Masail fi al-Fitan
مسائل في الفتن
Daabacaha
مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
Goobta Daabacaadda
بيروت - لبنان
Noocyada
مسائل في الفتن
تأليف
أبي عبد الله فيصل بن حيان آل صبحان
مؤسسة الريان
Bog aan la aqoon
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون﴾، ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا﴾، ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما﴾.
أما بعد:
فإن الله تعالى بعث رسوله بالهدى ودين الحق، ووصفه في كتابه بالرحمة والرأفة وتمام الحرص والشفقة فقال سبحانه: ﴿وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين﴾ وقال جل شأنه: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾، ولما كانت هذه هي صفته ﷺ كما وصفه بذلك ربه سبحانه، فإنه ﷺ ما ترك خيرا يعلمه إلا دل الأمة عليه،
1 / 5
وأمرهم به، ولا شرا إلا حذرهم منه، ونفرهم عنه، حتى ترك الأمة ﵊ على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك.
ألا وإن من تلك الأمور التي حذر منها ﷺ أشد التحذير وبينها أتم البيان: الفتن وما يتعلق بها. وما ذلك إلا لأن الفتن مؤثرة على الدين والأنفس والأموال والأعراض. فكان التحذير منها أشد من غيرها والأحاديث فيها أكثر.
والناس في هذا الزمان قد تكاثرت عليهم الفتن، وتفتحت عليهم أبوابها، كما أخبر بذلك رسول الله ﷺ، فكثر كلامهم فيها؛ بالحق تارة، وبالباطل أخرى، وبالدليل والبرهان مرة، وبالجهل والهوى مرة أخرى، فوقعوا في تعارض الآراء واختلاف الأهواء، فزادت الفتن واضطرب الناس. وإذا كان الواجب على من تكلم في أي باب من أبواب العلم أن يتكلم بعلم، ويزين كلامه بالحلم؛ فإن باب الفتن أولى وأحرى لما يترتب عليه من الأحوال والأفعال والتصرفات، العامة والخاصة.
فلازم على كل من تكلم في هذا الباب ونظر فيه: أن يتتبع ما ورد فيه في الكتاب والسنة، وما ورد فيه عن سلف الأمة، حتى يقع على الدليل، ويرى كيف يكون العمل والتنزيل.
وهذه الرسالة إنما هي محاولة لتأصيل هذا الباب، بالنظر فيما جاء فيه من النصوص والآثار، ومواقف السلف الأبرار، حتى تتضح المسألة ويبين الحق إن شاء الله.
هذا وقد رتبتها على مسائل ليكون ذلك أنشط للقارئ، وأروح لنفسه وفكره، ولم أكثر الكلام فيها- وإن كان مجال القول في بعضها يطول - خشية الإملال.
ومما يحسن بي في هذه المقدمة أن أنبه على أمور:
أولها: أنه ليس مقصودي في هذه الرسالة جمع ما ورد في كل فتنة من
1 / 6
الفتن كما هو الشأن في الكتب المؤلفة في ذلك، وإنما المقصود بهذه الرسالة النظر في هذه الفتن من حيث هي فتن واستنباط شيء من فقهها من خلال نصوصها، ولذا فهذه الرسالة عامة في جميع الفتن.
الثاني: في ترتيب هذه المسائل؛ إذ قد يرى البعض أن الأفضل لو غير ترتيب بعض المسائل تقديما وتأخيرا، ولا ضير في ذلك إن شاء الله إذ المقصود بيان كيفية التعامل مع الفتن علما وعملا.
الثالث: أنه قد يلاحظ في أثناء الرسالة التركيز على فتنة الاقتتال بين المسلمين أكثر من غيرها، وما ذلك إلا لخطورتها وما يترتب عليها، مع ما قد يقع في نفوس البعض من التساهل فيها، بدعوى الغيرة على الدين، أو التنافس على الدنيا.
وأخيرا: أسأل الله تعالى أن يقيني وإخواني المسلمين شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهب لنا منه نورا وهدى ورحمة تكشف لنا المتشابه، فإنه لا حول ولا قوة لنا إلا به، وأسأله جل وعلا أن يعز دينه وأن يعلي كلمته، وأن ينصر عباده الموحدين في كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه ..... والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه:
أبو عبد الله: فيصل بن حيان بن مانع آل صبحان.
