فالعربي القديم من أهل الفصاحة واللسن والبراعة في تصريف القول قد سمع القرآن فراعه منه ما راعه واستجاب له هذه الاستجابة التي يعرفها التاريخ، ولكن أجيالا أخرى لا تحكم ولا تصرف القول ولا تذوق روعة البيان قد جاءت بعد أولئك القدماء من العرب فسمعت القرآن وقرأته، فإذا هو يستأثر بعقولها وقلوبها، وإذا هي لا تقرؤه أو تسمعه إلا خشعت له واستيقنت أنه كلام لا كالكلام، بل له شأن آخر يختلف أشد الاختلاف عما يكتبه الناثرون وينظمه الشعراء ويقوله الخطباء. وأغرب من ذلك أن أمما أخرى ليس بينها وبين العرب سبب قد قرأت القرآن وسمعته في القرون المتطاولة والأجيال المتعاقبة فدانت له وآمنت به واستحبت قراءته والاستماع له على كل شيء غيره يقرأ ويسمع أو يمتع الأسماع والقلوب والعقول معا.
ونحن نعلم أن أروع البيان وأبرعه وأعلاه درجة في الحسن إنما يروع من يقرؤه أو يسمعه من أصحاب اللغة التي أنشئ فيها، فإذا تجاوزهم إلى غيرهم من الأمم فقد كثيرا من روعته، ولا كذلك القرآن حين يقرؤه أو يسمعه من لم ينشأ تنشيئا عربيا، بل هو يحتفظ بروعته على اختلاف الأزمنة والأمكنة وأجيال الناس.
ولست أذكر هنا تأثير القرآن في تغيير التاريخ وتحويله أمة جاهلة غافلة أمية شديدة التنافر والتدابر يضرب بعضها رقاب بعض، وينهب بعضها أموال بعض، فإذا هي تصبح أمة قد خلقت خلقا جديدا فألفت النظام والأمن والعدل، وطمحت إلى الرقي وظفرت منه بحظ موفور ونشرت هذه الخصال كلها في أمم كثيرة في الأرض ثم مزجتها وجعلت منها أمة واحدة تتعاون على الخير والبر وترقية الحضارة. لا أذكر هذا كله ولا أطيل فيه؛ لأنه أظهر من أن يحتاج إلى ذلك. والقرآن وحده مصدر هذا كله فلولاه لظلت الأمة العربية على جهلها وغلظتها وانقسامها، ولطمع فيها غيرها من الأمم المتحضرة فاستذلها واستغلها وبسط عليها سلطانه.
وقد ألفت كتب قديمة وحديثة في إعجاز القرآن، ولكنها على كثرتها لم تقل في إعجازه كل ما يمكن أن يقال؛ لأنه أروع روعة وأبهر جمالا من أن يستنفد فيه القول.
وقد نزل القرآن منجما ولم يوح إلى النبي جملة، وإنما كان ينزل بين وقت ووقت يتتابع أحيانا ويبطئ أحيانا أخرى. وقد تساءل المشركون من قريش لماذا لم ينزل القرآن جملة؟ ولو قد أنزل عليه مرة واحدة لما أطاقوه، وإنما أراد الله أن ينزله منجما ليتابع به حياة النبي والعرب وما اختلف عليهم من الأطوار في هذا الأمد الذي قضاه النبي بينهم مبشرا ومنذرا.
وكان ما ينزل منه يكتب في إثر تنزيله، ثم جمع القرآن أيام أبي بكر ثم نسخ في المصاحف وأرسل إلى الأمصار أيام عثمان. وجعل المسلمون يروونه سماعا ويقرءونه في المصاحف حتى وصل إلينا كاملا كما هو الآن؛ فهو متواتر لا يجد الشك إلى شيء منه سبيلا لم يختلف فيه المسلمون وإنما تناقلوه مجمعين عليه. وتناقلوه مسموعا ومكتوبا فجملته وتفصيله فوق الشك وفوق الجدال.
وقد تختلف قراءة المسلمين لبعض ألفاظه مدا وقصرا وإمالة وإطلاقا، ولكن سبعا من هذه القراءات وصلت إلينا متواترة وأجمعت عليها الأمة ولا بأس منها على النص لا في لفظه ولا في معناه.
وقد رتب القرآن - كما هو بين أيدينا - سورا منذ أيام النبي وقدمت في المصحف طوال السور على أوساطها، وأوساطها على قصارها.
ولم يراع في هذا الترتيل نزول السور والآيات في مكة أو في المدينة ولا تاريخ نزول الآيات، وإنما وضعت الآيات حيث كان النبي يأمر أن توضع من السور.
ونحن نجد البقرة وآل عمران والنساء والمائدة في أول المصحف بعد الفاتحة مع أنها مدنية، ونجد الأنفال والتوبة - وهما مدنيتان - بين سور مكية، وربما وجدنا في السورة المدنية آيات أنزلت بمكة وفي السور المكية آيات أنزلت بالمدينة؛ ذلك أن هذا الترتيب حسب مكان النزول وزمانه لم يراع. وإنما القرآن واحد جاء كله من عند الله وتلاه النبي على المسلمين كله كما أنزل.
Bog aan la aqoon