِنْهُ معنى الا بانضمام تَأْثِير الآخر اليه، فهما مشتركان فِي اصل التَّأْثِير لَا فِي مِقْدَاره
وَأما الْمُعَارضَة بقوله تَعَالَى: ﴿كَبرت كلمة﴾ فَلَا يتَوَجَّه، لَان اكثر مَا فِيهِ انه عبر بالجزء عَن الْكل، وَهَذَا مجَاز ظَاهر، اذا كَانَ الْوَاحِد لَيْسَ بِجمع وَلَا جنس، بل قد يعبر بِهِ عَن الْجمع وَالْجِنْس
1 / 42
مجَازًا، وَوجه الْمجَاز ان الْجُمْلَة تتألف بعض اجزائها إِلَى بعض، كَمَا تتألف حُرُوف الْكَلِمَة المفردة بَعْضهَا إِلَى بعض، فَلَمَّا اشْتَركَا فِي ذَلِك جَازَ الْمجَاز، وَلَيْسَ كَذَلِك التَّعْبِير بالْكلَام عَن الْكَلِمَة، لَان ذَلِك نقيض مَعْنَاهَا.
وَدَلِيل الْمجَاز فِي الْكَلِمَة ظَاهر، وَهُوَ قَوْله: ﴿تخرج من أَفْوَاههم إِن يَقُولُونَ إِلَّا كذبا﴾ وَالْكذب لَا يتَحَقَّق فِي الْكَلِمَة المفردة، وانما يتَصَوَّر فِيمَا هُوَ خبر، وَالْخَبَر لَا يكون مُفردا فِي الْمَعْنى.
وَاحْتج الْآخرُونَ بَان الِاشْتِقَاق مَوْجُود فِي الْكَلِمَة وَالْكَلَام بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ التَّأْثِير، فَكَانَ اللَّفْظ شَامِلًا لَهما، يدل عَلَيْهِ انك تَقول: (اما) تَكَلَّمت كلمة، واما تَكَلَّمت بِكَلِمَة، فيؤكد باللفظة المفردة الْفِعْل كَمَا يُؤَكد بالْكلَام، فَيلْزم من ذَلِك اطلاق العبارتين على شَيْء وَاحِد.
وَالْجَوَاب عَن هَذَا مَا تقدم فِي جَوَاب السُّؤَال (الثَّالِث) .
وَالله اعْلَم بِالصَّوَابِ.
1 / 43
٢ - مَسْأَلَة (حد الِاسْم)
اخْتلف عِبَارَات النَّحْوِيين فِي حد الِاسْم وسيبويه لم يُصَرح لَهُ بِحَدّ فَقَالَ بَعضهم: الِاسْم مَا اسْتحق الاعراب فِي اول وَضعه، وَقَالَ آخَرُونَ: مَا اسْتحق التَّنْوِين فِي اول وَضعه، وَقَالَ آخَرُونَ: حد الِاسْم مَا سما بمسماه فأوضحه وكشف مَعْنَاهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الِاسْم كل لفظ دلّ على معنى مُفْرد فِي نَفسه. وَلم يدل
1 / 45
على زمَان ذَلِك الْمَعْنى، وَقَالَ ابْن السراج: هُوَ كل لفظ دلّ على معنى فِي نَفسه غير مقترن بِزَمَان مُحَصل، وَزَاد بَعضهم فِي هَذَا دلَالَة الْوَضع.
وَقبل الْخَوْض فِي الصَّحِيح من هَذِه الْعبارَات نبين حد الْحَد الصَّحِيح، والعبارات الصَّحِيحَة فِيهِ مُخْتَلفَة الالفاظ، متفقة الْمعَانِي، فَمِنْهَا: اللَّفْظ الدَّال على كَمَال مَاهِيَّة الشَّيْء، وَهَذَا حد صَحِيح لِأَن الْحَد هُوَ الكاشف عَن حَقِيقَة الْمَحْدُود، وَيُرَاد بالماهية مَا يُقَال فِي جَوَاب: مَا هُوَ واحترزوا بقَوْلهمْ: (كَمَال الْمَاهِيّة) من ان بعض مَا يدل على الْحَقِيقَة قد يحصل من طَرِيق الْمُلَازمَة لَا من طَرِيق الْمُطَابقَة، مِثَاله ان تَقول: حد الانسان هُوَ النَّاطِق، فَلفظ الْحَد يكْشف عَن حَقِيقَة النُّطْق، وَلَا يدل على جنس الْمَحْدُود، وان كَانَ لَا نَاطِق الا الْإِنْسَان، وَلَكِن ذَلِك مَعْلُوم من جِهَة الْمُلَازمَة لَا
1 / 46
من جِهَة دلَالَة اللَّفْظ، ومثاله من النَّحْو: الْمصدر يدل على زمَان مَجْهُول، وَلَيْسَ كَذَلِك، فان لفظ الْمصدر لَا يدل على زمَان الْبَتَّةَ، وانما الزَّمَان من ملازماته، فَلَا يدْخل فِي حَده، وَلَو دخل ذَلِك فِي الْحَد لوَجَبَ أَن يُقَال: الرجل وَالْفرس يدلان على الزَّمَان وَالْمَكَان، اذ لَا يتَصَوَّر انفكاكهما عَنْهُمَا، وَلَكِن لما لم يكن اللَّفْظ دَالا عَلَيْهِمَا لم يدخلا فِي حَده.