1 / 7
المسألة الأولى:
أن الفتن واقعة في أمة محمد ﷺ قدرا وكونا، لابد من ذلك رضي الناس أم لم يرضوا، فقد أخبر بذلك رسول الله ﷺ وإخباره لابد واقع كما أخبر.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. من تشّرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذ فليعذ به).
فأخبر ﷺ بكون الفتن في الأمة ولابد من ذلك.
وفي الصحيحين أيضا من حديث حذيفة ﵁ قال: كنا عند عمر بن الخطاب ﵁ فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله ﷺ في الفتنة؟ قال حذيفة: قلت: أنا. قال: إنك لجريء كيف قال؟ قال: قلت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فقال عمر:
ليس هذا أريد إنما أريد التي تموج كموج البحر. قال: فقلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين، أن بينك وبينها بابا مغلقا. قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟ قال: قلت: لا بل يكسر. قال: ذلك حري أن لا يغلق أبدا. قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غد الليلة، إني أحدثه حديثا ليس بالأغاليط. قال شقيق: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب؟ فقلنا: لمسروق سله، فسأله؛ فقال: عمر.
1 / 9
ففهمنا من هذا الحديث أن باب الفتن إذا فتح لا يغلق، فتكثر الفتن وتختلف الأمور ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
والأحاديث الدالة على لزوم وقوع الفتن في هذه الأمة كثيرة جدا ولعله يمر علينا في أثناء الرسالة طرفا منها.
فإذا علمنا هذا وتيقناه - وهو أن الفتن واقعة لا محالة: فلا بد من الاستعداد لها بالعلم والعمل جميعا:
أما العلم: فلأنه سيقل ويرفع كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود وأبي موسى ﵄ قالا: قال رسول الله ﷺ: (إن بين يدي الساعة لأياما: ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج؛ والهرج القتل).
وسبب قلة العلم في آخر الزمان أمور:
أولها: موت العلماء الذين هم حملته وأهله كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
الثاني: زهد الناس في العلم النافع وانصرافهم عنه وان كان موجودا. كما هو مشاهد في زماننا هذا من عزوف كثير من الناس عن العلم الشرعي، ورغبتهم عنه وعن معاهده وكلياته.
الثالث: ترك العمل به. والتحاكم إلى غيره، عن زياد بن لبيد ﵁ قال: ذكر النبي ﷺ شيئا فقال: (ذاك أوان ذهاب العلم) قلت: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: (ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما) أخرجه ابن ماجة
1 / 10
فإذا كان الأمر كذلك وجب على اللبيب العاقل التزود منه قبل ذهابه .......... والله المستعان
وأما العمل: فلأمره ﷺ بالمبادرة به قبل الفتن: ففي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمن ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وفيه أيضا عنه ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (بادروا بالأعمال ستا: الدجال والدخان ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم).
وإنما أمرنا رسول الله ﷺ بالمبادرة إلى الأعمال قبل الفتن -والله أعلم - لأمور:
أولها: أن الإنسان وقت الفتن يشغل بنفسه وأهله فلا يحصل له من الوقت ما كان يحصل له فبل الفتن.
الثاني: أنه قد لا يمكن من العمل وقت الفتن، بل قد يمنع منه إما بقتل أو سجن أو تعذيب أو تشريد أو نحو ذلك .... فالمبادرة قبل المصادرة.
الثالث: انشغال القلب هما وتفكيرا، فيقل الخشوع والعمل. (والفرق بين هذا الوجه والوجه الأول: أن الأول انشغال عمل بطلب رزق وحفظ نفس ومال ونحو ذلك، وهذا انشغال عقل وتفكير).
الرابع: لالتباس الحق بالباطل واختلاط الأمور في الفتن، فلا يدري الإنسان أين الحق فيتبعه، وأين الباطل فيجتنبه.
فالموفق من وفقه الله للعلم النافع والعمل الصالح ..... جعلنا الله من أولئك.
