فسأله عيد منصور: ألا تلعب الكرة؟ - كلا.
فسأله رضا حمادة: أليس لك هواية؟
فأجاب: أعزف على البيانو في أوقات الفراغ.
فقال له رضا: إنك لا تشترك في الإضرابات أفلا تهتم بالوطنية؟ - أهتم بها طبعا ولكن ...
وتردد لحظات ثم قال: ولكن أخي الأكبر قتل في مظاهرة!
ونجح في امتحان الكفاءة بتفوق فجاء ترتيبه بين العشرة الأوائل في القطر كله، وعندما عدنا إلى المدرسة في بدء العام الدراسي الجديد لم نعثر لناجي مرقص على أثر لا في القسم العلمي ولا القسم الأدبي.
وتساءلنا عن سر اختفائه دون أن نظفر بجواب. وكان يسكن بعيدا عن حينا في أطراف العباسية المشرفة على منشية البكري، فذهبنا إلى مسكنه نستطلع فعلمنا هناك بأنه أصيب في صدره، وأنه أرسل إلى جدته بصعيد مصر ليعالج، وأن علاجه سيستغرق عاما كاملا في أقل تقدير. أحزننا الخبر كما أحزن جميع أقرانه ومدرسيه، وأرسلنا إليه رسالة جماعية حملناها تحياتنا وتمنياتنا له بالشفاء العاجل. وحدث في ذلك الوقت أن قدم مصطفى النحاس إلى المحاكمة في قضية سيف الدين فبرأته المحكمة العليا، وذهبت وفود من الشعب إلى بيت الأمة تهنئه، وذهب فيمن ذهب والد صديقنا وهو موظف في وزارة الحربية، وظهرت صورته لسوء الحظ ضمن صور المهنئين فقررت الوزارة فصله. وشق على الرجل الرفت، وكان فقيرا كما كان مريضا بالقلب فأصيب بالفالج وقضى نحبه. وشفي ناجي من مرضه ولكنه عجز عن مواصلة التعليم فانتهز أهل الخير فرصة عودة الوفد إلى الحكم وسعوا إلى تعيين الشاب الصغيرة في وزارة الحربية، فتعين في وظيفة صغيرة خارج الهيئة، كذلك قضت الظروف على أنبغ تلميذ في جيلنا. وكثيرا ما كنت أتذكره وأتحسر على نهايته، وكلما صادفني شيء من التوفيق في حياتي الدراسية أو العملية تذكرته فداخلني الأسى وتخيلت الأمجاد التي وئدت بضربة عمياء من ضربات العبث، ومضت أعوام فأعوام دون أن تقع عليه عيناي أو أسمع عنه ذكرا حتى التقيت به مصادفة في كازينو حديقة الأزبكية عام 1960. مررت به أول الأمر دون أن أفطن إلى هويته إذ جذبت عيني لحيته البيضاء فحسبته فنانا، ثم سمعت صوته يناديني فالتفت إلى وجهه وعرفته في الحال، وتصافحنا بحرارة ثم جلسنا حول مائدة متواجهين، لم يكد يتغير وجهه لولا لحيته وشيبة رأسه، وانبعثت من جملة منظره شفافية عذبة كالعبير الحلو أو الطمأنينة الشاملة، وتذاكرنا الماضي والزملاء، من رحلوا مثل بدر الزيادي وجعفر خليل، ومن نبغوا في الحياة مثل رضا حمادة وسرور عبد الباقي وغيرهما، ثم جاء دوره فقال: ما زلت موظفا بوزارة الدفاع، ووصلت إلى الدرجة الثالثة، متزوج وأب لفتاة في العشرين طالبة بكلية العلوم.
وسكت قليلا ثم استطرد: اتجهت من قديم إلى دراسة الروحانيات، عن طريق الكتب والمراسلة.
فقلت له: قرأت بعض الكتب عنها.
فابتسم قائلا: إني أدرسها وأمارسها! - حقا؟!
Bog aan la aqoon