فقلت متدخلا في الحديث مرة أخرى: هذا يعني أنك تفضل الاشتراكية! - لا أدري! - أتفضل النظام الرأسمالي؟ - لا أعتقد. - ألديك نظام جديد؟ - كلا .. ولكننا مللنا ذلك.
ورجع الأستاذ عباس فوزي يسأل: وما موقفكم من الحب؟ .. ألا زال للحب عندكم قيمة أم أصبح الجنس كل شيء؟ - الجنس مسيطر، وقليلون يحبون، بل ويرغبون أن يمتد بهم الحب حتى الزواج! - وماذا عن الأكثرية؟ - يمارسون المغامرات الجنسية. - مع من؟ - التلميذات .. الطالبات .. الفتيات! - هل يقبلون الزواج من المغامرات؟ - كثيرون يقبلون ... والبعض يتبع تقاليد الجيل الماضي. - أعتقد أن الفتيات لا يتخلين عن حلم الزواج. - هذا هو عيبهن الأول. - وغير مستحيل أن تتزوج أنت نفسك يوما ما. - غير مستحيل وإن يكن مرتبي مضحكا ومستقبلي عدما. - ولكن ثمة ما يشدك إلى الحياة ولا شك؟ - غريزة حب البقاء. - ربما لم تخل حياتك من سرور؟ - لقمة سائغة، فيلم جيد، علاقة جنسية بريئة. - بريئة؟! - أي ليست استدراجا لزواج. - أتعتقد أنك خير من أبيك؟ - كان أبي وفديا يقدس سعد زغلول ومصطفى النحاس، وأنا أعتبر ذلك مضحكا. - لم؟ - ثبت أنهم أصنام لا أكثر ولا أقل. - لا أجد عندك عقيدة بديلة؟ - كان عندي، وتزلزل كل شيء عقب 5 يونيو. - ماذا تقترح لتحسين الأحوال؟ - العالم كله عدم وهباء. - ماذا تقترح لتحسين أحواله؟ - القضاء على جميع المسئولين فيه! - وماذا يحدث بعد ذلك؟ - لا يهم، ستتحسن الأحوال وحدها. - لقد جئتني يا عزيزي لإجراء حديث عن التراث على حين أنك لا تؤمن به؟ - إني صحفي تحت التمرين! - ولكن سلوكه لا يخلو من انتهازية؟ - وما العيب؟ أي وسيلة تنفع للوصول في هذا العالم المكتظ فهي مشروعة! - أشكرك جدا. - العفو.
وغادرنا عمارة الأستاذ وصدري يجيش بانفعال عاصف.
صفاء الكاتب
كان بيت الكاتب من أعرق البيوت في العباسية القديمة. وكان يقع في الحي الشرقي بمبناه الشامخ وحديقته المترامية ما بين محطتي ترام. وكثيرا ما سرنا بحذاء سوره، ونحن في طريقنا إلى الصحراء للعب الكرة فلم أر منه إلا رءوس الأشجار وخمائل الياسمين والستائر المسدلة. وذات يوم وكنت ماضيا نحو الصحراء رأيت حنطورا ينحدر من الطريق الشرقي نحو الشارع العمومي، في صدره جلست عجوز تلوح من وجهها عينان ناعستان فوق حافة اليشمك، وإلى جانبها فتاة تتألق بنور الشباب. وبمجرد أن وقعت عيناي على وجه الفتاة عانقت سرا من أسرار الحياة المتفجرة، تفتحت بها أبواب السماء فأغدقت علي فيضا من بركات الحب، وقال شعراوي الفحام، وكان أكثرنا خبرة بالحي الشرقي: هي صفاء ابنة صاحب القصر.
وقال خليل زكي وكان يسطو على حدائق الحي الشرقي كلما وجد غفلة ليخطف عنقود عنب أو ثمرة من المانجو: وهي في العشرين من عمرها.
