ذهبنا بجلابيبنا وصنادلنا مشيا على الأقدام، مخترقين شوارع الظاهر، الفجالة، ميدان المحطة، عباس، ميدان الخديو إسماعيل، جسر قصر النيل، حتى بلغنا النادي، وإذا بالمجموعة تتسلق شجرة كبيرة وتتخذ أماكنها فوق الغصون فلم يسعني إلا أن أفعل مثلهم، في ذلك اليوم شاهدت مباراة كرة قدم لأول مرة في حياتي، وعرفت لاعبين لم يمح أثرهم من نفسي حتى اليوم مثل حسين حجازي ومرعي، ورأيت الإنجليز وهم يلعبون وكنت أعتقد أنهم يقتلون فقط، وهالني أن أرى علي الحسني وهو يكاتفهم فيطرحهم أرضا فلا يعقب ذلك معركة دامية. سررت وسعدت، وبدأت أعشق هواية جديدة، وآمنت بأنه يمكن الانتصار على الإنجليز ولو في ملعب النادي الأهلي، ولكننا تأخرنا طبعا في العودة إلى بيوتنا، وتعرضت هناك إلى حساب شديد. وانضممت إلى ناديهم «قلب الأسد» واشتركت في اللعب الذي كان يجري وسط غابة التين الشوكي، وقدر لي أن أنافس في المهارة جعفر خليل نفسه، بل وعيد منصور الذي توهم في ذلك الوقت أنه يعد نفسه لاحتراف اللعبة. وكان جعفر خليل حسن الصوت فكان يغني لنا بعض أغاني سيد درويش ومنيرة المهدية وعبد اللطيف البنا، وبتقدم السنين راح يؤلف الزجل، بل كان يحول بعض مناظر الأفلام إلى مواقف زجلية ويخرجها ويشترك في تمثيلها في غابة التين الشوكي أيضا، ولم أعرف له قصة حب واحدة، وإن ضبطته مرة وهو يعلم بنتا يهودية من جاراته كيف تركب الدراجة، وبتوثق علاقتي به عرفت أنه فقير بحق، بل لعله كان أفقر المجموعة، إذ كان أبوه موظفا صغيرا رغم تقدمه في السن، ورغم طول مدة خدمته، ولكنه كان برغم ذلك أكثر مرحا وسيطرة. ورغم تعدد ميوله في اللعب والفن لم يبد اهتماما بالسياسة أو الوطنية كما كانت تعرف في تلك الأيام، وظل على سلبيته تلك حتى الجامعة وبعد التخرج. وقلت له يوما: عجيب ألا تهتم بما يصهرنا حتى الذوبان.
فقال ضاحكا: للوطنية رجالها، لست منهم وإن تمنيت لهم النجاح. - ولكن كل مواطن فهو من رجالها. - إني أجد سعادتي بين أهل الفن.
فحتى وهو تلميذ بالثانوية كان يتردد على نقابة الموسيقيين الأهلية ويشهد حفلاتهم المجانية، ويحضر مجالس الزجالين بالقهوة الخديوية، وكان يتمتع في ذلك بجرأة انفرد بها وحده. وعن طريق المرحوم كمال سليم عرف الطريق إلى الوسط السينمائي، فقام بدور ضمن الكومبارس في بعض الأفلام، وقدم قصصا سينمائية وهو طالب بالجامعة، حتى وفق إلى المشاركة في كتابة سيناريو عقب تخرجه عام 1934. وعين مدرسا للغة الإنجليزية، وعرف في المدرسة بنشاطه الرياضي وإشرافه على فريق التمثيل، وسحر بشخصيته الخلابة الألباب، وقال لي: الوظيفة خطوة ليس إلا ولكني عرفت هدفي.
وكان من الشاق أن تعرف له هدفا محددا، أزجال هو أم ممثل أم مطرب أم سينارست؟ فسألته: وما هدفك يا صاحب الأهداف؟ - السينما! - السينما؟ - أجل، هي مجمع الفنون، هي دنيا السحر والرفاهية والجمال، ولي فيها مجال وأي مجال في التمثيل والكتابة والغناء.
ثم وهو يضحك: وشكلي مقبول، لا تحكم علي بماضي، الفقر لم يوفر لي الغذاء الكافي، لكنك سوف تحكم بعينيك عندما يستفيد جسمي من اللحوم التي طالما حرمت منها ظلما وعدوانا!
وفيما بين تخرجه ونهاية الحرب العظمى الثانية تقدم في نشاطه السينمائي بخطى ثابتة وملموسة، اقتبس أربع قصص، وكتب ستة سيناريوهات، ومثل أدوارا ثانوية في عشرة أفلام، وألف عشرات الأغاني، وتحسنت أحواله المالية بدرجة طيبة جدا، وكان بارا بأسرته الفقيرة؛ فنقلها إلى عمارة جديدة بالشارع العام الذي تغير مع الزمن شكله ومضمونه، وأقام معها وإن استأجر شقة خاصة في شارع شامبليون لعمله - أو قل لعمله ومزاحه - وحافظ بالمثل على علاقاته القديمة بحيه وأصدقائه. وإذا به يختار عضوا ببعثة إلى الولايات المتحدة في العام الذي أعقب انتهاء الحرب. ولم تكن البعثة في حسبانه، ولكنه وجدها ممكنة بوساطة صديق من الوسط الفني ذي صلة طيبة بوزير المعارف. ولم تنقطع عني رسائله طوال مدة بعثته، ومنها علمت أنه يعد رسالة للدكتوراه عن الفن في المجتمع العربي، ومنها علمت أيضا أنه ينوي دراسة السيناريو في لوس أنجلوس. وفي رسائل تالية علمت أنه يراسل بعض المجلات بأجر طيب وأنه سيجرب حظه في الكتابة للإذاعة، وأنه سيعود بمقدار طيب من الدولارات الأمريكية.
وعاد إلى مصر عام 1950، وزرته في اليوم التالي مباشرة لعودته في مسكن الأسرة، ولم يكن بقي فيه سوى أمه. تعانقنا بحرارة. ووجدت في زيارته كثيرين من أهل الفن، كما وجدت أصدقاء الطفولة جميعا عدا شعراوي الفحام، الذي قتل في غارة في أثناء الحرب، وسئل أيبقى في الوظيفة أم يستقيل للتفرغ للفن فأجاب: سأبقى حتى أستوفي المدة الإلزامية بمقتضى البعثة وهي خمس سنوات!
وقال: الحياة الأمريكية حياة غريبة وعظيمة، والأمريكي ذو مزايا لا يستهان بها، ولكنني لم أستطع التخلص من إحساس عام بالنفور والكآبة بسبب قنبلة هيروشيما.
وقال أيضا: يخيل إلي أن الأمريكيين يتجهون الآن نحو الاهتمام بالشرق اهتماما غير عادي، وأن علينا أن نعمل لذلك ألف حساب!
وقال بحماس: لدي أفكار قيمة سيكون لها شأنها في تطوير فن السينما في مصر.
Bog aan la aqoon