1 / 11
المسألة الثانية:
إذا علمنا أن الفتن لابد واقعة في أمة محمد ﷺ فينبغي أن يعلم أنها كثيرة جدا لا يمكن حصرها .. فعن أسامة بن زيد ﵁ قال: أشرف النبي ﷺ على أطم من آطام المدينة فقال: (هل ترون ما أرى؟) قالوا: لا. قال: (فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر) متفق عليه واللفظ للبخاري.
وفي البخاري عن أم سلمة ﵂ قالت: استيقظ رسول الله ﷺ ليلة فزعا يقول: (سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات - يريد أزواجه - لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة).
فدل ما تقدم على كثرة الفتن حتى شبهت بالقطر من السماء، ومعلوم أن القطر لايحصيه إلاّ الذي أنزله.
فإذا كان الأمر كذلك وأن الفتن كثيرة جدا فليعلم العبد أنه إن أخطأته فتنة .. لم يكد يسلم من الأخرى، فلينج بنفسه وليحذر. وقد تقدم في الحديث: (من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به).
فالعاقل يوطن نفسه على الهرب منها واجتنابها .. والأحمق الأخرق هو الذي يرفع لها رأسه فيوشك أن تقطعه.
وعلى ما تقدم: فلا يزال العبد في مجاهدة وصبر لكثرة الفتن واستمرارها .. والله المستعان.
1 / 13
المسألة الثالثة:
أن الفتن متفاوتة منها الصغير ومنها الكبير، ومنها الخاص ومنها العام:
دليل ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي إدريس الخولاني ﵀ أنه كان يقول: قال حذيفة بن اليمان: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله ﷺ أسر إلي في ذلك شيئا لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله ﷺ قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله ﷺ وهو يعد الفتن: (منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار) قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري.
وقد قدمنا في المسألة (الأولى) حديث حذيفة ﵁ لما سأله عمر عن الفتن فبين له أولا الفتن الخاصة بالإنسان في أهله وماله وولده وجاره، ثم سأله عن الفتنة العامة التي تموج كما يموج البحر فأخبره بها.
وفي مصنف ابن أبي شيبة (٨/ ٦٧٢) والسنن الواردة في الفتن لأبي عمرو الداني (١/ ٢٨٤) عن طاووس بن كيسان عن أبي موسى الأشعري ﵁ قال لما قتل عثمان بن عفان ﵁: (إنما هذه حيصة من حيصات الفتن وبقيت الرداح المطبقة التي من ماج بها ماجت به ومن أشرف لها استشرفت له)
والرداح المطبقة هي الثقيلة العظيمة العامة.
1 / 15
- فإذا علم ذلك: فإن لكل نوع من أنواع الفتن فقها خاصا به: تعاملا وعلما، فليس الصبر في الفتن الكبار كالصبر في الفتن الصغار وهكذا ..
- وأيضا: فإن الفتن تقدر بقدرها . فلا تصغر الكبيرة حتى يستهين بها الناس، ولا تكبر الصغيرة حتى ييأس الناس منها ... ولا تعمم الخاصة فيفتن الناس بها ولا تخصص العامة فتخذل الأمة.
في كتاب (السنة) للخلاّل (١/ ١٣٢) عن أبي الحارث الصائغ قال: سألت أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد - في أمر كان حدث في بغداد وهمّ قوم بالخروج، فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟ فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول: سبحان الله! الدماء، الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه - يعني أيام الفتنة؟ قلت: والناس اليوم أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟ قال: وإن كان، فإنما هي فتنة خاصة فإذا وقع السيف عمت الفتنة، وانقطعت السبل. الصبر على هذا ويسلم لك دينك خير لك، ورأيته ينكر الخروج على الأئمة وقال: الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به.
فانظر إلى فقه الإمام أحمد ﵀ وكيف كان يقدر الفتن بقدرها.
وهذا التقدير للفتن باب علم يفتحه الله لأهل البصائر من عباده .. فيقولون الحق ويهدون إليه .. فإذا أغفل هذا الجانب وقع الزلل.