وعند ذلك همس جعفر خليل في أذني وقد لحظ تغيري: أما أنت ففي الخامسة عشرة!
ومن عجب أن صورتها - رغم العاطفة التي ابتعثتها - اختفت تماما وراء سحب الماضي ، بل تعذرت على الوضوح حتى وأنا فريسة لسحرها. لا أعرف لون شعرها ولا تسريحته ولا لون عينيها أو رسمهما ولا طول قامتها أو درجة امتلائها، ذاب ذلك في سائل سحري، وكنت إذا تذكرته - أو خيل إلي ذلك - فعن طريق غير مباشر وبإيحاء عفوي كشذا الورد الذي يباغتك من وراء سور وأنت ماض غارقا في أفكارك. وكأن قلبي لم يكن يحركه شيء إلا إذا انتهى إليها بسبب خفي، ولذلك همت في أزمنة متأخرة نسبيا بقسمات وملامح وسمات ولفتات لنجوم توهمت أنها تذكرني بما غاب عني منها، بل ما أحببت صفة في وجه إنساني إلا وكانت هي وراءه حقيقة أم وهما. وبسبب ذلك الحب الخاطف عانت حياتي العاطفية من أزمات متواصلة معقدة كأنها السحر الأسود. والعجيب أنه كان حبا بلا مواقع، ولا مواقف، ولا تاريخ يذكر. رأيتها في الحنطور ثواني ليس إلا، ففقدت إرادتي، وألقي بي في طور جديد من أطوار الخلق. وكنت قريب عهد بحب حنان مصطفى؛ فأدركت خطئي وآمنت بأنني أحب لأول مرة، وعرفت كيف يغيب الإنسان وهو حاضر، ويصحو وهو نائم، كيف يفنى في الوحدة وسط الزحام ويصادق الألم، وينفذ إلى جذور النباتات وموجات الضوء. وجعلت أحوم حول سراي الكاتب، وهو قصر مغلق النوافذ مسدل الستائر لا يرى به إنسي سوى البواب والبستاني وبعض الخدم، وسمعت مرة صوتا ناعما ينادي البواب، فاهتز قلبي وافترضت في الحال أنه صوتها ثم آمنت بذلك. ورأيتها للمرة الثانية في مناسبة حزينة جدا، في نافذة بيت أثري بشارع محمد علي احتشد فيه نفر من النساء لمشاهدة جنازة سعد زغلول، ولم أنتبه إليها عقب مرور النعش، فرأيت من خلال دموعي وجهها المشرق، وهي تجفف عينيها مادة عنقها وراء النعش المبارك. خفق قلبي خفقة مباغتة، ولكنني لم أنعم بالرؤية، وفقدت النشوة في قلب كسير محزون، واجتاحتني عواطف متناقضة كما اجتاحني تيار الخلق المتلاطم الباكي. لم أرها بعد ذلك إلا ساعة هبطت أدراج السلاملك في ثوب العرس لتستقل سيارة إلى بيت العريس، وكنت ضمن حشد وقف على الطوار المواجه للقصر للفرجة، وكانت مدة ذلك التاريخ الذي مر بلا أحداث عاما إلا قليلا، ولكنه كان أعجب عام في حياتي.
وانكشف أمري لأصدقائي جميعا، أما المهرجون فسخروا مني وأطلقوا علي «مجنون صفاء»، وأما الآخرون فحذروني من التمادي في عاطفة لا جدوى منها البتة، وكنا صغارا وكانت أفكارنا ساذجة مستعارة من الروايات، وما عرفناه من تاريخ الأدب العربي، فقال لي سرور عبد الباقي: لا تستسلم وإلا جننت كمجنون ليلى.
وقال لي رضا حمادة: إن حبك هذا يقطع بأنك أحببتها في تاريخ سحيق مضى، ربما في عصر الفراعنة كما يقول ريدرهجارد.
Bog aan la aqoon