وَقَالَ قوم: حد الْحَد هُوَ عبارَة عَن جملَة مَا فرقه التَّفْصِيل. وَقَالَ آخَرُونَ: حد الْحَد مَا اطرد وانعكس، وَهَذَا صَحِيح، لَان الْحَد كاشف عَن حَقِيقَة الشَّيْء، فاطراده يثبت حَقِيقَته اينما وجدت، وانعكاسه ينفيها حَيْثُمَا فقدت، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق، بِخِلَاف الْعَلامَة، فان الْعَلامَة تطرد وَلَا تنعكس، الا ترى أَن كل اسْم دخل عَلَيْهِ حرف الْجَرّ والتنوين وَمَا اشبههما أَيْن وجد حكم بِكَوْن اللَّفْظ اسْما وَلَا يَنْتَفِي كَونه اسْما بامتناع حرف الْجَرّ، وَلَا بامتناع التَّنْوِين.
وَإِذ قدما حَقِيقَة الْحَد فنشرع فِي تَحْقِيق مَا ذكر من الْحُدُود وافساد الْفَاسِد مِنْهَا.
1 / 47
أما قَوْلهم: الِاسْم كل لفظ دلّ على معنى مُفْرد فِي نَفسه، فحد صَحِيح، اذ الْحَد مَا جمع الْجِنْس والفصل، واستوعب جنس الْمَحْدُود، وَهُوَ كَذَلِك هَا هُنَا، الا ترى ان الْفِعْل يدل على مَعْنيين: حدث وزمان، و(امس) وَمَا اشبهه يدل على الزَّمَان وَحده، فَكَانَ الاول فعلا وَالثَّانِي اسْما، والحرف لَا يدل على معنى فِي نَفسه، فقد تحقق فِيمَا ذَكرْنَاهُ الْجِنْس والفصل والاستيعاب.
وَأما قَول ابْن السراج فَصَحِيح ايضا، فان الِاسْم يدل على معنى فِي نَفسه، فَفِيهِ احْتِرَاز من الْحَرْف وَقَوله: غير مقترن بِزَمَان مُحَصل. يخرج مِنْهُ الْفِعْل، فانه يدل على الزَّمَان المقترن بِهِ، واما المصادر فَلَا دلَالَة لَهَا على الزَّمَان، لَا الْمَجْهُول وَلَا الْمعِين، على مَا ذكرنَا. وَمن قَالَ مِنْهُم: يدل على الزَّمَان الْمَجْهُول فقد احْتَرز عَنهُ بقوله: مُحَصل. فان الْمصدر لَا يدل على زمَان معِين.
واما من زَاد فِيهِ (دلَالَة الْوَضع)، فانه قصد بذلك دفع النَّقْض بقَوْلهمْ: اتيتك مقدم الْحَاج، وخفوق النَّجْم، واتت النَّاقة
1 / 48
على منتجها فان هَذِه مصَادر: وَقد دلّت على زمَان مُحَصل، فَعِنْدَ ذَلِك تخرج عَن الْحَد. واذا قَالَ: دلَالَة الْوَضع لم ينْتَقض الْحَد بهَا لانها دَالَّة على الزَّمَان لَا من طَرِيق الْوَضع، وَذَلِكَ ان مقدم الْحَاج يتَّفق فِي ازمنة مَعْلُومَة بَين النَّاس، لَا انها مَعْلُومَة من لفظ (الْمُقدم) وَالدَّلِيل على ذَلِك انك لَو قلت: اتيتك وَقت مقدم الْحَاج، صَحَّ الْكَلَام، وَظهر فِيهِ مَا كَانَ مُقَدرا قبله.