وعلى هذا الباب أيضا يكون العمل عند دفع الفتن إذا تعارضت، إذ تدفع الأعلى منهما بالأدنى، والكبرى بالصغرى، والعامة بالخاصة وهكذا. ... والله المستعان.
1 / 16
المسألة الرابعة:
أن من الفتن ما يخرج من الملة ومنها مالا يخرج منها، فهي متفاوتة:
دليل ذلك قوله ﷺ: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا).
- والكفر في هذا الحديث كما قال العلماء قد يراد به الكفر الأصغر ككفر النعمة، وقد يراد به الكفر الأكبر كاستحلال المحرم كما نقل الترمذي في سننه عن الحسن البصري ﵀ أنه كان يقول في هذا الحديث المتقدم: يصبح الرجل محرما لدم أخيه وعرضه وماله ويمسي مستحلا له، ويمسي محرما لدم أخيه وعرضه وماله، ويصبح مستحلا له).
- ومن الفتن المكفرة التي ابتليت بها الأمة في فترة من فتراتها؛ فتنة القول بخلق القرآن، لولا أن قيض الله لها من أنصار دينه وحماة شرعه من جعلهم سدا في وجه تلك الفتنة وعلى رأسهم إمام أهل السنة: أحمد بن حنبل .. فلله الحمد والمنة.
- لكن ينبغي التنبيه على ثلاثة أمور مهمة جدا:
أولها: أن الحكم على الفتنة بأنها مكفرة أم لا؛ إنما هو للعلماء الربانيين الذين يصدرون عن كتاب الله وسنة نبيه ﷺ .. وليس الحكم فيها للأهواء والرغبات.
1 / 17
وفي هذا سد لباب عظيم من الشر قد ينتج عنه من الفتن إضعاف ما ينتج عن الفتنة المنظور إليها.
الثاني: تنزيل الحكم على الأشخاص إنما هو لأهل العلم الراسخين فيه؛ إذ إن إطلاق الحكم على المعين لابد فيه من معرفة الشروط والموانع ... وهذا إنما يكون لأهل العلم، ولا سبيل لأحد أن يتقدم عليهم فيه لما في ذلك من الخطر العظيم والبلاء الجسيم.
الثالث: أن المشاركين في الفتن ليسوا على وزان واحد: جرما وإثما وحكما؛ فرؤوس أهل الفتن ليسوا كالأتباع، والقعدة فيها ليسوا كالمشاة، والمشاة فيها ليسوا كالسعاة ... وهكذا.
وقد تقدم معنا حديث أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه؛ فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به) متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن أبي بكرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه). قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم تكن له أبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: (يبؤ بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار).
- وإنما كان الأمر كذلك: لأن جهد أهل الفتن مختلف، ووقعهم فيها متفاوت؛ فالقاعد غالبا - ما لم يكن من رؤوس أهلها - أضعف عملا من الماشي، والماشي أضعف من الساعي وهكذا. (هذا أولًا).
1 / 18
وثانيا: لأنه قد يشارك فيها من ليس من أهلها كالمكره ونحوه.
- وعليه: فتعميم الحكم على جميع من شارك في فتنة من الفتن؛ خطأ كبير لا يكون من عالم عارف بأحوال الناس.
ولا يعكر على هذا ما ورد في بعض النصوص من إهلاك بعض أهل الفتن مهلكا واحدا، رغم أن فيهم من ليس منهم - كالجيش الذي يؤم البيت - كما في حديث عائشة ﵂ في الصحيح وغيره، فإن النبي ﷺ قد بيّن في نفس الحديث أنه وإن شاركهم في عقوبة الله إلاّ أنه يخالفهم يوم القيامة فقال لمّا سئل عن المكره: (يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيّته).
- فإذا علمنا ذلك كله وتيقناه: تيقنا خطر المخاطرة في الفتن .. وعلمنا أنها مزلة أقدام ومضلة أفهام ... والله المستعان.
1 / 19
المسألة الخامسة:
أن الحق واضح جلي لا لبس فيه ولا خفاء حتى في أوقات الفتن.
