وواضح أن كل هذه الموضوعات إنما فصلت آياتها للناس في إبانها وحين اقتضت حياتهم وظروفهم أن تتلى عليهم وتبصرهم بما يحتاجون إلى أن يبصروا به حين تنوب النوائب وتعرض الأحداث.
ومثل هذا يقال في سورة آل عمران التي لم تكثر فيها الموضوعات كما كثرت في سورة البقرة، ولكنها اختلفت وتباعدت.
فالسورة تبدأ بإثبات التوحيد، وأن الله الذي لا إله إلا هو نزل على رسوله الكتاب بالحق وجعل فيه آيات محكمات وأخر متشابهات؛ فالذين زاغت قلوبهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، مع أن الله وحده هو العالم بتأويله، وأما الراسخون في العلم من المؤمنين فيؤمنون بالكتاب كله محكمه ومتشابهه، وبأنه جاء من عند الله، يفهمون منه ما يستطيعون ويكلون ما تشابه منه إلى الله.
ثم أخذت السورة في ذم الكافرين وتخويفهم، وبينت ما يفتن الناس في الحياة الدنيا ويوبق بعضهم في الكفر وبعضهم في المعصية.
وذكرت اليهود وذمت بعض أعمالهم ونهت المؤمنين أن يتولوا الكافرين ورغبتهم في اتباع النبي؛ لأنه دليل على حبهم لله، وحذرهم الله نفسه فيها، وعلم نبيه والمؤمنين ما يدعون الله به من أنه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ومن أن بيده الخير ومن أنه على كل شيء قدير، ومن أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويرزق من يشاء بغير حساب.
ثم قص الله فيها ما كان من استجابته لزكريا حين وهب له يحيى، وما جعل له من آية على ذلك، ثم قص أنباء مريم والمسيح في شيء من التفصيل واسع، ثم جادل أهل الكتاب من النصارى وأمر النبي أن يباهلهم إن حاجوه فيما جاءه من عند الله في أمر المسيح، وأن يدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء ألا يعبدوا إلا الله وألا يشركوا به شيئا وألا يتخذ بعضهم أربابا من دون الله، وأن يشهدهم - إن أبوا - أنه وأصحابه مسلمون لله.
ثم مضى في حديث أهل الكتاب من النصارى واليهود، فذكر شيئا من أخلاقهم وسيرتهم، وفرق بين الأمناء منهم والخائنين، ثم ذكر إسرائيل وأنه أحل له الطعام كله إلا ما حرم هو على نفسه من قبل أن تنزل التوراة. ثم فرض الحج على المسلمين من استطاع إليه سبيلا، وذكر أن فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأن من دخله كان آمنا وأنه أول بيت وضع للناس.
ثم أمر المؤمنين أن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا، وأن يذكروا ما كانوا عليه من القلة والضعف قبل أن يكثرهم ويؤمنهم. وكلفهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وذكر المؤمنين والكافرين بيوم القيامة وما يكون فيه من نجح للمؤمنين وخزي للكافرين.
كل هذا يأتي أثناء محاجة اليهود. ثم يفرق بين أهل الكتاب فمنهم المؤمنون الصالحون الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات. ومنهم الكافرون الذين يجحدون الحق وينسون نعمة الله عليهم ويشاقون الله ورسوله. ثم يحذر المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين الذين يبغضونهم، ويعضون عليهم الأنامل من الغيظ، ولا يألونهم خبالا، يفرحون إن أصابت المؤمنين سيئة، ويستاءون إن أصابتهم حسنة، ويودون لو استطاعوا أن يردوا المؤمنين بعد إيمانهم كفارا، وهم مع ذلك يعلنون الإيمان ويجهرون به. ثم ينهى الله المؤمنين أن يأكلوا الربا أضعافا مضاعفة، ويحذرهم النار، ويأمرهم بطاعة الله ورسوله والمسارعة إلى مغفرة من ربهم وإلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، ثم يذكر وقعة أحد ويلوم المنهزمين فيها من المسلمين ويعفو عنهم. ويمضي في أنباء هذه الوقعة وما كان بعدها وتثبيت قلوب المؤمنين وتهيئتهم لما سيبلون به في أنفسهم وأموالهم ولما سيسمعون من أذى المشركين واليهود، ويبشرهم بما أعد الله للشهداء عنده من حياة راضية. ويذكرهم بآياته ثم يرغبهم في الصبر ويأمرهم أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا ويتقوا الله لعلهم يفلحون.
فهذه السورة اشتملت فيما عدا الوعظ والتخويف على ما قص الله من أمر المسيح وأمه وعلى محاجة النصارى واليهود وعلى قصة أحد. فمن البين أن هذه الموضوعات لم تنزل آياتها جملة، وإنما نزلت منجمة حسب الظروف والأحداث، وقل مثل هذا في سائر سور القرآن الكريم.
Bog aan la aqoon