وَالتَّحْقِيق فِيهِ ان الْحُدُود تكشف عَن حَقِيقَة الشَّيْء الْمَوْضُوع اولا، فَإِذا جَاءَ مِنْهَا شَيْء على خلاف ذَلِك لعَارض، لم ينْتَقض الْحَد بِهِ، وَيَأْتِي نَظَائِر ذَلِك فِيمَا يمر بك من الْمسَائِل.
فَأَما من قَالَ هُوَ مَا اسْتحق الاعراب فِي اول وَضعه، اَوْ مَا اسْتحق التَّنْوِين، فَكَلَام سَاقِط جدا، وَذَلِكَ ان اسْتِحْقَاق الشَّيْء لحكم يَنْبَغِي ان يسْبق الْعلم بحقيقته، حَتَّى يرتب عَلَيْهِ الحكم، الا ترى انه لَو قَالَ فِي لَفْظَة (ضرب): هَذَا اسْم، لانه يسْتَحق
1 / 49
الاعراب فِي أول وَضعه لاحتجت ان تبين أَنه لَيْسَ باسم، وَلَا يعْتَرض فِي ذَلِك بالاعراب وَعَدَمه، وَلَو قَالَ قَائِل: انا اعربه، اَوْ احكم باستحقاقه الاعراب، لقيل لَهُ: مَا الدَّلِيل على ذَلِك، فَقَالَ: لانه اسْم، فَيُقَال لَهُ: مَا الدَّلِيل على انه اسْم فان قَالَ بعد ذَلِك: لانه يسْتَحق الاعراب، ادى الى الدّور لانه لَا يثبت كَونه اسْما الا بِاسْتِحْقَاق الاعراب، وَلَا يسْتَحق الاعراب الا بِكَوْنِهِ اسْما، وَهَكَذَا سَبِيل التَّنْوِين وَغَيره.
واما قَول الآخر: مَا سما بمسماه، فحد مَدْخُول ايضا، وَذَلِكَ انه اراد مَا سمى مُسَمَّاهُ، وَلِهَذَا قَالَ: فأوضحه، فَجعل فِي الْحَد لفظ الْمَحْدُود، وَإِذا كُنَّا لَا نعلم معنى الِاسْم فَكيف يَجْعَل فِيمَا يُوضحهُ لفظا مشتقا مِنْهُ، وَذَلِكَ ان الِاشْتِقَاق يَسْتَدْعِي فهم الْمُشْتَقّ مِنْهُ اَوْ لَا، ثمَّ يُؤْخَذ مِنْهُ لفظ آخر يدل على معنى زَائِد.
1 / 50
قَالَ عبد القاهر فِي شرح (جمله): حد الِاسْم مَا جَازَ الاخبار عَنهُ. قَالَ: وَالدَّلِيل على ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا انه مطرد ومنعكس، وَهَذَا امارة صِحَة الْحَد، وَالثَّانِي ان الْفِعْل لَا يَصح الاخبار عَنهُ، والحرف لاحظ لَهُ فِي الاخبار، فعين ان يكون الِاسْم هُوَ الْمخبر عَنهُ، اذ لَا يجوز ان تَخْلُو الْكَلِمَة من اسناد الْخَبَر إِلَيْهَا. واذا (كَانَ) الْفِعْل والحرف وَالِاسْم لَا يسند إِلَيْهِ خبر ارْتَفع الْأَخْبَار عَن جملَة الْكَلَام.
وَالدَّلِيل على انه لَيْسَ بِحَدّ وانما هُوَ عَلامَة - وَقد اخْتَار ذَلِك عبد القاهر فِي شرح الايضاح - ان هَذَا اللَّفْظ يطرد وَلَا ينعكس، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْلك: اذ، واذا، وايان، واين، وَغير ذَلِك، وانها
1 / 51
اسماء وَلَا يَصح الاخبار عَنْهَا، فَعِنْدَ ذَلِك يبطل كَونه حدا. وَالْوَجْه الثَّانِي: ان قَوْلك: مَا جَازَ الاخبار عَنهُ لَا يُنبئ عَن حَقِيقَة وَضعه، وانما هُوَ من احكامه، وَلذَلِك لَو ادّعى مُدع ان لَفْظَة (ضرب) يَصح الاخبار عَنْهَا بِأَن يَقُول: ضرب اشْتَدَّ، كَمَا تَقول: الضَّرْب مشتد، لم يَصح معارضته بِالْمَنْعِ الْمُجَرّد حَتَّى يبين وَجه الِامْتِنَاع، وَالْحَد لَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل يُقَام عَلَيْهِ، لانه لفظ مَوْضُوع على الْمَعْنى، وَدلَالَة الالفاظ على الْمعَانِي لَا تثبت بالمناسبة وَالْقِيَاس.