يدل على ذلك أن النبي ﷺ أمرنا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وأخبر أن النجاة فيهما أبدا؛ ولو كانت الفتن مما يخفى على الأمة الحق فيها لما صح التمسك بهما حينئذ لأنه لا فائدة في ذلك.
ومما يدل على ذلك أيضا: أحاديث الطائفة المنصورة - وستأتي بعد قليل إن شاء الله ـ
ووجه الدلالة منها: أن هذه الطائفة لا تزال مستمسكة بالحق على مر الزمان، ولو كان الحق خفيا لما اهتدت إليه وتمسكت به.
- ومرادنا بقولنا (أن الحق لا خفاء به): أي أنه لا يخفى على جميع الأمة، بل إذا خفي أو التبس على أناس ولو كانوا من أهل العلم فلا بد أن يكون واضحا جليا عند طائفة أخرى، وهذا أيضا ما تدل عليه أحاديث الطائفة المنصورة المشار إليها.
- فإن قيل فما سبب خفاء الحق على من خفي عليه؟
فالجواب: سبب ذلك إما: جهل بالحق (قلة العلم)، أو تقصير في طلبه والسؤال عنه، أو ضعف في أهله ... والله أعلم.
1 / 21
المسألة السادسة:
وهي مبنية على ما تقدم وهي:
أنه لا تزال طائفة من أمة محمد ﷺ على الحق ظاهرة منصورة .. لا يضرها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، كما ثبت ذلك في أحاديث كثيرة منها:
ما في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حيى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون).
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث ثوبان ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
- ففهمنا من هذه الأحاديث أمورا:
أولها: أنها طائفة وليست الأمة كلها.
الثاني: أنها على الحق وليست على الباطل.
الثالث: أنها ظاهرة: أي عالية رفيعة معلومة غير مختفية.
الرابع: أنها منصورة على أعدائها مهما اشتد بلاؤهم.
الخامس: أنها محفوظة بحفظ الله تعالى لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، والخذلان يكون ممن يتوقع منه النصرة، والمخالفة: تكون من الأعداء، ورغم اجتماع البلاءين عليها إلا إنها ظاهرة منصورة محفوظة «فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين».
1 / 23
وهذه الطائفة كما قال العلماء: يجوز أن تكون متعددة من أنواع الأمة: ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومفسر ومحدث وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم اجتماعهم ببلد واحد.
فإذا زالت هذه الطائفة زال معها الحق، وعندها تقوم الساعة، ولا تقوم إلا على شرار الخلق.
- وعليه: فتنزيل أحاديث الطائفة المنصورة على فئة معينة من الأمة دون غيرها خطأ؛ لما يترتب على ذلك من تجهيل الآخرين والتقليل من شأنهم رغم أنهم قد يكونون من هذه الطائفة المعنية في الأحاديث.
- فإن قال قائل: فما تقولون فيما ورد عن الإمام أحمد ﵀ أنه قال عن هذه الطائفة: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم)، فإنه ﵀ قد حصر هذه الطائفة في أهل الحديث دون غيرهم.
فالجواب: هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ حين بين المراد بأهل الحديث فقال كما في مجموع الفتاوى (٤/ ٩٥): (ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرا وباطنا، واتباعه باطنا وظاهرا وكذلك أهل القرآن، وأدنى خصلة في هؤلاء: محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجبهما، ففقهاء الحديث أخبر بالرسول ﷺ من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول ﷺ من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول ﷺ من غيرهم). اهـ.
فبان من كلامه ﵀ أن أهل الحديث طائفة تحوي أنواعا من الأمة، فمنهم العالم والمجاهد والعابد والحاكم بل والعامي أيضا، وهذا موافق لما نقلناه عن غيره من أهل العلم كما في أول المسألة.
والله تعالى أعلى وأعلم.
1 / 24
المسألة السابعة:
أن الفتن مرتع خصب لأهل الأهواء والبدع لنشر أهوائهم وبدعهم وتلبيسها على الناس وذلك لأمور:
الأول: اختلاط الأمور وقت الفتن وعدم تميزها.
الثاني: لقلة العلم في الفتن وغلبة الجهل.
الثالث: للتسرع الذي يحصل عند الناس في وقت الفتن.