فَإِن قيل: إِذا، وَإِذا، وَنَحْوهمَا، يَصح الاخبار عَنْهَا من حَيْثُ انها أَوْقَات وأمكنة، وَكِلَاهُمَا يَصح الاخبار عَنهُ، وانما عرض لَهَا انها لَا تقع إِلَّا ظروفا، فَمن حَيْثُ هِيَ ظروف لَا يخبر عَنْهَا، وَمن حَيْثُ هِيَ اوقات وأمكنة يَصح الْإِخْبَار عَنْهَا، أَلا ترى انك لَو قلت: طَابَ وقتنا واتسع مَكَاننَا. كَانَ خَبرا صَحِيحا.
وَالْجَوَاب ان كَونهَا ظروفا اوصاف انضمت إِلَى كَونهَا وقتا
1 / 52
ومكانا، لم تسْتَعْمل الا بِهَذِهِ الصّفة، فَهِيَ كالخصوص من الْعُمُوم، وَالْخُصُوص لَا يحد بِحَدّ الْعُمُوم، الا ترى ان الانسان حَيَوَان مَخْصُوص وَلَا يحد بِحَدّ الْحَيَوَان الْعَام، لِأَن ذَلِك يسْقط الْفَصْل الَّذِي يُمَيّز بِهِ من بَقِيَّة انواع الْحَيَوَان، وَالْحَد مَا جمع الْجِنْس والفصل وَالْوَقْت الَّذِي يدل عَلَيْهِ (إِذا) هُوَ الْجِنْس، وَكَونه ظرفا بِمَنْزِلَة الْفَصْل كالنطق فِي الْإِنْسَان، وَبِهَذَا يحصل جَوَاب قَوْله: يطرد وينعكس، لأَنا قد بَينا انه لَا ينعكس.
وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
1 / 53
٣ - مَسْأَلَة (ادلة اسمية كَيفَ)
كَيفَ اسْم بِلَا خلاف، وانما ذَكرنَاهَا هَاهُنَا لخفاء الدَّلِيل على كَونهَا اسْما، وَالدَّلِيل على كَونهَا اسْما، من خَمْسَة أَشْيَاء.
احدها: انها دَاخِلَة تَحت حد الِاسْم، وَذَاكَ انها تدل على معنى فِي نَفسهَا، وَلَا تدل على زمَان ذَلِك الْمَعْنى.
وَالثَّانِي: انها تجاب بِالِاسْمِ، وَالْجَوَاب على وفْق السُّؤَال، وَذَلِكَ قَوْلهم: كَيفَ زيد فَيُقَال صَحِيح أَو مَرِيض اَوْ غَنِي اَوْ فَقير، وَذَلِكَ انها سُؤال عَن الْحَال، فجوابها مَا يكون حَالا.
1 / 55
وَالثَّالِث: انك تبدل مِنْهَا الِاسْم فَتَقول: كَيفَ زيد اصحيح ام مَرِيض. وَالْبدل هَاهُنَا مَعَ همزَة الِاسْتِفْهَام نَائِب عَن قَوْلك: اصحيح زيد أم مَرِيض وَالْبدل يُسَاوِي الْمُبدل (مِنْهُ) فِي جنسه.
وَالرَّابِع: ان من الْعَرَب من يدْخل عَلَيْهَا حرف الْجَرّ، قَالُوا على كَيفَ تبيع الاحمرين وَقَالَ بَعضهم: انْظُر إِلَى كَيفَ يصنع. وَهَذَا شَاذ فِي الِاسْتِعْمَال، وَلكنه يدل على الاسمية.
وَالْخَامِس: ان دَلِيل السبر والتقسيم اوجب كَونهَا اسْما، وَذَلِكَ ان يُقَال لَا تَخْلُو كَيفَ من ان تكون اسْما أَو فعلا أَو حرفا. فكونها حرفا بَاطِل، لِأَنَّهَا تفِيد مَعَ الِاسْم الْوَاحِد فَائِدَة تَامَّة كَقَوْلِك: كَيفَ زيد والحرف لَا ينْعَقد بِهِ وبالاسم جملَة مفيدة، فَأَما (يَا) فِي النداء، فَفِيهَا كَلَام يذكر فِي مَوْضِعه.
1 / 56