وعليه: فينبغي على العبد الموفق ألا ينجرف وراء كل دعوى .. ولا يتبع كل صارخ .. فإن فعل فهو الهلكة والخسران.
- ولذا كان من وصاياه ﵊: (خذ ما تعرف ودع ما تنكر) .. وبه يتبين فضل العلم وخصوصا وقت الفتن، وأنه من أعظم الأسباب المنجية منها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
1 / 25
المسألة الثامنة:
أن بعض البلاد أكثر فتنا من غيرها وأشد: دليل ذلك ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر ﵄ أنه سمع النبي ﷺ وهو مستقبل المشرق يقول: (ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان).
وفي البخاري عنه ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا) قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ قال: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا) قالوا يا رسول الله: وفي نجدنا؟ قال: (هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان).
فبان بذلك أن المشرق أكثر فتنا من غيره وأشد.
- وأيضا: فإن بعض البلاد محفوظة من بعض الفتن الكبار - كمكة والمدينة - فإنهما محفوظتان من الدجال والطاعون:
أما الدجال: فالأحاديث في تحريم مكة والمدينة عليه كثيرة منها:
١. ما في الصحيحين عن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (ليس من بلد إلاّ سيطؤه الدجال، إلاّ مكة والمدينة وليس نقب من أنقابها إلاّ عليه الملائكة صافين تحرسها فينزل السبخة فترجف الدينة ثلاث رجفات يخرج إليه منها كل كافر ومنافق).
٢. وفي صحيح مسلم في حديث الجساسة الطويل الذي رواه تميم الداري ﵁ وفيه أن الدجال قال: (وإني مخبركم عني إني أنا المسيح
1 / 27
الدجال، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها ..) الحديث.
وأما الطاعون: فلما أخرجه البخاري ﵀ عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال).
وفيه أيضا عن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله).
- وظاهر هذه الأحاديث أن الحفظ من الطاعون خاص بالمدينة دون مكة؛ لكن ورد عند عمر بن شبة في كتاب (مكة) كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (١٠/ ١٩١ك الطب) عن أبي هريرة ﵁ مرفوعا: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب منهما ملك، لا يدخلهما الدجال ولا الطاعون) قال الحافظ: رجاله رجال الصحيح.
- وهذه البلاد المحفوظة من بعض الفتن أو القليلة فيها الفتن - سبب حفظها إما:
• لظهور الدين فيها وانتشار العلم بين أهلها، كما في حديث عبد الله بن عمرو
بن العاص ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام) أخرجه الحاكم وصححه الألباني في فضائل الشام (١٥).
• وإما لتقييض الله تعالى لها من يحفظها من غير أهلها: كالملائكة لمكة والمدينة عند خروج الدجال، كما تقدم في الأحاديث.
إذا علم ذلك: علم تفاضل البلدان في هذا الجانب، وكلما كان البلد أقل فتنا؛ كان أكثر خيرا في العموم لأمور:
1 / 28
أولها: لظهور الدين فيه ... وتمسك أهله به في الغالب.
الثاني: لاجتماع الناس فيه لقلة الفتن.
الثالث: لأمن الناس فيه على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
وينبني على ما تقدم أيضا: أن سكنى البلاد التي تقل فيها الفتن أفضل من سكنى غيرها: دليل ذلك ما في الصحيحين من حديث سفيان بن أبي زهير ﵁ أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
وعن عبد الله بن عمر بن العاص ﵄ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الرحمن وتحشرهم النار مع القردة والخنازير) أخرجه أبو داود وحسنه الألباني بشواهده في فضائل الشام (٨٢).
- لكن ينبغي التذكير هنا بقول سلمان الفارسي ﵁ لأبي الدرداء ﵁: (إن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الإنسان عمله) رواه مالك في الموطأ ك القضاء.
وعليه أيضا: فإنه يلزم في البلاد التي تكثر فيها الفتن من الاستعداد لها علما وعملا أكثر مما يلزم في غيرها - ولئن كان ذلك لازم في جميع البلدان إلا إنه في تلك الأقطار ألزم .... والله أعلم.
1 / 29